unavailable

كشف شبهات الصوفية

Maison d'édition

مكتبة دار العلوم

Lieu d'édition

البحيرة (مصر)

Genres

ـ[كشف شبهات الصوفية]ـ المؤلف: شحاتة محمد صقر الناشر: مكتبة دار العلوم، البحيرة (مصر) عدد الأجزاء: ١ [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]

Page inconnue

جميع الحقوق محفوظة رقم الإيداع:١٦٤٣٣/ ٢٠٠٦ الناشر: مكتبة دار العلوم البحيرة - أبو حمص - حي الزهور ت ٠٤٥٢٥٦٩٨٢٦ـ٠١٢٩٧٣٢١٣١

1 / 2

مقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاالله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَموتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾. أما بعد: فإن خير الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ﵌، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. فهذا كشف لبعض الشبهات التي يثيرها الصوفية للاستدلال على البدع التي نسبوها للإسلام - دين التوحيد - والإسلام منها براء. وقد نُقِلَتْ الردود من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام محمد بن عبد الوهاب، والشيخ الألباني - خاصةً كتابَيْه: (التوسل، أنواعه وأحكامه) و(تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد)،ومن كتب الشيخ ابن باز، والشيخ ابن عثيمين ﵏ جميعًا - ومن كتب ومقالات لآخرين. واللهَ نسأل أن ينفع المسلمين بهذه الورقات وأن يرزقنا الإخلاص في السر والعلن، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه - سيدنا محمد - وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين. شحاتة محمد صقر saqrmhm@gawab.com

1 / 3

هل تعلم أيها الصوفي؟! ١ - أنك تنسب إلى لبس الصوف، وليس إلى أهل الصفة، ولا الصف الأول، ولا الصفاء، لأن اللغة لا تجيز ذلك أبدًا؟ فهلا تسميت بالاسم الذي سماك به ربك؟ ﴿هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ﴾. (الحج:٧٨) ٢ - هل تعلم أنك تدين الله بشيء حادث في الدين؟ إذ الصوفية من الأمور المحدثة، حيث لم تظهر إلا في نهاية القرن الثاني أو بداية القرن الثالث الهجري، وقد حذر رسولك ﵌ من البدع المحدثات. ٣ - هل تعلم أن من حق الله ﷿ عليك أن تعبده ولا تشرك معه غيره، ومن حقك عليه إن عبدته ولم تشرك معه غيره أن يدخلك الجنة؟ وهل علمت أن الدعاء والاستغاثة بذوات الأحياء أو الأموات، وطلبك للحاجات التي لا يقدر عليها إلا الله، نحو طلب الولد، والمغفرة، ونحوهما، من باب الشرك الأكبر الذي يخلد صاحبه في النار، والمبطل لجميع الأعمال، المانع من شفاعة سيد الأبرار ﵌؟ (١). ٤ - هل تعلم أن التوسل المشروع له ثلاث وسائل، وما سواها توسل ممنوع؟ والوسائل المشروعة هي: أ- التوسل إلى الله ﷿ بأي اسم من أسمائه الحسنى، وبأي صفة من صفاته العلا، نحو: يا رب، يا حي، يا قيوم. ب- التوسل بالأعمال الصالحة، كتوسل الثلاثة الذين دخلوا الغار فانسد عليهم، فتوسل كل منهم بصالح عمله، ففرَّج الله عنهم كما أخبر الصادق المصدوق ﵌.

(١) تنبيه: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «القول قد يكون كفرًا فيطلق القول بتكفير صاحبه، ويقال: مَن قال كذا فهو كافر، لكن الشخص المعين الذى قاله لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التى يكفر تاركها». اهـ من (مجموع الفتاوى٢٣/ ٣٤٥).

1 / 4

جـ- طلب الدعاء من الحي الحاضر، نحو توسل الأعمى بدعاء رسول الله ﵌، كما جاء في حديث عثمان بن أبي حنيف، حيث طلب الرسول ﵌ من الأعمى أن يتوضأ ويصلي ركعتين، ويسأل الله أن يقبل شفاعة رسوله ﵌ فيه، فدعا له رسول الله ﵌، فرد الله بصره. وكاستسقاء عمر بدعاء العباس ﵄، ولا يظنن خاطئ أن عمر استسقى بذات العباس، إذ لو كان الاستسقاء بذاته لاستسقى عمر بذات النبي ﵌، وهو أفضل من العباس ومن جميع الخلق، بأبي هو وأمي ﵌. ٥ - هل تعلم أن رسولك ﵌ قال: «لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ فَقُولُوا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ»؟ (رواه البخاري). والإطراء هو المبالغة في المدح والكذب فيه، ومن ذلك اعتقاد معظم الصوفية: أ- أن الرسول ﵌ خُلق من نور، وجميع الأنبياء من لدن آدم خلقوا من نوره، وهذا منافٍ لما أخبر به الله ﷿ أنه من بني آدم، وقد خلق الله آدم ﵇ من طين. ب- أن الرسول ﵌ حي في قبره كحياته قبل موته، يستقبل الزائرين ويصافحهم ونحو ذلك، وقد قال الله تعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ﴾، وقال: ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ﴾. مع يقيننا الصادق أن روحه ﵌ في أعلى الجنان، وأن الله حرَّم على الأرض أجساد الأنبياء، وأن الحياة البرزخية تختلف عن الحياة الدنيا وعن الحياة الآخرة. جـ- اعتقاد كثير من الصوفية أن الرسول ﵌ يُرى يقظة بعد أن انتقل إلى الرفيق الأعلى، بل من الصوفية من يزعم أنه يكلم الله من غير واسطة، وأن بعض الطرق خرج مرسوم إنشائها بأمر الرسول ﵌، وأنهم أخذوا عنه بعض الصلوات والأذكار، وأنه يحضر الموالد، والبعض إذا جلسوا لذكر الجمعة فرشوا ملاءة، وزعموا أن الرسول ﵌ يجلس في وسطها، وخلفاؤه الراشدون في أركانه.

