Neuf conceptions du temps : voyager à travers le temps entre réalité et fiction
تسعة تصورات عن الزمن: السفر عبر الزمن بين الحقيقة والخيال
Genres
شكر وتقدير
تمهيد
مقدمة
التصور الأول: الزمان والمكان مكونان لنسيج زمكاني مرن
التصور الثاني: سهم الزمان يشير، لكنه لا يتحرك
التصور الثالث: أسرع من الضوء تعني العودة بالزمن
التصور الرابع: يمكن للضوء أن يسافر بسرعة تفوق سرعة الضوء
التصور الخامس: الأسطوانات الدوارة وإمكانية انتهاك السببية العالمية
التصور السادس: الأنفاق الزمنية للمبتدئين
التصور السابع: كل شيء سيوجد موجود بالفعل
Page inconnue
التصور الثامن: السفر جانبيا عبر الزمن
التصور التاسع: كيف تتلاعب بالمفارقات
خاتمة: لا تنظر إلى الماضي
قراءات إضافية
شكر وتقدير
تمهيد
مقدمة
التصور الأول: الزمان والمكان مكونان لنسيج زمكاني مرن
التصور الثاني: سهم الزمان يشير، لكنه لا يتحرك
التصور الثالث: أسرع من الضوء تعني العودة بالزمن
Page inconnue
التصور الرابع: يمكن للضوء أن يسافر بسرعة تفوق سرعة الضوء
التصور الخامس: الأسطوانات الدوارة وإمكانية انتهاك السببية العالمية
التصور السادس: الأنفاق الزمنية للمبتدئين
التصور السابع: كل شيء سيوجد موجود بالفعل
التصور الثامن: السفر جانبيا عبر الزمن
التصور التاسع: كيف تتلاعب بالمفارقات
خاتمة: لا تنظر إلى الماضي
قراءات إضافية
تسعة تصورات عن الزمن
تسعة تصورات عن الزمن
Page inconnue
السفر عبر الزمن بين الحقيقة والخيال
تأليف
جون جريبين
ترجمة
عبد الفتاح عبد الله
مراجعة
شيماء طه الريدي
إلى تيريزا، التي تدرك جيدا أهمية الزمن.
إشادة بكتاب «ستة أشياء مستحيلة» «كتاب تمهيدي عن كل ما يتعلق بالكم ... يمتاز بالدقة وسلاسة الأسلوب.»
صحيفة صنداي تايمز «ألهم جريبين أجيالا بمؤلفاته في العلوم المبسطة، وهذا الكتاب، الذي يعد أحدث مؤلفاته، هو ملخص موجز وممتع للمتبارين الأساسيين في تقديم تفسير حقيقي لميكانيكا الكم. ... إن لم تنتبك الحيرة من قبل حول ما ترمي إليه أنجح نظرياتنا العلمية، أو حتى إن سبق وانتابتك تلك الحيرة وتريد أن تعرف آخر ما توصل إليه الفكر، فسيقدم لك هذا الكتاب الجديد كل المعلومات التي سبقت انهيار الدالة الموجية.»
Page inconnue
جيم الخليلي «يقدم لنا جريبين وجبة دسمة من المعلومات تتسم بالدقة والوضوح؛ إذ يزخر هذا الكتاب على صغره بكم هائل من المعلومات. يضم الكتاب بين دفتيه كما عظيما من كتب العلوم المبسطة، وأنا أحبه. ... يمكن القول إن هذا الكتاب هو أفضل وأعظم ما أنتجت العلوم المبسطة البريطانية؛ لأنه يوجز نتاج سنوات عديدة من الدراسة في طبيعة فيزياء الكم في كتيب صغير.»
برايان كليج،
popularscience.co.uk «كتاب رائع وسهل الفهم ... أنصح به بقوة لطلاب العلوم والمتحمسين للخيال العلمي، وكذلك أي شخص لديه فضول لفهم العالم الغريب لفيزياء الكم.»
مجلة فوربس
إشادة بكتاب «سبعة أعمدة للعلم» «في العامين الماضيين، شهدنا سلسلة من الكتب تراكم أكداسا من العلوم في شكل مبسط ومفهوم في مساحة صغيرة. وقد أثبت جون جريبين نفسه كأستاذ لهذا النهج بكتابه «ستة أشياء مستحيلة»، ثم أثبتها مرة أخرى ... بكتاب [سبعة أعمدة للعلم]، هذا الكتاب اللطيف المباشر الذي يزخر بكم هائل من المعلومات. ... إنه يتناول الكثير من الموضوعات العلمية، ويسرد حكاية مثيرة للاهتمام، وهو ذو غلاف جميل.»
برايان كليج،
popularscience.co.uk
إشادة بكتاب «ثمانية احتمالات مستبعدة» «أعجبنا هذا الكتاب ... إنه كتاب يستحث الفكر ونرغب في مشاركته مع أكبر عدد ممكن من الناس.»
موقع «أيريش تك نيوز» «يصل جريبين النقاط بعضها ببعض ببراعة وإتقان لإظهار صورة كبرى أروع حتى من مجموع أجزائها.»
مجلة «فيزيكس وورلد» «إنها رحلة رائعة داخل عالم الغرائب والاحتمالات العلمية المستبعدة.»
Page inconnue
ليلي باجانو، موقع «ري أكشن» «يوسع جريبين نطاق بحثه ويستعرض معرفته الواسعة من خلال تضمين الكثير من المعلومات في كل فصل من فصول الكتاب ... إنه كتاب موجز، لكنه قد يلهم القراء ويدفعهم إلى مزيد من البحث.»
جايلز سبارو، مجلة «بي بي سكاي آت نايت»
شكر وتقدير
أوجه الشكر مجددا إلى جامعة ساسكس لاستمرارها في توفير المرافق والأدوات البحثية، التي من بينها مكان عمل مليء بالدفء والود والكثير من القهوة. إن اهتمامي بطبيعة الزمن والسفر عبره تعود إلى سنين طويلة، وقد قادني هذا الاهتمام إلى نقاشات مثمرة مع الكثير من الأصدقاء والزملاء، وهم أكثر من أن يسعهم المقام هنا، لكنني أود أن أخص بالذكر بول ديفيز من عالم العلوم، ودوجلاس آدامز من عالم الخيال. أما بقيتكم فتعرفون قدركم عندي!
«هيا، لنبدأ بربات الإلهام اللائي يبهجن بأغانيهن روح والدهن زيوس في جبل الأوليمب، يقصصن ما يجري الآن، وما سيجري، وما صار آنفا.»
هسيود، في قصيدته «ثيوجونيا» «إلى تساؤلات الرجال يعود سبب تفلسفهم الآن وتفلسفهم من قبل؛ إذ تساءلوا أولا حول الصعوبات الجلية، ثم تقدموا شيئا فشيئا وتحدثوا عن صعوبات أمور أعظم، مثل ظواهر القمر والشمس والنجوم ونشأة الكون.»
أرسطو، من كتاب «ما وراء الطبيعة»
تمهيد
تأمل في مصادر الإلهام
استهوتني مسألة السفر عبر الزمن منذ بدأت القراءة؛ كنت سأقول منذ بدأت القراءة عن الخيال العلمي، لكن بعض ذكريات قراءاتي الأولى تتمحور حول جول فيرن (عشرون ألف فرسخ تحت الماء) وإتش جي ويلز (آلة الزمن)، تبعهما سريعا أي شيء وكل شيء بقلم آرثر سي كلارك وإسحاق أسيموف، مع جرعات شهرية من مجلة «أستوندينج»
Page inconnue
1
تحت رئاسة جون دبليو كامبل للتحرير، وذلك قبل فترة طويلة من تحولها لتصبح باسم «أنالوج». ولعل أحد الأشياء العظيمة بشأن مجلة «أستوندينج» أن كل إصدار منها كان يحوي مقالا واقعيا، يصف اكتشافات علمية حقيقية من النوع الذي يروق محبي الخيال العلمي. وكان فيرن وويلز وكلارك وأسيموف بالطبع كتابا يضمنون جرعة صحية من العلم الحقيقي في قصصهم. وقد أصبحوا - إلى جانب مجلة «أستوندينج» - مصادر إلهامي الشخصية؛ الإلهام الذي استوحيته في مسيرتي في الكتابة عن العلم الذي يبدو في بعض الأحيان كالخيال، و(في نهاية المطاف) الخيال المبني على العلم؛ ولعل أحد أبرز اللحظات في مسيرتي كان حين نشرت لي أول قصة في مجلة «أنالوج»، مع أن كامبل حينها لم يعد بيننا.
غلاف مجلة أستوندينج
بيني بابليكيشنز/ديل ماجازينز
أورانيا
سيبيا تايمز/جيتي
على امتداد مسيرتي المهنية، لطالما عدت إلى موضوعات الزمن والسفر عبر الزمن، وتبدو لي فكرة حسنة أن أجمع الخيوط معا في نسيج واحد. هذه ليست مجموعة موضوعات معادة الطبع، بل إعادة صياغة لأبرز النقاط الأساسية، التي قد يكون بعضها مألوفا لك وقد يفاجئك بعضها الآخر، مع إضافة مواد وتحديثات جديدة. ويحدوني الأمل في أن يكون هذا الكتاب في مجموعه أفضل من أجزائه ، وقد استمتعت بكتابته بقدر ما استمتعت برؤية أولى قصصي القصيرة منشورة في مجلة «أنالوج».
وقد أمدتني فكرة مصادر إلهامي الشخصية الخمسة بنمط لهذا المشروع. فقد ذكرتني بربات الإلهام التسع من اليونان القديم: كليو، ويوتيربي، وتاليا، وميلبوميني، وتيربسيكوري، وإراتو، وبوليمنيا، وأورانيا، وكاليوبي. لقد كن الربات اللائي جسدن العلوم والأدب والفنون؛ وإن كانت إحداهن تطل من فوق كتفي، فلا بد أنها كانت أورانيا، مبتكرة علم الفلك وملهمة الكتابات الفلكية.
لكن ربات الإلهام هؤلاء كن - أو ما زلن - متعددات المواهب. فقد ابتكرت اثنتان منهن نظرية التعلم، وابتكرت ثلاث الذبذبات الموسيقية، وابتكرت أربع منهن اللهجات الأربع لليونان القديم، وابتكرت خمس منهن الحواس البشرية الخمس. لا بد أنك لاحظت أن مجموع كل هذا بالفعل يساوي أكثر من تسعة؛ فلكل ربة إلهام عدة أدوار تضطلع بها. والواقع أنه لا يزال هناك المزيد من الأدوار؛ إذ ابتكر سبع منهن أوتار القيثارة السبعة، ومناطق القبة السماوية السبع، والكواكب السبعة المعروفة لدى القدماء، والحروف المتحركة السبعة في الأبجدية اليونانية. وتقديرا لهن، ولأنني لم أستطع تضمين كل شيء في خمسة تصورات، وزعت تصوراتي حول الزمن، وبالأخص السفر عبر الزمن على تسعة موضوعات أساسية؛ تسعة تصورات عن الزمن.
جون جريبين، أبريل 2022
Page inconnue
هوامش
مقدمة
السفر عبر الزمن ليس «مجرد خيال علمي»
«يمر الزمن كالسهم، أما الفاكهة فتمر كالموز.»
تيري ووجان
ثمة نوع من الخيال العلمي يكون فيه كل العلم حقيقيا، لكن الأحداث فيه تجري في زمن أو مكان خيالي. وأحد الأمثلة المفضلة لدي هو سلسلة قصص في مجموعة «الدافع الخارجي» من تأليف جون ويندهام،
1
والتي تقدم مخططا لاستكشاف الفضاء القريب. وعلى الطرف الآخر من عالم الخيال العلمي، ثمة قصص تقع على الحدود المبهمة والمشوشة بين الخيال العلمي والخيال الخرافي، وهي منطقة اجترأ على اقتحامها في بعض الأحيان آرثر سي كلارك، الذي قال ذات مرة: «الخيال العلمي هو ما يمكن أن يحدث، لكنك عادة لن ترغب في أن يحدث. والخيال الخرافي هو ما لا يمكن أن يحدث، إلا أنك تأمل أن يحدث». تلك طرفة جيدة. لكن لدي شكوكي حول دقة الجزء الأخير فيها؛ إذ إن سلسلة «سيد الخواتم» (لورد أوف ذا رينجز) تنتمي إلى الخيال الخرافي البدائي، لكنها ليست بشيء يرغب فيه المرء، إلا أنها تسلط الضوء على الموضع الذي يتخذه موضوع السفر عبر الزمن، في اعتقاد الناس، على النطاق الممتد بين الخيال العلمي والخيال الخرافي.
