Tunis Khadra
تونس الخضراء
Genres
وكان القرن الخامس عشر، فاستقرت أمورها السياسية، ونشطت لذلك حركة المباني نشاطا ملحوظا، بيد أنها لم تكن واسعة النطاق، ولم يشيد أبو فارس وحفيده أبو عمر عثمان في حكمهما الطويل إلا خزانتي كتب ومدارس قليلة، وانصرف جل اهتمامهما إلى أعمال البر، فابتنيا أول مارستان إسلامي في تونس، وعدة زوايا في الأرباض يلتجئ إليها الناس في النهار والليل جميعا، كما اهتما بما يتصل بالماء مدفوعين إلى ذلك بعامل الدين أيضا، فأنشآ صهريجا كبيرا في المصلى، وميضأة في سوق العطارين، وسقايات ومصاصة، (وهي سبيل يمص فيه الإنسان الماء من صنبور)، وأخذ المرابطون وأصحاب الطرق يسيطرون على الدين يوما بعد يوم. وأبرز رجال هذا العصر سيدي أحمد بن عروس صاحب الطريقة العروسية، وسيدي قاسم الجليزي، وسيدي منصور بن جردان.
والظاهر أن التجارة كانت آخذة بأسباب الرقي وقتذاك، وقد حافظت تونس على اتصالها بأوروبا، وكانت بها أسواق للزيت والخضر وفحم الحجر وسوق للصفارين (النحاسين)، وسوق للعزافين (صانعي السلال)، وقد قدر عدد المنازل رسميا عام 1361م بسبعة آلاف منزل، كما قال ابن الشماع، ثم زاد عام 1516م إلى عشرة آلاف منزل كما قال الحسن بن محمد الوزان الزياتي، وأورد الرحالة فان غستيله معلومات قيمة عن حياة النصارى في تونس عام 1485م، أما أولو الأمر فقد انتهجوا سنة أسلافهم وعملوا على الإقامة خارج المدينة، وأغلب ما يكون ذلك في ضيعتهم باردو، وسرعان ما أصبحت مجموعة كبيرة من المباني، وينسب إلى أبي عبد الله الحفصي قصر العبدلية عند المرسى، وكذلك خزانة الكتب المعروفة بالاسم نفسه والملحقة بالمسجد الجامع.
وكان القرن السادس عشر قرنا يسوده الاضطراب، فأصبحت المدينة المنكودة الطالع غرضا من أهم أغراض الترك والإسبان في حروبهم الطويلة، وقد نهبتها جنود خير الدين عام 1534م، ثم سلبها جيش شارل الخامس المظفر في العام الذي يليه، وفر أهلها في جمع واحد أمام النصارى من باب الفلاق، وقد غير اسمه تبعا لذلك فأصبح باب الفلة (أي باب الهزيمة)، وجلي أن الأحوال التي عمر فيها الحفصيون ما تخرب وصانوه لم تكن جد مواتية لنمو المدينة، فقد صرف الأمراء كل اهتمامهم إلى الحصون التي زيدت عليها حصون حلق الوادي، ويظهر أنها لم تتم حتى خريف عام 1573م، عندما طرد دون جون النمساوي من تونس القائد رمضان، الذي ظل عاملا عليها أربع سنين من قبل علي باشا، وقد حصنت القصبة تحصينا قويا، وقام في مكان دار الصناعة على ساحل البحيرة، حصن على هيئة النجم، يصله بأسوار المدينة متراسان، بيد أن هذا الجهد ذهب أدراج الرياح، وعاث الجند الإسبان في المدينة فسادا، فهجرها الأهلون واستولى الترك في سبتمبر عام 1574م على هذا الحصن وهدموه، وأقام سنان باشا في تونس حكما موطد الأركان، فأخذت العمارة في الازدهار بعد ذلك بأمد وجيز.
