فبينما كانت قبائل خمير الشمالية ومدن صفاقس والقيروان تحارب الجيش الفرنسي المعتدي عام 1881، كان الأستاذ محمد العربي زروق يقاوم النفوذ الفرنسي في البلاط التونسي ويطالب الملك ووزارته بإعلان الحرب على فرنسا، وإصدار الأمر للقوات المسلحة التونسية برد هجمات القوات الفرنسية، ويرسل أمامهم كلمته الخالدة:
أن نموت أحرارا دفاعا عن شرفنا وشرف وطننا أحسن من الحياة في العبودية والذل.
ثم إنه قاوم توقيع معاهدة (باردو)، ولما وقع الملك على تلك المعاهدة اختفى العربي زروق فرارا من انتقام الوزير الخائن مصطفى بن إسماعيل، وبعدها هاجر إلى الشرق.
وقام بعده الشيخ محمد السنوسي الذي كان لسان المعارضة التونسية للحماية الفرنسية، واتخذ من منصبه في أمانة العاصمة مركزا يرد منه تدخل السلطات الفرنسية في شئون تونس حتى حكم عليه بالنفي.
ورأى الأستاذ البشير صفر الذي حمل المشعل حقبة من الزمن أن يوجه عنايته إلى الشباب ويوجهه نحو الثقافة والعلم واستكمال الوعي القومي، بما كان يلقيه من محاضرات في معهد الخلدونية الذي أسسه لهذا الغرض، وكان لتعاليمه أعمق الأثر حتى عده الشعب أبا النهضة الحديثة في تونس.
وكان علي باش جانبه أول زعيم قومي قاد الحركة الوطنية وأسس دعائمها، فكتل حوله الشباب المثقف، وأصدر أول جريدة قومية (التونسي) سنة 1904، وأخذ يوالي فيها الحملات على الاستعمار الفرنسي، ويفند اعتداءاته ويفضح مؤامراته وسلبه لخيرات البلاد واستيلائه على السيادة التونسية وطغيانه وبطشه. وقد تأثر إلى حد بعيد بحركة الشباب العثماني، فكان لحملاته الصحفية ولاجتماعاته الشعبية صدى عميق أيقظ الشعور القومي وبث روح المقاومة في جميع الطبقات. وقد اقتصر عمله على أمور سلبية من ردع الظلم وإرجاع بعض الحقوق إلى أهلها والمطالبة بإعطاء التونسيين حقوقهم المسلوبة.
وقد عم القلق العاصمة التونسية وتبرم الشعب من الاعتداءات الفرنسية، وتوترت العلاقات مع الإيطاليين الذين أعلنوا عن نواياهم في الاعتداء على طرابلس، فبات الجو ينذر بالشر والانفجار القريب. ولما أرادت السلطات الفرنسية أن تستولي على قطعة من مقبرة «الجلاز» الإسلامية وحاولت تسجيلها (7 نوفمبر 1911) هب الشعب من كل صوب وسار في مظاهرات صاخبة مدافعا عن قبور أجداده وأجداث آبائه، واندلعت الثورة دامية شديدة ودارت المعارك في المقبرة وحولها، ثم شملت المدينة كلها، فانهزم الشعب الأعزل في آخر الأمر بعد مقاومة دامت أياما أمام القوات العسكرية المنظمة المسلحة، فنصب الفرنسيون المشانق في ميدان باب سويقة وشنقوا جماعة من الوطنيين من بينهم أحد أبطال الثورة «الجرجار» الذي بقيت صورته حية راسخة في الأذهان، لما أظهره من شجاعة في المعركة، فقتل بنفسه عددا من رؤساء مراكز البوليس الفرنسي وأتباعهم من الشرطة، ومن رباطة جأش وسخرية من الموت عند المشنقة.
وبعد إخماد الثورة أسرعت السلطات الفرنسية إلى تعطيل جريدة «التونسي» وإلقاء مسئولية الحوادث على «علي باش جانبه» وصحبه، وإلى إعلان الأحكام العرفية، وتسليط الحكم العسكري على البلاد التونسية، وقد استمرت تلك الأحكام إلى عام 1922.
ولكن الإرهاب لم يفت في ساعد شعب متعطش إلى الحرية والعدالة، وكان إضراب عمال الترام سنة 1912 فرصة سانحة لإظهار غضبه، فآزرهم ضد الشركة الأجنبية التي كانت تستثمرهم استثمارا، وقاطع ركوب عربات الترام عندما عوض الجنود الفرنسيون العمال المضربين، بل منع بالقوة كل من أراد ركوبها، وأخيرا سجل انتصارا عندما حصل العمال على مطالبهم، وهو انتصار صغير في ميدان ضيق، ولكن مفعوله كان عميقا إذ أحيا الجذوة المشتعلة، وقوى الأمل وأعطى درسا مفيدا للمستقبل بأن النصر وليد الاتحاد.
فأرادت السلطات الفرنسية إذ ذاك أن تقضي على الحركة الوطنية الفتية، حتى يخلو لها الجو من كل معارضة عند تنفيذ خطتها الاستعمارية، فنفت أقطاب الحركة إلى الخارج وتوجهوا إلى الآستانة واستقروا بها، ما عدا الأستاذ عبد العزيز الثعالبي الذي ذهب إلى باريس بعد أن أمضى بعض أشهر في الجزائر.
Page inconnue