وعلى عكس السفر عبر الفضاء - وهو عنصر أساسي في الخيال العلمي جائز الحدوث بكل تأكيد حتى لو كانت أنظمة الدفع المذكورة في القصص لم تصبح عملية بعد (وقد لا تكون كذلك أبدا) - فإن السفر عبر الزمن بكل تأكيد شيء لا يمكن أن يحدث، مع أنك تتمنى لو أنه يحدث. أم هل يمكن أن يحدث؟ السفر عبر الزمن، كما أرغب في توضيحه في هذا الكتاب، لا تمنعه قوانين الفيزياء، وإن لم يكن ممنوعا فلا بد إذن أنه ممكن. لا تأخذ كلامي على محمل الصدق وحسب هكذا. فقد قال ديفيد دويتش أستاذ الفيزياء بجامعة أكسفورد: «أنا نفسي أعتقد أن السفر عبر الزمن سيكون متاحا ذات يوم؛ لأننا حين نعرف أن شيئا ما لا تمنعه قوانين الفيزياء الشاملة، نجد في النهاية طريقة تكنولوجية لجعله حقيقة.»
إن السفر عبر الزمن ليس وهما، وليس مجرد خيال علمي أيضا، رغم أنه كالسفر عبر الفضاء، يعد مجازا مشتركا في الخيال العلمي. وكمثل السفر عبر الفضاء أيضا، يعتبر السفر عبر الزمن علما حقيقيا جادا خضع لتدقيق مكثف من المنظرين (لا عجب هنا) كما خضع أيضا لاختبارات تجريبية حقيقية وجادة، وهو ما قد يفاجئك. كل من يرفض السفر عبر الزمن باعتباره «مجرد خيال علمي» مخطئ على أساس علمي، كما أنه مخطئ في استخدام الوصف؛ لأن استخدام السفر عبر الزمن في الخيال العملي عادة ما يبرز الحقائق العلمية على نحو لا تضاهيها فيه المطبوعات العلمية، وسأقدم مثالا جيدا على ذلك في تصوري الخامس. لكن قبل أن أخوض في هذه المسألة الشائكة، ينبغي لي أن أعرض طبيعة الفضاء والزمن اللذين يمكن السفر عبرهما.
Page inconnue
هوامش
التصور الأول: الزمان والمكان مكونان لنسيج زمكاني مرن
«ليس للجاذبية وجود بشكل ما؛ ما يحرك الكواكب والنجوم هو اختلال الزمان والمكان.»
ميتشيو كاكو «يعرف الجميع» أن ألبرت أينشتاين هو أول من وصف الزمن باعتباره «البعد الرابع» في نظريته عن النسبية الخاصة المنشورة عام 1905. و«الجميع» مخطئون في ذلك، بل وخطأ مضاعف.
قبل ذلك بعشر سنوات، أي في عام 1895، نشرت قصة إتش جي ويلز الكلاسيكية «آلة الزمن» للمرة الأولى في شكل كتاب. وفي واقع الأمر، كان ويلز هو من كتب - في قصة «آلة الزمن» - أنه «لا فرق بين الزمن وأي من أبعاد المكان الثلاثة، عدا أن وعينا يتحرك عبره». ويمضي في وصف الأشياء التي نراها بأبعاد ثلاثية - كالمكعب - باعتبارها كيانات ثابتة تمتد عبر الزمن في واقع الأمر؛ ومن ثم يكون لها الأبعاد الأربعة، وهي الطول والعرض، والارتفاع، والزمن. لكن حتى في عام 1905، لم يصف أينشتاين الزمن باعتباره البعد الرابع. فمن أدخل الفكرة إلى النظرية الخاصة في الواقع هو هيرمان مينكوفسكي، في محاضرة ألقاها في مدينة كولونيا في سبتمبر من عام 1908. كان مينكوفسكي أحد محاضري أينشتاين حين كان طالبا في زيورخ، وأطلق عليه حينها وصفه الشهير له بأنه «كلب كسول» والذي «لا يعبأ أبدا بأمر الرياضيات». غير أنه كان أول من ثمن تحقيق ذلك الكلب الكسول شيئا بارزا بنظريته عن النسبية الخاصة. وفي مقدمة محاضرته في مدينة كولونيا، قال مينكوفسكي:
الآراء حول الزمان والمكان التي أرغب في طرحها على مسامعكم ولدت من رحم الفيزياء التجريبية، وفيها تكمن قوتها. إنهما مطلقان. ومن ثم فإن المكان في حد ذاته والزمان في حد ذاته مآلهما إلى التلاشي والتحول إلى مجرد ظلال، وحدوث اتحاد من نوع ما بينهما هو فقط ما سيحفظ لنا واقعا مستقلا.
وسرعان ما عرف ذلك الاتحاد بينهما باسم الزمكان. لكن أينشتاين في البداية أبغض الفكرة، ورأى أنها مجرد خدعة رياضية؛ إذ علق بفظاظة بقوله: «منذ أن هاجم علماء الرياضيات نظرية النسبية، لم أعد أنا نفسي أفهمها.» «السبب الوحيد لوجود الزمن هو ألا يحدث كل شيء دفعة واحدة.»
ألبرت أينشتاين
إتش جي ويلز
أرشيف هولتون/جيتي
Page inconnue
من السهل جدا فهم هذا في واقع الأمر. فأي موقع على مستوى الشارع في إحدى المدن - على سبيل المثال - يمكن أن يوصف على أساس رقمين، أو إحداثيين. قد أرتب للقائك خارج البناية عند ناصية شارع فيرست وجادة ثيرد. ويدخل إحداثي ثالث إذا ما رتبنا للقاء في المقهى الكائن في الطابق الثاني من تلك البناية. ويدخل الزمن في المعادلة باعتباره البعد الرابع إذا ما رتبنا للالتقاء في ذلك المكان، لنقل في الساعة الثالثة. وبذلك يمكن أن نمثل أي موقع في ذلك المكان من خلال ثلاثة أرقام، وأي موقع في الزمكان يمكن أن يمثل في أربعة أرقام. جميعنا يعرف اللعبة التي نصل فيها سلسلة من النقاط بعضها ببعض على صفحة لنكون بها صورة. يتمثل موقع كل نقطة من تلك النقاط (في هذه الحالة) في رقمين، هما إحداثياتها على الصفحة. وإن كانت الورقة من المطاط وممدودة، تصبح الصورة مشوهة، وهنا يمكن أن نصف الصورة المشوهة على أساس الطريقة التي تحركت بها كل نقطة من موضعها الأول. ويمكن استخدام المعادلات التي تقيس العلاقة بين النقاط لوصف هذا التشوه. وبالطريقة نفسها، يمكن استخدام المعادلات التي تربط بين الإحداثيات (النقاط) في الزمكان لوصف التشوهات أو الانحرافات في الزمكان.
غير أينشتاين موقفه وقبل بتطبيق القواعد الهندسية على نظريته على هذا النحو حين أدرك أن ذلك يعد أحد أساليب وضع نظرية عامة أكثر عن النسبية، والتي من شأنها أن تصف الجاذبية وكذلك الزمان والمكان. فالنظرية الخاصة للنسبية تصف ما يحدث للأشياء حين تتحرك بسرعات ثابتة عبر الفضاء. والنظرية العامة تفعل ذلك أيضا، لكنها، إضافة إلى ذلك، تصف ما يحدث للأشياء حين تتسارع، وكيف تؤثر الجاذبية على الأشياء. وتخبرنا المعادلات (التي، لحسن الحظ، لست في حاجة إلى أن أتطرق إليها هنا) بأن التسارع يساوي الجاذبية تماما ويكافئها. ويؤدي هذا، من بين أشياء أخرى، إلى خلق القوة التي تقع على رائد فضاء على متن صاروخ ينطلق من الأرض، والتي عادة ما تقاس على أساس
G ؛ أي قوة الجاذبية على سطح الأرض. فقوة الجاذبية التي يكون قياسها
4G
تعني حرفيا أن وزن رائد الفضاء يعادل أربعة أضعاف وزنه على الأرض. وفي المدار الذي يسقط سقوطا حرا حول الأرض، والذي يعد نوعا من التسارع الذي لا ينتهي أبدا؛ لأن المدار يعد حلقة مغلقة، يكون رائد الفضاء حرفيا منعدم الوزن؛ لأن التسارع في هذه الحالة يلغي عمل الجاذبية الأرضية.
وفي إطار المنظور الهندسي للزمكان، تكون الجاذبية هي نتاج انبعاج أو تجويف في نسيج الزمكان سببه كتلة الأرض (أو أي جسم آخر كبير الحجم؛ فأي جسم مهما كان صغيرا يحدث عمليا انبعاجا في نسيج الزمكان، لكن آثاره تكون أصغر من أن نلاحظها في حياتنا اليومية، مثلي أو مثلك أو مثل كوب القهوة أو تاج محل). ولم يأت أحد حتى الآن بتشبيه أفضل من ذلك التشبيه الخاص بمنصة الترامبولين. إذا كان الترامبولين مشدودا بإحكام، فإنه يكون سطحا مستويا، يشبه «نسيجا زمكانيا مستويا»؛ حيث يسير سلوك كل شيء وفقا للنظرية الخاصة للنسبية. مرر كرة زجاجية عبر سطح الترامبولين وستجد أنها تسير في خط مستقيم. والآن ضع جسما ثقيلا - ككرة بولينج - على الترامبولين. ستجد أنها أحدثت به انبعاجا. جرب أن تدحرج كرة زجاجية بالقرب من الجسم الثقيل، وستجد أنها تنعطف حول الانبعاج قبل أن تمضي في طريقها. يشبه هذا تأثير الكتلة على الزمكان؛ إذ يؤثر على مسارات الأجسام بحيث تبدو وكأنها تنجذب بفعل قوة تشدها تجاه الأجسام الضخمة. لكن من المهم أن نضع في اعتبارنا أن الانبعاج قد تكون في الزمكان وليس في المكان وحده. فالزمن يمر بمعدل مختلف في المنطقة المنبعجة من الزمكان بالقرب من الأجسام الضخمة، مقارنة بمعدل مروره على سطح الزمكان المستوي.
نحن الآن على استعداد لتناول تداعيات كل هذا على السفر في الزمن. أحد الاحتمالات ينبثق من النظرية الخاصة للنسبية، التي لا تنطبق إلا في الزمكان المستوي. وكذلك ينبثق من النظرية العامة للنسبية؛ لأنها تشمل كل ما تشتمل عليه النظرية الخاصة إلى جانب أشياء أخرى. بالنسبة إلى الأجسام التي تتحرك بسرعات ثابتة (الأمر الذي يعني أنها تتحرك بسرعات ثابتة في خطوط مستقيمة) في الزمكان المستوي، فإن المعادلات تخبرنا بالسلوك النسبي للساعات (بمعنى أي جهاز لضبط الوقت) وعصي القياس (بمعنى أي جهاز لقياس المسافة) حين تتحرك الأشياء - كسفن الفضاء مثلا - بعضها نحو بعض. والحركة في مجملها نسبية؛ لأن أي «ملاحظ» (كرائد الفضاء على متن إحدى تلك السفن الفضائية) مخول له أن يقول إنه ثابت (أي «في حالة سكون») وكل شيء حوله يتحرك بالنسبة إليه. فيقال إنها في «إطار مرجعي». وبالمقارنة مع ذلك الملاحظ الثابت، نجد أن الساعات التي تكون على متن سفينة فضائية متحركة تسير ببطء، بينما تتقلص السفينة المتحركة في الاتجاه الذي تتحرك فيه. فالوقت حرفيا يمر ببطء أكثر في السفينة الفضائية المتحركة، وكلما زادت سرعة السفينة (حتى تصل إلى حد السرعة الذي يتحدد بسرعة الضوء)، مر الزمن أبطأ. ولعل أحد الأسباب التي تجعل سرعة الضوء هي الحد الأقصى للسرعة، أن الوقت يقف ساكنا عند تلك السرعة؛ لكن لهذا الأمر أيضا تداعيات مثيرة للاهتمام فيما يتعلق بموضوع السفر عبر الزمن سوف أناقشها في التصور الرابع. ونظرا إلى أن رائد الفضاء في سفينة الفضاء المتحركة مخول له أن يقول إنه في حالة سكون، وإنك أنت من تتحرك، فبالنسبة إليه، ساعتك أنت هي التي تتحرك ببطء. كلتا وجهتي النظر صحيحة، وليس هناك تناقض أو تضارب؛ لأن سفينتي الفضاء كلتيهما لا تتوقفان أبدا عن الحركة بعضهما إلى جوار بعض في الإطار المرجعي نفسه. لكن ثمة أشياء مثيرة للاهتمام تحدث إذا ما حدث واجتمعتا بهذه الطريقة.
