Le patrimoine et la rénovation : Notre position par rapport au patrimoine ancien
التراث والتجديد: موقفنا من التراث القديم
Genres
ومع ذلك، إذا قيل إن منهج تغيير الواقع بتغيير الأفكار أولا هو منهج مثالي؛ لأنه يرى أنه لا يتغير شيء في الواقع ما لم يتغير في الفكر أولا، قيل: حتى ولو كان هذا منهجا مثاليا إلا أنه ليست به عيوب المثالية التقليدية وذلك للأسباب الآتية: (أ)
ليس الفكر الذي نتعامل معه مجردا بل هو فكر حي يوجه سلوك الناس أي أنه مجموعة بواعث للسلوك أو تصورات للعالم توجه الناس في حياتهم العملية، فنحن لا نتعامل مع أفكار مجردة بل مع سلوك حي للناس تمثله هذه الأفكار. (ب)
الفكر موروث نفسي عند الجماهير، تفسر به ظواهرها تفسيرا غيبيا، ويسهل به خداعها وتعميتها عن واقعها باللجوء مثلا إلى الله كمصدر للسلطة وكأساس للمحرمات مثل الدين والسلطة والجنس، فتعاملنا مع الأفكار هو في الحقيقة تعامل مع تصورات الناس للعالم، أي مع واقع حي وليس مع فكر مجرد. (ج)
العمل هو الواجهة الأخرى للفكر، والحزب هو الطريق لتحقيق الأفكار، ولا تغير يحدث في الواقع إلا إذا كان مبنيا على أساس فكري، وهذا يحدث في الطليعة أولا، ثم في الجماهير ثانيا، لا يحدث التغير إلا بعد حدوث الوعي بالتغير، والوعي بالتغير هو وعي سياسي أو وعي حضاري، وهذا لا يحدث إلا بوعي أيديولوجي. (د)
العمل الأيديولوجي جزء من تغير الواقع وأساسه النظري، ولن يتغير الواقع إلا بعد عمل أيديولوجي، وهذه إضافة البلاد النامية على الرصيد الثوري البشري، وتحريك الجماهير ليس فقط عن طريق ثورتها على الأوضاع القائمة، بل أيضا ثورتها من أجل تحقيق قيمتها التي أخذت مدلولات جديدة قادرة على تحريك الجماهير، ومن ثم تأتي مصلحة الجماهير بالتبعية لا بالأصالة، وفي الدرجة الثانية لا في الدرجة الأولى، وفي النهاية لا في البداية. (ه)
المثالية بطبيعتها دعوة إلى الثورة والتغيير، خاصة إذا كانت تيارا للشباب، فقد فهمت المثالية خطأ عن قصد، وذلك باتهامها بأنها انعزال عن الواقع، وقضاء عليه، وتحويله إلى فكر، في مقابل الواقعية الملتزمة بالواقع، والبادئة منه، والتي تعيش عليه، في حين أن العكس هو الصحيح، فالمثالية حركة رفض للواقع، ومناداة بواقع أفضل، وثورة على الوضع القائم، وتطلع نحو المستقبل، في حين أن الواقعية تسليم بالأمر الواقع، وإبقاء على الأوضاع القائمة، وفهم لما هو موجود دون وضع احتمالات أخرى لما يمكن أن يكون موجودا، وهذا الفهم الجديد للثورية الكامنة في المثالية إضافة من التجارب الثورية للبلدان المتحررة حديثا والتي نحن جزء منها. (3)
لا يهدف «التراث والتجديد» إلى مجرد القيام بحركة «تكتيكية» عملية، تهدف إلى تحقيق غاية نفعية عاجلة بلا أساس نظري دائم وبلا مقياس أصدق، بل هو تطور طبيعي للمجتمعات على مستوى الفكر، صحيح أن تجديد التراث قائم على منفعة خالصة وهو استعمال طاقة مخزونة غير مستغلة عند الجماهير ونحن بصدد تحريكها وتغيير قيمها وتوجيهها نحو الثورة وتحقيق مصالحها، ولكن الأمر يتعدى «التكتيك» بل ويتجاوز «الاستراتيجية». تجديد التراث أمر حقيقي على مستوى نظري، وتطور طبيعي للمجتمعات في تعاملها مع حضاراتها، ومصير التراث كمصير المجتمعات يتطور ويتحول، وينتقل من عصر إلى عصر، يضع فيه كل روحه فيتشكل بفعل روح العصر، تجديد التراث عملية فكرية استقلالية تهدف إلى غرض نفعي خالص، هي جزء من عملية التطور والتنمية أو هي شرطها ودلالتها، هي عملية تتم فيها وحدة الشعوب وتجانسها في الزمان، وتتجاوز بها مخاطر الفصم بين ماضيها وحاضرها، وهي عملية تسمح بها أصول التراث ذاتها، والمنبع الذي صدر منه، أعني الوحي الذي حوى الواقع في باطنه، والذي تكيف طبقا لتطوره، وهو ما وضح أساسا في علم أصول الفقه في الأصل