1 / 5

هذا الاعتقاد - مع ما فيه من المخالفة - مخالفٌ لما كان عليه السلف الصالح من لدن الصحابة ومن بعدهم، حيث لم يزعم أحد منهم أنه اجتمع برسول الله ﵌ مع حاجتهم الماسة لذلك، ومنزلتهم العالية عنده ﵌. ٦ - هل تعلم أن كل الأوراد، والأذكار، والصلوات، والاحتفالات، والموالد، والحوليات التي لم يتعبد بها رسول الله ﵌ وصحبه الكرام ربهم، والتي لم تكن معروفة لديهم - هل تعلم أنها مردودة عليك بحكم رسول الله ﵌؛ لأن العبادات توقيفية، لا يجوز الزيادة عليها ولا النقصان؟ قال ﵌: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» (رواه البخاري ومسلم). وقال: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد». (رواه مسلم). لماذا تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ لماذا تترك الأذكار والصلوات التي خرجت من فم من لا ينطق عن الهوى ﵌، وتتمسك بأوراد وأذكار وضعها غيره من البشر؟ قال الإمام النووي ﵀ بعد أن ذكر صيغ الصلاة على الرسول ﵌ وصِفَتَها في كتابه (الأذكار١/ ١٦٤): «وأما ما قاله أصحابنا وابن أبي زيد المالكي من استحباب زيادة على ذلك (وارحم محمدًا وآل محمد)، فهذه بدعة لا أصل لها، وقد بالغ الإمام أبوبكر بن العربي المالكي في كتابه (شرح الترمذي) في إنكار ذلك، وتخطئة ابن أبي زيد، وتجهيل فاعله، قال: لأن النبي ﵌ علمنا كيفية الصلاة عليه ﵌، فالزيادة على ذلك استقصار لقوله، واستدراك عليه ﵌» ٧ - هل تعلم أيها الصوفي أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وإنما الطاعة في المعروف؟ كما أخبر صاحب الشريعة، وأن ما يشيعه بعض الصوفية: «لا تعترض فتطرد»، وزعم البعض أنه لو أمره شيخه بدخول النار لدخلها، ولو أمره بالكفر لكفر، لا أساس له في شرع المصطفى ﵌.

1 / 6

٨ - هل تعلم أن ما لم يكن في ذاك اليوم دينًا فلن يكون اليوم دينًا؟ كما قال الإمام مالك في تفسير قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾ (المائدة:٣)، فالدين تم وكمُل. ٩ - هل تعلم أن تقسيم الصوفية العلم إلى علم شريعة وحقيقة، أوعلم ظاهر وباطن، أوما يعرف بـ (العلم اللدني)، لا أساس له من الصحة؟ وأن هذا التقسيم ما أنزل الله به من سلطان، ولم يؤْثَر عن عَلَم من الأعلام، وإنما اخترعه الشيطان على أوليائه ليلبس عليهم، وليتمكن من إضلالهم؟ حيث زعموا أن العلم اللدني يلقن تلقينًا، ولا يحتاج إلى تعليم، ومعلوم من دين الله أن العلم بالتعلم، ولو كان العلم بالتلقين لناله سيد البرية ﵌، ولكن علَّمه جبريل ﵇ عندما قال له: «اقرأ»، قال: «ما أنا بقارئ ..»، قال: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ (العلق:١)، الحديث. عمدتهم في هذا التقسيم قصة الخضر مع موسى سدد خطاكم، وقوله تعالى: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا﴾ (الكهف:٦٥)، وليس في ذلك أدنى دليل. والقول الراجح أن الخضر نبي من الأنبياء، وأن الله أوحى إليه بأمور لم يوحها لكليمه موسى، ولهذا قال في نهاية القصة: ﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾ (الكهف:٨٢). والحق كذلك أن الخضر مات، ولو كتب الله الخلود لأحد لكتبه لخاتم الأنبياء والرسل: ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ﴾ (الأنبياء:٣٤). ١٠ - هل تعلم أن الولاية ليست بالتوارث، وإنما هي بالإيمان والتقوى؟ قال تعالى: ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ﴾ (يونس:٦٣).فكل مؤمن تقي فهو ولي لله ﷿، وطالما أن الناس يتفاوتون في إيمانهم وتقواهم فإنهم لا شك متفاوتون في ولايتهم. ١١ - هل تعلم أنه ليس كل خارق كرامة؟ إذ الخوارق منها ما هو من باب الشيطان والاستدراج، ومن السحر، ولهذا فإن ضابط الكرامة الأساسي هو الاستقامة على دين الله، ولهذا ورد عن السلف أن أكبر كرامة هي الاستقامة.