إذا ما انطلقت سفينة فضاء في رحلة بجزء لا بأس به من سرعة الضوء، ثم استدارت وعادت أدراجها لمقارنة الوقت من خلال الساعة، فسيجد رواد الفضاء أن الوقت قد مر أبطأ بالفعل وهم على متن السفينة التي انطلقت ثم عادت، وأي راكب على متنها سيكون قد زاد عمره بمعدل أقل من أي رفقاء له ظلوا في منازلهم. ما زال هذا لا يمثل تناقضا؛ لأن الموقف لم يعد متماثلا. نحن نعرف أي سفينة ذهبت وعادت؛ لأنه تحتم عليها أن تستدير. وهذا يقتضي حدوث تسارع، وحساب فارق الزمن على نحو صحيح يتم عن طريق استخدام النظرية العامة للنسبية؛ لكن الأمر صار أسهل لأي شخص يريد أن يقوم بهذه العملية الحسابية؛ إذ تبين أنه حال استخدام معادلات النظرية الخاصة المطبقة على رحلتي الذهاب والإياب، كل على حدة، ووضعنا فرضية غير حقيقية بأن عملية الاستدارة تحدث في الحال، فإنها تقدم الإجابة نفسها. فعند نصف سرعة الضوء، يتباطأ الوقت («يتمدد») بنسبة 13 بالمائة؛ وعند نسبة 99 بالمائة من سرعة الضوء، يتباطأ الوقت بنسبة 86 بالمائة. عند تلك السرعة، لكل سنة تمر على الصديق الماكث في منزله، يمر ما يزيد قليلا على شهر واحد على المسافر على متن السفينة. وفي الرحلة التي تدوم 50 سنة على ساعة المسافر، سيعود ليجد أنه في حين أن عمره قد زاد بمقدار 50 سنة فعلا، إلا أن 350 عاما مرت على الأرض، وأن صديقه قد فارق الحياة منذ وقت طويل. لقد تحرك المسافر في المستقبل 350 عاما فيما لم يمر من عمره إلا 50 عاما. «لا بد لشعرك أن يشيب بفعل هندسة الزمكان الرياضية.»
براين كوكس، «قوى الطبيعة»
استخدم تأثير التمدد الزمني هذا أساسا للكثير من قصص الخيال العلمي، ليقدم بذلك وسيلة للذهاب في رحلة في المستقبل في اتجاه واحد. وقصتي المفضلة بين تلك القصص هي قصة «تاو زيرو» لبول أندرسون، والتي تدفع هذه الفكرة إلى أقصى حدودها المنطقية.
Page inconnue
لكن تمدد الزمن ليس «مجرد خيال علمي». فأكثر النتائج الخاصة بتجارب السفر عبر الزمن أهمية تأتي من دراسات أجريت على جسيمات أولية قصيرة العمر في مسرعات كبيرة للجسيمات، كتلك الموجودة في مختبر سيرن في جنيف أو مختبر المسرع الخطي الوطني بستانفورد (سلاك) بولاية كاليفورنيا، الذي يصل طوله إلى ثلاثة كيلومترات. في تلك التجارب، تصنع الجسيمات من الطاقة الخالصة - توافقا مع معادلة أينشتاين الشهيرة - من خلال تحطيم جسيمات أخرى معا على سرعات عالية للغاية. تكتشف الجسيمات التي تصنع بهذه الطريقة بأدوات تقع على مسافة من موقع تصنيعها. ولبعض هذه الجسيمات الجديدة فترة حياة قصيرة جدا، وتتحلل إلى أشكال أخرى أكثر ثباتا في جزء ضئيل للغاية من الثانية. وفي كثير من الحالات تكون مدة حياة هذه الجسيمات قصيرة جدا لدرجة أن السفر حتى بجزء كبير من سرعة الضوء لا يسمح لها بالوصول إلى أجهزة الكشف، إلا أنها تكتشف رغم ذلك. ويرجع هذا إلى أن الزمن الذي مر عليها أقل من الزمن الذي مر في العالم الخارجي. فهذه الجسيمات تكون قد سافرت، بطريقة ما، مسافة قصيرة في المستقبل. أما بالنسبة إلى جسيم ساكن الإطار بفترة حياة 10 ملايين جزء من الثانية ويسافر بسرعة 12 /13 من سرعة الضوء، فينبغي له أن يكون قادرا على قطع مسافة هي أقل قليلا من 30 مترا قبل أن يتحلل. لكن تأثير التمدد الزمني يسمح له بالسفر مسافة ضعف هذه المسافة بمقدار 2,6، أي ما يزيد قليلا عن 70 مترا.
اختبرت بعض التجارب الأخرى تأثير تمدد الزمن على المسافرين لمسافات بعيدة، وإن كان ذلك على نطاق محدود، ومرة أخرى وجد أن النتائج تطابق توقعات نظرية أينشتاين تماما. في إحدى مجموعات التجارب، صنعت جسيمات متطابقة بالطريقة المعتادة، بتثبيت جزء من مجموعة الجسيمات في مكانها بواسطة حقول مغناطيسية وكهربية، في حين ذهبت البقية في دورة حول مسرع جسيمات وعادت إلى نقطة البداية. وعادت تلك الجسيمات وقد تبقى من عمرها قدر أكبر مقارنة بنظيراتها التي لم تذهب إلى الرحلة.
لكن انتظر. أليس كل هذا نسبيا؟ ما الذي يحدث من منظور الجسيم؟ من ذلك الإطار المرجعي، فإن جهاز الكشف ونظام التجربة (بل كوكب الأرض كله) هما اللذان يتحركان بجزء كبير من سرعة الضوء؛ لذا تقلصت المسافة إلى جهاز الكشف، بالقدر الذي نحتاج إليه بالضبط لشرح كيفية انتقال الجسيمات من أحد طرفي التجربة إلى الآخر قبل أن تتحلل. وبالنسبة إلى الجسيم الذي يسافر بسرعة 12/ 13 من سرعة الضوء، فإن المسافة تقلصت بمعامل قدره 2,6. أي النتيجة نفسها!
يبرز هذا حقيقة أن التشوهات التي تحدث في الزمان والمكان بعضها يوازن بعضا دائما. فالحركة تجعل المكان يتقلص والزمن يتمدد. والسمة الأهم في نسيج الزمكان الرباعي الأبعاد هي عبارة عن مزيج بينهما، وتدعى الامتداد. وامتداد جسم ما يظل كما هو دائما، بغض النظر عن كيفية حركته، فيما يشوه الزمان والمكان على نحو منفصل. هذا أشبه بشكل ما بالطريقة التي يمكن أن تلقي بها عصا بظل متغير على جدار ما بينما تلتف وتتقلب، رغم أن طول العصا يظل كما هو. فتمدد الزمن وتقلص المسافة هما الظلال في زمان ومكان امتداد يتعرض للتدوير والالتفاف في نسيج الزمكان (تذكر ما قاله مينكوفسكي!). وهذا أحد الأشياء التي علينا أن نبقيها نصب أعيننا فيما ننظر بتفصيل أكثر في الأدلة المباشرة على تمدد الزمن.
تأتي هذه الأدلة المباشرة من تجارب تجمع قياسات لتأثير تمدد الزمن الذي ينتج عن الحركة، وتأثير التمدد الثاني الذي ينشأ عن تشوه نسيج الزمكان بالقرب من جسم ضخم، أو بفعل الجاذبية باللغة الدارجة. وينطبق هذا التمدد الزمني الثقالي حتى على الساعات التي تقف ساكنة في حقل جاذبية، وإن كان ينطبق أيضا على الساعات التي تتحرك. بتعبير مبسط، كلما كنت أقرب إلى جسم ضخم كالأرض، مر الزمن أبطأ؛ لذا وباعتبار تساوي العوامل الأخرى، فإن رائد الفضاء في المدار حول الأرض سيتقدم في العمر بمعدل أسرع (بمقدار ضئيل للغاية) من شخص على الأرض. ولكن لسوء الحظ ليس الأمر بهذه البساطة؛ لأن رائد الفضاء يتحرك، وتمدد الزمن الناشئ عن الحركة ينبغي أيضا أن يوضع في الحسبان. وهذا هو ما جعل إجراء اختبارات عملية على تنبؤات نظرية أينشتاين هذه في غاية الصعوبة.
أجرى الاختبار الكلاسيكي لهذه التنبؤات كل من جوزيف هافيلي بجامعة واشنطن بسانت لويس، وريتشارد كيتنج بمرصد البحرية الأمريكية في مطلع سبعينيات القرن العشرين. فقد أرادا أن يأخذا ساعات ذرية شديدة الدقة في رحلة حول العالم على متن طائرة، ثم إعادتها إلى المختبر لمقارنتها مع ساعات ذرية مطابقة لها ظلت في المختبر، وذلك لقياس فارق التوقيت الذي تراكم. كانت العقبة التي واجهتهما - فضلا عن الصعوبات الجلية في التجربة - أنهما لم يتمكنا من الحصول على التمويل الكافي لاستئجار طائرة خاصة، ولم يتمكنا كذلك من استعارة طائرة عسكرية للقيام بالمهمة. لم تثنهما التحديات عن المضي في مسعاهما، فقررا إرسال الساعات على متن رحلات تجارية مجدولة، حيث لم تسمح ميزانيتهما إلا بحجز مقاعد في مقصورة الدرجة الاقتصادية. وبطريقة ما، تمكنا من إقناع شركات الطيران بالسماح لهما باصطحاب الساعات معهما، وربطاها إلى الجدار في مقدمة المقصورة. وكإجراء احترازي في حال وقوع تأثيرات غير متوقعة، اضطرا إلى القيام بهذه الرحلة مرتين: الأولى حول العالم من الشرق إلى الغرب والثانية من الغرب إلى الشرق؛ لأن سرعة الطائرة على الأرض وبالنسبة إلى الساعات التي ظلت في المختبر في كلتا الحالتين كانت مختلفة، وذلك بسبب دوران الأرض تحت الطائرة. بدأت الرحلة نحو الشرق (والتي كانت في واقع الأمر سلسلة من الرحلات تخللها توقفات حتمية) في الرابع من شهر أكتوبر لعام 1971 وانتهت في السابع من الشهر نفسه، فيما امتدت الرحلة نحو الغرب من الثالث عشر إلى السابع عشر من الشهر نفسه. في الرحلة المتجهة غربا، اكتسبت الساعات التي كانت على متن الطائرة 273 مليار جزء من الثانية، مقارنة بتنبؤ ببلوغ مجموع تأثيري حالتي تمدد الزمن إلى 275 مليار جزء من الثانية. كانت نتائج الرحلة المتجهة غربا أقل دقة، لكن في المجمل قدمت تجربة هافيلي-كيتنج أدلة قوية على أن كلا تأثري التمدد الزمني حقيقي. أما الدليل الحاسم فقد ظهر بعد ذلك بخمس سنوات.
