أفيمويا الحبيبة التي فخرت بهيام بنتيون.
وصمت الراعي بينما كان أوديسيوس يصغي ويلتهم طعامه، ويفكر ألف فكرة، ويدبر ألف تدبير لسحق هؤلاء العشاق المفاليك، حتى إذا انتهى قدم إليه يومايوس كأسه دهاقا، فتقلبها وشرب ما فيها وقال: «ترى ماذا كان اسم سيدك أيها الصديق؟ لا بد أنه كان مشهورا ذا ذكر؛ لما وصفت من واسع ثرائه وسمو جاهه وبسطة ملكه، لقد قلت: إنه ذهب إلى طروادة مع أجاممنون، فهل تتفضل فتذكر لي اسمه؛ عسى أن أقص عليك أنباءه؟ لقد ذهبت أنا الآخر ثمة وسافرت في بلاد شتى، ومحال ألا أعرف العظماء الذين جاهدوا مع أجاممنون.» فأجابه الراعي: «وا أسفاه أيها الأخ العجوز أبدا لا تنطلي الأنباء الملفقة عن مولاي على زوجه أو ولده، فكم من جواب آفاق مثلك محتاج إلى لقمات أو سراول، قد لقي الزوجة المسكينة فلفق لها قصصا مكذوبة عن رجلها، ثم دلت الأيام على كذبه وزخرفه، والزوجة في كل ما تسمع تذرف الدموع وتصعد الآهات كأحسن ما تصنع زوجة وفية من أجل زوجها الذي قضى في بلد بعيد، وأكبر ظني أنك تطمع في كساء تخلعه عليك هذه الزوجة المفئودة الرءوم، فاربع عليك؛ فالرجل قد قضى، وليس بعيدا أن تكون كلاب البرية وسباعها قد اغتذت به، أو أنه قد غرق فأكله السمك ولفظت عظامه على سيف البحر لتذروها الرياح تاركا وراءه قلوبا تأسى عليه، أحزنها عليه قلبي! تالله ما وودت أن أرى أبوي اللذين غادرتهما منذ أحقاب كما أتشوف اليوم إلى رؤية هذا الرجل، آه يا أوديسيوس أين أنت؟ إنك مهما شطت النوى وشخطت الدار فلن أبرح أذكرك وأسبح باسمك وأوقرك بما أحسنت إلي وعنيت بشأني، يا من فراقك عندي آلم لي من فراق أعز إخوتي وأشقائي.»
وحدجه أوديسيوس وقال: «أيها الصديق لم تيئس من عودة مولاك هكذا؟ لم يخامرك الشك في أن رجوعه محتوم لا ريب فيه؟ إذن فأنا أقسم لك قسما لا أحنث فيه أنه عائد لا محالة، ومعاذ الآلهة أن أقسم وأؤكد الأيمان لأنال القميص الذي ذكرت، أو الدثار الذي أنا في شدة الحاجة إليه، بل ليبق القميص والدثار حتى يتحقق قسمي وتبر يميني فأتسلمهما منك؛ فإني أمقت الكاذب الحانث في يمينه كما أمقت أبواب الجحيم، والله على ما أقول وكيل! اطمئن إذن يا صاح، وثق أن أوديسيوس لا بد عائد هذه السنة إلى إيثاكا، بل ربما عاد هذا الشهر، ولن يمضي شهر آخر حتى يكون قد ثأر لعرضه من أعدائه وبطش بهم جميعا؛ أولئك الفجرة الأشرار الذين جسروا على استباحة حماه وإهانة زوجه، وعدم المبالاة بولده.» وسخر الراعي وقال: «أهكذا تقسم وتؤكد القسم يا صاح؟ أبدا لن تنال الرهان أبدا؛ فقد أودى أوديسيوس ولن يعود بعد. هلم هلم، تحس كأسك الروية ودع هذا الحديث؛ فإنه يحزنني ويثير شجوني. خل قسمك، وليقدم أوديسيوس في خيالك أو في الحقيقة؛ فأنا وزوجه وأبوه وولده ... كلنا نشتهي ذلك ونتمناه على الآلهة! يا ويح لك يا تليماك الحبيب! لقد كنت أرقص طربا كلما رأيتك تنبت كما نبت أبوك، وتشب على الفضائل التي شب عليها ، أين أنت؟ لقد ذهبت إلى ملك بيلوس تتحسس أخبار أبيك، وها هم العشاق يترصدونك ويتربصون بك ليغتالوك في الطريق، ألا طاشت أحلامهم وحماك جوف الأعظم من مكرهم، وحفظك لبيت أرسسياس يا أعز الناس، ولكن تعال أيها الضيف الكريم، قل لي بربك واصدقني في كل ما تقول: من أنت؟ ومن أين أقبلت؟ وفيم قدمت؟ وما بلدك؟ وأين يقيم أبواك؟ وأي سفينة حملتك إلى شاطئنا؟ فلعمري إنك لن تدعي أنك وصلت إلينا سائرا على قدميك!» فقال أوديسيوس يجيبه: «سأقص عليك من أنبائي التي لا يأتيها الباطل ما لو لبثت عندك عاما بين هذه الخمر وذاك الطعام، بينما يكد الآخرون من أجلنا ويجهدون، ما فرغت من قصها عليك؛ فهي أنباء باكية وآلام متصلة، شاءت السماء أن أقاسيها وأن أجرع غصصها؛ إذن فأنا ابن كاستور هيلاسيد أحد سراة كريت، من سريته المحبوبة التي كان يعزها كزوجة، ولم يكن أبي يفرق بيني وبين إخوتي من زوجه، بل كان يولينا حبه على السواء، وكان الناس يبجلونه كأحد آلهتهم لثرائه الواسع وحسبه الضخم ولأعماله الناجحة، فلما مات اقتسم أبناؤه كل ما ترك، وكان نصيبي منزلا متواضعا ومالا كثيرا وزوجة غنية ذات مال وجمال، ولم يحاول إخوتي أن يدعوني أو يأكلوا تراثي؛ لما كنت عليه من كريم الخصال وحميد الفعال، وجمال المنظر ووسامة المظهر - لا كما تراني الآن - وا أسفاه على ما فات من نضارة الشباب! تالله لن تستطيع ولن يستطيع أحد أن يحدس كم شقيت وكم بليت؟ وكم من الآلام والضنك وأوضار الحياة تحملت؟ فلقد كنت لا أرهب الردى، وكنت دائما أخوض غمار المعامع في حمى مارس ومينرفا، فأشك قلوب الأعادي وأبهر القادة والزعماء بجلائل الأعمال، ولم يكن من دائي أن أشغل نفسي بأكلاف البيوت ومشاغل الحياة المعيشية الدنيا التي هي بالأحداث والغلمان أولى، بل كنت مشغوفا أبدا بركوب البحار وخوض غمار الوغى وملاعبة الأسنة، وما إلى ذلك مما جعلته السماء غراما وفرحا لي، وضراما وفزعا في فؤاد سواي، والناس كما تعلم فيما يعشقون مذاهب، ولست أرسل القول على عواهنه؛ فلقد قدت إلى طروادة تسعة جيوش ظفرت بفيالقها قبل هذه الحرب الضروس الأخيرة بينها وبين هيلاس، ولقد حزت الثراء الجم والغنى الوافر من جراء هذه الحروب، فأصبحت بين شعب كريت المفضل المبجل، ثم كانت الحرب الأخيرة التي قتل بسببها مئات من السادة الصناديد من رجال الإغريق، فاختاروني أنا وصاحبي أيدومين قائدين للأساطيل، ثم حاربنا حول طروادة تسع سنين حافلات مثقلات، وفي العاشرة سقطت المدينة في أيدينا، وعدنا أدراجنا نطوي اليم لا ندري ماذا خبأت لنا المقادير؟ ومن ثمة بدأ جوف يرسل صيبا من الرزايا فوق رأسي، حتى إذا وصلت إلى كريت سالما لم ألبث طويلا هناك، ولم أمتع النفس بالأهل والوطن إلا شهرا واحدا، ثم أقلعت في نخبة من رفاقي بأسطولنا إلى مصر بعد أن أولمت لهم وقربت القرابين.
