لم تكن عادة سيد أن يخرج بعد الظهر، ومع ذلك كان الأب يوجه إليه هذا السؤال كل يوم، ويجيب سيد أيضا كل يوم: «كلا، سأبقى في المنزل.»
ومنذ خمس عشرة سنة كانت هذه الإجابة تفعم قلب الأب بالأسى؛ فبينما كان غيره من الشباب في سنه يتزينون ويتعطرون ويسعون خلف البنات، ثم يتزوجون وينجبون، شرع فجأة يفقد حيويته البالغة التي كان يتميز بها وهو بعد في المدرسة ثم الجامعة، وقبع في المنزل يشرب القهوة ويدخن صامتا، ويقرأ الروايات ويتفرج على التليفزيون.
وبمرور الزمن نسي الأب هذه المشاعر القديمة، وأصبح الآن عندما يقول لسيد: «اخرج يا ابني قليلا بدلا من أن تسجن نفسك هكذا.» يشعر بالرضى والسعادة عندما يرد هذا: «وأين أذهب؟ لا أحسن هناك من قعدة المنزل.»
فبذلك كان ثمة ضمان لكل من الأب والأم أن يحصلا في الوقت المناسب على الإسعاف اللازم إذا ما داهمتهما إحدى نوبات المرض التي أخذت تلاحقهما في الآونة الأخيرة. وإن كان من الغريب حقا أن هذه النوبات لا تقع في فترة الصباح، التي يكون سيد خلالها في المؤسسة، وإنما تحدث دائما بعد الظهر، وخصوصا بالليل بعد أن يخلد سيد للنوم؛ عندئذ يصرخ أحدهما: «آه ياني.» وفي ثانية يكون سيد إلى جانبه يسأله عما حدث ويناوله الدواء، أو يهرع إلى التليفون ويتصل بالطبيب الذي يهون الأمر بصوت ملول، ويأمر بتكرار نفس الدواء المذكور في الروشتة.
ولا ينتهي دور سيد عند هذا الحد؛ ففي أقرب فرصة، وبتعليمات من الأب والأم، اللذين يلزمان الفراش غالبا في وقت واحد، يبدأ الاتصال بأفراد العائلة واحدا بعد الآخر ليعلن إليهم النبأ في ذلك الصوت التقريري المعهود: «والله تعبان قليلا.» أو: «هما في الفراش من أمس.» ولكي ينفي شبهة المبالغة: «يقول الطبيب ...» ثم: «وماذا؟ بالأمس، بينما كانا نائمين.» ويسرد ما حدث بالتفصيل.
ثم يقبع الثلاثة فوق أسرتهم في انتظار رد الفعل.
كان الأب قد استدار على جانبه الأيسر بحيث واجه الصالة وقال: «شوفوا لنا ماذا في التليفزيون الليلة.»
وتمنى الأب أن يحتوي البرنامج على أحد الأفلام القديمة التي دأب التليفزيون على عرضها في الآونة الأخيرة؛ فما أجمل عبد الوهاب الشاب عندما يزرر سترته ويحكم وضع طربوشه على رأسه مائلا إلى اليسار ثم يمر براحة يده فوق شعره، عند حافة الطربوش اليمنى، ويشرع في الغناء. أو يوسف وهبي عندما يجمع أطراف روبه بأصابعه باسطا قامته إلى مداها، ويزأر بصوته الفخم أن شرف البنت مثل عود الكبريت لا يشتعل غير مرة واحدة.
وعندئذ سيغادر فراشه ويجلس أمام التليفزيون مباشرة كي يتمكن من الرؤية، وتجلس زوجته إلى يمينه وسيد إلى يساره بعد أن يطفئوا النور. ويميل الثلاثة على المائدة معتمدين عليهم بمرافقهم، إلى أن تنتهي السهرة.
وفي الخارج كان الظلام ينتشر بسرعة. وقام سيد فأضاء النور، وعاد ينحني فوق الجريدة متمعنا في برنامج السهرة.
Page inconnue