في يونيو من عام 1976، أجريت تجربة تدعى مسبار الجاذبية أ نفذها كل من مرصد سميثسونيان للفيزياء الفلكية ووكالة ناسا، حيث أطلق المسبار إلى ارتفاع عشرة آلاف كيلومتر في مهمة صعود وهبوط بسيطة دامت ساعة و55 دقيقة، ليسقط بعدها في المحيط الأطلنطي. حمل المسبار ساعة ذرية ترصد «دقاتها» من خلال وصلة أرضية أثناء الرحلة وتقارن بدقات ساعة مماثلة لها على الأرض. وبعد أخذ طريقة تغير حمولة الطائرة بفعل السرعة والارتفاع أثناء سير التجربة في الاعتبار، تطابق الفارق الزمني المسجل بين الساعتين مع تنبؤات نظرية أينشتاين بدقة تصل إلى 70 جزءا من المليون ، أو سبعة آلاف جزء من 1 بالمائة.
وقد انتقل هذا الأمر الآن من عالم التجارب العلمية إلى الحياة اليومية. فالأقمار الصناعية لأنظمة التموضع العالمي (
GPS ) التي تنتج الإشارات المستخدمة في أنظمة الملاحة بالأقمار الصناعية (ساتناف) والهواتف الذكية لتخبرنا بموقعنا بالتحديد على سطح الأرض تدور في مدار أعلى بقليل من الارتفاع الذي وصل إليه مسبار الجاذبية أ. وتدور هذه الأقمار أيضا بسرعة بالنسبة إلى سطح الأرض. ولو لم يراع تأثيرا تمدد الزمن، فسينشأ فارق بين وقت تلك الأقمار ووقتنا، يصل إلى نحو 38 ميكروثانية في اليوم، الأمر الذي سينتج عنه أخطاء في قياسات تحديد الموقع بزيادة تصل إلى 10 كيلومترات كل يوم. لذا فإن أنظمة تحديد المواقع تقوم فعلا بعمل تصحيحات لهذه التأثيرات. فحين تسأل هاتفك الذكي عن موقعك وتأتي الإجابة في حدود أمتار قليلة، فإنه بذلك يستخدم النظرية العامة للنسبية ويراعي كلا تأثيري تمدد الزمن ليعطيك الإجابة. إن نسيج الزمكان مرن حقا. وتمدد الزمن حقيقي. والمعدل الذي ننتقل به من الماضي إلى المستقبل يعتمد على شكل الزمكان في محيطنا. لكن كيف لنا أن نعرف الفارق بين الماضي والمستقبل؟ لماذا يتحرك الوقت في اتجاه واحد فقط؟
التصور الثاني: سهم الزمان يشير، لكنه لا يتحرك
Page inconnue
«إذا وجد أن نظريتك تتعارض مع القانون الثاني للديناميكا الحرارية فلا تنتظرن مني أملا؛ فليس لنظريتك مصير سوى السقوط في غياهب المهانة.»
آرثر إدينجتون
إن الفارق بين الماضي والمستقبل لهو واحد من أكبر الألغاز في العلم. فعلى أبسط المستويات - أي على مستوى الذرات والجزيئات - ليس ثمة فارق بينهما. فحين يتحد جسيمان ويتفاعلان معا بطريقة ما لينتجا جسيمين مختلفين تماما - ينفصلان بدورهما بعد ذلك - فإن قوانين الفيزياء تسمح لكل تفاعل تقريبا من هذه التفاعلات أن تجري بالعكس بالدقة ذاتها. فالجسيمان «النهائيان» يعودان بعضهما إلى بعض ويتفاعلان من أجل إنتاج الجسيمين «الأصليين». لتطبيق هذا على نطاق أكبر، تخيل كرتي بلياردو تتحركان عبر الطاولة وتتصادمان ثم ترتدان بعيدا إحداهما عن الأخرى في اتجاهين مختلفين. لو جرى هذا التصادم بالعكس، فسيظل خاضعا لقوانين الفيزياء. ولا توجد طريقة للتمييز بين الماضي والمستقبل من خلال النظر فقط إلى الطريقة التي يتحرك بها كل زوج من الجزيئات.
لكن حين ينطوي الأمر على المزيد من الجسيمات، يصبح الفارق بين الماضي والمستقبل واضحا. فالأشياء تبلى؛ والناس يتقدمون في العمر. تخيل كأس نبيذ تقف متوازنة على حافة طاولة ثم تسقط على الأرض وتتهشم. بمقارنة صورة للكأس على الطاولة وصورة أخرى لأجزائها المهشمة على الأرض، ستعرف أي الصورتين التقطت أولا حتى ولو لم تر الحادث؛ لأننا لا نرى أبدا زجاجا مهشما يعيد تجميع نفسه. لكن طبقا لقوانين الفيزياء المعروفة، فإن كل تفاعل يتضمن ذرات كأس النبيذ وهو يتهشم هو تفاعل قابل للعكس. فلماذا يكون هناك سهم للوقت يشير من الماضي إلى المستقبل في حين أننا نتعاطى مع أنظمة معقدة تنطوي على الكثير من الجزيئات؟
إن هذا الفارق هو أساس علم الديناميكا الحرارية، الذي يعنى بالطريقة التي تتغير بها الأشياء بينما ننتقل من الماضي إلى المستقبل. والسمة الأساسية للديناميكا الحرارية هي أن مقدار الاضطراب في الكون في تزايد دائم؛ فالأشياء تبلى، والغرف لا ترتب نفسها، والزجاج المحطم لا يعيد تجميع نفسه، وهكذا. يقاس مقدار الخلل أو الاضطراب فيما يطلق عليه الفيزيائيون «نظاما» (والذي قد يكون كأس نبيذ قابعة على طاولة، أو غرفة نومك، أو حتى الكون بأكمله) يقاس بكم يقال له القصور الحراري أو الإنتروبيا. وينص أبسط قوانين الفيزياء على أن معدل الإنتروبيا في نظام مغلق يكون في حالة زيادة دائمة (وهو القانون الثاني للديناميكا الحرارية).
النظام المغلق هو نظام معزول عن بقية الكون وقائم بذاته تماما (كغرفة مراهق، حيث تتزايد الفوضى وعدم النظام دائما ما لم يكن هناك تدخل خارجي). يمكنك تجنب هذا القانون فيما يعرف بالنظام المفتوح، الذي يمتص الطاقة من الخارج. يبدو أن الحياة على الأرض تنتهك القانون الثاني. فالأشياء الحية تنمو ويمكن للناس أن يفعلوا أشياء من قبيل تحويل كومة من الطوب إلى هيكل أكثر ترتيبا بكثير، كمنزل مثلا. وحين نبني منزلا (أو أي شيء آخر) يبدو الأمر وكأننا ننتهك القانون الثاني. لكن صفة النظام في الشيء الذي نصنعه دائما ما تعوض إلى حد كبير بالفوضى في مكان آخر؛ كما يحدث في تعدين المواد اللازمة لصناعة الطوب، وتوليد الطاقة اللازمة لإشعال الأفران التي يصنع فيها الطوب، وما إلى ذلك. إن مرور الزمن يظهر في الطبيعة في هيئة تحلل أو اضمحلال. فأنت لا ترى سيارة صدئة تتحول ببطء لتصبح لامعة وخالية من الصدأ؛ ولا ترى كومة الطوب القديم تجمع نفسها بنفسها لتصبح منزلا من دون تدخل بشري. أما العمليات المضادة (كصدأ السيارة، أو سقوط مبنى) فهي عمليات شائعة. ويبدو أن الزمن جزء لا يتجزأ من الطبيعة.
آرثر إدينجتون
هولتون دويتش/جيتي
يعتمد النقصان المحلي في الإنتروبيا على الأرض - وهو شكل من أشكال انعكاس مجرى الزمن - على إمداد من الطاقة يأتي من الخارج، ومن الشمس بصفة أساسية.
1
Page inconnue
هناك بالفعل نقص في الإنتروبيا (أي زيادة في صفة النظام) يحدث على الأرض، لكنه أقل بكثير من الزيادة في الإنتروبيا المرتبطة بالتفاعلات التي تجري داخل الشمس لتحافظ على سخونتها وطريقة إطلاقها للحرارة في الفضاء. وبمرور الوقت يتزايد معدل الإنتروبيا «للنظام» بأكمله، أي الشمس+ الأرض، وعلى أكبر المقاييس الممكنة تزيد إنتروبيا الكون بأكمله بمرور الوقت. بلغة الفيزيائيين، وبالنظر إلى الكون ككتلة واحدة، فإن حالات الكون ذات الإنتروبيا الأعلى تتفق مع المستقبل مقارنة مع حالاته ذات الإنتروبيا الأقل. هذا هو ما يقدم لنا سهما للزمن، ليشير من الماضي إلى المستقبل.
وهذا السهم الزمني نفسه مدمج في بنية الكون بطريقة أخرى. هناك وفرة من الأدلة على أن الكون قد بدأ في حالة ساخنة وكثيفة (الانفجار العظيم) قبل نحو 14 مليار سنة مضت، ومنذ ذلك الحين وهو في حالة تمدد مستمر، مع تباعد المجرات (أو بالأحرى عناقيد المجرات) بعضها عن بعض. والأوقات التي تتباعد فيها المجرات بعضها عن بعض تسير في اتجاه المستقبل، مقارنة مع الأوقات التي تتقارب فيها معا. والانفجار العظيم نفسه يعبر عن سهم الزمن المطلق؛ فمتى وأينما كنت في الفضاء، فإن الانفجار العظيم دائما ما يكون في الماضي. والإنتروبيا في ازدياد مستمر منذ وقوع الانفجار العظيم. فبطريقة ما، انبثق الكون من الانفجار العظيم بمعدل متدن من الإنتروبيا يكفي ليسمح بتكون النجوم والكواكب والبشر؛ وهو في حالة نفاد منذ ذلك الحين.
يرتبط ذلك بصيغة أخرى للتعبير عن القانون الثاني. تنص هذه الصيغة على أن الحرارة لا يمكن أن تتدفق من جسم بارد إلى جسم أكثر سخونة. وقد صاغه لورد كلفن - وهو من رواد الديناميكا الحرارية في القرن التاسع عشر - بلغة أكثر تقنية؛ إذ قال: «من المستحيل الحصول على تأثير ميكانيكي من أي جزء من المادة، بواسطة قوة مادية غير حية، من خلال تبريدها إلى ما دون درجة حرارة أبرد الأجسام المحيطة بها». كان هذا ضربا مهما من العلم العملي خلال القرن التاسع عشر، حين توصل كلفن إلى قوانين الديناميكا الحرارية بما فيها القانون الثاني. وقد كان اهتمام كلفن بالديناميكا الحرارية يعزو إلى أسباب مادية؛ فهي تخبرنا كم يمكننا الاستفادة من الطاقة للقيام بالشغل. وكان كلفن أيضا رائدا من رواد الهندسة الكهربائية؛ إذ تولى مهمة مد أول كابل تلغراف ناجح عابر للأطلسي، وجنى ثروة طائلة من وراء ذلك.
نحن نشاهد تطبيقا عمليا للقانون الثاني في كل مرة نضع فيها مكعبا من الثلج في مشروب. فنجد مكعب الثلج يذوب مع اكتسابه الحرارة بفعل سخونة السائل. ولا نرى مكعب الثلج يزداد حجما مع تدفق الحرارة منه إلى السائل الدافئ. إن مقدار الطاقة يظل كما هو في الكوب بعد ذوبان الثلج، إلا أنها توزعت على نحو أكثر توازنا. وبطريقة مماثلة، كان الكون في حالة تبريد منذ وقوع الانفجار العظيم، وثمة تدفق أحادي الاتجاه للطاقة من النجوم الساطعة إلى الكون البارد. في نهاية المطاف، حين تتخلى كل النجوم في الكون عن حرارتها، سيكون كل شيء في الكون بأكمله بدرجة الحرارة نفسها. لن تتدفق أي طاقة ولن يتغير أي شيء. أي سيكون الكون قد عانى «موتا حراريا». «لم ينجح أحد بعد في اشتقاق القانون الثاني من أي قانون آخر للطبيعة. إنه قانون قائم بذاته . إنه القانون الوحيد في حياتنا اليومية الذي يعطي الوقت اتجاها، والذي يخبرنا بأن الكون يتجه نحو التوازن، والذي يعطينا أيضا معيارا لتلك الحالة، تحديدا نقطة الإنتروبيا القصوى، أو نقطة الاحتمالية القصوى».
