48
ويدخل إلى بلاده الدين المسيحي والمدنية اليونانية. فتصير مدينة كييف ثانية القسطنطينية من حيث نمو العمران والحضارة والمدنية، ولكن إمبراطورية اليونان تربي لنفسها في هذا الشعب الهائل الجديد الآخذ في التمدن عدوا لدودا و«وارثا» لقوتها وسلطنتها، وكأن الله يختار هذا الشعب الجديد لهذه الوظيفة؛ لأن الشعب اليوناني القديم يعجز عن إتمام وظيفته إلى النهاية للأمراض التي طرأت عليه، ومما يزيد أعداءه وأمراضه حروب يسمونها يومئذ حروبا صليبية. فإن المنجم يقول: إن امراء الغرب سيتحدون يوما على الشرق بتحريض رجال الدين، ويكون لهم يومئذ من هذا التحريض غرضان؛ الأول: إسقاط سلطنة اليونان لما بين الفريقين من الخلافات الدينية، والثاني: إفناء سلطة الإسلام واستخلاص القبر المقدس منها، وستكون هذه الحروب من أعظم الوسائل إلى تمدين الغرب؛ لأن الصليبيين يجدون في القسطنطينية والشرق من آثار العمران والعلوم والفنون والحكمة والعظمة ما يبهر عقولهم فيتهافتون على اقتباسه، ولكنهم يجزون هذه الأمم الممدنة في مقابلة ذلك شر جزاء؛ لأنهم يضعفونها بحروبهم، ويفرغون جهدهم في إسقاطها، ويستولون مدة على القسطنطينية منصرفين إليها عن الشرق وعن الإسلام. مع أنه لو يتحد الفريقان يومئذ؛ لتغير وجه الكرة الأرضية، ولكن إذا كان يمكن اتحاد الماء بالنار يمكن اتحاد اليوناني باللاتيني؛ لتخالف مصالحهما السياسية والدينية معا، ولما يظن أحد الإمبراطرة
49
أن النزاع بين السلطنتين وارد من جهة الاختلاف في الدين فقط يتقرب من كنيسة رومة لإزالة الخلاف. فيرسل نوابا من قبله إلى مجمع ليون (سنة 1274) ولكن الشرق وكنيسته يرفضون الاتفاق. فكأن هذا الإمبراطور يجهل ما يعرفه الجميع من أن كل أمة تحب أن تعيش حرة في بلادها، وتفهم دينها بعقول أبنائها لا بعقول غيرهم. ثم تصبح الحالة في القسطنطينية فوضى، ويكون للإيطاليين فيها محاكم خصوصية وقناصل يحكمون بينهم كأنهم مملكة في المملكة، وتثور حرب أهلية بين شيخ وحفيده
50
فيقوم خادم للشيخ
51
ويغتصب الملك منهما، ويحالف الأتراك عليهما (سنة 1347-1355) ويكون ملك هذا الخادم مقصورا على النزاع على الملك بينه وبين الوارث الشرعي من آل الشيخ
52
ولما يعود الملك إلى الوارث الحقيقي يقوم عليه ابنه، وسيبذل البندقيون والجنويون والأتراك جهدهم للاستفادة من هذه الفتن الداخلية ويوسعونها ، وحينئذ تبدأ سلطة عظيمة في الانتشار.
Page inconnue