فهمت أستير أن تجاوبه فابتدرها إيليا بقوله: دعيني أكمل أولا، وبعد ذلك قولي ما تشائين. اسمعي يا أستير، هل قرأت الإصحاح التاسع والأربعين من سفر التكوين. اسمعي ماذا يتنبأ يعقوب لابنه يهوذا. قال «يهوذا إياك يحمد أخوتك. يدك على قفا أعدائك. يسجد لك بنو أبيك - لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجليه حتى يأتي شيلون» أي المسيح؛ لأن هذا أحد أسمائه. فيا أستير إن قضيب الملك قد زال من يهوذا وتفرقت مملكته أيدي سبأ، وهذا يدل على أن «شيلون» قد أتى.
فهمت أستير أن تجاوبه ثانية فصاح إيليا: دعيني أكمل أولا. ما قولك يا أستير بنبوءة أشعيا في إصحاحه السابع؟ اسمعي ماذا يقول: «يعطيكم السيد نفسه آية. ها العذراء تحبل وتلد ابنا، وتدعو اسمه عمانوئيل (الذي تفسيره: الله معنا)» فيا أستير إن العذراء قد حبلت وولدت في بيت لحم الصبي المنتظر طبقا لقول ميخا النبي في الإصحاح الخامس حيث يقول: «أما أنت يا بيت لحم فأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا؛ فمنك يخرج لي الذي يكون متسلطا على إسرائيل، ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل» فيا أختي أستير، هل من شهادة أفصح وأبلغ من هذه الشهادات؟
وكانت أستير قد بدأت ترتعد من غضبها وتأثرها خصوصا لأن إيليا لم يكن يترك لها سبيلا للجواب. فتأثر إيليا أشد تأثر لذلك، فقال: يا أختي، سكني روعك، ولا تخافي من الحقيقة إذا لمستها أصبعك، ولا يسوءنك تأثرك الآن؛ إذ ما هذا العناء بالقياس على العذاب الذي لقيه غيرك. اسمعي ماذا قال أشعيا في الإصحاح الثالث والخمسين عن عذاب «شيلون»: «محتقر ومخذول من الناس. رجل أوجاع ومختبر الحزن وكمستر عنه وجوهنا. محتقر فلم نعتد به» ألم يكن يسوع هكذا يا أختي؟ ثم إنه يقول: «ليس مبغضي تعظم علي فأختبئ منه بل أنت إنسان عديلي. إلفي وصديقي الذي معه كانت تحلو لنا العشرة» فلماذا يا أختي صنع قومك هكذا مع صديقه وصديقه. اسمعي أيضا نبوءة النبي داود في مزموره الثاني والعشرين «أحاطت بي ... (عذرا فلا أذكر هنا الكلمة يا أختي لئلا تسوءك) جماعة من الأشرار اكتنفتني. ثقبوا يدي ورجلي. أحصي كل عظامي، وهم ينظرون ويتفرسون في. يقسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون» - أفما تم كل هذا يا أختي بصلب شيلون، وكيف نستطيع إنكار مجيئه بدون مناقضة التوراة وكتابك.