براين إل سيلفر، كتاب «صعود العلم»
يقدم لنا هذا طريقة أخرى للنظر إلى سهم الزمن. إن كمية الطاقة في نظام مغلق (أو في الكون بأكمله) لا يمكن أن تتغير. هذا هو القانون الأول للديناميكا الحرارية. حتى حين تتحول الكتلة إلى طاقة بما يتماشى مع معادلة أينشتاين ، فإن الكتلة تعد هنا شكلا من أشكال الطاقة المختزنة، ومن ثم لم تستحدث طاقة «جديدة». ما يخبرنا به القانون الثاني إذن هو أن كمية الطاقة «النافعة» تتناقص في أي تفاعل يجري في نظام مغلق.
والطاقة النافعة هي الطاقة التي يمكن استخدامها في إحداث الأشياء. على سبيل المثال، حين تسقط الكأس من فوق الطاولة، يمكن أن نصلها عموما بسير بكرة يقوم بتشغيل مولد ويحول طاقة الجاذبية المرتبطة بالكأس التي سقطت إلى طاقة كهربائية. لكن حين تسقط الكأس سقوطا حرا، تتحول هذه الطاقة الثقالية المحتمل أن تكون نافعة إلى طاقة حركة (أو طاقة حركية). وحين ترتطم الكأس بالأرض وتتهشم، تتحول الطاقة الحركية إلى حرارة وتتبدد؛ إذ ترتج ذرات الكأس والأرض وجزيئاتهما وتهتز بسرعة أكبر. وفي نهاية المطاف تتحول هذه الطاقة الحرارية إلى أشعة تحت الحمراء وتتسرب إلى الفضاء. ولا يمكن أبدا أن نجعلها تعمل عملا مفيدا. فلا يحدث مطلقا أننا نرى الإشعاع قادما من الفضاء ليجعل ذرات وجزيئات كل من الأرض وقطع الزجاج المكسور تتحرك بالشكل الصحيح بحيث تلتصق قطع الكأس الزجاجية المهشمة معا مرة أخرى وتقفز الكأس إلى الطاولة. وهذا تجسيد آخر لسهم الزمن.
ترتبط الإنتروبيا أيضا بكمية المعلومات في نظام ما. فزيادة الإنتروبيا هي نفسها نقصان في المعلومات. على سبيل المثال، في أحجية الصور المقطوعة التي تحتوي على صورة لوجه إنسان، يوجد الكثير من المعلومات في تلك الصورة. فإذا كانت الأحجية غير محكمة واهتزت، فإن أجزاء الصورة تبدأ في التباعد بعضها عن بعض . يظل بإمكاننا أن ندرك أن الصورة لوجه إنسان، لكن تزداد صعوبة تحديد هوية صاحب هذا الوجه. فنحن هنا نفقد المعلومات. والإنتروبيا تزداد. والوقت يمر.
وفي النهاية تصبح الصورة في حالة تامة من الفوضى والاختلاط. ففي هذه الحالة يصبح معدل الإنتروبيا أكبر ما يمكن (على مستوى النظام)، ولا توجد ثمة معلومات متبقية. كما أن الوقت يكون قد توقف بالنسبة إلى الصورة. وقياسا على ذلك، حين تكون كل النجوم قد تخلت عن حرارتها بالكامل وتكون درجة حرارة الكون هي نفسها في كل مكان، سيكون الكون في حالة إنتروبيا قصوى، وذلك في نهاية الزمن.
يمكن إعادة تركيب قطع الأحجية، وذلك بإعادة إدخال المعلومات (وإخراج الإنتروبيا) قطعة بقطعة. لكن النظام الذي تصنعه دائما ما يكون أقل من الفوضى التي تصنعها في مكان آخر فقط بكونك حيا. إن الطاقة التي تبقيك حيا تأتي من الطعام، الذي يأتي في النهاية من ضوء الشمس. وليس بوسع الناس سوى حل أحاجي الصور المقطوعة، وأشياء أخرى؛ لأن الشمس آخذة في التآكل والتلاشي.
Page inconnue
ورغم أن سقوط الكأس من فوق الطاولة وتهشمها لا يؤدي إلى فقدان أي طاقة، وإنما يعيد ترتيبها وتنظيمها فقط، وحتى إذا كنت تملك سير بكرة ذا قدرات بارعة يتصل بمولد وبطارية، فلن يكون بوسعك استخدام الطاقة التي تتولد من سقوط الكأس لتشغيل محرك لرفع الكأس مرة أخرى إلى الطاولة؛ نظرا إلى عدم وجود عملية كاملة أو مثالية لتحويل الطاقة. سيهدر بعض الطاقة في الاحتكاك ويتحول إلى حرارة، تتسرب في صورة أشعة تحت الحمراء، تماما كما يحدث للطاقة الحركية إذا ما ارتطمت الكأس بالأرض وتهشمت. ولهذا السبب من المستحيل بناء آلة دائمة الحركة.
لا نزال هنا أمام لغز، وهو أن الكأس حين تسقط وتتهشم، فإن كل تفاعل يتضمن زوجا من الذرات أو الجسيمات هو تفاعل قابل للعكس عموما. فلماذا لا تحدث عملية العكس هذه في الواقع العملي؟ يذهب أحد الاقتراحات التي طرحت في ذلك الشأن إلى أن هذا ليس مستحيلا في المطلق، وأن حدوثه مستبعد للغاية لا أكثر .
ولعل أفضل طريقة لفهم هذا الأمر هي تخيل نظام أبسط، يتمثل في صندوق مقسم إلى نصفين بواسطة حاجز، في أحد النصفين غاز وفي النصف الآخر فراغ. إذا أزلت الحاجز، فسينتشر الغاز ليملأ الصندوق بأكمله (وسيبرد بعض الشيء في أثناء ذلك). والآن اجلس وراقب الصندوق. مهما طال انتظارك، فلن يكون لك أن تتوقع أن ترى الغاز كله يتحرك عائدا إلى أحد نصفي الصندوق، تاركا فراغا في النصف الآخر. لكن كل تصادم بين جسيمين بداخل الصندوق يمكن عكسه من حيث المبدأ! فإذا استطعت بطريقة سحرية أن تعكس حركة كل جسيم، فسيعود الغاز حتما إلى حيث أتى، وستنطبق قوانين الفيزياء كالمعتاد في أثناء ذلك.
وقد أثبت عالم الفيزياء الفرنسي هنري بوانكاريه أن المشكلة تكمن في أن «الفترة الطويلة بما يكفي» هي فترة طويلة للغاية بالفعل. إن ذرات الغاز المحصور في الصندوق وجسيماته ينبغي في النهاية أن تمر بكل نظام ممكن. وفيما تتحرك تلك الجسيمات والذرات عشوائيا في الأرجاء، فإنها عاجلا أو آجلا ستتخذ أي ترتيب مسموح به، بما في ذلك أن يكون الغاز كله في أحد نصفي الصندوق. وإذا ما انتظرنا طويلا بما يكفي، فسيعود النظام إلى حيث بدأ. وبذلك سيبدو الزمن وكأنه مر بالعكس. «مثلما تبنى البيوت من الأحجار، يبنى العلم من الحقائق.»
هنري بوانكاريه
لكن لا تحبس أنفاسك في انتظار حدوث ذلك. إن الوقت اللازم لمرور جميع الجسيمات بكل نظم الترتيب الممكنة يسمى بدورة بوانكاريه الزمنية، وهو يعتمد على عدد الجسيمات في الصندوق. قد يحتوي صندوق صغير من الغاز على عدد ذرات يقدر ب 10
22 ، ومن ثم سيتطلب الأمر وقتا أطول بكثير من عمر الكون لكي تمر هذه الجسيمات بكل ترتيب ممكن. ودورات بوانكاريه الزمنية للأنظمة الحقيقية تشتمل على عدد أصفار في الأرقام أكثر من عدد النجوم في الكون المعروف. وفيما يلي الاحتمالات القائمة في مواجهة أي نمط بعينه يظهر أثناء مراقبة صندوق الغاز. يمكنك أن ترى كيف تتزايد الأرقام من خلال البدء بذرة واحدة تتحرك عشوائيا في أرجاء الصندوق. ثمة احتمالية نسبتها 50 : 50 (أي 1 إلى 2) أن تلك الذرة ستكون في أحد نصفي الصندوق في أي لحظة. وإن كان ثمة ذرتان، فهناك احتمالية بنسبة 1 إلى 4 أن كلتا الذرتين ستكون في النصف ذاته من الصندوق في الوقت عينه. وفي حالة وجود ثلاث ذرات، تكون الاحتمالات 1 إلى 8، وهكذا دواليك. وفي حالة وجود مليون ذرة، تكون الاحتمالات 1 إلى (2 مرفوعة إلى أس 1000000). ويظل عدد مليون ذرة عددا ضئيلا مقارنة بعدد الجسيمات الموجودة في صندوق حقيقي مليء بالغاز.
هذه هي «الإجابة» القياسية للغز قابلية العالم للسير بالعكس على المستوى المجهري وليس على مستوى العين المجردة، وسبب وجود سهم للزمن. إن قانون زيادة الإنتروبيا هو قانون إحصائي ونقص الإنتروبيا (جريان الزمن بالعكس حتى ولو على نطاق محدود) ليس محظورا لكنه فقط مستبعد على نحو استثنائي.
انطلق عالم الفيزياء النمساوي لودفيج بولتزمان من هذه الفكرة مقترحا أن الكون بأكمله قد يكون شطحة إحصائية. فقد أشار إلى أنه في كون لا نهائي حيث وقعت حالة الموت الحراري وأصبح كل شيء منتظما ومتعادلا، سيتصادف من حين لآخر (أيا كان ما يعنيه هذا في مثل هذا الموقف) أن كل الذرات في أحد أجزاء الكون ستتحرك بالطريقة الصحيحة تماما لخلق النجوم، أو المجرات، أو حدوث انفجار عظيم. وفي الواقع، سيسير الزمن بالعكس في ذلك الجزء من الكون، ما يخلق فقاعة من نظام منخفض الإنتروبيا. بعد ذلك تتفكك فقاعة الإنتروبيا المنخفضة فيما تعود إلى حالة أكثر ترجيحا. «الطاقة المتاحة هي أول شيء على المحك في كفاحنا من أجل البقاء وتطور العالم.»
لودفيج بولتزمان
Page inconnue
لا يأخذ معظم علماء الكونيات هذه الفكرة على محمل الجد اليوم. لكن أحدهم، وهو بول ديفيز، طورها ليقدم رؤية مثيرة عن طبيعة الزمن. في عالم اليوم، يشير سهم الزمن دائما إلى اتجاه تزايد الإنتروبيا؛ فلم قد تكون هذه الفكرة مختلفة بأي شكل في فقاعة بولتزمان؟ فيما تتنامى الفقاعة وتتناقص الإنتروبيا بالمقارنة بما عليه الحال في الكون في الخارج، قد يظل كيان ذكي في الفقاعة يختبر سهما زمنيا يشير إلى حالة من الإنتروبيا المرتفعة؛ أي حالة الموت الحراري. وحتى لو كان الكون ينهار «فعلا» بدلا من أن يكون في حالة تمدد؛ أي يتحرك في اتجاه حالة من الحرارة والكثافة عوضا عن التحرك بعيدا عنها، قد لا نزال نرى المستقبل باعتباره الزمن الذي تكون فيه المجرات متباعدة بعضها عن بعض.
