Tunis Khadra
تونس الخضراء
Genres
ثم وجدوا أن هذا يستلزم تنظيما جديدا لشتى المرافق والإدارات، كما أنه يستلزم تنمية الموارد الاقتصادية لزيادة الجباية، ويقضي بإعداد جديد للناشئين.
وقد انبعث من هذه الحركة كل ما واجهته تونس وما تواجهه من مسائل ومشكلات.
من هذه المشكلات ما يرتبط بالعلاقات بين البيت الحاكم والمحكومين، فقد زاد شعور المحكومين بتضامنهم القومي، وبوجوب نيل ما يكفل منع سوء الحكم، ويقي كرامتهم القومية اعتداء الغير، ويضع بلادهم الموضع اللائق بها في مختلف الحركات التي هزت العالم الإسلامي هزات متواصلة، فأدى هذا إلى اكتساب الأمة حقوقا وضمانات مختلفة، أعمها وأهمها ما اشتمل عليه عهد الأمان الصادر في 1274ه/1857م. يذكرنا هذا بعهود محمد علي باشا، وسعيد باشا، والخديوي إسماعيل، المتضمنة حقوقا وضمانات مختلفة للرعية، والمنتهية بقيام المجالس النيابية في عهد إسماعيل، وأوائل عهد توفيق، وفي تونس - كما في مصر - لم تتح لأهل البلاد حكاما ومحكومين فرصة العمل على وضع العلاقة بين الأمة والحكومة على قواعد ثابتة يرتضيها الجميع، بل عقد الأمر في القطرين التدخل الأجنبي.
ومن هذه المشكلات ما يتعلق بعلاقة الأمراء بالدولة العثمانية، فقد أدرك الأمراء إدراكا تاما ما في بقاء ارتباطهم بالدولة العثمانية من منافع، ففي هذا الارتباط شيء من القوة والاطمئنان يقيان بلادهم اكتساح الدول الغربية استقلالهم، كما أنهم شعروا بما يكنه الشعب من تعلق ببيت الخلافة الإسلامية، واعتزاز ببقاء الدولة العثمانية دولة قوية مصونة الجانب، وبذلك نفهم لم وضع أمراء تونس مواردهم الحربية والمالية المتواضعة تحت تصرف السلطان في بعض حروبه، ولكنهم كانوا في نفس الوقت يخشون ما تكنه الدولة العثمانية نحو تونس وغيرها من الأقطار المتمتعة بقدر من الاستقلال الداخلي من نيات، ويحذرون عواقب الغلو في تأكيد التبعية العثمانية، مما كان يحملهم من وقت لآخر على مجاراة بعض الدول الغربية، عندما كانت تشجعهم على الظهور بمظهر الملوك المستقلين، باستقبالهم في بلادها استقبالات ملوكية، والدخول معهم في مشارطات ومعاقدات تمس جوانب هامة من سلطانهم، ولا يمكن لوم الأمراء على قبول ذلك. فإن سياسة الدولة العثمانية جرت في القرن التاسع عشر على وتيرة حملت الأمراء التونسيين على قبول أي تعضيد أوروبي يحول دون تنفيذ الدولة ما تكنه من تقويض استقلال تونس، وما قامت به الدولة العثمانية من عزل الخديوي إسماعيل لما فقد التأييد الأوروبي، وما قامت به لإفساد الحركة العرابية - شاهدان على ما جرت عليه في تونس، وقد وقعت الخسارة على الجميع - ما عدا الدول الأوروبية.
ومن المشكلات أيضا ما يتصل بالعلاقات بالأجانب وبالدول الأوروبية؛ فقد فتح الأمراء الباب واسعا للأجانب، واستعجلوا النهوض واليسر، فاستقدموا الفنيين الأوروبيين يرسمون لهم الخطط، ويعاونونهم على تنفيذها، ومكنوا للعقول الأوروبية والأموال الأوروبية من استخراج خيرات البر والبحر، ويسروا لكل طالب رزق من جزائر البحر الأبيض المتوسط وسواحله أن يتخذ من تونس وطنا ثانيا، يتوق لو أن ضمه لوطنه الأصلي ملحقا.
قويت الجاليات الأجنبية، وأصبح للامتيازات الأجنبية من المعاني غير ما كان لها ، ومن وراء الجاليات القناصل، ومن وراء القناصل الجيوش والأساطيل، وأضحت موارد الأهلين وموارد الحكومة نهبا مباحا لكل طامع.
أما الأموال الأوروبية فقد استخدمت فيما هو قائم على أسس اقتصادية سليمة، وفيما هو وهمي، وفيما هو غير ذاهب إلا لاستكمال أدوات الترف والتقليد الكاذب، والدول الأوروبية في مواقفها لحماية تلك الأموال وأصحابها، لم تميز بين الحلال فتؤيده والحرام فتستنكره، ولم تتحر عن وجه الحق ووجه الباطل، بل الكل لديها مصلحة قومية تؤيدها بكل ما تستطيع من قوة، وليت الأمر كان عند ذلك الحد، فإن التنافس بين الدول كان عاملا قويا في تورط الإمارة التونسية في الكثير من المشروعات الفاسدة، فمثلا إذا نال ماليون من أمة ما امتيازا بمد سكة حديدية، فلا بد أن ينال ماليو أمة أخرى امتيازا يماثله، وقد لا تكون له ضرورة، وهكذا، والمصري لا يسعه إلا أن يذكر في هذا ماليي مصر سعيد وإسماعيل.
والخلاصة أن الأمراء وضعوا أنفسهم وبلادهم في شراك لم يستطيعوا منها خلاصا، وكلما امتد بهم الزمن ضاقت العيون وازدادوا خبالا.
وقد وجد الأمراء في تنافس الدول الأوروبية الكبرى أملا في تجنب ضياع استقلال بلادهم، والواقع أنه كان شرا عليهم؛ إذ كان مدعاة لمحاولة إرضاء الكل - وفي هذا من تبديد الموارد والحقوق ما فيه، كما كان صارفا بكل جهود الحكومة التونسية نحو استقراء طوالع الجو السياسي الأوروبي، علها تهتدي لطريق يقيها الزلل، كما كان مفسدا لبطانة الأمير؛ يميل رجل منها لدولة أوروبية ما، فيصبح رجلها في تونس، وينحاز آخر لدولة أخرى، فيصبح عدوا لمواطنه، وهكذا، وقناصل الدول كل منهم يؤيد مشايعه التونسي، كما يحاول أن يجتذب إلى صفه رجال الحكم التونسيين، أو كل ذي حظوة لدى الأمير، وقد اتخذت هذه المحاولات ألوانا شتى من الترغيب والترهيب؛ مما أفسد الضمائر والذمم.
لهذه الأسباب كلها، لم تصب المحاولات الدولية لحل مسائل الدين ونظيراتها من المسائل نصيبا من النجاح، كما كان الحال في مصر، وكيف تنجح وقد تحولت اللجان الدولية لتسوية الديون ومراقبة المالية التونسية ميدانا جديدا، اشتد فيه النزاع بين ممثلي الدول، بل إن من ممثلي الدول من عمل على فشل الفكرة الدولية؛ ليثبت إثباتا لا يدع محلا لشك أن الإدارة الوطنية قد عجزت عجزا تاما عن إصلاح المختل من أحوالها، وأن علاج تلك الأحوال بخلق هيئات دولية قد أتى بعكس المقصود منه، فأدى إلى تفاقم العلة، والحل الوحيد المجدي إذن هو أن تتولى الأمر كله دولة أوروبية.
Page inconnue