2
وزودهما بسيفين بتارين، ووقف الثلاثة إلى جنب البطل العظيم يمنعون تكاثر العشاق عليه، بينا هو يرسل سهامه فتخترقهم وتستأصل شأفتهم واحدا فواحدا، حتى إذا فرغت سهامه وقف الأبطال الثلاثة يذودون من دون الباب حتى لبس أوديسيوس دروعه، ووضع على رأسه خوذته، وأخذ رمحين عظيمين في كلتا يديه، وعاد إلى كفاحه، وكانت في الجانب الآخر من البهو بوابة صغيرة لم يفطن العشاق إليها، فأرسل أوديسيوس راعي الخنازير ليحرسها وليحول بين العشاق وبينها، وضاقت الدنيا حتى غدت ككفة الحابل في أعين القوم، وتجهمت لهم حتى غدت كالليل إليها ألقى غواشيه فوق رءوسهم، وناء بكلكله على صدورهم، فقال قائلهم: «ألا يستطيع أحد أن يمرق من البوابة فيصيح بأهلنا ويستنجدهم لنا؟»
فانبرى له ميلانتيوس
3
يجيبه: «هذا عبث لن يكون وراءه طائل؛ فإن رجلا واحدا يستطيع أن يقفنا جميعا لو فعلنا، دون أن نبلغ الباب، بل لدي فكرة؛ إني أعرف أين خبأ أوديسيوس وابنه أسلحتنا، وسأنطلق فأحضر لكم منها ما يقيكم منهما.» ثم تعلق بحبال مدلاة من كوة في السقف وتسلق عليها حتى نفذ ثمة، وانطلق إلى غرفة السلاح، فأحضر اثنتي عشرة درعا، ورماحا كثيرة وخوذات، وظل يلقي بها من الكوة، فيتلقاها رفاقه ويدرعون بها ... ولو كان مع أوديسيوس سهم واحد يرسله إلى هذا العلج قبل أن يتعلق بالحبال لما استطاع أن يحضر هذه العدد. قال أوديسيوس: «أي بني، لقد خاننا بعضهم ودل القوم على غرفة السلاح، فانظر كيف يتضاعف عناؤنا ويزيد بلاؤنا!» فقال تليماك: «كلا يا أبتاه، إنه لم يخنا أحد، والذنب ذنبي؛ فقد تركت باب الغرفة دون أن أوصده! يومايوس، انطلق فغلق باب غرفة السلاح وأحضر مفتاحها، وانظر هل خاننا أحد؟ أو أن هذا من فعل ميلانتيوس كما أحدس.» وانطلق يومايوس فرأى ميلانتيوس ذاهبا إلى غرفة السلاح ليحضر عددا أخرى ورماحا، فقال الراعي: «ها هو ميلانتيوس الوغد منطلق إلى الغرفة كما حدس مولاي.» وهتف بتليماك: «ها هو ذا، هل أحضره حيا ليلقى جزاءه، أو أقتله حيث هو؟» فقال أوديسيوس: «بل اذهب أنت وأخوك الراعي فشدا وثاقه، واحبساه في الغرفة حتى يلقى جزاءه، وسأبقى أنا وتليماك لنذود دون الباب.» انطلق الراعيان فوقف كل منهما خلف مصراع من باب الغرفة حتى إذا برز ميلانتيوس انقضا عليه وكبلاه ودفعاه داخل الغرفة، ثم ربطاه في عمود هناك، وقال له يومايوس: «اهنأ يا صاح، وارقد هنا إلى الصباح، وأكبر ظني أن الشمس لا تشرق عليك إلا وروحك في عالم الظلال والأشباح، فلا تراك قطعانك بعد اليوم!» وأغلقا الباب وعادا أدراجهما إلى مولاهما وولده، ووقف الأربعة يناضلون جحفلا بأكمله. ثم بدت مينرفا الحكيمة في زي منطور وطيلسانه، فعرفها أوديسيوس وفرح بها قلبه، وهتف بها قائلا: «منطور أيها العزيز، معونتك وتأييدك؛ فنحن صديقان منذ القدم!» وهتف العشاق ينادون: «احذر يا منطور وإلا فتلقى حتفك بعد أن نظفر بهذا الوغد.» ولحظت مينرفا ذعر أوديسيوس مما رأى من تسلح القوم فقالت تؤنبه وتحثه: «ما هذا التقاعس عن الحلبة يا أوديسيوس؟ هل فقدت شجاعتك وعنفوانك؟ إنك ما أحجمت مثل ما تحجم اليوم طوال عشر سنوات حاربتها في طروادة من أجل هيلين، فهل يشق عليك أن تلقى هذه الحفنة من عشاق بنلوب في بيتك بل في عقر دارك؟ هلم! قف إلى جانبي وانظر إذا كان منطور قد عق الصداقة القديمة.»
وحاربت معه ساعة، ولكنها تركته ليعمل للنصر بمفرده، وانسحرت فكانت عصفورا من عصافير الجنة جعل يرف ويرف في سماء البهو، حتى وقف على إحدى خشباته، وفرح العشاق لما رأوا من مفارقة منطور، وعادت إليهم بعض شجاعتهم لما رأوا المحاربين الأربعة يقفون وحدهم في مدخل الباب الكبير.