هذا أكثر من مجرد كونه جدلا فلسفيا عقيما؛ لأن بعض الأشكال المختلفة لنموذج الانفجار العظيم تشير إلى أن تمدد الكون سيتوقف ذات يوم، ثم يسير بعدها في الاتجاه المعاكس. فهل سيسير الزمن نفسه بالعكس إذا ما حدث هذا أو حين يحدث؟ أم إن ذلك حدث بالفعل؟ ربما نعيش بالفعل في كون آخذ في التقلص والانكماش - حيث يسير الزمن بالعكس - ولم نلحظ ذلك! أو ربما أن الزمن يسير بالعكس فعلا بالمعنى الدارج للكلمة في حين ينهار الكون. ورغم أن فيليب كيه ديك لا يقدم أي تبرير علمي وفقا لهذا النسق، فإنه يقدم في روايته «عالم عكس عقارب الساعة» رؤية غريبة عن عالم يسير فيه الزمن بالعكس، حيث تبعث الجثث من قبورها، والطعام سليم لم يؤكل وأشياء أخرى أسوأ لسنا في حاجة لذكرها هنا فيما يسير الزمن بالعكس.
لكن هل الزمن «يسير» أصلا؟ من المهم، كما أشرت، التفريق بين سهم يشير إلى المستقبل وآخر يتحرك نحو المستقبل. والقياس الصحيح في هذا الإطار هو إبرة البوصلة، التي تشير إلى الشمال في الجزء الذي أعيش فيه من العالم، لكن لا يتحتم عليها أبدا أن تتحرك نحو الشمال (أو أي اتجاه آخر). لو كان لدينا فيلم للكأس التي تسقط عن الطاولة بدلا من مجرد صورتين «قبل وبعد» عملية السقوط، وإذا ما قصت الأطر الفردية للفيلم وخلطت معا، لظل بإمكاننا فرزها وترتيبها بالشكل الصحيح. وليس بالضرورة أن يجري تشغيل الفيلم عبر جهاز عرض لكي يتضح لنا الفارق بين الماضي والمستقبل.
يذهب بعض العلماء (والفلاسفة) إلى أن انطباعنا عن مرور الزمن قد لا يكون أكثر من مجرد وهم. قد يكون الأمر كما لو أن عقولنا تفحص أحداث تاريخنا الشخصي، كما يحدث حين يتم تشغيل الفيلم عبر جهاز عرض ويعرض على شاشة. قد يكون الواقع الأساسي الكامن وراء تلك الأحداث لا يزال موجودا - في كل من الماضي والمستقبل كليهما - كالأطر المنفصلة لشريط الفيلم، رغم أن انتباهنا مجبر على تتبع القصة بالتسلسل، بالانتقال من إطار إلى آخر في الفيلم في المرة الواحدة. وسواء أكانت هذه الأفكار - التي أتناولها بالنقاش في التصور السابع - حقيقية أم لا (وهي مسألة خلافية للغاية)، يظل صحيحا أن ثمة اختلافا بين الماضي والمستقبل، يمكن تمثيله بسهم يشير من الماضي إلى اتجاه المستقبل. ومن ثم لا يزال من المنطقي التحدث عن السفر إلى الماضي أو المستقبل. لكن السؤال هو، كيف نفعل ذلك؟
هوامش
التصور الثالث: أسرع من الضوء تعني العودة بالزمن
«أي شيء ليس محظورا هو شيء إلزامي.»
موراي جيل-مان
شجعت فكرة الزمن، باعتباره البعد الرابع، العديد من العلماء والكثير من كتاب الأدب على التخمين بشأن احتمالية «تدوير» محاور الزمكان بطريقة ما بحيث يصبح أحد أبعاد المكان بعدا للزمن ويصبح الزمن بعدا للمكان. الأمر يشبه بعض الشبه قلب طائرة رأسا على عقب بحيث تصبح «مقدمتها» «ذيلها» ويصبح «ذيلها» «مقدمتها». حينها، كل ما عليك فعله هو السفر عبر بعد الزمن بقدر ما تشاء، قبل أن تعيد الأشياء إلى نصابها الصحيح وتجد نفسك في الماضي أو في المستقبل. لكن ثمة مشكلة كبيرة في استبدال الزمان بالمكان بهذه الطريقة، حتى ولو كنت تملك آلة يمكنها أن تحقق هذا الغرض. فلسوء الحظ، لا تقف أبعاد الزمان والمكان على قدم المساواة في نسيج الزمكان الرباعي الأبعاد.
تكمن المشكلة في الطريقة التي تدخل بها سرعة الضوء إلى الحسابات. تحملني قليلا فيما أقدم لك بضع معادلات بسيطة، أو يمكنك أن تتخطى ذلك وتنتقل إلى الخلاصة إن كنت تخشى المعادلات.
Page inconnue
في الفضاء الثلاثي الأبعاد، يمكن تحديد المسافة (أو المسافات) بين أي نقطتين باستخدام النسخة الثلاثية الأبعاد من مبرهنة فيثاغورس الشهيرة التي تنص على أن:
تعتبر « ، و
و » هي الفروق ومن ثم ( ) في المسافة بين النقاط في الاتجاهات
و
و ، وينطبق التربيع على المسافات كلها وهكذا، وليس فقط على الجزء بداخل الأقواس. الأمر بسيط حتى هذا الحد. لكن في نسيج الزمكان الرباعي الأبعاد، الطريقة المكافئة لذلك لقياس «المسافات» بين الأحداث هي:
حيث
هي سرعة الضوء و
هي الزمن. المسافة (بالكيلومترات) ببساطة هي حاصل ضرب السرعة (كيلومتر/ثانية على سبيل المثال) في الزمن (بالثانية)، الأمر الذي يجعل كل شيء في توازن.
الخلاصة: كل ما تحتاج إلى فهمه من هذا هو أن المسافة المكافئة لأي فترة زمنية هي تلك الفترة الزمنية «مضروبة في سرعة الضوء». وسرعة الضوء (بأرقام تقريبية) تساوي 300000 كيلو متر/ثانية. إذا كان بإمكانك تدوير المتسلسلة الزمكانية الرباعية الأبعاد والسير عبر اتجاه الزمن نحو الماضي، فسيكون عليك السير مسافة 300 ألف كيلومتر من أجل العودة بالزمن ثانية واحدة. قد لا يؤدي هذا إلى الاستبعاد التام لاحتمالية حدوث شيء كهذا - كما أناقش في تصوري الخامس - لكنه يشير بالفعل إلى أن هذا النوع من السفر عبر الزمن ليس بالسهولة التي يتخيلها كتاب القصص. لكننا لم نفقد كل أمل لنا في ذلك. فالمشكلة تشير بالفعل إلى حل آخر للغز السفر عبر الزمن. إن كان بإمكانك السفر أسرع من الضوء، فلن يتطلب الأمر وقتا طويلا كي تعود إلى الدرب متجها نحو الماضي. لكن السرعات الأعلى من سرعة الضوء محظورة طبقا لنظرية النسبية، أليس كذلك؟ ليست محظورة تماما، وهذا يفتح أمامنا المجال، إن لم يكن للسفر جسديا عبر الزمن، فللتواصل مع المستقبل (أو منه).
كان المفتاح الذي فتح الباب أمام ألبرت أينشتاين للتوصل إلى نظرية النسبية الخاصة هو اكتشاف جيمس كلارك ماكسويل للمعادلات التي تشرح سلوك الإشعاع الكهرومغناطيسي، بما في ذلك الضوء. تشتمل تلك المعادلات على ثابت، وهو ما لم يتوقعه ماكسويل، بل ظهر فجأة دون سعي لإيجاده، وسرعان ما أدرك ماكسويل أن ذلك الثابت يمثل سرعة الضوء. غير أن هذا قد أثار مشكلة محيرة للفيزيائيين في نهاية القرن التاسع عشر. فقد نصت المعادلات على أن هذه السرعة - التي غالبا ما يرمز إليها الآن بالرمز - ينبغي أن تكون هي نفسها بالنسبة إلى الجميع، بغض النظر عن حركتهم. فإن كنت تقود سيارة باتجاهي بسرعة 100 كيلومتر في الساعة، فإن الضوء الصادر من المصابيح الأمامية لسيارتك يسافر بسرعة
Page inconnue
بالنسبة إلى سيارتك؛ لكن لو قست أنا سرعة الضوء بينما يمر بي، فسأحصل أيضا على الإجابة نفسها وهي ، وليس
كيلومتر/ساعة. وهذا يتعارض تماما مع قوانين نيوت للحركة التي كانت مسيطرة آنذاك لأكثر من مائتي عام. لا يمكن أن يكون نيوتن وماكسويل محقين كليهما. فقد كان من عبقرية أينشتاين أنه أدرك أن قوانين نيوتن في حاجة إلى تعديل، وليست معادلات ماكسويل، والبقية معروفة.
لكن ثمة شيئا آخر غريبا بشأن معادلات ماكسويل. هناك مجموعتان صحيحتان بالقدر نفسه من الحلول للمعادلات التي تصف الموجات الكهرومغناطيسية. يصف أحد هذه الحلول موجة كهرومغناطيسية تتحرك خارجة من مصدرها متجهة إلى المستقبل في طريقها عبر الكون. قد تكون هذه الموجة شعاع ضوء صادرا من مشعل كهربائي، أو بثا إذاعيا، أو أي نوع آخر من الموجات الكهرومغناطيسية. وهذه الموجة يطلق عليها موجة «متأخرة». لكن ثمة حلا صحيحا بالقدر نفسه للمعادلات التي تصف موجة آتية من المستقبل عائدة في الزمن وتتركز على مشعلك الكهربائي، أو جهاز إرسال لموجات الراديو، أو أيا يكن. ويطلق على هذه الموجة اسم الموجة «المتقدمة». «يمكن للإنسان أن يصعد في السماء ضد الجاذبية في منطاد، فلم ينبغي له ألا يتطلع إلى قدرته في النهاية على إيقاف حركته عبر بعد الزمن أو تسريعها، أو حتى الالتفاف والسفر في الاتجاه المعاكس.»
إتش جي ويلز
ثمة طريقة لشرح كل هذا، وذلك في إطار ما يطلق عليه الفيزيائيون «المخروط الضوئي». في نسيج الزمكان الرباعي الأبعاد، يقال لكل شيء في المستقبل يمكن أن يتأثر بما نفعله في المكان والزمان الحاليين بأنه في المخروط الضوئي المستقبلي. وكل شيء في الماضي ربما يكون قد أثر على ما يحدث في المكان والزمان الآنيين كامن في المخروط الضوئي الماضي. خارج هاتين المنطقتين، يوجد الزمكان الذي لا يمكن أن يؤثر علينا في الزمان والمكان الحاليين ولا يمكن أن يتأثر بأي شيء نفعله نحن فيهما. وهذا ما يطلق عليه «زمان آخر». في ضوء هذا المصطلح، تخبرنا معادلات ماكسويل أن بإمكاننا استقبال إشارات في الزمان والمكان الحاليين من المخروط الضوئي المستقبلي وأيضا من المخروط الضوئي الماضي «على حد سواء». ولا يزال الجدل قائما بين علماء الفيزياء بشأن أهمية هذا التناظر الزمني في معادلات ماكسويل، وأدى هذا الجدل إلى بعض الأفكار المثيرة للاهتمام في نظرية الكم.
1
عند مستوى أساسي ما، تسمح المعادلات التي تستند إليها الآليات الأساسية لعمل الكون بالرجوع في السفر عبر الزمن، أو على الأقل الرجوع في التواصل الزمني. لكن الوصول إلى نقطة الزمان الآخر يتطلب إما آلة زمن أو السفر أسرع من الضوء، أو بما يتخطى حاجز سرعة الضوء.