وكانت أستير تبكي في أثناء هذا الكلام، وتعض شفتيها من شدة تأثرها. فلما فرغ إيليا من كلامه صاحت من صميم قلبها: يا كيريه إيليا لقد ظلمتني، فإنك أنت تقول كل شيء وأنا لا أقدر أن أقول كل شيء، وهذا سبب شدة تأثري وبكائي. فأنا أكتفي إذن بشيء واحد. إنكم تظنون أن نبوءات التوراة تنطبق على يسوع الناصري ولكن رجال ديننا يقولون: إنها لا تنطبق عليه، وحسبي أن أذكر لك نبوءة واحدة دليلها في الآن. إن رئيسنا وملكنا داود قال في مزموره الثاني والسبعين متنبئا عن زمن المسيح: «يشرق في أيامه الصديق وكثرة السلامة إلى أن يضمحل القمر» أي نهاية العالم. فهل الصديق هو المنتصر في العالم الآن، وأين هذه السلامة الموعودة؟ انظر فإنني أنا أبكي أمامك الآن، وأضطراب كريشة في مهب الريح. ثم إن يوئيل النبي يقول في إصحاحه الثاني: «ويكون بعد ذلك - أي بعد سعادة إسرائيل بمسيحه - أني أسكب روحي على كل بشر» فهل روح الله الآن في أولئك الذين يضطهدون ويظلمون ويملئون الدنيا بالشرور، وقال ميخا في إصحاحه الرابع مشيرا إلى المسيح: «يقضي بين شعوب كثيرين. ينصف لأمم قوية بعيدة فيطبعون سيوفهم سككا ورماحهم مناجل. لا ترفع أمة على أمة سيفا، ولا يتعلمون الحرب فيما بعد». فيا صديقي إيليا، هل جرى شيء من هذا إلى الآن لتقول بمجيء المسيح؟ انظر إن السيف والنار يأكلان العباد والبلاد في كل الجهات، وهو ذا أورشليم نفسها محصورة الآن بنطاق من الرماح والسيوف، وقال أشعيا في الإصحاح الستين والخامس والستين مخاطبا أورشليم بعد مجيء مسيحها: «لا يسمع بعد ظلم في أرضك، ولا خراب أو سحق في تخومك؛ بل تسمين أسوارك خلاصا وأبوابك تسبيحا - الذئب والحمل يرعيان معا، والأسد يأكل التبن كالبقر. أما الحية فالتراب طعامها. لا يؤذون ولا يهلكون في كل جبل قدسي» - فيا أخي إيليا هل تم هذا كله؟ هل ساد السلام في الأرض بين البشر والحيوانات كما تنبأ أشعيا ليجوز لك أن تقول بمجيء ملك السلام. ماذا تجيب عن هذا؟
فعجب إيليا في نفسه من إخراج أستير الموضوع عن محوره الأول، ومهاجمتها له بدل الدفاع. فتأمل هنيهة ثم أجاب: إذن أنت لست بإسرائيلية يا أختي؟ فصاحت أستير وقد تركت البكاء: كيف ذلك؟ فقال إيليا لأنك لو كنت إسرائيلية لكنت تؤمنين بالله تعالى خالق هذا الكون ومدبره. فصاحت أستير كلبوة جرحت: بلا شك أنا أؤمن بإلهنا وإله آبائنا وأجدادنا. فقال إيليا حينئذ: فكيف تؤمنين بوجود الله يا أختي ولا تؤمنين بأعماله. أتظنين أنه يقوم شيء في الأرض ويعم الدنيا كلها بدون إرادته. دعينا من النظر في الكتب فإن كل فريق منا يئولها تأويلا ينطبق على مذهبه ومصلحته، ولننظر في الأشياء بعقولنا فقط. ألا يجب أن تعتبري انتصار المسيحية في الأرض وتغلبها على الأديان القديمة وعقول ملايين البشر دليلا على أنها من أفعال الله تعالى، فهذا برهان واقعي بسيط على أن تأويلي للتوراة أصح من تأويلك، ولا ينقص هذا البرهان إلا القول بأن الله لا يدبر شئون الكون بل ليس هو بموجود أصلا، وهذا الأمر أجلك عن أن تقولي به أو تفكري فيه. يا أختي كلنا عباد الله ولا تسقط شعرة في نظام الكون ومسير الدنيا بدون إرادته، ومتى اعتقدنا هذا الاعتقاد ثبت لنا أن انهدام أورشليمكم القديمة وقيام أورشليمنا الجديدة كان بإرادة الله وفعله؛ لأنه رأى ذلك أفضل لنظام الدنيا. فيجب علينا إذن أن نسلم لإرادة الله ونعترف بأفعاله، ولا نعارض في أحكامه.
