Tuhfat Asmac
تحفة الأسماع والأبصار
ولقد حاول أهل القرية الإمتناع منهم بالهرب، فأمرنا نساءهم بالحمل، وأجبرناهن على ذلك، فلما عرفوا صدق العزيمة رجعوا إلينا مغلوبين مقهورين، وليس مثل هذا يخطر على بال أحد من الناس أنه يتم عليهم مثل ذلك لمثلنا، على أنهم لو اجتمعوا على هلاكنا لم يشعر الملك بشيء من علم ذلك لبعده عن الإطلاع وقعود وزرائه[97/ب] عن مسالك الأبصار والأسماع، فلا شك ولا ريب أن تمام هذه الأمور لنا وظهورنا عليهم إلا بشرف الإسلام، وسر هذا الإمام -عليه السلام- وعلى جده وعلى آبائه أفضل الصلاة والسلام، واتصل سيرنا على هذه الصفة قدر خمس وعشرين مرحلة، وبعد تمامها انقضت مسافة ذلك المأمور المتمرد، ثم أفضت النوبة إلى الثالث منهم فتلقانا بأحسن ما يجب وأكرمنا بأفضل ما نحب، وفعل بما أمر به الملك مع زيادة إليه، وصير إلينا من الزاد ما يبلغنا إلى بندر مسوع؛ لأجل المفازة المتوسطة بين (مسوع) و(دباروى) وهي قدر عشر مراحل للقوافل، وأقمنا في بلد (دياروي) قدر اثنى عشر يوما نصلح ما نحتاج من أمورنا، ونستزيد ما لا بد منهم من الزيادة التي على زادنا، وكانت القاعدة المتعامل بها أن القوافل إنما تسير من دياروي مع صحبة من السحرات المتصلين بهذه المفازة، وكان من الإمتحان أن وقع عزل الأمير صاحب دباوري مع وقوفنا فيها، فضاق بنا الحال، والجأنا تضايق الأمور إلى سرعة الإرتحال، فتوجهنا منه بغير صحبة ولا دليل، إلا الله عز وجل فهو حسبنا ونعم الوكيل، وهون علينا تلك الشدة ما بلغ إلينا أن مولانا أمير المؤمنين المتوكل على الله -أيده الله تعالى- قد أرسل رسولا قاصدا باشا الأتراك صاحب (سواكن) يأخذ لنا منه الأمان، وأمره أن يقف في بندر مسوع حتى نصل إليه فأسرعنا بالسير لما بلغ إلينا ذلك وحمدنا الله عز وجل الذي يسر لنا هذه المسالك، ولما توسطنا في هذه المفازة بلغ إلينا أن جماعة من الأشرار من بدو النصارى مجتمعون في جانب الطريق يريدون اعتراضنا وقد طمعوا فينا لما بلغهم انفرادنا، فأرسلنا رسولا من أهل الخبرة بالطريق إلى نايب الباشا في بندر مسوع وكتبنا إليه نخبره بما بلغ إلينا من خبر هؤلاء البدو، وما يريدونه من التعدي والعزم على الإقدام إلينا، وبسط الأيدي، وبعد أن نفذنا ذلك الرسول لم ننتظر عود الجواب في ذلك المحل؛ لأنا رأينا البقاء فيه مخاطرة، فلم نجد بدا من السفر والتوكل على الله عز وجل، فلما بلغنا ذلك المحل الذي بلغنا أنهم راصدون فيه، رأينا القوم قد اجتمعوا حول مصرام لهم كبير جمعا كثيرا، وقد كنا أرسلنا إليهم رجلا من المصاحبين لنا من أهل الحبشة يخادعوهم في القول، ويلين لهم العبارة، ويطمعهم بشيء من المال، ويكلمهم أن يصحبنا منهم جماعة من كبارهم إلى المحل الذي نريد النزول فيه تلك الليلة[98/أ] وهو قريب من هذا المصرام الذي هم فيه يعلمون أنا لا نفوتهم بالتجاوز إليه، ومرادنا بذلك اطماعهم بالقول، ومطاولة الحديث معهم حتى يرجع إلينا الجواب من أمير مسوع، فأثر فيهم ذلك القول ونقض عليهم ما كانوا أبرموه، واطفأ من لهبهم ما كانوا أضرموه، لولا أنه وقع من بعض أصحابنا ما هيجهم، وأثار حفايظهم، فرجعوا على ما كانوا عزموا عليه من