أوديسيوس أيها الزعيم، يا من لهج بذكره كل لسان،
ألق في جزيرتنا مراسيك يا فخر اليونان،
تلبث عندنا أيها العزيز وشنف أذنيك بأغانينا؛
فما من أحد جاز بجزيرتنا حتى عرج يتزود من هذا الغناء،
ثم يقلع أسعد ما يكون وأفطن ما يكون،
ذلك ونحن نعلم من أنباء ما أصابك كل شيء،
ما خضت من معمعان طروادة، وما أصابتك الآلهة من مصيبة، وما لقي قومك في كل مكان،
تعال تعال، هلم نحدثك؛ فعندنا علم كل شيء.
وهكذا شرع العذارى يسكبن إرنانهن الجميل في قلبي، وكأنما كن ينفثن فيه السحر فيصغي ويصغي وتلح عليه الرغبة في الإصغاء، ورحت أن أضرع إلى قومي أن يفكوا قيودي ويطلقوا سراحي ويخلوا بيني وبين السيرينات المطربات، فلم يسمعوا لإشاراتي ولم يستجيبوا لتوسلاتي، بل هب يوريلاخوس وبرميديس فضاعفا أغلالي وشدا علي حبالي، ثم بعدنا، وظللنا نبعد ونبعد حتى إذا كنا حيث لا يصل إلينا من شدو السيرينات شيء؛ نهض رجالي فأزالوا ما كنت قد جعلته في آذانهم من الشمع، ثم عمدوا إلي فأطلقوا سراحي، وما كادوا يفعلون حتى أبصرت في ظلام البعد موجا كالجبال كأنه ظلمات بعضها فوق بعض، ودخانا كثيفا ينعقد في الجو، ثم إذا بي أسمع رعدا قاصفا يصم الآذان وقد ذهل رجالي عن أنفسهم، وطارت المجاديف من أيديهم فلم تجدهم نفعا، ووقفت السفينة كأنها الأرجوحة على رءوس الموج، وذهبت أنا أشجعهم رجلا فرجلا: «أيها الرفاق، ها نحن نلقى أولى عقباتنا، وهي ليست على كل حال أشد هولا من مصيبتنا يوم حبسنا السكلوب في كهفه السحيق، وكيف احتلت لفرارنا من وجهه، وسيأتي يوم نذكر تلك الشدة المفاجئة بمثل الغبطة التي نذكر بها الشدائد والسوالف. هلموا إذن فاثبتوا في أماكنكم، واصمدوا لهذا اللج المصطخب، واضربوا فيه في جلد وصبر؛ عسى أن يكلأكم جوف ربكم فينجيكم منه، وأنت أيها الربان أصغ إلي، إنك تقبض على ناصية الحال فتحاش أن تقترب من هذا الدخان وتلك الأمواج الثائرة، ابتعد ما استطعت عنها، وخذ سبيل هذه الصخرة؛ ذلك أدنى ألا تقذف بنا في حمأة الخطر، وظللت أنفخ فيهم روح الصبر حتى فاءوا إلى أمرهم فاستقتلوا في مجاهدة الأمواج استقتالا. وتسلحت أنا بكل ما استطعت من عدة، وجعلت في يدي رمحين طويلين، ووقفت أرقب سكيللا الهولة من بعد، ولم أجسر أن أذكر كلمة عنها لرفاقي حتى لا تفرغ أفئدتهم فرقا فيهربوا من عملهم ويكتظوا في بطن السفينة مخافة أن يمسهم منها أذى. وشرعنا نعبر البوغاز، ولشد ما أفزعني أن أرى سكيللا ترمقنا وتتلمظ، وقد انتصبت كالموت على الشاطئ القريب، ثم أرى في الوقت نفسه خاربديس على الشاطئ الآخر تحشرج في حلقها الرحب الفظيع عباب الماء ثم تمجه، فكأنما تقذف من جوفها ماء فائرا يعلو في الجو كالحميم، ثم ينهمر وبله في كل فج، وتعود فيفيض في البحر من بلعومها ثم تقذفه، وهكذا دواليك ... يا للروع ويا للفزع الأكبر! تالله لقد كنا ننظر ما تبدئ خاربديس وما تعيد في جزع وفي هلع، بينما كانت سكيللا تتوثب وتتوثب ثم ترسل رءوسها الستة فتلتقم ستة من رجالنا كانوا وا أسفاه أشجعهم جميعا، وكان قلبي يتمزق حين راحوا يهتفون بي وينادونني باسمي وأنا كالذي أسقط في يديه ما أستطيع شيئا فأصنعه، بل أنظر إلى أذرعهم وأرجلهم تتقلب في الهواء وهم يصيحون ويعولون، وأنا ساكن ذاهل أقلب كفي ولا أفعل شيئا آخر، وا حزناه! ما كان أشبه سكيللا المتوحشة بصائد السمك الذي أطعم سناره، وأرسلها من فوق صخرة تداعب السمكة المسكينة، حتى إذا حان الحين جذبها إلى عل تترنح هنا وهناك، هكذا كانت هذه اللعينة التي جذبت إلى كهفها أشجع رجالنا وراحت تقتات بهم بين الصراخ والبكاء وبين التوجع والأنين، وكلهم يمد إلي ذراعيه مستنجدا مستغيثا في قنوط ويأس، أبدا ما وقعت عيناي في جميع مخاطراتي على منظر أبعث للأسى وأمض للنفس وأجرح للفؤاد من ذلك المنظر الرهيب.
وما كدنا نفلت من سكيللا وخاربديس بعد تلك الفاجعة حتى اقتربنا من أرض الشمس، حيث ترعى قطعان هيبريون
Page inconnue