1 / 7

ورحم الله الإمام الشافعي ﵀ عندما قال: «إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء أويطير في الهواء، فلا تصدقوه ولا تغتروا به حتى تعرضوه على كتاب الله، فإن الشيطان يطير من المشرق إلى المغرب». ١٢ - هل تعلم كذلك أن العلماء هم الأولياء؟ ولهذا قال الإمامان أبو حنيفة والشافعي: «إن لم يكن العلماء هم الأولياء فليس لله ولي». ولهذا فإن الاشتغال بالعلم الشرعي أفضل من التفرغ للعبادة، فقد جاء في الحديث: «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم» (رواه الترمذي وصححه الألباني)؛ لأن العلم فضله متعدٍ، أما العابد - إن كان يعبد الله على بصيرة - فخيره قاصر عليه. ١٣ - هل تعلم أن هناك أمورًا خُصَّ بها نبينا وحبيبنا محمد ﵌، لا يشاركه فيها أحد من الأمة، مهما كانت مكانته وعلت منزلته؟ منها: التبرك بما انفصل منه ﵌، من شعر، ومن ماء وضوء، فلا يجوز لأحد أن يمارس هذا مع أحد من الخلق، ولو جاز هذا لأحد لجاز لخلفائه الراشدين والأئمة المهديين، حيث لم ينقل أن أحدًا صنع معهم شيئًا من ذلك. ١٤ - هل تعلم أن البناء على القبور، والتعلق بها، والتمسح والدعاء عندها، من سمات عُبَّاد الأوثان، وليس من سمات أتباع من نزل عليه القرآن؟ فقد لعن رسول الله ﵌ اليهود والنصارى لاتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد، ولعن زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج. ١٥ - هل تعلم أنه لا يسع أحد من هذه الأمة مخالفة أمر الله ورسوله، أو الخروج عن شرع محمد ﵌، بأن ترفع عنه بعض التكاليف الشرعية، فمن ادعى ذلك أو صدق من ادعاه فقد كفر بما أنزل على محمد. وأخيرًا إياك أن تأخذك العزة بالإثم، وأن تستنكف وتستكبر عن قبول النصيحة، فالحكمة ضالة المؤمن. اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، والباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.

1 / 8

الأدلة على حرص رسول الله ﵌ على بقاء أصلي التوحيد: «لا إله إلا الله، محمد رسول الله»، نقيتن صافيتن الدليل الأول: أنه رأى يومًا بيد عمر بن الخطاب ﵁ ورقة من التوراة، وكان عمر قد أعجبه ما فيها، فغضب رسول الله ﵌ غضبًا شديدًا، وقال لعمر: «أهذا وأنا بين أظهركم، لقد جئتكم بها بيضاء نقية. والله لو كان موسى حيًا لما وسعه إلا أن يتبعني» (رواه الإمام أحمد وحسنه الألباني) وفي هذا الحديث من الفقه: أولا: أن الرسول ﵌ تعجب أن يبدأ الاهتداء بغير الكتاب والسنة وهو ما زال حيًا. ومن مقتضى الإيمان بالكتاب والسنة أن يعتقد أن الهدي فيهما وحدهما. ثانيًا: أن الرسول ﵌ قد جاء بالدين نقيًا خالصًا، لم تَشُبْهُ شائبة من تغيير أو تبديل أو تحريف، والصحابة يتلقونه غضًا طريًا خالصًا، فكيف ينصرفون عنه ويهتدون بما شابه التحريف والتبديل والزيادة والنقص. ثالثًا: أن موسى ﵇ نفسه الذي نزلت عليه التوراة لو أنه حي موجود لكان اللازم في حقه هو متابعة الرسول ﵌، وترك شريعته التي بلغها للناس. وهذا الحديث أصل في بيان منهج الكتاب والسنة، وأنه لا يجوز لأحد أن يهتدي بعلم يقرب إلى الله، ويصلح النفس غير الذي بعث به رسول الله ﵌ حتى لو كان أصله من شريعة منزلة علي أحد الأنبياء السابقين. الدليل الثاني: أن رسول الله ﵌ سمع خطيبًا يخطب بين يديه فكان مما قاله: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، فقال له رسول الله ﵌: «بئس خطيب القوم أنت، قل: ومن يعص الله ورسوله فقد غوى» (رواه مسلم). فهذا الخطيب قد قاطعه رسول الله ﵌، وقبَّح قوله أمام الناس، والسبب أنه جمع بين الله ورسوله في ضمير واحد (ومن يعصهما) فأمره الرسول ﵌ بأن يعيد ذكر الاسم الظاهر لله ولرسوله، حتى لا يُظن - ولو من بعيد - أن منزلة الرسول كمنزلة الله ﷿.

