[54_2]
ويحضرك دواعي التوفيق، معانا على الإرشاد فيه، فإنه لا يعين على الخير ولا يوفق له إلا هو. وهذا الانقلاب في تنويع الخطاب من أجمل ما بدر على قلمه؛ ذلك أن الخليفة بعد أن خاطب ابنه خطابه عاملا من عماله، عاد فذكر البنوة فدعا له دعاء والد لولده، ليوفق في مقاصده ويسلم في بدنه. ثم هون عليه الأمر، وأبان له قدر نفسه، وما تيسر له من أسباب التفوق بأخلاقه فقال: وقد تلقتك أخلاق الحكمة من كل جهة بفضلها، من غير تعب البحث في إدراكها، ولا متطاول المنار لذروتها، بل تأثلت منها أكرم معانيها، واستخلصت منها أعتق جواهرها، ثم شمرت إلى لباب مصاصها، وأحرزت منفس ذخائرها، فاعتقد ما أحرزت، ونافس فيما أصبت. ومما قدمه له من العظة في ذلك أن يشكر الله في كل صباح على نعمة السلامة والعافية، وأن يقرأ فيه من كتاب الله جزءا يردد فيه رأيه في أدبه، ويزين لفظه بقراءته. ويحضر عقله ناظرا في محكمه، ويتفهمه متفكرا في متشابهه؛ يريد بذلك تقوية عقيدته في الدين، وتقوية ملكته في البلاغة.
وبعد ذلك التفت فقال: ثم تعهدت نفسك بمجاهدة هواك، فانه مغلاق الحسنات، ومفتاح السيئات، واعلم أن كل أهوائك لك عدو يحاول هلكتك، ويعترض غفلتك، لأنها خدع إبليس وحبائل مكره، ومصايد مكيدته، فاحذرها مجانبا لها، وتوقها محترسا منها، واستعذ بالله من شرها، وجاهدها إذا تناصرت عليك بعزم صادق لا ونية فيه، وحزم نافذ لا مثنوية لرأيك بعد إصداره عليك، وصدق غالب لا مطمع في تكذيبه، ومضادة صارمة لا أناه معها، ونية صحيحة لا خلجة شك فيها، فإن ذلك ظهري صدق لك على ردها عنك، وقطعها دون ما تتطلع إليه منك، وهي واقية لك سخطة ربك، داعية لك رضا العامة، ساترة عليك عيب من دونك. . . فحول بلوغ غايتها، محرزا لها بسبق الطلب إلى إصابة الموضع ، محصنا أعمالك من العجب، فإنه رأس الهوى، وأول الغواية، ومقاد الهلكة، حارسا أخلاقك من
Page 54