لكن آدم اقترف الخطيئة العظمى (كما كانت تحكي له أمه) فإذا بعضو قبيح المنظر ينمو بين فخذيه، انتقام إلهي عادل على حد قول أمه، وهنا خطر له سؤال لم يخطر له من قبل (ولعل سبب ذلك أن جسده كان ميتا فأعطى نفسه حق التفكير في المقدسات)، وكان السؤال هو: كيف اقترف آدم الخطيئة قبل أن يخلق له هذا العضو؟
وأراد أن يطرد عنه هذه الفكرة، فالتفكير في مثل هذه الأمور عمل غير أخلاقي، خاصة في حضور سيده، واختلس حميدو نظرة سريعة بين فخذيه فلم يجد العضو، ووجد مكانه شقا صغيرا يشبه الشق الذي كان يراه في جسم حميدة، واعتقد أن في الأمر خطأ ما، وأن أجساد الموتى اختلطت بعضها بالبعض، وعند الفرز النهائي أعطوه جسد امرأة، دائما هناك خطأ في الفرز النهائي، فالموظف الذي يفرز ضعيف البصر بسبب الدرن الرئوي، وهو الوحيد المكلف بالفرز، (الميزانية لا تسمح بموظف آخر) وعليه أن ينقل الأسماء من كشوف الفرز الابتدائي إلى كشوف الفرز النهائي، وحروف بعض الأسماء متشابهة، وأسماء الإناث لا يفرقها عن أسماء الذكور إلا التاء المربوطة، أمين يصبح أمينة، وزهير يصبح زهيرة، ومفيد يصبح مفيدة، وحميدو يصبح حميدة؛ أي إنها ليست إلا جرة قلم ويصبح الرجل امرأة.
وكان حميدو يحب أن يكون امرأة أحيانا، وفي أحيان أخرى يقاوم ذلك مقاومة شديدة، فالمرأة في ذلك الوقت كانت تكلف بأعمال الخدم المهينة، كأن تمسح حذاء الرجل بعد أن يخرج من دورة المياه أو تناوله كوب ماء وهو راقد فوق ظهره يتجشأ بصوت عال (كان مسموحا للرجل فقط أن يتجشأ بصوت عال)، أو تغسل جوربه النتن، أو سرواله الأكثر نتانة بسبب البول وعدم توافر الماء والصابون.
ويحاول حميدو تصحيح الأمر، لكن التصحيح لم يكن سهلا بأي حال من الأحوال، إذ عليه دائما أن يثبت أنه ليس امرأة، وفي كل مرة يستدعون الطبيب الشرعي، الذي ينزع سرواله القذر بتأفف، وينظر فخذيه بكل وقاحة، وأحيانا لا يستوثق تماما من مجرد النظر، فيمد أصابعه الأنيقة ذات الأظافر المشذبة ويفحص العضو المنكمش المذعور، ويقيسه من جميع الزوايا بمسطرة مدرجة من البلاستيك، ويسجل الأرقام بقلمه الباركر في دفتر خاص، ثم يرسلها داخل مظروف مغلق بالشمع الأحمر إلى قسم الفيش والتشبيه.
وهذا هو القسم الذي يختلط فيه الحابل بالنابل، وتختلط فيه بصمات أصابع اليد مع أصابع القدم مع غيرها من أعضاء الجسم، وتتشابك ذيول الأرقام مع رءوسها، ويسقط منها أجزاء، وتنطمس أجزاء والسبب في ذلك رداءة الحبر المغشوش (الغش كان منتشرا في ذلك الوقت ويمكن لجردل ماء أن يضاف إلى زجاجة حبر).
وظلت حقيقة أمره بهذا الشكل معلقة لبضع سنوات، لا يقطع أحد فيها برأي، ولا يستدعيه أحد لإعادة الكشف، وظن حميدو أن الموضوع أصبح منسيا أو كأنه ما كان، وسار في الشارع باطمئنان، إلى حد أنه دخل محلا للحلاقة ليحلق لحيته الطويلة، وجلس على الكرسي المريح المتحرك، وهز قدميه باسترخاء، وشد إحدى الجرائد القديمة من فوق المنضدة، وقلب صفحاتها بغير اهتمام، لكنه ما إن وصل إلى الصفحة الأخيرة حتى اتسعت عيناه بالدهشة، كانت صورته منشورة في ذيل الصفحة ضمن صور المشبوهات، ولم يكن البغاء محروما في ذلك الوقت، فأمسكوه وأعادوه إلى الخدمة. •••
كانت حميدة في ذلك الوقت قد اهتدت إلى مهنة شريفة (الشرف في ذلك الوقت كان معناه الخدمة بالبيوت)، تلقنت أول درس في الخدمة، وهو أن تنادي الإناث بكلمة «ستي» وتنادي الذكور «سيدي»، وأدركت أن رضا أسيادها عليها يزيد كلما زادت إطراقة رأسها وهي تمر أمامهم، وأصبحت تثني نصفها الأعلى فوق النصف الأسفل بصفة دائمة، فالبيت يحميها من الشارع، والشارع فيه رجل يتربص بها ولا يكف عن مطاردتها.