1 / 9

وهذا الحرص من الرسول ﵌ دليل على وجوب صون جناب توحيد الله ﵎ صونًا كاملًا، ووجوب التفريق التام بين ما يجب لله ﷿، وما يجب لرسوله ﵌. الدليل الثالث: أن عثمان بن مظعون ﵁، وكان من خيار الصحابة، لما توفي، وحضر عنده الرسول ﵌ سمع الصحابية الجليلة أم العلاء تقول: «شهادتي عليك أبا السائب أن الله قد أكرمك». فرد الرسول ﵌ قائلًا: «وما يدريك أن الله قد أكرمه؟» (وكان هذا تنبيهًا عظيمًا من الرسول ﵌ لهذه الصحابية بأنها قد حكمت بحكم غيبي، وهذا لا يجوز، لأنه لا يطلع على الغيب إلا الله ﷿)،ولكنها ردت قائلة: «سبحان الله يا رسول الله!! ومن يكرم الله إذا لم يكرمه؟» (أي إذا لم يكن عثمان بن مظعون ﵁ ممن يكرمهم الله فمن بقي منا حتى يكرمه الله ﷿؟ وهذا رد في غاية البلاغة والفهم. ولكن رسول الله ﵌ رد عليها بما هو أبلغ من ذلك حيث قال لها): «والله إني لرسول الله لا أدري ما يفعل بي غدًا» (وكان هذا نهاية الأمر وحسمه، وهنا وصلت أم العلاء إلى الحقيقة الشرعية العظيمة) فقالت: «والله لا أزكي بعده أحدًا أبدًا» (رواه البخاري). الدليل الرابع: أن رجلًا جاء إلى الرسول ﵌ فقال له: «ما شاء الله وشئت»، فقال له ﵌: «أجعلتني لله ندًا؟ قل ما شاء الله وحده» [(رواه أحمد والبخاري في (الأدب المفرد) وغيرهما، وأورده الألباني في (السلسلة الصحيحةرقم١٣٨)] الدليل الخامس: أن بعض الصحابة ﵃ مروا في أثناء خروجهم إلى هوازن بعد فتح مكة على شجرة، كان المشركون يعلقون عليها سيوفهم، ظانين أنه من فعل ذلك حالفه النصر في معاركه مع العدو، فقالوا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط - أي شجرة ينوطون (أي يعلقون) بها أسلحتهم - فقال لهم الرسول ﵌: «قلتم والذي نفسي بيده كما قال بنو إسرائيل لموسى: ﴿اجْعَل لَّنَا إِلَهًَا كَمَا لَهُمْءَالِهَةٌ﴾». (رواه الترمذي وصححه الألباني)، فبين ﵌ أن هذا من عمل المشركين، وأن مشابهتهم في هذا شرك بالله ﵎، إذ طلب البركة والنصر من غير الله ﷿ شرك به تعالى. الدليل السادس: سدَّ رسول الله ﵌ باب العرافة والكهانة وادعاء علم الغيب، وأخبر ﵌ أن مدعي ذلك كافر، وأن من صدَّق عرافًا أو كاهنًا فقد كفر بما أنزل على

1 / 10

محمد ﵌، وقد سُئِل ﵌ عن العرافين فقال: «ليسوا بشيء» هكذا بنفي قيمتهم وتحقيرهم: قالت عائشة ﵂: سأل أناس رسول الله ﵌ عن الكهان، فقال لهم رسول الله ﵌: «ليسوا بشيء». قالوا: يا رسول الله، فإنهم يحدثون أحيانًا الشيء يكون حقًا؟ قال رسول الله ﵌: «تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة (١)، فيخلطون فيها أكثر من مئة كذبة»، (رواه البخاري ومسلم) وأما صعود الشياطين إلى السماء لاستراق السمع، وقذفهم بالشهب فقد ورد في حديث آخر رواه البخاري في عدة مواضع من صحيحه. * ولما شك الصحابة في (ابن صياد اليهودي) الذي كان يسكن المدينة، وظنوه الدجال الذي حدث عنه رسول الله ﵌، وأخذ الرسول معه جماعة وزاره في منزله قال له الرسول مختبرًا: «لقد خبأت لك خبيئًا». وكان الرسول ﵌ قد أضمر في نفسه (سورة الدخان) فسأله الرسول عما في نفسه، فقال عدو الله: «هو الدخ» ولم يستطع أن يكمل الكلمة، فقال له رسول الله ﵌: «اخسأ فلن تعدو قدرك». أي لن تتعدى كونك كاهنًا تتصل بالجن. ولذلك قال له رسول الله ﵌: «كيف ترى؟» قال: «يأتيني أحيانًا صادق وكاذب». أي تأتيه أخبار من الشيطان صادقة أحيانًا، وكاذبة أخرى، فقال رسول الله: «لقد لُبِّس عليه» (رواه البخاري ومسلم). وفي هذا الحديث دليل على أن الشيطان من الممكن أن يطلع على ما في نفس المؤمن، ويخبر وليَّه من الإنس، وأننا مأمورون ألا نصدق من الغيب إلا ما أتانا من طريق الله، ومن طريق رسوله ﵌ فقط.