وقد أرسلت العناية لنا ريحا جرت بسفننا رخاء كأنما أبحرنا مع تيار نهر لا جبار ولا عنيد، ولم يحدث لأي من جوارينا سوء حتى بلغنا شطآن مصر في اليوم الخامس، واتخذت سفننا سبيلها في النيل عجبا، ثم حدث ما لم أود أن يحدث؛ إذ سطا رجالي بعد خلف في الرأي وشجار بينهم عنيف على حقول الفلاحين، فاستاقوا أنعامهم وسبوا نساءهم، واسترقوا أطفالهم ثم ذبحوا رجالهم ... بيد أنهم لم يسلموا مع ذاك من شر المصريين؛ إذ استيقظت المدينة على صراخ الجرحى وأنين القتلى وتصويت النساء فأقبل أهلها كالجراد بين فارس وراجل، وكل يحمل السيف البتار أو الرمح السمهري، فأعملوا فينا ضربا وتقتيلا واستنقذوا السبي كله، وشفوا حرد صدورهم منا ... أما أنا، فيا ليتني قتلت فيمن قتل واسترحت من هذه الدنيا التي جرعتني ضعف هذه الآلام بعد! لقد كنت أشهد رجالي يهوون إلى الأرض، وأعلم أن جوف قد أنزل هذا البلاء بهم جزاء لهم وفاقا، فلما رأيت أني لا محالة شارب بالكأس التي شرب بها رفاقي ألقيت سيفي، وجريت أعزل من السلاح إلى حيث الملك الكريم؛ فركعت بين يديه، وقبلت الأرض إجلالا له، وبكيت ما شاء جوف أن أبكي ، ثم سألته العفو والمغفرة؛ فرق لي ورثى لحالي، وأمر بي فأخذني في جملة خدمه وخوله إلى المدينة، وقد رام رجاله أن يقصدوني برماحهم لولا أن صدهم مخافة من الله الذي أمن اللائذين به المستذرين بظله، ثم لبثت في أهل مصر سبع سنين هانئا سعيدا محبوبا من الجميع، وحدث في السنة الثامنة أن قدم إلى المدينة رجل فينيقي جواب آفاق، ما زال بي حتى أقنعني بالفرار إلى بلاده، وأغراني بأن له ضياعا وأملاكا ومالا ففعلت، ولبثت معه حولا بأكمله، ثم حدث أن كلمني بعد هذا الحول في رحلة لا أعرف إلى أين، كانت أكبر الظن للسطو والقرصنة، أو على الأقل لأباع في بلد قصي بيع الرقيق فينتفع بثمني، ورحلنا، ولكن عاصفة جبارة هبت علينا وتلاعبت بنا، وعبست السماء وكلح الدأماء
5
وتمرد من تحتنا الماء، ثم أرسل جوف صواعقه على السفينة فقصمها، وغرق الملاحون جميعا، وأكرمني الله العلي اللطيف فبعث إلي بقلع السفينة الأكبر فتعلقت به، ولبثت الصبا تقذف بي نحو الجنوب أياما تسعة، وفي ظلام الليلة العاشرة دفعتني على شطآن تسبروتيا حيث أكرم مثواي ملكها العظيم البطل فيدون وعني بشأني؛ وذلك أن ولده رآني طريحا على الشاطئ أكاد أموت من البرد والجوع، فحملني إلى قصر الملك حيث ردت إلي الحياة، وأعطيت دثارا وصدارا، وخصصت لي غرفة فسيحة ذات أرائك، وهناك سمعت عن مولاك النازح البطل أوديسيوس، ورأيته بعيني رأسي وقد ذكر لي عن فضل الملك وإكرامه مثواه ما برهنت عليه أعماله، ثم أراني أوديسيوس كنوزه من الذهب والنحاس وطرف الحديد التي جمعها في أسفاره، والتي تكفي للنفقة على أسرته عشرة أحقاب، وكأن الملك يحفظها له في غرف كثيرة في قصره إعزازا له وتكريما، وذكر لي أنه ذهب إلى ددونا النائمة بين أحضان الحور والسنديان؛ ليستوحي كاهن جوف الأكبر عما إذا كان خيرا له أن يذهب إلى بلاده متنكرا، أو في صورته الصريحة الحقيقية بعد هذا الغياب الطويل عن أهله، وقد أكد لي الملك أن المركب الذي سيحمل أوديسيوس إلى بلاده - إيثاكا - معد في المرفأ، ولولا أني أبحرت قبله لشهدته بعيني يركب الفلك؛ ذلك أن فلكا آخر لملاحين من جزيرة دلشيوم كان راسيا في الميناء، فأمرهم الملك أن يحملوني معهم ويذهبوا بي بأقصى ما يمكنهم من السرعة إلى الملك أكاستوس. ولكنهم وا أسفاه تألبوا علي في عرض البحر، وتآمروا بي ونزعوا صداري، ونضدوا دثاري، ثم انتهزوا فرصة المد فأرسلوا بي إلى شاطئ إيثاكا، بعد أن ألبسوني تلك البزة القبيحة التي ترى، ولكيلا أقاوم أدنى مقاومة ربطوا ذراعي وساقي وشدوا وثاقي في السارية، فلم أبد حراكا! بيد أن الآلهة رأفت بي وحلت وثاقي فقذفت بنفسي في الماء، وسبحت إلى الشاطئ حيث وجدتهم يعدون عشاءهم ويلتهمونه سراعا، وقد اختبأت في الأدغال الكثيفة فلم يروني، وهالهم ألا يجدوني حيث شدوا وثاقي، فذهبوا يبحثون عني حتى إذا لم يقفوا لي على أثر أقلعوا عجلين، ونجاني الله منهم، وساقني إلى الرجل الصالح الطيب الذي وصل حياتي وأكرم مثواي.»