المطبخ كان حياتها، وبالذات البقعة المربعة الرطبة أمام الحوض، ويداها الصغيرتان في الماء الجاري في الصنبور، ليل نهار، وصيف شتاء، وعيناها السوداوان تواجهان الحائط من تحت طبقة الدموع الجافة، تذيبها من حين إلى حين نظرة ملتهبة حادة كالسيف، تشق الحائط، وتنفذ إلى حجرة الطعام، حيث مائدة الأكل المستديرة تحوطها تسعة أفواه، تنفتح وتتعلق على شدقين منتفخين، يتحرك الفك الأعلى فوق الفك الأسفل، والأسنان كتروس الطاحونة تصطك وتهرس، ويتراكم في الحوض صفوف الصحون الفارغة، تعلوها طبقة دهنية متجمدة، وتمتلئ صفيحة القمامة حتى الحافة ببقايا الأكل غير المهضوم، وتنسد ماسورة المرحاض ببقايا الأكل المهضوم.
وفي منتصف الليل، وبعد أن تمسح أرض المطبخ، تدس في فمها قطعة خبز، وتشد بأسنانها على قطعة جلد أو قطعة عظم داخلها بقايا نخاع، ثم تضع جسمها الصغير بجلبابها المبلل فوق الدكة الخشبية وراء باب المطبخ ، وتترك أصابعها المتورمة المحتقنة تنز سائلا أصفر بمثل حرارة الدم، وأذنيها الصغيرتين تتابعان الفحيح الذكري العدواني المنبعث من حجرة النوم يتبعه الأنين الأنثوي الذليل وقعقعات مفاصل السرير حين يرتج.
أغمضت عينيها ونامت، تخفف جسدها من العبء، وزال الألم من يديها وقدميها، وأصبحت تتنفس بهدوء، هدوء مألوف، تسربت من خلاله صور مألوفة، راقدة في قاع الجمجمة، قاع مظلم، تتراقص فيه ذؤابة متهالكة من الضوء، وتبدو الجدران طينية سوداء يلمع فوقها قش التبن الأصفر، ترتفع إلى فتحة مستديرة كالنافذة، وتهبط إلى بساط كالحصيرة، ترقد على الطرف البعيد أمها، طرحتها السوداء حول رأسها، ويدها كالوسادة تحت صدغها، وفي الطرف الآخر تنام حميدة، عيناها نصف مغلقتين كعيون الأطفال حين ينامون على قصة عفاريت مخيفة، وشفتاها نصف منفرجتين عن أسنان صغيرة شفافة نبتت حديثا مكان الأسنان اللبنية، وأنفاسها لها رائحة الأطفال حين يتنفسون كتنفس الزهر المغمض قبل طلوع الفجر وسقوط الندى، ونهداها مدببان تحت الجلباب الواسع كبرعمين نبتا منذ لحظات ثم انضغطا فجأة تحت اليد الكبيرة المفلطحة كالبلطة، التي أصبحت تزحف متسللة تحت الجلباب، ترفعه عن الساقين الصغيرتين والفخذين، والأشياء تختلط في شيء واحد، في عصا واحدة غليظة في يد البائع، يضرب، ويضرب على رأسها، وصدرها، وبين فخذيها، وهي تصرخ، لكن صوتها لا يخرج، وتبكي وحدها بالليل بنشيج مكتوم، وتبتلع دموعها كلها قبل الفجر، وفي الصباح الباكر تبصقها كلها في دورة المياه، قبل أن يصحو أحد، وتشد قامتها، وتنظر في المرآة إلى عينيها المغسولتين المرفوعتين في تساؤل.
Page inconnue