وزاد خروج الناس من الأندلس واستمر قرونا، واتسع مداه فجأة عندما رحب الداي عثمان بعرب الأندلس الذين طردهم فيليب الثالث، فأقام أهل الحضر منهم في تونس وسكنوا حيين اثنين هما: شارع الأندلس جنوب غربي «المدينة»، وحومة الأندلس بالقرب من موضع الحلفاويين، وهم الذين أدخلوا صناعة الشاشية «القلانس الخمر»، وكان لتونس في القرن السابع شأن خاص بفضل اجتماع الأندلسيين المسلمين بالترك الحنفية المشارقة، وقوة المرتدين الفرنجة والقرصان.
وكان الداي يوسف الأول أول من اشتهر بإقامة المنشآت العامة، كإنشاء حي تجاري حول باب البنات، وتعمير سوق الغزل المجاور لهذا الحي، وبناء سوق لتجار جربة، وإصلاح عدة أسواق أخرى، وتوسيع أسواق الحفصيين ناحية الشمال، وهي: سوق البشامقية (وهم صناع السراويل التركية، شارع سيدي ابن زياد) وسوق البركة لبيع العبيد السودان، وسوق الترك للخياطين الترك، وإنشاء قهوة، ومد مجاري المياه إلى بقاع مختلفة في المدينة، كالمسجد الجامع فيما يلي سوق الترك، وشيد صفيه علي ثابت (عام 1620م ) الميضأة البديعة التي تزين الآن «البلفدير»، وعمر علي كذلك المسجد الجديد في ربض باب الجزيرة، وربما كانت إعادة بناء المسجد الشرقي المعروف بباب الجنائز قد حدثت في ذلك العهد، وابتنى يوسف (عام 1622م) في شارع سيدي ابن زياد مدرسة ومسجدا للحنفية، مئذنته مثمنة الشكل، وإلى جانبه ضريحه، وأخذ سلطان الدايات يتضاءل بعده، فلم يقوموا بعمل عظيم. وقنع أحمد خوجة بتعمير المدرسة الشماعية والمدرسة العنقية، وشيد محمد لاز عام 1649م مئذنة القصر العجيبة، فلما توفي عام 1653م شيدت له ولأهل بيته «تربة» في ميدان القصبة.
شارع الأندلس بمدينة تونس.
وقد شيد البايات المرادية كثيرا من العمائر، وبنى حمودة مسجد سيدي ابن عروس الحنفي على نمط مسجد الداي يوسف وبالقرب منه، كما بنى بجواره ضريحا لأهل بيته، وعمر كذلك منارة المسجد الكبير وشيد مارستانا في شارع العزافين وشرع في تعمير الجسر المعلق، وبنى ولده مراد المدرسة المرادية في سوق القماش، وفتح ابنه الثاني سوق الشاشية، وأقام حفيده محمد مسجد سيدي محرز بعد عام 1675م، وهو أهم مساجد المدينة، ويقال إن المهندس الفرنسي دفيليه هو الذي رسم خطة قبابه. وكانت القصبة في أول أمرها مقر الباشوات قبل تقلص سلطانهم، وكانت تضم بنايتين كبيرتين: في الأولى حرس الدايات والضباط مع أهلهم، والثانية وراءها، وفيها السقيفة التي يلقي فيها الداي جنده، وفي أقصاها مسكنهم، أما الديوان الذي يرأس فيه الأغا المجلس العسكري فهو قاعة متسعة مستطيلة، ولا تزال المحكمة الشرعية في هذا الموضع، وكان الحي الواقع غربي المدينة وشمال غربيها - وبخاصة طريق الباشا - هو حي السراة أو الحي التركي الصميم، وقد زينت بالمرمر دور الدايات الفخمة وغيرهم من الأعيان، وكانت الرحبة الوسطى - وهي من سمات الدور المألوفة في ذلك العهد - تزين أحيانا بجوسق أو بركة من الماء، ولكن الرياش والزخارف كانت فيها نزعة إلى محاكاة الرديء من الفن الإيطالي.