(١) الْقَرّ تَرْدِيد الْكَلَام فِي أُذُن الْمُخَاطَب حَتَّى يَفْهَمهُ، وَقَرّ الدَّجَاجَة صَوْتهَا إِذَا قَطَّعَتْهُ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْره: مَعْنَاهُ أَنَّ الْجِنِّيّ يَقْذِف الْكَلِمَة إِلَى وَلِيّه الْكَاهِن، فَتَسْمَعهَا الشَّيَاطِين كَمَا تُؤَذِّن الدَّجَاجَة بِصَوْتِهَا صَوَاحِبهَا فَتَتَجَاوَب. (من شرح صحيح مسلم للإمام النووي)

1 / 11

دعوة إلي التمسك بالكتاب والسنة * قال تعالى: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ (النساء: ٥٩). * قال رسول الله ﵌: «. .. إنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» (رواه أبو داود وصححه الألباني، وروى مسلم لفظة: «كل بدعة ضلالة»). «عَضُّوا عليها بالنواجذ»: كناية عن شدة التمسك بها، و«النواجذ»: الأضراس. * قال عبد الله بن مسعود ﵁: «اتَّبِعوا ولا تبتدعوا فقد كُفِيتُم» (رواه الدارمي ١٧٥). * قال الإمام مالك ﵀: «من ابتدع في الإسلام بدعةً يراها حسنة فقد زعم أن محمدًا ﵌ خان الرسالة؛ لأن الله يقول: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ (المائدة: ٣)، فما لم يكن يومئذ دينًا فلا يكون اليوم دينًا». (الاعتصام للشاطبي١/ ٥٤). * قال الإمام الزهري ﵀: «الاعتصام بالسنة نجاة؛ لأن السنة - كما قال مالك - مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك». * ... العِلمُ قال اللهُ قال رسولُهُ ... قال الصحابةُ ليسَ بالتَمْويهِ ماالعلمُ نصْبُك للخلافِ سفاهةً ... بينَ الرسولِ وبينَ قولِ فَقيهِ * قال تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾ (آل عمران: ٣١) فقد جعل ﷾ علامة محبته اتباع الرسول ﵌ فمن لم يتبع الرسول وادعى محبة الله تعالى فهو كاذب في دعواه فإن عصيان الرسول عصيان لله تعالى، ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ﴾ (النساء: ٨٠) وعصيان الله تعالى ينافي محبته، فالخيرة في اتباع الرسول ﵌ والشر في مخالفة سنته، فإذًا الواجب علينا معاشر المسلمين اتباعه في جميع أقواله وأفعاله والتأسي به في سائر أحواله، قال تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ

1 / 12

عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ (الحشر: ٧)، ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (النور: ٦٣). * قال الحافظ ابن كثير: «﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ﴾ أي: عن أمر رسول الله ﵌، وهو سبيله ومنهاجه وطريقته وشريعته فتوزن الأقوال والأعمال بأقواله وأعماله، فما وافق ذلك قُبِل وما خالفه فهو مردود على قائله وفاعله، كائنًا من كان كما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله ﵌ أنه قال: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد» (رواه البخاري ومسلم) أي: فليحذر ولْيَخْش من خالف شريعة الرسول باطنًا أو ظاهرًا ﴿أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ﴾ أي: في قلوبهم، من كفر أو نفاق أو بدعة ﴿أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي: في الدنيا، بقتل أو حد أو حبس، أو نحو ذلك». * لا يُعرف الحق في مسألة ما بكثرة القائلين به، بل يُعرف الحق بالدليل من الكتاب والسنة. سنة النبي ﵌ فعلية وتركية * سنة النبي ﵌ كما تكون بالفعل تكون بالترك، فكما كلفنا الله تعالى باتباع النبي ﵌ في فعله الذي يتقرب به إذا لم يكن من باب الخصوصيات، كذلك طالبنا باتباعه في تركه فيكون الترك سنة، وكما لا نتقرب إلى الله تعالى بترك ما فعل، لا نتقرب إليه بفعل ما ترك فلا فرق بين الفاعل لما ترك والتارك لما فعل. والكلام في ترك شيء لم يكن في زمنه ﵌ مانع منه وتوفرت الدواعي على فعله، كتركه الأذان للعيدين، والغسل لكل صلاة، وصلاة ليلة النصف من شعبان، والأذان للتراويح، والقراءة على الموتى، فهذه أمور تُرِكت في عهد النبي ﵌ السنين الطوال مع عدم المانع من فعلها ووجود مقتضيها؛ لأنها عبادات والمقتضي لها موجود وهو التقرب إلى الله تعالى، والوقت وقت تشريع وبيان للأحكام، فلو كانت دينًا وعبادة يُتقرب بها إلى الله تعالى ما تركها السنين الطويلة مع أمره بالتبليغ وعصمته من الكتمان، فتركه ﵌ لها ومواظبته على الترك - مع عدم المانع ووجود المقتضي ومع أن الوقت وقت تشريع - دليل على أن المشروع فيها هو الترك، وأن الفعل خلاف المشروع، فلا يتقرب بها؛ لأن