هذا الحاجز موجود؛ نظرا إلى عدم إمكانية تسريع حركة شيء يتحرك أبطأ من الضوء بحيث يصل إلى سرعة الضوء بالضبط. وهناك عدة زوايا للنظر إلى هذا الحاجز، كلها قائمة على معادلات نظرية النسبية، وكلها مؤكدة بتجارب استخدمت فيها جسيمات سريعة الحركة، كتلك التي تحدثت عنها في تصوري الأول. إحدى تلك الزوايا أن الزمن يسير أبطأ وأبطأ حين تقترب من سرعة الضوء؛ لذا سيتطلب الأمر وقتا لا نهائيا لتصل إلى سرعة الضوء التي تبتغيها. ثمة زاوية أخرى أن الأمر سيتطلب مقدارا لا نهائيا من الطاقة للوصول إلى الكتلة اللانهائية اللازمة للقيام بالمهمة؛ وذلك لأن كتلة الجسم تزداد مع زيادة سرعته. وأيا كانت الزاوية التي ستنظر منها إلى الأمر، فإن سرعة الضوء تمثل حاجزا حقيقيا لا يمكن تخطيه أبدا (على عكس «حاجز» الصوت الذي هو ببساطة تحد تكنولوجي تخطيناه قبل زمن طويل). للضوء نفسه أن يسافر بسرعة الضوء؛ لأنه جبل على التحرك بسرعة الضوء، ولا يبطئ إلا حين يمتص. لكن هذا استحث فكر البعض. فلو أن جزيئا جبل على التحرك بالفعل بسرعة الضوء، فبم ستخبرنا معادلات أينشتاين عن خصائصه؟ «الزمن ليس خطا وإنما بعد، كأبعاد المكان. وإن كان باستطاعتك ثني المكان فباستطاعتك ثني الزمن كذلك ، وإن كنت تعرف ما يكفي وكان بإمكانك التحرك أسرع من الضوء، يمكنك إذن أن تعود بالزمن.»
مارجريت آتوود، رواية «عين القطة»
ثمة منطق معاكس تجاه العالم على الجانب الآخر من حاجز الضوء. إن كان الزمن يسير أبطأ وأبطأ فيما تزداد سرعتك أكثر وأكثر على الجانب الآخر من الحاجز، حتى يتوقف تماما بلا حراك عند سرعة الضوء، فمن المنطقي، على الجانب الآخر من الحاجز، وبالنسبة إلى جزيء يتحرك أسرع من الضوء بشيء قليل، أن الزمن يمضي ببطء إلى الخلف، وكلما زادت سرعة الجزيء، عاد الزمن إلى الخلف أسرع. هذا ما تخبرنا به المعادلات بالضبط. وتخبرنا أيضا أنه على كلا جانبي الحاجز، كلما أضفت طاقة إلى حركة جسم ما، قاربت سرعته سرعة الضوء. وهذا يعني أنه في عالمنا، كلما أضيفت طاقة إلى جسم ما تحرك بشكل أسرع، أما في العالم الأسرع من الضوء، فكلما أضفت طاقة إلى جسم ما تحرك على نحو أبطأ. ومع فقدان الجسيمات في العالم الأسرع من الضوء للطاقة، تتحرك أسرع وأسرع وتندفع إلى الخلف في الزمن. واللافت في الأمر أن هذه السمة الغريبة في العالم الأسرع من الضوء قد اكتشفت «قبيل» توصل أينشتاين إلى نظرية النسبية الخاصة. ففي عام 1904، أدرك عالم الفيزياء أرنولد سومرفيلد - الذي أصبح لاحقا رائدا من رواد نظرية الكم - أن معادلات ماكسويل تتنبأ بذلك بالضبط فيما يتعلق بسلوك الجسيمات في العالم الأسرع من الضوء، رغم أن سومرفيلد في ذلك الوقت لم يكن على دراية بحاجز سرعة الضوء. ولما كانت نظرية النسبية قائمة إلى حد كبير على معادلات ماكسويل، فلا غرابة في أنها تنص على الشيء نفسه، لكن من المعلوم أن معادلات ماكسويل قالت بذلك أولا.
Page inconnue
لم تؤخذ تلك الفكرة على نحو جاد طيلة عقود. والقلة من العلماء الذين كانوا على وعي بها اعتبروها من غرائب الرياضيات، كالحلول السالبة التي تبرز فجأة في المعادلات التربيعية. فإن كان هناك مهندس معماري يحاول أن يحسب كم ينبغي أن يكون ارتفاع أحد المباني، ويقوم بعملية حسابية تخبره بأن الإجابة هي الجذر التربيعي للعدد 400،
2
فإن الرياضيات تقول إن ارتفاع المبنى يمكن أن يكون إما 20 مترا أو «سالب» 20 مترا. وبافتراض أن هذا المهندس لا يصمم مرأبا للسيارات تحت الأرض، فسيتجاهل الحل السالب، وهو نفس ما حدث بالضبط مع حلول معادلات أينشتاين المقابلة لجسيمات العالم الأسرع من الضوء. على الأقل، تم تجاهلها حتى ستينيات القرن العشرين، حين بدأ علماء الفيزياء في دراسة الأشعات الكونية بالتفصيل.
لكن لم تكن هذه هي المرة الأولى (ولا الأخيرة) التي يدلنا فيها الخيال العلمي على الطريق. ففي عام 1954، نشرت مجلة «جالاكسي ساينس فيكشن» رواية قصيرة بعنوان «صافرة التنبيه» للكاتب جيمس بليش.
3
لا تعتبر هذه الرواية من أفضل ما كتب، لكنها تقدم فكرة «راديو ديراك» الذي يوفر تواصلا فوريا عبر أي مسافة. لكن متى استقبلت رسالة صوتية، فإنها تبدأ بصافرة تنبيه مزعجة. وقد تبين أن تلك هي نسخة مضغوطة من «كل رسالة من رسائل ديراك أرسلت من قبل أو سترسل فيما بعد». تتجاوز الإشارات كلا من المكان «والزمان»؛ وأدرك بليش أن الإشارات التي تسافر أسرع من الضوء (فوريا في هذه الحالة) لا بد أنها تسافر أيضا عبر الزمن عكسيا. لم يول أحد القصة اهتماما كبيرا، حتى قرأها عالم الفيزياء جيرالد فاينبرج - الأستاذ بجامعة كولومبيا - في مجموعة مختارات أدبية
4
بعد مرور أكثر من عقد على نشرها، فأوحت إليه بفكرة البحث في العلوم والخوض فيها، وقدم ورقة بحثية علمية بعنوان «احتمالية وجود جسيمات أسرع من الضوء»، والتي نشرت في دورية «فيزيكال ريفيو» في عام 1967. في تلك الورقة البحثية قدم جيرالد اسم «تاكيون» للإشارة إلى الجسيمات الأسرع من الضوء الافتراضية، وهي كلمة مشتقة من اللفظة اليونانية
tachys ، ومعناها «سريع أو خاطف». لكن إن وجدت إشارة ديراك في المستقبل من الأساس باستخدام عمليات إرسال تاكيونية، فسيكون لذلك الراديو سمة غاية في الغرابة. تتمثل هذه السمة في أنه سيفقد الطاقة حين تصله إشارة، ومن ثم سيبرد. لكن وبما أن أحدا لا يتوقع أن يصمم مثل هكذا جهاز، فلن أقلق بشأن ذلك في هذا الصدد . الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن التاكيونات إذا فقدت الطاقة وزادت سرعة حركتها، فستكون طاقة معظم التاكيونات الموجودة طبيعيا في الكون (إن وجدت) صفرا بصفة أساسية وستتحرك بسرعة شبه لا نهائية، الأمر الذي سيجعل كشفها أمرا في غاية الصعوبة. لكن ثمة حلا لهذه المشكلة.
سعى الناس خلال السنوات التي تلت نشر فاينبرج لورقته العلمية إلى إيجاد دليل على وجود التاكيونات في الأشعات الكونية. والأشعات الكونية هي جسيمات عالية الطاقة تأتي من الفضاء (تتكون في معظمها من البروتونات)، تنتج في الأحداث الكونية العالية الطاقة، وتنطلق هذه الأشعات متسارعة عبر المجرة في جزء كبير من سرعة الضوء (يصل إلى 90 بالمائة أو أكثر منها)، وتصطدم بالغلاف الجوي العلوي للأرض. وتحمل هذه الأشعات مقدارا هائلا من الطاقة، حتى إنه حين تصطدم أشعة كونية «أولية» كهذه بنواة ذرة كالنيتروجين مثلا - وهو المكون الأكثر شيوعا لغلافنا الجوي - فإنها لا تدمر النواة فحسب. بل يتحول قدر كبير من الطاقة إلى جسيمات جديدة - أشعات كونية «ثانوية» - تصنع من الطاقة الخالصة بما يتوافق مع معادلة أينشتاين الشهيرة، وتنهمر هذه الجسيمات على سطح الأرض فيما يعرف بسيل الأشعة الكونية. لا تسبب لنا هذه الجسيمات أي ضرر (وإن كانت قد تسبب ضررا حال إنتاج أعداد هائلة منها بسبب انفجار مستعر أعظم قريب، على سبيل المثال)، لكن يمكن كشفها باستخدام كل من الأدوات على الأرض وأجهزة الكشف التي توضع على متن مناطيد شاهقة الارتفاع. وإن كان بعض الجسيمات التي أنتجتها هذه العملية لإحداث سيل من الأشعة الكونية هي في أصلها تاكيونات، فإنها ستصل إلى أجهزة الكشف الكائنة على الأرض ليس قبل وصول كل الجسيمات العادية في السيل فحسب، بل حتى قبل أن تصطدم الأشعة الكونية الأولية بالطبقة العلوية من الغلاف الجوي؛ وذلك لأنها تسافر عبر الزمن عكسيا. قد يكون من الممكن كشف هذه الجسيمات قبل أن تفقد كل طاقتها وتنطلق عبر الكون بسرعة لا نهائية.
Page inconnue
ونظرا إلى أن علماء الفلك الذين يدرسون الأشعات الكونية يملكون أجهزة كشف تعمل معظم الوقت تقريبا في مواقع مختلفة حول العالم، فلم يتطلب الأمر منهم جهدا كبيرا، أو تمويلا إضافيا، لفحص تسجيلاتهم لرصد أي آثار لومضات أولية على شاشات أجهزتهم قبيل وصول سيل كثيف من الأشعة الكونية. وقد فعل كثيرون ذلك في مطلع سبعينيات القرن العشرين، حين كانت التاكيونات موضوع نقاش رائج، ووجد بعضهم بوادر تشير إلى حدوث أمر غريب. لكن الدليل الوحيد المقنع بحق جاء من باحثين اثنين في أستراليا، وهما روجر كلاي وفيليب كراوتش في عام 1973. فقد وجدا ما بدا بمثابة مؤشرات قوية لومضات أولية أسرع من الضوء تظهر على أجهزة الكشف لديهما، وكان الدليل قويا بما يكفي بحيث تمكنا من نشر اكتشافهما في مجلة «نيتشر» عام 1974، وذلك بعد أن تحقق علماء آخرون من الأمر أثناء مراجعة الأقران لتقييم إنجازهما. ولم يتمكن أحد من إيجاد خلل في تحليلاتهما. كنت في ذلك الوقت أعمل في مجلة «نيتشر»، ونتذكر فورة الحماس التي أثارها الخبر الذي وضع علماء الفيزياء في حيرة وجعل يوم الصحفيين حافلا. لكن للأسف، لم تجد أي تجربة أخرى دليلا مقنعا على وجود مثل هذه المؤشرات الأولية ترتبط بسيول أخرى من الأشعة الكونية، ومع أنه لم يتمكن أحد إلى يومنا هذا حتى من اكتشاف أي مواطن خلل في تحليل بيانات كلاي وكراوتش، فإنه متقبل باعتباره شيئا من تلك الأشياء التي لا يسعنا تغييرها أو تفسيرها؛ إذ لا بد أن شيئا آخر فعل جهاز الكشف الأسترالي في الوقت المناسب (أو غير المناسب، الأمر يتوقف على وجهة نظرك) بما يحاكي دفقة سالفة من جسيمات تاكيونية. وبحلول عام 1988 بدت احتمالات إيجاد أدلة على وجود التاكيونات قاتمة للغاية؛ حتى إن نيك هيربرت حين لخص الموقف في كتابه «أسرع من الضوء» خلص إلى أن معظم علماء الفيزياء «يضعون احتمالية وجود التاكيونات في مكان أعلى بقليل من احتمالية وجود وحيد القرن».