العدوان، وعزموا على اتباع ما زينه لهم الشيطان، فتركونا حتى تولينا عنهم قليلا، ثم صرخ صارخهم واحتملوا علينا من جهة اليمين والشمال، ونظرنا إلى ما حولنا من الجبال فإذا هي تسيل بالرجال، وكان غاية همنا حفظ الرقيق خشية أن يسبوا من هو على ديننا، فلما اتصل بنا أوايلهم يتذامرون ويتعادون كأنهم السباع الضارية فرمونا بالحراب من أيديهم ودفعوها دفعا تعدى حتى تعداهم فأصابوا منا رجلا ووقع في فرس من خيلنا حربتان، فرمت عليهم البنادق وبأيديهم أتراس متسعة تستر جميع أبدانهم فهم يظنون أنها تدفع عنهم رمي البندق، فوقعت رمية في أحدهم فخرقت ترسه وأصابته في شقه الأيسر حتى خرقته فألقته على جانبه وأثرت فيه تأثيرا هايلا أرهبهم وأرعبهم، فأنكسرت سورتهم، وانفلتت شوكتهم، ومالوا عنا حتى لذنا بأكمة عالية، وجمعنا فيها أثقالنا، ثم أمرنا العسكر أن يقفوا بالبنادق على أطراف تلك الأكمة، وهم قد أحاطوا بنا من كل جانب، ولكن الله عز وجل ملأ قلوبهم هيبة، ورجع أمرهم بالإخفاق والخيبة، فلم يجسروا على الإقدام علينا والوصول إلينا وإلا فإنهم قد بلغوا نحو خمسمائة رجل أو يزيدون على ذلك سوى من جاء إليهم من آخر ذلك اليوم فإنهم بلغوا جيشا عظيما وعددا كثيرا، فأرسلنا إليهم ذلك الرجل الذي كنا أرسلناه إليهم المرة الأولى، وقلنا له أعرف ما يريدونه منا فإن يكن المال فقل ما شئت وابذل لهم ما رأيت، وإن يكن النفوس فأخبرهم عنا أن الموت ليس باليسير، وإن الهالك منهم بعون الله العدد الكثير، فاتفق الرأي بيننا وبينهم على أن يأخذوا علينا عهدا ونأخذه على كبارهم كذلك بالأمان وعدم العدوان، ثم نرجع معهم إلى بلدهم وقد كنا جاوزناها بميل ثم يقع الإصلاح هناك على تسليم شيء من المال، فرجعنا معهم إلى بلدهم، ونحن مع ذلك غير واثقين بعهدهم فإن الله عز وجل يقول في أمثالهم: {إنهم لا أيمان لهم } وبتنا معهم تلك الليلة، وجاء إلينا كبارهم يخوضون معنا، حتى أصبح الله بالصباح، ونحن نحاورهم ونجاهد مشقة السهر مع خوف الغدر[98/ب]منهم فإنهم مع ذلك قد أحاطوا بنا من جميع الجوانب، وأشعلوا النار من جميع الجهات، فلما كان نهار اليوم المسفر عن تلك الليلة رجع جواب أمير مسوع، وخرج العسكر نحو مائة نفر فيها خمسون بندقا،.
ولما وصل الرسول بالجواب، وأخبرنا العسكر من الأتراك قد خرجوا في أثره، بدد الله شملهم، وفرق جمعهم، ودفع عنا كيدهم ومكرهم، وكان ذلك من الفرج بعد الشدة، والحمد لله الذين خلصنا من كيدهم سالمين، ونجانا من القوم الظالمين، ثم إنا لما انفصلنا عنهم وهم مجتمعون ذلك الإجتماع ومطبقون نواحي تلك البقاع أرسل الله عليهم جيشا من أعدائهم، وأحاطت بهم النقمة من بين أيديهم ومن ورائهم، فاقتتلوا قتالا شديدا، ثم كانت الدائرة على هؤلاء الباغين علينا، والغلبة لعدوهم عليهم، أنتهبوا أموالهم، وقتلوا رجالهم، وسبوا نساؤهم، حتى لقد رأيناهن في سوق بندر مسوع يبيعونهن في عقب وصولنا إليه، وشاعت هذه القضية هنالك، وتحدث الناس من أهل الإسلام في مسوع أن هذه القضية من كرامات إمامنا -عليه السلام- ولا شك ذلك، ولا ريب، فإن حقه على الله أعظم من ذلك، وكم دفع الله عنا ببركته من المهاوي والمهالك.
Page 419