وقام الوطنيون المسجونون بثورة داخل السجن تحت قيادة الدكتور ثامر ، وسقط منهم عدد من الشهداء والجرحى، ولم يتمكنوا من الحرية، بل أطلق سراحهم بعد حين بتدخل صاحب الجلالة الملك الصالح المنصف باي.
وسرعان ما كون الدكتور ثامر ورفاقه من جديد تشكيلات الحزب وعقد مئات الاجتماعات، فالتف الشعب حوله وانتظمت فيه صفوفه، وكانت عناية الحزب موجهة خاصة إلى الشباب، فأسس له المعسكرات في جميع أنحاء المملكة للتدريب ومدرسة لإخراج المسئولين والقادة، ودروسا ليلية وتمارين أقبل عليها الشباب الوطني إقبالا عظيما.
وقدم الملك عريضة لحكومة فيشي الفرنسية مطالبا فيها بحقوق شعبه، ثم كون وزارة انتقالية برئاسة دولة محمد شنيق استعدادا لاستقلال بلاده وإرجاع السيادة التونسية إلى ما كانت عليه قبل الحماية الفرنسية.
وقد التزم جلالة الملك محمد المنصف ووزارته الحياد التام في الحرب، وكان موقف زعماء الحركة الوطنية مماثلا له، فرغم الضغط الذي ضغطته على الأستاذ الحبيب بورقيبة ورفاقه الحكومة الإيطالية الفاشية بروما بعد أن أخرجهم الجيش الألماني بالقوة من سجون فرنسا، لم يقفوا بجانب المحور بل قاموا بدعاية قوية لحمل الشعب كله على الحياد بمجرد رجوعهم إلى تونس.
ولكن الفرنسيين الذين رجعوا صحبة حلفائهم المنتصرين ودخلوا تونس يوم 8 مايو 1943 سعوا في التعمية وقلب الحقائق، وأذاعوا أن المنصف باي والحكومة القومية كانوا جميعا في جانب المحور، فنصبوا لهم العداء وشرعوا في الانتقام منهم انتقاما قاسيا، فخلعوا الملك ونفوه إلى صحراء الجزائر، ثم منها إلى تنس على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، وأخيرا إلى مدينة بو بفرنسا حيث مات منفيا عن عرشه وبلاده، ضحية الظلم السافر.
ونسي الفرنسيون محاربة أعدائهم الألمان والطليان، وأخذوا يقتلون التونسيين في كل مكان، رميا بالرصاص وبدون محاكمة، وملئوا منهم المعتقلات والسجون ظنا منهم أن ذلك يغسل عنهم عار الهزيمة ويرجع إليهم ناموسهم القديم، فمزقوا بأيديهم معاهدة الحماية التي فرضوها عنوة والتي تنص على أن مهمتهم الأولى هي حماية الملك الجالس على العرش وعائلته، وحماية البلاد وصيانتها من كل اعتداء، فسلموا البلاد إلى دول المحور وخلعوا الملك بأيديهم، والحقيقة أنه لم يبق لفرنسا مبرر قانوني لاستمرار وجودها بتونس، ولولا مساندة الجيوش الإنجليزية والأمريكية لها وما أغدقوه عليها من سلاح، لما تمكنت من البقاء بتونس ولا بالمغرب العربي.
وخير القادة البقاء مع شعبهم ومقاسمته أخطاره، على الهجرة مع جيوش المحور واختفوا مدة لينجوا من الفتك الفرنسي، إلى أن تدخل رئيس الولايات المتحدة روزفلت نفسه في الأمر وضمن لهم حريتهم الشخصية، فظهروا إذ ذاك وشرعوا في الاتصال بالشعب وتنظيم صفوفه سرا، وأصدروا جريدة «الهلال» السرية بمعاونة بعض الشباب الوطني، وكانت القوات الفرنسية المسلحة تهاجمهم في أكثر الاجتماعات التي كانوا يعقدونها من غير انقطاع، وتعلق بهم القضايا، وتزج بهم في السجون، ولكنهم تمادوا في نشاطهم رغم العراقيل كلها.
ولما بلغ قادة الحركة الوطنية أن ميثاق الجامعة العربية قد وقعت عليه الدول العربية، أعدوا العدة لسفر الزعيم «الحبيب بورقيبة» إلى الشرق ليسمع صوت تونس المجاهدة، فغادر رئيس الحزب تونس خفية يوم 26 مارس 1945، وركب البحر في زورق صغير من أراضي بلاده إلى طرابلس، ومنها قطع قسما كبيرا من الصحاري على رجليه إلى أن وصل مصر بعد شهر ودخلها يوم 26 أبريل 1945.
وشرع الحبيب بورقيبة هكذا في كتابة صفحة جديدة من الكفاح؛ إذ أخرج القضية من نطاقها الداخلي الضيق إلى النطاق العالمي الواسع. (2) الحركة الوطنية، المبادئ
وجد قادة الحركة الوطنية مجالا من الوقت (مدة خمس سنوات متوالية سجنا) للتفكير، وإعمال الروية ومراجعة أنفسهم في الأحداث التي مرت بهم والمعارك التي خاضوها، والنكبات التي لحقت بتونس، وتناولوا بالبحث السياسة الاستعمارية الفرنسية وطرقها، وقارنوا بينها وبين سياسية غيرها من الدول الاستعمارية، وخاصة بريطانيا، وتصفحوا تاريخ الأمم التي كانت مغلوبة على أمرها وتحررت من العبودية والرق، فخرجوا من تلك الأبحاث المتكررة، والمحادثات الطويلة، بأفكار تبلورت وتعمقت وقرأت للواقع حسابه، وآراء مقامة على معرفة شعبهم ونفسية الخصم وطبيعته، ووضعوا خطة سياسية طويلة النفس صعبة التنفيذ، فيها المغامرة والمخاطرة وفيها أيضا التعقل والحكمة، وعلموا أن الارتجال في قيادة الشعب يجر الخذلان والمهالك، كما أن السير الثابت في طريق معينة مضبوطة وخطة واحدة قد توضحت مبادئها العامة وتناسقت أجزاؤها وتكاملت، وارتبط بعضها ببعض ، ضمان النجاح والنصر إذا كانت لها المرونة الكافية، وأمكنها مسايرة الظروف والتقلبات العالمية والداخلية.
Page inconnue