الرابع من أصول الشريعة، أعني الاجتهاد الذي جعلته الحركات الإصلاحية مبدأ الحركة في التراث، لا يعني التراث والتجديد أية نزعة «برجماتية» بمعنى استغلال الدين لصالح الثورة، بل هي عملية نظرية تحتوي على مقاييس صدقها النظري، صحيح أن مقياس صدق الفكرة هو تغييرها للواقع ومدى أثرها في الحياة العملية، ولكن ينتج عن تحليل خاص للواقع، وأيضا من تحليل لمضمونه القديم الذي يحتوي على هذا المقياس، الصدق النظري موجود في أنماط فكرية ثابتة سماها الأصوليون المناط، وتحقيقه هو المتغير من عصر إلى عصر، وإن أهم ما يميز التراث في أصوله وفي نشأته وتطوره هو حركته وعدم ثباته، فالوحي قد تغير طبقا لحاجات الواقع، والتشريع يتغير طبقا لتغيرات العصر، ومصادر الشرع الثالث والرابع أعني الإجماع والقياس من أجل تحقيق التغير في كل عصر، والفرق الإسلامية وتعددها ناشئة عن اختلاف الأوضاع الثقافية وردود الفعل عليها بالمذاهب الكلامية، والتصوف أساسا منهج حركي وطريقة عملية، ومن ثم فاتهام التراث بأنه يمثل عنصر الثبات في واقع متحول ومتغير اتهام لا أساس له لأن التراث يمثل عنصري الثبات والحركة معا، كما أن الواقع يمثل عنصري الثبات والحركة معا، فهو ثابت لأنه واقع يفرض نفسه على أشكال الفكر، وهو متحرك لأنه يسمح بعدة أنظمة فكرية تتلاءم مع تطوره،
12
الصدق النظري والأثر العملي واحد في التراث لأنه واحد في أصول التراث، أعني الوحي، ومن ثم لا يصدق على «التراث والتجديد» أنه نزعة برجماتية كما لا يصدق عليه أنه نزعة مثالية. (4)
لا يعني «التراث والتجديد» إصلاحا نظريا للقديم، بل يعني تغيير الواقع تغيرا جذريا بالقضاء على أسباب التخلف من جذوره النفسية. مهمة التجديد إذن عملية لا نظرية، وهي المساهمة في البناء النظري للواقع، وذلك بالقضاء على الأفكار الثابتة فيه والأحكام المسبقة التي لا يمكن أن تكون أساسا نظريا لتغيير الواقع، التجديد جزء من البناء النظري للواقع وجانب من الإيضاح للسلوك، فالتراث ليس غاية في ذاته، بل وسيلة لتحريك الجماهير وتغيير الواقع، وليس موضوعا في ذاته نفخر به وبمعاصرته، ولكن معاصرة الناس هي المطلوب تحقيقه، التراث لا يحتوي على أنساق نظرية خالصة يهمنا الاكتشاف عنها، بل يحتوي على إمكانيات عملية يكشف عنها المفكر بإعادة تفسيره طبقا لمصلحة الجماهير، وهذا لا يمنع من وجود حقائق نظرية واحدة هي قوانين التاريخ، ولكنها أيضا واقع تحول إلى مستوى النظر، وأصبح نمطا نظريا مثاليا أساسه تجربة واقعية، وقد احتوى مصدر التراث الأول - أعني الوحي - هذه المجموعة من الحقائق النظرية التي قامت في الأصل من مجموعة مماثلة من التجارب الحية في الواقع، ثم تحولت إلى حكمة شعبية تتناقلها الأجيال كجزء من ثقافتها الوطنية، لا يعني تجديد التراث محاولة إصلاح القديم وترميمه حتى لا يمكن الإبقاء عليه كموضوع مستقل يلبس ثوب العصر، بل يعني عرض الموروث القديم على احتياجات العصر ومطالبه، فهي التي تفسر القديم، ليس القديم هو موضوع البحث، بل واقعنا المعاصر، وليست الغاية هو البحث عن معان في القديم حديثة لا تعارض العقل أو العلم أو التقدم، بل المساهمة الفعلية في تطوير الواقع الذي نعيشه بما أن مشكلة التطوير هي مشكلة العصر، والدافع على التجديد ليس ترميم الماضي، بل تغيير الحاضر، ولا يقال إن ذلك مضيعة للجهد والوقت، فلماذا الترميم والإصلاح وإعادة التفسير دون استبدال بالقديم كله أساس نظري جديد، فهذا أوفر جهدا وأقصر وقتا؛ وذلك لأن الحضارات لا تستبدل ولا تنقل، وأن الثقافات لا تستعار، وأن تطور الشيء الطبيعي هو وجوده، ومن ثم فالوجود لا ينتزع ثم يزرع، ولكنه يتطور تطورا طبيعيا، هذا هو التغيير الأبقى وليس زرع الأعضاء التي لا تتطور، بل قد تلفظ باعتبارها جسما غريبا. (5)
Page inconnue