وقال أحدهم يخاطب الباقين: «هلموا فليقذف ستة رماحهم قذفة واحدة إلى صدر أوديسيوس.» ولكن هيهات! إن واحدا منهم لم يصب غرضا من الصدر العظيم، وهنا هتف أوديسيوس برفاقه، فانقض الأربعة على أربعة من المهاجمين، فجعلوا في صدورهم رماحهم، ورد الله كيدهم في نحورهم، فقتل كل مهاجميه، وروع الآخرون فارتدوا على أعقابهم، وانزووا في الركن السحيق من البهو، وبهذا استطاع أوديسيوس ورفاقه انتزاع الرماح من صدور المقتولين، ولم يهتم الراعيان بما أصابهما من جراح بالغة، بل وقفا يناضلان ويفديان سيديهما، ولما رأت مينرفا ما يلقى المحاربون الأربعة من تكاثر الأعداء رفت في الهواء، ثم كشفت عن درعها الهائلة التي تجلب الموت إلى كل من يراها، ووضعت خوذتها الرائعة ثم انبرت للقوم، وهجم المحاربون الأربعة يطاردون الأعداء، والأعداء يجرون من ها هنا وها هنا مذعورين ذاهلين مما رأوا من درع مينرفا، وجعل أوديسيوس ورفاقه يصطلمونهم أربعة بعد أربعة، حتى لم يبق إلا المنشد المسكين فيميوس، الذي قسره العشاق على الإنشاد لهم، وتطريبهم تطريبا لم يؤثره ولم يؤجر عليه! لقد فزع المنشد المسكين من هول المجزرة، وانطرح تحت قدمي أوديسيوس يقول: «مولاي أوديسيوس العظيم، ارحمني واعفني؛ فقد قهرني القوم على ما رأيت، اصفح عن المنشد البائس الذي يدخل السرور على أفئدة الآلهة، ويذهب الحزن عن قلوب الناس.» وهتف تليماك بأبيه يقول: «اصفح عنه يا أبي؛ فإنه لا تثريب عليه ولا لوم، وهلم ننقذ المنادي إن كان لا يزال به رمق، فلقد كان يعنى بي إذ أنا صبي في المهد.» وكان المنادي قد فزع مما رأى، وخبأ نفسه تحت مقعد كبير، ثم طرح عليه جلد ثور، فلما سمع تليماك يقول لأبيه هذا القول برز من مكمنه، وتعلق برجلي تليماك، وأنشأ يتوسل ويتضرع، ويبكي ويتصدع، فقال له أوديسيوس: «لا تجزع أيها الرجل، فلقد أنقذك ولدي كما أنقذ المنشد! اذهبا فانتظرا في الرحبة؛ فعندي ما يشغلني عنكما الآن.» وانطلق الرجلان وهما لا يصدقان أنهما نجوا، وجلسا عند المذبح ينتظران قتلتهما في كل لحظة. ثم مضى أوديسيوس يبحث في البهو وتحت المناضد عمن يكون به رمق من الحياة فيجهز عليه، بيد أنهم خروا جميعا مضرجين بدمائهم في التراب، وقد تكبكبوا فوق بعضهم كالسمك فوق الساحل يقذف به الصياد في يوم صائف. ثم قال لابنه أن يدعو المرضع العجوز يوريكليا، فأقبلت ورأت أوديسيوس واقفا كالمارد بين القتلى، وقد لطخت الدماء يديه ورجليه وصدره، فكادت المرأة تجن من الفرح لهذا النصر المبين الحاسم، وأوشكت أن تصيح وتزغرد، لولا أن ردعها أوديسيوس عن ذلك: «أيتها المرضع العجوز، اكتمي فرحتك، فإنه ينبغي ألا تكون شماتة فوق جثث القتلى وألا يكون صياح؛ لأنها إرادة السماء قد نفذت فيهم بما أسرفوا من قبل وكانوا من المفسدين!» ثم أمر بالجثث أن تحمل خارج القصر وبالدماء أن تغسل، فتم ذلك في أقصر وقت، والتفت إلى المرضع يحدثها ويقول: «أرأيت؟ اذهبي الآن فأحضري نارا وكبريتا كيما نطهر المكان، ثم أخبري بنلوب أن تلقاني ها هنا.»
فقالت العجوز: «سمعا وطاعة لك يا بني، سأفعل ما أمرت، ولكني سأحضر لك ثوبا تلبسه قبل كل شيء؛ فإنه لا ينبغي أن تظل واقفا، وهكذا في أسمالك هذه.» بيد أن أوديسيوس أمرها أن تفعل ما أخبرها من فورها، فانطلقت العجوز وعادت بالنار والكبريت، وأخذ أوديسيوس في تطهير البهو الكبير.
بنلوب، وأخيرا ... بنلوب!
وهرولت المرضع العجوز فصعدت إلى الطابق العلوي، حيث كانت سيدتها المحزونة تتقلب على فراش الهموم والأحزان، فهتفت بها وهي تضحك، وتكاد تجن من الفرح: «يا بنيتي، فاشهدي بعينيك كيف حققت الآلهة أحلامك واستجابت لصلواتك! هلمي، لقد عاد أوديسيوس وبطش البطشة الكبرى بأعدائه، فقتلهم عن بكرة أبيهم بعد ما كان من خباثاتهم، وبعد ما استباحوا من حرماته، وما أراغوا من خيره وهزئوا بولده، انهضي.»
Page inconnue