وتوسع القرصان في مغامراتهم فازداد عدد العبيد من النصارى، ومن ثم كثر عدد تلك السجون العجيبة التي ينسب كل منها إلى قديس تنذر له البيعة التي يحتويها السجن، وذكر الأب دان تسعا منذ عام 1635م، وسرعان ما أصبحت ثلاثة عشر سجنا، وفي أيام جان له فاشيه قنصل فرنسا شيدت أول كنيسة في دار القنصلية، نذرت إلى القديس لويس، وهو أيضا الذي أقام على أطلالها كنيسة القديس أنطونيوس في وسط المقبرة الرومانية الكاثوليكية، وأقام حولها الأسوار العالية خارج باب البحر (في موضع الكتدرائية الحالية)، وهو الذي استأذن من الديوان وحصل منه على أرض بنى عليها قنصلية للفرنسيين عرفت ب «فندق الفرنسيين»، وقد تم بناؤها عام 1661م، وكان البروتستانت يدفنون خارج باب قرطاجنة في مقبرة القديس جورج، في الموضع الذي تقوم عليه الآن الكنيسة الإنجليزية، ويظهر أن تجار النصارى لم يكونوا كثيرين على الرغم من حماية القنصلية لهم، «فالأمة» الفرنسية لم تكن منذ أمد طويل سوى ستة أشخاص! وكان غالب التجارة الخارجية في يد اليهود ومعهم المهاجرون من الأندلس والبرتغال، وقد وفدوا إلى تونس مباشرة أو بطريق إيطاليا، وكانوا يتميزون عن التوانسة القدماء، أما الكرانة أو البرتغال فكانوا جماعة منفصلة برأسها، وإليهم نسب «سوق الكرانة»، وكانت مقابر اليهود خارج الأسوار شرقي حي باب السويقة بجوار شارع سيدي سفيان الحالي، ثم امتدت ناحية الجنوب.
وسادت القلاقل السياسية ختام القرن السابع عشر، وبداية القرن الثامن عشر، واحتل إبانها أهل الجزائر تونس مرتين، وصحبت ذلك فتن سفكت فيها الدماء، ولم تكن الأسوار من المناعة بحيث ترد هجوما عنيفا، ولم تتبع في بنائها قاعدة من قواعد التحصين، بل إن تونس وقعت مرة أخرى تحت رحمة أهل الجزائر في عهد الحسينية، ونهبها هؤلاء الجزائريون عام 1735م، فحاول التوانسة عبثا أن يقفوا في وجوههم، واستعانوا في ذلك بحصون تعجل علي باشا وابنه محمد في بنائها.
وقد حفلت المدينة في الفترات التي رفرف عليها السلام ببنايات أخرى، ففي أيام رأس الدولة الجديدة حسين بك علي توفيت الأميرة عزيزة عثمانة عام 1710م، وهي كبرى حفيدات الداي عثمان، ودفنت بالقرب من مدرسة الشماعية، وقد انتفع كثير من منشآت البر والتقوى بجزيل عطاياها، وكان حسين نفسه بناء عظيما ، فقد شيد في الحي الجنوبي من تونس الجامع الجديد أو «جامع الصباغين»، وهو الذي اختط الطرق والمباني الملاصقة لسوق السروجية، وفي عهده شيد ضريح الداي قره مصطفى بجوار مسجد القصر، وهو الذي نقل قصبة ملكه إلى باردو، وقد عني ببناء المدارس كمدرسة النخلة، والمدرسة الحسينية، والمدرسة الجديدة، وخلفه علي باشا فنسج على منواله، وبنى أربع مدارس هي: الباشية في سوق الكتبيين، والسليمانية، وسميت كذلك تخليدا لذكرى ولده المتوفى سليمان، ومدرسة بئر الحجار، ومدرسة حوانيت عاشور، ثم أنشأ علي باي بعد ذلك مدرسة أخرى باسم المدرسة الجديدة، وإليه يرجع الفضل في بناء مقبرة الحسينية المعروفة ب «تربة الباي»، وهي غير بعيدة من مسجد الصباغين، وكذلك تكية العجائز الفقراء، وفد بنيت عام 1775م.
Page inconnue