ولم يتساهل المقيم الجديد في ذلك الميدان إلا ليتمكن من تنفيذ خطته الاستعمارية الرامية إلى جعل تونس جزءا من فرنسا، ولا يتم ذلك إلا إذا عوض الفرنسيون التونسيين وشردوهم في الصحاري؛ ولذا فتح أبواب الهجرة للفرنسيين والمتفرنسين من أبناء أوروبا، وفتح لهم أبواب الإدارات التونسية ليتخذوا منها مرتزقا يستولون بواسطتها على النفوذ والسلطة، وأقطعهم الأراضي الشاسعة التي اغتصبها من العرب.
وتفطن الوطنيون إلى ذلك الخطر الجسيم، وساند الملك شعبه، وتوترت العلاقات بينه وبين فرنسا، حتى إنه في آخر الأمر هدد بالتخلي عن العرش إذا لم تنفذ فرنسا مطالب الشعب، فكان جواب المقيم العام محاصرة القصر الملكي بقوات كبيرة من الجيش الفرنسي يوم 5 أبريل 1922، فهب الشعب وثارت ثائرته وعمت المظاهرات، وسارت الجماهير عشرات الألوف على الأقدام من عاصمة تونس إلى شاطئ المرسى، حيث القصر الملكي، تأييدا لملكها ومؤازرة له، فلجأ المقيم العام إذ ذاك إلى المراوغة، ووعد الملك وعدا صريحا بإرضاء الرغبات الوطنية على أن يتأجل إنجازها إلى ما بعد زيارة رئيس الجمهورية الفرنسية «ميلران» لتونس.
وبعد أن تمت تلك الزيارة نكث «لوسيان سان» عهده، وأصدر الأوامر الاستثنائية لتعطيل الحريات العامة وصادر الصحف ومنع الاجتماعات العامة.
وفقدت الحركة الوطنية إثر ذلك أكبر عضد لها بموت جلالة الملك محمد الناصر، فكانت مصيبة عامة أحدثت فراغا لا يسد، فلم تقدر الحركة الفتية على مقاومة موجة الاضطهاد، فخمد نشاطها وقل عملها، فاختار الشيخ عبد العزيز الثعالبي إذ ذاك الهجرة إلى الشرق. (1-2) الحزب الحر الدستوري الجديد
مرت بتونس بعد سفر الثعالبي فترة ركود دامت أعواما قليلة؛ إذ رجع جماعة من الشباب القومي النشيط من فرنسا، حيث أتموا دراستهم، ومن بينهم الأستاذ «الحبيب بورقيبة» الذي امتاز بشخصية قوية وإرادة فعالة وفكر واضح جلي، واجتمع هؤلاء الشبان حول جريدة «صوت التونسي» التي أصدرها الأستاذ «الشاذلي خير الله» عام 1929، ووجدوا مجالا واسعا للعمل عندما صادف انعقاد المؤتمر الأفخارستي عام 1930، وقد اعتبره الفرنسيون حملة صليبية جديدة ومقدمة لفرنسة التونسيين بطريق التنصير، وقررت سلطات الحماية إقامة الحفلات في تلك السنة نفسها بمناسبة مرور خمسين سنة على احتلال تونس.
فجرد الشباب أقلامهم وشنوها حملات قوية شديدة على الاستعمار ونواياه، والتف الشعب حولهم مؤيدا ومؤازرا، وتحمس لهم لما قدمتهم الإقامة العامة للمحاكمة لأجل مقالاتهم بجريدة «صوت التونسي»، فتحرك الشعب دفاعا عن خيرة شبابه ونظم المظاهرات في أكبر مدن المملكة وخاصة أمام المحكمة الفرنسية، حيث رفع الحبيب بورقيبة على الأكف، ولما رأى المقيم العام هذا التضامن القوي عدل عن المحاكمة، ولكنه أصدر أوامر استثنائية جديدة لتشديد ما كان أصدره «لوسيان سان» من قبل.
وفي شهر نوفمبر 1932 أسس الأستاذ الحبيب بورقيبة جريدته الشهيرة «العمل التونسي»، فالتفت حوله أقوى العناصر الوطنية وأخذ حالا يهاجم قانون التجنس الذي أصدرته الحكومة الفرنسية تحت تأثير «بول بنكور». سعيا وراء فرنسة العباد والبلاد، وأبان بإيضاحه المعهود ما في هذا القانون من خطر جسيم على كيان الشعب التونسي العربي المسلم، فلجأت فرنسا إذ ذاك إلى رجال الدين ليؤازروها في القضاء على شعب كامل، فأصدروا بالفعل فتوى ادعوا فيها أن المتجنس لا يعد كافرا ويجوز دفنه في مقابر المسلمين.
فصدع الحبيب بورقيبة بأن هؤلاء الرجال خونة يتاجرون بالدين ولا يمثلون الإسلام والمسلمين، ووجه نداءاته للشعب ليدافع عن مقابره. فهب الشعب لندائه، ولما مات عدد من المتجنسين في مختلف أنحاء القطر احتل الجماهير المقابر للذود عنها ومنعوا القوات العسكرية الفرنسية من دفن هؤلاء المتجنسين بها، وكثرت هكذا المصادمات الدامية وخاصة بمدينة المنستير؛ حيث استشهد عدد من الوطنيين وجرح منهم عشرات.
ولما رأى أعضاء اللجنة التنفيذية للحزب الحر الدستوري نشاط هؤلاء الشبان ومقدرتهم والتفاف الشعب حولهم، عقدوا مؤتمر الحزب (12 و13 مايو 1933) وقرر المؤتمر بالإجماع قبول هيئة جريدة «العمل التونسي» في اللجنة التنفيذية، كما قرر تحت تأثير هؤلاء الشبان «أن سياسة التفاهم مع فرنسا قد فشلت فشلا ذريعا بعد تجربة دامت سنوات طويلة»، وأن غاية الحزب التي يعمل لتحقيقها هي «تحرير البلاد ومنحها دستورا يحفظ شخصيتها ويحقق لها سيادتها بين الأمم المتمدنة المتحكمة في مصيرها.»
وإذا بالحزب الحر الدستوري الذي كاد يضمحل فلم يبق منه غير الاسم مدة الفتور والركود، يجدد تجديدا عميقا تحت تأثير عنصر النشاط والحياة، وشعر الشعب كله ببعث وطني قوي ونشاط لا يني، وعمل جدي لا يفتر، واتجاه واضح في الصمود في وجه المستعمر، ومقاومته مقاومة فعالة. والشيء الجديد هو شعور الشعب بأن الحبيب بورقيبة ورفاقه على استعداد تام للتضحية وتحمل الأخطار والعذاب في سبيل بلادهم.
Page inconnue