لكن إنهاء قصة السفر بأسرع من الضوء والتواصل العكسي في الزمن عند هذه النقطة شيء كئيب ومحزن للغاية. في عام 1980، تناول أحد الفيزيائيين، وهو جريجوري بينفورد، تداعيات ذلك في روايته «منظر طبيعي للزمن»، والتي لا تتناول فكرة التواصل التاكيوني فحسب، بل تعالج أيضا مشكلة تغافلنا عنها في معظم قصص السفر في الزمن، وهي أن السفر في الزمن يعد أيضا سفرا في المكان. إن الأرض في حالة حركة دائمة؛ إذ تدور حول محورها وحول الشمس وتسير عبر المجرة. فلو كنت أملك آلة زمنية في غرفة معيشتي وأردت أن تعود بي هذه الآلة إلى غرفة معيشتي في يوم الثلاثاء الماضي، لوجب أن أكون قادرا على برمجة الآلة بحيث تذهب إلى الموقع الذي كانت به غرفة معيشتي يوم الثلاثاء الماضي، والذي يعد الآن منطقة فضاء خالية. وقد جسدت هذه التداعيات بدقة في قصة كريستوفر بريست «آلة الفضاء»، لكن في قصة «منظر طبيعي للزمن» يقر بينفورد بالمشكلة، رغم أن أبطال روايته لم يكن عليهم سوى الانشغال بالوجهة التي يوجهون إليها الأشعة التاكيونية. يسأل أحد هؤلاء الأبطال: «نوجهها إلى ماذا؟». «أين العام 1963؟» فيجيبه: «إنه بعيد جدا، كما يتبين. العام 1963 بعيد للغاية». لكن المؤلف لم يوضح أبدا كيف تمت عملية التوجيه؛ فالتواصل العكسي عبر الزمن هو صميم قصته ومحورها.
كتب بينفورد قصته في سبعينيات القرن العشرين، لكن أحداثها تدور في بداية الستينيات وأواخر التسعينيات من القرن نفسه، وهي «مسافات» شبه قريبة من وقت نشر الكتاب. والمستقبل الذي يتصوره في القصة أكثر قتامة بكثير مما تبينت عليه فترة التسعينيات؛ إذ كان العالم على حافة كارثة بيئية. يحاول مجموعة من العلماء في جامعة كمبريدج في ذلك الوقت إرسال رسالة تحذيرية إلى الماضي أملا في إمكانية تجنب بعض الأخطاء التي أدت إلى هذا الموقف، ويستقبل باحث شاب يدعى جوردون بيرنشتاين بجامعة كاليفورنيا بسان دييجو نسخة مشوشة من هذه الرسائل التاكيونية. وليس من قبيل المصادفة أن بطل القصة يتشارك مع بينفورد الأحرف الأولى من اسمه، أو أن بينفورد قد أنهى شهادة ماجستير في جامعة كاليفورنيا بسان دييجو وعمل في كمبريدج في أواخر سبعينيات القرن العشرين. لذا فإن خلفية القصة لها أصل حقيقي إلى حد كبير وتضفي عليها شيئا من الصدق ، رغم أن الجانب العلمي فيها قائم على التخمين.
جريجوري بينفورد
شاترستوك
المشكلة في قصة بينفورد - كما هو الحال مع كل القصص التي تتناول التواصل مع الماضي من المستقبل - أن المستقبل يغير الماضي، وبذلك فإن المستقبل نفسه يتغير، وليس بالضرورة أن يكون التغيير نحو الأفضل.
5
وأناقش بعض الحلول الممكنة لهذه المشكلة في تصوري التاسع. لكن ثمة طريقة واحدة للالتفاف حول هذه المشكلة وهي ملائمة بشكل خاص للحديث عن التاكيونات. نحن معتادون على فكرة أن الأحداث في مخروط الماضي الضوئي تؤثر على ما يحدث هنا في الحاضر، وأن «خطوط العالم» في الماضي تلك تعد ثابتة. ونرى أن المستقبل ليس ثابتا بعد. لكننا إذا ما قبلنا فكرة أن المخروط الضوئي المستقبلي يؤثر أيضا على ما يحدث هنا في الحاضر، فإننا بذلك نكون أمام موقف لخصه لورنس شولمان في مقال بعنوان «مفارقات تاكيونية» نشر في دورية «أمريكان جورنال أوف فيزيكس» في عام 1971: «التاريخ هو مجموعة من خطوط العالم مجمدة بالأساس في الزمكان. وفي حين أننا على الصعيد الشخصي على قناعة قوية بأن أفعالنا تتحدد فقط بمخروطنا الضوئي الماضي، فإن الحال قد لا يكون على هذا المنوال دائما.» وفي ذلك إشارة إلى أن «خطوط العالم» لمخروطنا الضوئي المستقبلي مجمدة أيضا في الزمكان، وأنها تؤثر أيضا على حاضرنا، لكن أيضا لا يمكن تغييرها مثلما لا يمكننا تغيير خطوط العالم الماضي. وفي إطار هذا السيناريو، فإنه ما من شيء فعله «جوردون بيرنشتاين» في الستينيات من شأنه أن يغير ما جاء في الرسائل التي تلقاها من حقبة التسعينيات. وهذا موضوع سأعود إلى الحديث عنه في تصوري السابع. لكن قبل أن أترك موضوع السفر بأسرع من الضوء، أريد أن ألفت انتباهك إلى احتمالية مثيرة للفضول. إن الضوء قد يكون قادرا على السفر بأسرع من سرعة الضوء.
هوامش
التصور الرابع: يمكن للضوء أن يسافر بسرعة تفوق سرعة الضوء
Page inconnue
«التنوير كالأنفاق الكمومية؛ حين يرى الجميع أسوارا وحواجز، يرى المستنير إمكانات لا نهائية.»
أميت راي، «التنوير خطوة بخطوة»
تتوقف قدرة الضوء على السفر أسرع من الضوء على ظاهرة تعرف باسم النفق الكمومي.
1
وينبغي لنا ألا نندهش من تداخل فيزياء الكم مع قصة السفر عبر الزمن؛ لأن كليهما يعد غريبا مقارنة بتجاربنا اليومية. والنفق الكمومي هو أحد أغرب جوانب فيزياء الكم.
ترتبط ظاهرة النفق الكمومي بظاهرة اللايقين الكمومي، لكن من الأبسط أن نتعرض إليها في إطار الاحتمالات، التي يمكن حسابها بدقة باستخدام معادلات فيزياء الكم. تخبرنا المعادلات باحتمال إيجاد جسيم ما كالإلكترون أو البروتون في أي مكان بعينه. فإن كانت ثمة تجربة تقيس موضع جسيم ما، فإننا نعرف مكانه في تلك اللحظة. لكن بمجرد أن نتوقف عن النظر إلى الجسيم، فإننا لا نعرف مكانه. وتخبرنا قواعد الكم بأن من المحتمل إلى حد كبير أن يكون الجسيم في البداية في موضع قريب من الموضع الذي رأيناه فيه، لكن بمرور الوقت تتزايد احتمالية أن يكون الجسيم في مكان مختلف تماما؛ بل قد يكون حتى، من حيث المبدأ، على الجانب الآخر من الكون، وإن كانت احتمالية ذلك ضئيلة إلى أقصى حد. وحين ننظر ثانية (أي نأخذ قياسا آخر)، نجد الجسيم في موضع جديد. لكن جوهر ميكانيكا الكم يقول إن الجسيم لا يتحرك عبر المكان من موقع إلى آخر. فهو في البداية هنا، ثم بعد ذلك يكون هناك، من دون أن يعبر المسافة بين الموضعين. وما نظن أنها مسارات الجسيمات عبر الفضاء هي في واقع الأمر خطوط ذات احتمالية عالية، وكأننا نأخذ قياسات كل جزء من الثانية لكي نمنعها من أن تهيم في أركان الكون المترامية.
2
تخيل بروتونا على مسار يحمله إلى جدار منيع لا سبيل إلى النفاذ منه. أغلب الظن أنه إما سيمتص أو سيرتد عن الجدار. لكن حين يكون على مسافة قريبة جدا من الجدار، يكون ثمة احتمالية ضئيلة أنه سيظهر في اللحظة التالية على الجانب الآخر من الجدار، وكأنه مر عبره من خلال نفق. يظهر هنا الرابط بين هذا ومبدأ اللايقين الكمومي؛ لأن موضع الجسيم في أي لحظة من الزمن يكون غير محدد، وهو ما تصفه حرفيا معادلات دقيقة. قد يكون الجسيم عند النقطة (أ)، أو قد يكون في أي موضع آخر بين عدة مواضع بعيدة بعض الشيء عن النقطة (أ). وإن كانت النقطة (أ) تقع بجوار الحاجز في لحظة ما، فثمة احتمال قابل للقياس الكمي أن الجسيم في اللحظة التالية سيكون على الجانب الآخر من الحاجز. ولا يمكننا التأكد من أن الحاجز سيوقف حركة الجسيم. لكن ما هو أهم أن الجسيم لا يمكن أن يكون محل يقين. فمبدأ اللايقين الكمومي هذا ليس ناشئا عن عجزنا البشري عن قياس الأشياء بالدقة الكافية؛ بل هو سمة من سمات الكون نفسه.
وقد اختبر هذا بالتجارب، لكن أفضل مثال على نشاط النفق الكمومي يأتينا من الشمس. يعرف علماء الفلك كتلة الشمس من دراسات مدارات الكواكب، وبواسطة هذه المعلومات يكون من السهل حساب مدى الحرارة التي ينبغي أن يكون عليها قلب الشمس لكي تتمكن من الصمود أمام الضغط الداخلي الناشئ عن وزنها. والطاقة التي تحافظ على حرارتها تأتي من اندماج نووي، يتم في الأساس عن طريق دمج البروتونات (أنوية الهيدروجين) لإنتاج جسيمات ألفا (أنوية الهيليوم)، مع «فقدان» بعض من كتلتها في أثناء ذلك وإطلاقها في شكل طاقة. لكن ثمة عقبة - أو بدا أن ثمة عقبة حين طرحت هذه الفكرة للنقاش أول مرة بين علماء الفيزياء في مطلع عشرينيات القرن العشرين. وتحديثا للقصة بالمصطلحات الحديثة، فإن هذه العملية تبدأ حين يقترب بروتونان أحدهما من الآخر إلى حد كبير ويندمجان معا. يستحث هذه العملية تأثير قوة جذب قوية (يطلق عليها علماء الفيزياء اسما يخلو من أي خيال، وهو «القوة القوية») تجذبهما أحدهما إلى الآخر. لكن هذه القوة القوية تتسم بمدى قصير للغاية؛ لذا ينبغي أن تكون البروتونات على مقربة شديدة بعضها من بعض قبل حدوث هذه العملية. تكمن المشكلة في أن كل بروتون يحمل شحنة كهربائية موجبة؛ ومن ثم يحدث بينهما تنافر. ودفع كل منهما في اتجاه الآخر أشبه بمحاولة دفع القطبين الشماليين لقضيبين مغناطيسيين أحدهما إلى الآخر. وكلما زادت سرعة حركة البروتونين، استطاعا الاقتراب أكثر أحدهما من الآخر في تصادم مباشر وجها لوجه قبل أن يباعد بينهما التنافر، وتعتمد سرعة حركتهما على درجة الحرارة. ودرجة حرارة قلب الشمس وفقا لحسابات علماء الفلك أدنى كثيرا من أن تتيح للبروتونين الاقتراب أحدهما من الآخر بما يكفي لسريان مفعول القوة القوية وقهر التنافر. إذن كيف تستمر الشمس في السطوع؟
لا بد أنك خمنت أن سطوع الشمس يرجع إلى ظاهرة النفق الكمومي أو المرور النفقي. في نهاية عشرينيات القرن العشرين، كان عالم الفيزياء الروسي المولد، جورج جاموف، يطبق قوانين ميكانيكا الكم المكتشفة حديثا على الفيزياء النووية، وأدرك أهمية النفق الكمومي في التفاعلات النووية. وبتطبيق هذه القوانين على الظروف القائمة في قلب الشمس، تبين أن درجة الحرارة في قلب الشمس مناسبة تماما للبروتونات بحيث يقترب بعضها من بعض، بما يسمح لها بالمرور في نفق كمومي عبر الحاجز الفاصل بينها. وهكذا فإن العبور النفقي الكمومي هو ما يسمح باستمرار الاندماج النووي في قلب الشمس.
Page inconnue