ورن الصوت المعدني فوق الأسفلت كاصطكاك الحديد بالحديد: ما اسمك؟
قالت بصوت غير مسموع: حميدة.
مشت الموسى الحادة فوق جلدة رأسها وسقط شعرها الناعم الغزير في الجردل، ومشت فوق جلدها تجتث الشعر، وحينما وصلت إلى أسفل البطن عثرت بين الشعر الأسود على البرعم الصغير الأبيض، كالعصفور الوليد، فاجتثته من جذوره، وتركت مكانه جرحا عميقا في اللحم كالشق المسدود (سميت هذه العملية الجراحية ب «الطهارة» في ذلك الوقت وكان هدفها أن يصبح الإنسان «طاهرا» بغير أعضاء جنسية).
رقدت حميدة فوق الأرض الأسمنت، تحوطها أربعة جدران من الأسمنت، وذراعاها وساقاها مشدودة مربوطة في حزمة واحدة، وحزام من المعدن الصلب، يتدلى قفله الحديدي من بين فخذيها (دخل التاريخ باسم حزام العفة)، وتصطك سلسلته بالأرض الأسمنت كلما حركت ساقيها أو ذراعيها.
جسدها الناعم الصغير من تحته بركة من الدم، تدخل في شقوق الأرض، وفوق الجدران دم على شكل أصابع آدمية، دم أسود قديم، كالبقع، ملايين البقع، من كل عمر ومن كل جنس، أطفال ورجال ونساء وعجائز بيض وسود وصفر وحمر ولكل واحد بقعة مميزة كبصمة اليد.
وضعت حميدة طرف أصبعها الصغير في الشق، فخرج مبللا بالدم، مسحته في الجدار، وطبعت فوق الأسمنت بصمتها كالختم (الأميون جميعا أمثال حميدة يختمون على الوثائق الرسمية بهذا الشكل)، وتمتد الأصابع السوداء الملوثة بالدم تطبع ختما فوق الوثائق، ملايين الوثائق ومن فوقها ملايين الأختام، أختام سوداء خطوطها متعرجة مشرشرة كأرجل الصراصير، أو الذباب أو الجراد، كثيرون ومنتشرون فوق الأرض، بالليل والنهار، فوق الكباري، فوق السواري، عند ثنية كل شارع، وراء كل بيت، خلف كل جدار، داخل كل شق من شقوق الأرض، رءوسهم العارية الحليقة تطل فوق السطح، وأجسامهم النحيلة مقوسة داخل الشق وبطونهم مجوفة خالية من الأحشاء الداخلية، بغير كبد وبغير قلب وبغير معدة، وبغير مصارين، والجوف الواسع الخاوي أصبح مخزنا سريا يعبئون فيه الكراهية (المكان الوحيد الذي لا تصل إليه أجهزة الأمن في ذلك الوقت، تقدمت الأجهزة العسكرية حديثا واخترع في الطب جهاز للأشعة يكشف عن الأجسام الغريبة في جسم الإنسان، ومنظار إلكتروني يوضع في فتحة الشرج ويكشف عن محتويات التجويف الداخلي).
سقطت أشعة إكس فوق بطنها المنتفخ، ظهر التجويف مملوءا حتى الحافة بالكراهية، طبقة فوق طبقة، فوق طبقة، ملايين الطبقات الرقيقة كرقائق من معدن شفاف، تكونت بعضها فوق بعض في كتلة معدنية مصمتة وصلبة، تحسسها الطبيب بأصابعه الناعمة المشذبة الأظافر ثم صرخ: بارود، فانهالت المعاول تشق الأرض وقلبوا الشقوق رأسا على عقب، وعثروا على خزائن البارود جميعا (أشاد التاريخ بالانتصار الذي حققته أشعة إكس في علاج الأورام السرطانية في الجسم).
لكن السرطان مرض خبيث، أخبث من التاريخ، الورم ظل ينمو داخل بطن الأرض، وحينما تضع حميدة يدها تحتها تحسه ساخنا فوق كفها، سخونة جسمها، وتشعر بالطمأنينة فتقترب أصابعها من أنفها، وتشم الرائحة المألوفة، كرائحة كوم السباخ، أو صفيحة القمامة، أو قطعة اللحم الميتة، تشمها بفتحتي أنفها وتملأ بها صدرها، فهي رائحة حياتها.
حرك حميدو رأسه ناحيتها، جذبته الرائحة المشتركة، كان من الممكن أن يبتعد ويهرب ولكنه اتجه نحوها بحكم المصير المشترك، توقف عند الجثة الميتة فاردا قامته الطويلة راسما ظله على الأسفلت، طويلا ورفيعا ومعوجا، وبحذاء الفخذ يتدلى النصل الأبيض وعليه بقع سوداء كالدم. فتح صدره وملأه بهواء الليل، أدرك أنه ولد بغير أم، وأن جده لأبيه كان جنديا في جيش محمد علي، وأنه قتل في السجن.
عرف فجأة أن السجن مصيره، وكأنه حقيقة قديمة يعرفها كالموت، فلم يقاوم، ترك جسده مرتخيا في قبضة اليد الحديدية، تدرب في سنوات الأسر أن ارتخاء الجسد يضعف التوتر، مسام الجلد متمددة وتتفتح ويخرج من عينيه وأذنيه وأنفه وفتحة الشرج، يصبح كل شيء أقل ضراوة، الضرب أقل ضراوة، والنفخ أقل ضراوة، والكي بالنار (قبل اكتشاف الكهرباء) أقل ضراوة.
Page inconnue