1 / 13

القربة لابد أن تكون مشروعة. وأما ما فعله الخلفاء ولم يكن موجودًا من قبلُ فهو لا يخرج عن أمور لم يوجد لها المقتضي في عهد الرسول ﵌ بل في عهد الخلفاء كجمع المصحف، أو كان المقتضي موجودًا في عهد الرسول ولكن كان هناك مانع كصلاة التراويح في جماعة فإن المانع من إقامتها جماعة والمواظبة عليها خوف الفرضية، فلما زال المانع بانتهاء زمن الوحي صح الرجوع فيها إلى ما رسمه النبي ﵌ في حال حياته. * ما تركه النبي ﵌ مع قيام المقتضي على فعله فتركه هو السنة وفعله بدعة مذمومة، لأن النبي ﵌ لم يفارق الدنيا إلا بعد أن أكمل الله الدين وأتم نعمته على المسلمين ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِينًا﴾ (المائدة: ٣). * عدم عمل السلف الصالح بالنص على الوجه الذي يفهمه مَنْ بعدهم، يمنع اعتبار ذلك الفهم صحيحًا، إذ لو كان صحيحًا لم يعزب عن فهم السلف الصالح ويفهمه من بعدهم، كما يمنع اعتبار ذلك النص دليلًا عليه؛ إذ لو كان دليلًا لعمل به السلف الصالح. التمسك بالعمومات مع الغفلة عن بيان الرسول ﵌ بفعله وتركه هو من اتباع المتشابه الذي نهى الله عنه، ولو عوّلنا على العمومات وصرَفْنا النظر عن البيان لانفتح باب كبير من أبواب البدعة لا يمكن سده. مثال: قال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (الأحزاب: ٥٦) لو صح الأخذ بالعمومات لصح أن يُتقرب إلى الله بالصلاة والسلام على النبي في قيام الصلاة وركوعها واعتدالها وسجودها إلى غير ذلك من الأمكنة التي لم يضعها الرسول ﵌ فيها، ومَن الذي يجيز التقرب إلى الله تعالى بمثل ذلك وتكون الصلاة بهذه الصفة عبادة معتبرة؟ وكيف هذا مع حديث «صلوا كما رأيتموني أصلى» (رواه البخاري)، فلا يقرب إلى الله إلا العمل بما شرع، وعلى الوجه الذي شرع.

1 / 14

* كان الصحابة ﵃ يرون في ترك الرسول ﵌ للفعل، مع وجود المقتضي له، الحظر وأنه منهي عنه، دليل ذلك أنه لما قُدِّم الضب إلى رسول الله ﵌ رفع يده عنه وترك أكْله فقال خالد بن الوليد: «أحرامٌ الضبّ يا رسول الله؟» قال: «لا، ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه»، قال خالد: «فاجتززته فأكلته ورسول الله ﵌ ينظر إلى» (رواه البخاري، والضب: حيوان من الزواحف)، فلو لم يكن الرسول ﵌ مُتَّبَعًا في تركه كما هو متبع في فعله، لما كان لتوقف الصحابة وترْك الأكل من الضب وجه وقد فهموا، وهم أدرى الناس بالدين، أولًا أنه امتنع عنه فتركوه، وبعد أن أخبرهم بأن هناك سببًا أخر - وهو عدم الإلف - أكلوا منه ولم يروا بذلك بأسًا. * قال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ﴾ (الأحقاف: ١١)، قال الحافظ ابن كثير ﵀ في تفسير هذه الآية: «أي قالوا عن المؤمنين بالقرآن لو كان القرآن خيرًا ما سبقنا هؤلاء إليه، يعنون بلالًا وعمارًا وصهيبًا وخبابًا ﵃ وأشباهم من المستضعفين والعبيد والإماء. .. وأما أهل السنة والجماعة فيقولون في كل فعل وقول لم يثبت عن الصحابة ﵃ هو بدعة، لأنه لو كان خيرًا لسبقونا إليه؛ لأنهم لم يتركوا خصلة من خصال الخير إلا وقد بادروا إليها». قال حذيفة ﵁: «كل عبادة لم يتعبد بها أصحاب رسول الله ﵌ فلا تتعبدوا بها؛ فإن الأول لم يدَعْ للآخِر مقالًا» (الأمر بالاتباع للسيوطي ص٦٢) * يستدل كثير من الناس بالنصوص العامة لتسويغ بدعهم، والتدليل على واقعهم! وهذا خطأ كبير. مثال: الأذان في العيدين، لما أحدثه بعض الأمراء، أنكره المسلمون؛ لأنه بدعة، فلو لم يكن كونه بدعة دليلًا على كراهته، وإلا لقيل: هذا ذكر لله ودعاء للخلق إلى عبادة الله، فيدخل في العمومات. كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾ (الأحزاب:٤١) وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللهِ﴾ (فصلت:٣٣) أو يقاس على الأذان في الجمعة، فإن الاستدلال على حسن الأذان في العيدين، أقوى من الاستدلال على حسن أكثر البدع. بل يقال: تَرْك رسول الله ﵌ - مع وجود ما يُعتقَد