سعيت إلى هنا لألقى الكاهن الطيبي تيرزياس؛ ليعرف كيف أصل إلى شطآن إيثاكا الصخرية.
فتبسم يومايوس وقال: «تالله لقد أثرت في فؤادي مقالتك أيها الضيف الكريم، وأشجاني ما لقيت من أهوال، ولكنك - كما يبدو لي - لم تكن جادا فيما رويت من أنباء أوديسيوس، فلم أيها الأخ - وعليك من سيما النبل ومخايل الفضل ما عليك - تلفق مثل هذه الترهات المضحكات؟ أما والله إنه إن يكن قد نجا من الموت في ساحة طروادة بما ألب عليه من سخط الآلهة أجمعين، فأكبر ظني أنه قد غدا جزر السباع وكل نسر قشعم، وا أسفاه عليه! ألا ليته قتل في سبيل بلاده في حرب عوان يحمي في وغاها بيضة الوطن؛ إذن لبكاه جميع الإغريق، ولاجتمعت هيلاس كلها تتنافس في صنع لبنات قبره وتخليد ذكره، ولأورث ولده المجد والخلود، ها أنا ذا يا صاح ثاو في هذا المكان، لاصق بذلك البيت العتيق، يفد علي في كل آنة غرباء مثلك يروون لي القصص، ويلفقون الأحاديث عن مولاي؛ فبعضهم يبكيه ويتحسر عليه، وبعضهم يوشي الأكاذيب ليغنم بعض الرفد وينال بعض العطاء، حين أقدمه للملكة الحزينة الكاسفة بنلوب، ولعمري ما انطلت علي يوما أحاديثهم، ولا خدعت مرة بما روقوا وزوقوا، أفتحسبني أصدق ما زخرفت أنت الآخر عن أوبة مولاي مثقلا بأحمال الذهب من كريت، واهما أنني بهذا أبالغ في إكرامك، وأحرص على التلطف بك؟ لم تصنع هذا أيها الرفيق بعد أن ترفقت بك الآلهة وهدتك إلى شاطئنا؟ أما والله إني إنما أكرمتك حبا لجوف ورهبة من بطشه، ولما جاش في صدري من الشفقة عليه والرثاء لك والتألم من أجلك.» وقال أوديسيوس يجيبه: «لشد ما أوتيت قلبا أفعمته الوساوس، ونفسا ساورتها الشكوك أيها الشيخ! هبها أنباء ملفقة فما يميني التي أقسمتها لك إذن؟ تعال هلم نتقاسم يمينا تكون آلهة الأولمب عليها شهداء أنه إن آب مولاك إلى بيتك هذا في أقرب ما تظن من الزمان، فيكون لي عليك صدار ودثار أصلح بهما شأني حين أعود أدراجي إلى دلشيوم، فإن لم يؤب كما عاهدتك فتجتمع أنت ورجالك وعمالك وتقذفوا بي من رأس قلة عالية سامقة يخشى أحقر الآفاقيين أن يتربع عليها.» وأجابه راعي الخنازير: «جميل والله أيها الغريب اللاجئ، تكون ضيفي وتؤاكلني وأؤاكلك على مائدتي وتطمئن إلي وتأتمنني، ثم أقذف بك من حالق؟! جميل والله هذا! وتضيع صلواتي ونسكي لدى جوف العلي! صه. هلم هلم، العشاء يا صاح، لقد آن وقت العشاء. البدار قبل أن يدهمنا عمالنا، فيزحموا المائدة ولا تجد لك مكانا بينهم.»
وهكذا تشقق الحديث بين الرجلين، ثم وصلت رعال الخنازير وأهرعت إلى حظائرها حيث ارتفع قباعها
6
Page inconnue