فقال عمر وقد هز رأسه: وهل يحضكم إنجيلكم على إدخار الأموال والاستئثار بها وإنفاقها في سبيل الشهوات والملاذ؟ فقال إيليا: أيها الأمير إن سيدنا المسيح كان يشترط على كل رجل يتبعه أن يبيع أملاكه، ويجيء بثمنها إلى صندوق الطائفة وهو «كبيت المال» عندكم.
فقال خالد أيضا: سبحان الله.
فقال عمر: وهل يحضكم إنجيلكم على التنافس والتباغض، وقيام أفرادكم بعضهم على بعض، وشعوبكم بعضها على بعض؟ فقال إيليا: أيها الأمير إن إنجيلنا يقول: «لا تقاوموا الشر بالشر؛ بل من ضربكم على خدكم الأيمن فحولوا له الأيسر، وأحبوا أعداءكم وباركوا مبغضيكم؛ لأنكم إذا لم تحبوا غير محبيكم فأي أجر لكم».
فصاح خالد هذه المرة بصوت أقوى مستغربا: يا سبحان الله.
أما عمر فإنه أنفض رأسه وسكت، وبقي يسير بجانب أبي عبيدة وخالد متنح عنهما، وبعد برهة رفع الإمام الجليل كمه إلى عينيه فنظر أبو عبيدة في وجهه فرأى دمعتين جميلتين تسطعان كلؤلؤتين في حدقتي الإمام. فصاح أبو عبيدة: ما أبكى أمير المؤمنين؟ فازداد عمر بكاء وقال: يا عامر إنني أبكي على أمتي؛ لأنني لا أعلم ما يحل بها بعدي. يا عامر، إنك تعلم أنني لم أرع العرب وأجمعهم بعد تفرق كلمتهم إلا بعصا من حديد، فأخشى أن تدب عقارب الشقاق بينهم بعدي. يا عامر قد سمعت من الشاب إيليا ما هي شريعة الروم، وسمعت من الشيخ كيف خرجوا عنها، فأنا أخشى أن نخرج عن شريعتنا في مستقبل الزمان كما خرج الروم عن شريعتهم فيصيبنا ما أصابهم. يا عامر، إن بلاد الله وعباد الله لا تساس إلا بالعدل والصدق والحق وإطلاق الحرية للغير؛ لأن لكل فرد وكل شعب حيزا لا غنى له عن التحرك ضمنه، وإنصاف الناس حتى أصغرهم وأحقرهم، والاهتمام بالشعب قبل كل اهتمام، وتنزيه الدين عن اتخاذه دعامة للمصالح وللسياسة وآلة للبغض والشقاق، واعتبار الأمم التي تقبلنا وندخل بلادها أنسباء لنا. لها ما لنا وعليها ما علينا؛ لأنها في ذمة الله وذمتنا. فأنا أخشى يا عامر أن نغير ما بأنفسنا من هذا يوما كما غير الروم؛ فيغير الله نعمته علينا، وتنتقض أعمالنا.
فيا تربة جبل الزيتون التي شربت تينك الدمعتين الجميلتين اللتين جرتا من عيني الإمام العادل العظيم هل حفظتهما في صدفة نفيسة كما يحفظ الدر النفيس. يا طيف الكمال الذي يسكن جو ذلك الجبل الكريم منذ دوت في فضائه خطب ابن الناصرة الإلهية ألم ترفرف حيئذ حمامتك السماوية على رأس ابن الخطاب حين لفظ هذا الكلام الجميل، ويا أيها المسلمون والمسيحيون في مشارق الأرض ومغاربها خصوصا يا إخواننا الشرقيين ألا تنتفض عظامنا كلنا - انتفاض العصفور بلله القطر - بعد وقوفنا على أسباب سقوط سلطنة بزنطية، وتأملنا في التي خلفتها، وسماعنا الإمام عمر بعد وقوفه على هذه الأسباب يقول ما قاله.
الفصل الثالث والعشرون
أستير في البيت الأحمر
ولم يكد عمر يبلغ بركبه سفح الجبل حتى ظهر لهم من بعيد رجل يركض ركضا شديدا. فلما وقع نظر إيليا على هذا الرجل عرف أنه أرميا فقال في نفسه: قبحا لمنظر هذا الثقيل ولملقاه.
وكان الشيخ سليمان قد عاد إلى المزرعة بعد أن ودع عمر، وإيليا يسير وراء الأمراء منفردا؛ لأن رفيقه القس الترجمان قد عاد إلى البطريرك قبل قصدهم جبل الزيتون؛ ليطلعه على نتيجة مهمة إيليا، ويبلغه أن الأمير أمسك إيليا عنده.
Page inconnue