1 / 15

مقتضِيًا وزوال المانع - سنة، كما أن فِعْلَه سنة. فلما أمر بالأذان في الجمعة، وصلى العيدين بلا أذان ولا إقامة، كان ترْك الأذان فيهما سنة، فليس لأحد أن يزيد في ذلك، بل الزيادة في ذلك كالزيادة في أعداد الصلوات أو أعداد الركعات، أو صيام الشهر، أو الحج، فلو أن رجلًا أحب أن يصلي الظهر خمس ركعات وقال: هذا زيادة عمل صالح، لم يكن له ذلك. وليس له أن يقول: هذه بدعة حسنة، بل يقال له كل بدعة ضلالة. ونحن نعلم أن هذه ضلالة قبل أن نعلم نهيًا خاصًا عنها، أو نعلم ما فيها من المفسدة. فهذا مثال لما حدث، مع قيام المقتضي له، وزوال المانع لو كان خيرًا. فإن كل ما يبديه المُحْدِث لهذا من المصلحة، أو يستدل به من الأدلة، قد كان ثابتًا على عهد رسول الله ﵌، ومع هذا لم يفعله رسول الله ﵌، فهذا الترك سنة خاصة، مقدمة على كل عموم وكل قياس. مثال آخر: عن نافع أن رجلًا عطس إلى جنب ابن عمر ﵄، فقال: «الحمد لله، والسلام على رسوله»، قال ابن عمر: «وأنا أقول: الحمد لله والسلام على رسول الله، وليس هكذا علمنا رسول الله ﵌، علمنا أن نقول: الحمد لله على كل حالٍ» (رواه الترمذي، وحسنه الألباني)، فقد أنكر ابن عمر ﵄ على هذا الرجل مع أن عموم قولِ الله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (الأحزاب: ٥٦) تدخل فيه تلك الصلاة، ولكن ما هكذا فهمها الصحابة فمَن بعدهم وما هكذا طبقها السلف الصالح ﵃، وفهمُهم أوْلى، ومرتبتهم أعلى. مثال آخر: رأى سعيد بن المسيب ﵀ رجلًا يصلي بعد طلوع الفجر أكثر من ركعتين، يكثر فيهما الركوع والسجود، فنهاه، فقال: يا أبا محمد، يعذبني الله على الصلاة؟ قال: «لا ... ولكن يعذبك على خلاف السنة» (رواه عبد الرزاق وإسناده صحيح). مثال آخر: قال رجل للإمام مالك بن أنس ﵀: «يا أبا عبد الله، من أين أُحْرِم؟» فقال الإمام مالك: «من ذي الحليفة، من حيث أحرم رسول الله ﵌» فقال: «إني

1 / 16

أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر» قال: «لا تفعل، فإني أخشى عليك الفتنة» فقال: «وأي فتنة في هذه؟ إنما هي أميال أزيدها!» قال: «وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقْتَ إلى فضيلة قصّر عنها رسول الله ﵌؟! إني سمعت الله يقول: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (النور: ٦٣)». (الاعتصام ١/ ١٣٢). ونلاحظ في هذه الأمثلة أن الدافع إلى البدعة ومخالفة السنة كان الحرص على الخير والزيادة في الطاعة ومع ذلك فقد أكد الأئمة على ضرورة الوقوف عند حدود السنن، وهم في ذلك على قاعدة عظيمة في تجريد الاتباع ذكرها التابعي الجليل سعيد بن جبير ﵀ وهي قوله: «قد أحسن من انتهى إلى ما سمع» (رواه الإمام مسلم). :* قال الإمام الشَّافِعِيّ ﵀: «... وَلَكِنَّا نَتَّبِع السُّنَّة فِعْلًا أَوْ تَرْكًا». (فتح الباري٣/ ٤٧٥). إلى من يتبعون زلات العلماء * قال الإمام الشاطبي ﵀: «. .. الإنسان لا ينبغي له أن يعتمد على عمل أحد البتة، حتى يتثبت ويسأل عن حكمه؛ إذ لعل المعتمَد على عمله يعمل على خلاف السُنَّة، ولذلك قيل: لا تنظر إلى عمل العالم، ولكن سَلْه يصْدُقْك، وقالوا: ضعف الروية أن يكون رأي فلانًا يعمل فيعمل مثله، ولعله فعله ساهيًا». (الاعتصام ٢/ ٥٠٨). * قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «. .. عادة بعض البلاد أو أكثرها، وقول كثير من العلماء، أو العبّاد، أو أكثرهم، ونحو ذلك ليس مما يصلح أن يكون معارضًا لكلام الرسول ﵌ حتى يعارض به». (اقتضاء الصراط المستقيم ص٢٤٥). * ما من عالم إلا وله زلة، أبى الله أن تكون العصمة لغير نبيه ﵌ ومن الخطير الولوع بالغرائب والزلات والتعلق بها، باعتبارها رأي فلان أو فلان ممن يشار إليهم بالبنان، وما فتيء العلماء يحذّرون من مسقطة يجريها الشيطان على لسان فاضل عليم،