فعند هذا الكلام تحول ضعف أستير إلى قوة وغيظ، فنظرت إلى إيليا بعينين ثائرتين، وصاحت: يا كيريه إيليا لا تتهددونا بإلهنا وربنا. فإنه لم يسقطنا إلا لينهضنا. اسمع قول هوشع النبي في إصحاحه الثالث: «لأن بني إسرائيل سيقعدون أياما كثيرة بلا ملك وبلا رئيس وبلا ذبيحة وبلا تمثال وبلا أفود وترافيم، وبعد ذلك يعود بنو إسرائيل ويطلبون الرب إلههم وداود ملكهم ويفزعون إلى الرب وإلى وجوده في آخر الأيام» ونحن الآن بلا ملك لأن مملكتنا زالت وبلا ذبيحة لأن هيلكنا قد هدم ولكن سنعيد مملكتنا وهيلكنا طبقا لوعد إلهنا. نعم، إن الله يستحيل أن يترك شعبه، وإذا تركه حينا فما ذلك إلا لتأديبه، وقد كفانا يا إلهنا هذا التأديب الهائل. لقد أخذوا بلادنا وسلبونا إرثنا واقتسموا كل مالنا. حتى أنت نفسك صاروا يدعونك إلههم لا إلهنا، وبذلك أصبحنا غرباء ضعفاء في الأرض التي عاهدت نفسك على إعطائنا إياها لنا ولأولادنا. انظر إلينا إننا متشتتون في جميع أقطارها كالسلك المنشور. أولادنا يبكون وآباؤنا يحزنون وبناتنا يلبسن السواد؛ لأنك نصرت الأعداء علينا، ولا نكاد نجد لدى هذه الأمم القاسية ملجأ نأوي إليه براحة وسلام مع عيالنا، ولا حجرا نضع عليه رءوسنا. اسمع كيف يتهكمون علينا ويضحكون منا. يقولون: إنك أقمت إسرائيل جديدا بدل إسرائيل القديم، ولكن هل أنت قاس إلى هذا الحد لتهمل القديم بعد إقامتك الجديد. لماذا لم ترشد القديم إلى هذا الجديد إذا كانوا صادقين في ما يقولون، وبناء على هذا أرد إليك يا أيها الفتى إيليا الكريم سهام برهانك قائلة: لا يمكن أن يكون الله هو الذي هداكم؛ لأنه لا يمكن أن يضلنا.
أما إيليا فلما سمع هذا الكلام أثر فيه أشد تأثير وخيل له أنه يسمع صوت أمة بأسرها ينادي هذا النداء. فعلم أنه يستحيل عليه بعد كل ما بذله من الجهد أن يقنع الفتاة من طريق الكتب والدين ما دام كل واحد يرى الأمور بعين تختلف عن عين الآخر. فترك إيليا الكتب والدين جانبا ورام البحث من وجه آخر، وقد قال في نفسه إن أستير إذا تحركت أحشاؤها وتأثرت من هذا الوجه فإنها تكون كأنها صعدت أول درجة من درجات الإيمان، ولذلك قال للفتاة وهي في أشد اضطراب: يا أختي أستير، إنني أندب معك حالة قومك، وآسف للاضطهاد الجائر الذي يصيبهم من عدوان الناس وبغضهم، وكوني على ثقة من أن المسيحيين الذين يصنعون هذا يخرجون عن حدود المسيحية؛ لأن المسيحية إنما هي حب الأعداء ومباركة المبغضين، ولكن اشتراكي هذا معك لا يمنعني يا أختي من تذكيرك بأمر جدير بالذكر في هذا الموضوع، وهو أن الذي داس الحق في زمانه لا تؤثر كثيرا في النفوس شكواه من دوس الناس حقه، ولنضرب لذلك مثلا: لنفترض أن العامة في ليلة عيد الميلاد في بيت لحم وجدت فتاة يهودية تدعى أستير فثارت تصوراتها وطلبت إما تنصير الفتاة أو قتلها؛ لأنها خالفت أوامر الحكومة بالدخول إلى بيت المقدس. فأرسلت الفتاة إلى دير على جبل الزيتون لإقناعها بجحود دينها. فرفضت ذلك رفضا قطعيا، وفضلت الموت على ترك دين آبائها. فقام أولو الأمر وصلبوها على خشبة وأهانوها وقتلوها. ثم بعد ألوف السنين صارت أورشليم إلى اليهود، وقام محل الدير المسيحي في جبل الزيتون معبد يهودي كان اليهود يصلبون فيه الفتيات المسيحيات اللواتي يأبين جحود ديانتهن. فأي تأثير يكون في النفوس لكلام المسيحيين إذا كانوا يقولون يومئذ إن اليهود برابرة؛ لأنهم يصلبون الفتيات المسيحيات. ألا يرد حينئذ اليهود عليهم بقولهم: إننا تعلمنا هذه البربرة منكم.
