غضب، كما لم يغضب في حياته غضب، احمرت الدنيا، أنزفها من فرط غيظه كل دم الظهيرة الحمراء، فالشراسة حين لا ترتطم بما يغذيها تفزع، وفي فزعها تغضب، وكأنما تلاقي أعتى الأعداء؛ فعدوها - عدو الشراسة - ليس الشراسة، عدوها الأكبر والأوحد هو الوداعة! كأنها كل الشجاعة، الأقوى من الشجاعة، أعتى أعداء الشجاعة.
ولكن فورا تموتين الآن يا ساحرة؛ فهذا غدر، أنت تأخذينني على حين غرة، أنا مجهز نفسي لمذبحة، فإذا بي أواجه بالوداعة! كل الوداعة. اقتلها يا مصطفى قبل أن تغدر بك غدرا آخر، وتعود تسحرك. بكل ما تملك من قوة في يديك اضغط واضغط، ولا تتركها إلا جثة! حنان؛ أنهار من الحنان الدافق تنسال من الخد الجميل المائل، وتسري في قبضته.
أيقظ كل الوحش الكامن وخنق، فعلا خنق، تحت أصابعه الغليظة رقبتها تختلج اختلاجة العارفة التي أدركت.
وهذه المرة فتح عينيه ورآها، اتسعت عيناها اتساع غير المصدقة أول الأمر، ثم المرعوبة لهنيهة بالكاد لا تصدق، ثم ... ثم الساكتة الراغبة التي أسلمت لحبيبها المصير؛ كل المصير، مرة واحدة وإلى الأبد، كل شيء تحفل به ملامحها إلا الخوف، لمحة خوف أو رعب أخرى لم يلمحها، حتى حين ازرق الوجه، وبدأت العينان جحوظهما وانقطع التنفس، لا عضلة رقبة تختلج بالرعب، ولا عين تدمع، ولا لمحة من ملامحها تستعطف أو تستغيث، بل شبه ابتسامة بالغة الوهن، ابتسامة يرعب أنها ابتسامة سعادة؛ سعادة من يزاول حبيبه الحب معه، ويعطيه أخيرا كل ذاته ونفسه. وجسده هو الذي أصبح يختلج بالرعب، وكأن الخانق أصبح المخنوق! نظرات، يا إلهي، تطلب الموت، ترجوه، تتمناه يديه وعلى يديه هو بالذات، والدنيا نهايتها تحل، والسعادة كلها تغمر ملامحها، سعادة الحب موتا والموت حبا تغمر كل الملامح.
وكان الحوشان قد امتلآ على الجانبين، وبحر من البشر من هنا يدفع، وبحر من الناحية الأخرى يجذب ليبعد.
والسعادة كلها من بشرتها التي توردت زرقة تشرق، سعادة من أخيرا نالت كل ما تتمنى، لا تزال تتوهج وتنهمر، سعادة ليس سببها أنه أبقى على حياتها، وإنما سعادة أن إحساسها بملمسه وهو يخنقها، صنع ما لم تصنعه مئات الكتب والتعاليم، وحول القاتل الحبيب من إنسان إلى مبدأ، أصبح هو ولو للحظة خاطفة كل مبدئها! ومرحبا بالموت يأتي - ولو في الحال - حينما على يديه ومبدئه يأتي، حتى ولو لم يكن يحبها يجيء، فما عاد الحب نفسه يهمها.
ومن بين أحراشه وغاباته بدأ - شيئا فشيئا رغما عنه ثم برضاه - ينبت، ويصعد، ويكبر، ويعلو، بدا شيئا آخر غير عقله، حكيما جدا يحبو، عجوزا جدا يولد، ولكن له قلب أكبر من كل قلوب الكون، وأقوى وأعظم، ومن مرتفعه مضى يرقب الحشدين الصاخبين، اللذين يتبادلان القتل عيونا ووعيدا، والغضب الفتاك تأجج والصفافير تستغيث، ومدافع السجن قد صوبت إلى الداخل، والقيامة أوشكت، بل قامت ترعب من لا في حياته ذاق الرعب مرة.
ولكن الآخر قد تربع وانتهى الأمر، وانتهت القبضة وتراخت الخنقة، ورغم الحشد الهائل، فالحقيقة الحقيقة لم يعد هناك سواهما، حتى السور العظيم وبالذات عند خشبته بعد الثالثة المكسورة، كان قد أصبح الملاذ، والأيدي الأربع مضمومة في تعانق متشبث مجنون لا ينتهي.
كان، وكان كتاب آخر يكتب كتابهما، وشاهد عليه يا إلهي! نفس ذلك السور.
صح
Page inconnue