1 / 17

فعن زياد بن حدير قال: قال لي عمر: «هل تعرف ما يهدم الإسلام؟» قال: قلت: «لا»، قال: «يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين» (رواه الدارمي ١/ ٧١).، ولو أن إنسانًا أخذ بكل شواذ الأقوال وغرائبها لربما خرج من الدين وهو لم يخرج بعدُ من أقوال العلماء! ولذلك قيل: وَلَيْسَ كلُّ خِلافٍ جاءَ مُعتَبَرًا ... إِلا خِلافٌ لَه حَظٌّ مِنَ النَّظَرِ» أقوال الأئمة في اتباع السنة وترك أقوالهم المخالفة لها (١) * الإمام أبو حنيفة ﵀: ١ - «إذا صح الحديث فهو مذهبي». ٢ - «إذا قلتُ قولًا يخالف كتاب الله وخبر الرسول ﵌ فاتركوا قولي». * الإمام مالك بن أنس ﵀: ١ - «إنما أنا بشر أخطيء وأصيب، فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه». ٢ - «ليس أحد بعد النبي ﵌ إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي ﵌». * الإمام الشافعي ﵀: ١ - «إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله ﵌ فقولوا بسنة رسول الله ﵌ ودعوا ما قلت». ٢ - «إذا صح الحديث فهو مذهبي». ٣ - «كل حديث عن النبي ﵌ فهو قولي، وإن لم تسمعوه منى». * الإمام أحمد بن حنبل ﵀: ١ - «لا تقلدني ولا تقلد مالكًا، ولا الشافعي، ولا الأوزاعي، ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا». ٢ - «من رد حديث رسول الله ﵌ فهو على شفا هلكة».

(١) صفة صلاة النبي ﵌ للشيخ الألباني (ص٢١ - ٢٩) بتصرف.

1 / 18

المقصود بالكراهة في كلام السلف قال الإمام الشوكاني: «والمكروه يقال بالاشتراك على أمور ثلاثة: الأول: على ما نهي عنه نهي تنزيه، وهو الذي أشعر فاعله أن تركه خير من فعله، الثاني: على ترك الأولى، الثالث: على المحظور وهو المحرم». (إرشاد الفحول، ص ٦). قال الإمام ابن القيم: «قال ابن وهب: سمعت مالكًا يقول: لم يكن من أمر الناس ولا مَنْ مضى من سلفنا، ولا أدركتُ أحدًا ممن أقتدي به يقول في شيء: «هذا حلال، وهذا حرام» وما كانوا يجترئون على ذلك، وإنما كانوا يقولون: نكره كذا ونرى هذا حسنًا، فينبغي هذا، ولا نرى هذا، ورواه عنه عتيق بن يعقوب، وزاد: ولا يقولون حلال ولا حرام، أمَا سمعت قول الله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلًا قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ﴾ (يونس: ٥٩) الحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ماحرمه الله ورسوله. قلت (القائل الإمام ابن القيم): وقد غلط كثير من المتأخرين من أتباع الأئمة على أئمتهم بسبب ذلك، حيث تورع الأئمة عن إطلاق لفظ التحريم، وأطلقوا لفظ الكراهة، فنفى المتأخرون التحريم عما أَطلق عليه الأئمة لفظ الكراهة، ثم سهل عليهم لفظ الكراهة وخفّت مؤنته عليهم فحمله بعضهم على التنزيه، وتجاوز به آخرون إلى كراهة ترك الأولى، وهذا كثير جدًا في تصرفاتهم». ثم ذكر الإمام ابن القيم أمثلة كثيرة منها قول الإمام أحمد: «لا يعجبني أكل ما ذبح للزهرة ولا الكواكب ولا الكنيسة وكل شيء لغير الله، قال الله ﷿: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ﴾» (المائدة: ٣)،ثم قال الإمام ابن القيم: «فتأمل كيف قال: «لا يعجبني» فيما نَصّ الله - سبحانه - على تحريمه واحتج بتحريم الله له في كتابه» ا. هـ. (إعلام الموقعين ١/ ٤٠). قال الإمام الشاطبي ﵀: «وأما كلام العلماء فإنهم وإن أطلقوا الكراهية في الأمور المنهي عنها لا يعنون بها كراهية التنزيه فقط، وإنما هذا اصطلاح المتأخرين حين أرادوا

1 / 19

أن يفرقوا بين القبيلَين، فيطلقون لفظ الكراهية على كراهية التنزيه فقط، ويخصون كراهية التحريم بلفظ التحريم والمنع، وأشباه ذلك. وأما المتقدمون من السلف فإنهم لم يكن من شأنهم فيما لا نص فيه صريحًا أن يقولوا: هذا حلال وهذا حرام. ويتحامون العبارة خوفًا مما في الآية من قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ﴾ (النحل: ١١٦)، وحكى مالك عمن تقدم هذا المعنى، فإذا وجدت في كلامهم في البدعة أو غيرها: أكره هذا، ولا أحب هذا وهذا مكروه وما أشبه ذلك، فلا تقطعن على أنهم يريدون التنزيه فقط فإنه إذا دل الدليل في جميع البدع على أنها ضلالة فمن أين يعد فيها ما هو مكروه كراهية التنزية؟» (الاعتصام (٢/ ٣٩٧، ٣٩٨). ومما يوضح كلام الإمام الشاطبي أن الإمام الترمذي قال في سننه: «باب كراهية إتيان الحائض»، وذكر فيه قول رسول الله ﵌: «من أتى حائضًا، أو امرأة في دبرها فقد كفر بما أُنزِل على محمد ﵌» (رواه الترمذي وصححه الألباني). فهل يُعقل أن يستدل الإمام الترمذي بهذا الحديث على الكراهة التنزيهية؟!!

1 / 20