فهمت أستير أن تجاوب إيليا فصاح إيليا: دعيني أكمل أولا، وبعد ذلك تقولين ما تشائين. فيا أستير لو صلبوك - لا سمح الله - في دير العذراء، فماذا كان يقول أهلك وقومك؟ انظري إنني لا أبحث هنا في مسألتنا من وجه ديني قطعيا بل إنني أضع الدين والتوراة والإنجيل جانبا، وأسألك كفتاة رقيقة القلب تبغض الشر والقسوة والظلم. فأجيبيني. أي ذنب جناه المصلوب الذي سفك دمه أجدادك، اسمعي ولا تقطعي حديثي فإنني أعرف اعتراضاتك. إنك تقولين إنه خان وطنك وجدف على دينك ورام هدم هيكلك، ولكن كل هذا لا أبالي به ولا يلتفت إليه اليوم أحد، وإنما يجب أن نسأل من كان المحق والمحقوق في تلك الحادثة الهائلة، فصاحب الحق وحده هو الذي يجب أن يعطى الحق بقطع النظر عن كل شيء.
واسمعي من كان صاحب الحق في هذه الحادثة - ماذا كان يقول المصلوب؟ - إليك خلاصة مطاليبه يا أختي بصرف النظر عن المسألة الدينية فإنني لا أنظر معك هنا الآن إلا في ناسوته نظرا بشريا.
جاء ابن الإنسان يا أختي من دم يهودي. فنظر قومه وشعبه شاردين عن كتابكم التوراة يا أختي مفعم بمبادئ العدالة والرفق والصدق والمساواة والحكمة، ولكن هذه المبادئ كانت لا تتعدى الكتاب. أي إنه لم يكن منها شيء في النفوس. فالكهنة ألفوا في الأمة طبقة ممتازة لها السيادة والقوة والثروة والجاه، وكان الشعب تحتهم يئن من الفقر والذل والضيق، وهو ينظر شزرا الاغنياء والعظماء؛ لأن غناهم وعظمتهم مخالفان لمبادئ المساواة الاجتماعية المعلنة في التوراة، وكأن هذا الخلل الاجتماعي لم يكن كافيا وحده لعذاب الشعب المسكين فجاء مقرونا بخلل ديني أيضا فوضعوا أن العبادة الحقيقية لا تكون إلا في هيكل أورشليم. أي إنهم جعلوا بين نفوس البشر وبين خالقها تعالى حاجزا عظيما لا يرفعه إلا الكهنة خدمة ذلك الهيكل، ولا عجب في ذلك؛ لأن دخل الهيكل كان المورد العظيم لرزقهم وثروتهم. ثم استطردوا من تقييد الدين بالمكان إلى تقييده بالجنس، فقالوا: إن كل الأمم كلاب ولا إنسانية إلا في شعب إسرائيل، ولذلك كانوا يعتبرون باقي الناس نجسين لا يجوز لليهود معاشرتهم ولا الإحسان إليهم، وبما أن العبادة قد تقيدت بالمكان والجنس لزم أن يجر هذا القيد قيودا أخرى، ومن هنا بدءوا يدخلون على دين موسى ما ليس منه في شيء، فأصبحت الظواهر الدينية الذي يسهل العمل بها مقدمة على البواطن لصعوبة العمل بها؛ فصار مثلا الفريسي يمشي في الشوارع مغمض العينين لئلا يرى الشر والنساء * ومع ذلك فإنه كان يأتي في السر أكثر ضروب الشر، وإذا كانت جبهته تدمى أحيانا من لطمه جدارا في طريقه * لمشيه مطبق العينين فإن كثيرين من الناس كانت قلوبهم دامية من إساءاته وقسوة قلبه وسوء معاملته، وهكذا الصائم أيضا؛ فإنه كان إذا صام عد عمله فضيلة وإن كان ينقض بأفعاله معاملاته كل أصول الفضائل، وهكذا حافظ السبت ... وهلم جرا.
Page inconnue