فانصاع الفارس وألفى الحجاب المطلوب في فرجة ضيقة قدت في الحائط، واستترت بباب من أغصان الصفصاف المجدولة، ولما أتى به إلى الضياء ألفاه ممزقا وملطخا في بعض أنحائه بمادة سوداء، ثم تفرسه الناسك بعاطفة قوية مكبوتة، واضطر أن ينفس عن مشاعره بأنة من الأعماق قبل أن يتحدث إلى الفارس الاسكتلندي.
وأخيرا قال: «عما قريب تشهد أغنى ما ملكت الأرض من كنوز، يا ويلتي! إن عيني غير جديرتين بالنظر إليه! يا حسرتى! إنما أنا مرشد حقير وضيع، ليس لي إلا أن أهدي المسافر المنهوك إلى موئل الدعة والراحة، وأن أظل أبدا طريد الديار؛ عبثا أفر إلى حنايا الصخور، أو إلى قلب الصحراء المجدبة؛ لقد عثر بي خصمي وطاردني إلى حصني رغم تنكري له!»
وسكت هنيهة ثم التفت إلى الفارس الاسكتلندي وقال في صوت أشد ثباتا في نغمه: «هل أتيتني بتحية من رتشارد ملك إنجلترا؟»
فأجاب الفارس: «إنما أتيت من مجمع الأمراء المسيحيين، وأما ملك إنجلترا فلم أتشرف بأن آتمر لجلالته، فهو عن ذلك راغب.»
فأجابه الناسك وقال: «هات دليلك.»
فتردد السير كنث، واندفعت توا إلى رأسه الشكوك التي ساورته من قبل، وتذكر أمارات الجنون التي بدت على الراهب آنفا، ولكن كيف له أن يرتاب في رجل له هذه القداسة في مسلكه؟ وأخيرا قال: «جوازي هذه الكلمة: الملوك يتوسلون إلى المتسولة.»
ثم سكت ورد الناسك قائلا: «لقد أصبت، وإني لأعرفك حق المعرفة، ولكني قائم على أمر هام؛ والحارس في حراسته يتحدى الصديق كما يتحدى العدو.»
ثم سار قدما والمصباح في يده، وتقدم قصد الغرفة التي خلفاها، والعربي ما يزال راقدا في سريره، غارقا في نومه، فوقف الناسك إلى جواره ورمقه بنظرة ثم قال: «إنه ينام في الظلام ويجب ألا يستيقظ.»
وكان الأمير في رقدته يوحي إلى الرائي أنه حقا في سبات عميق، فقد استلقى متجها نحو الحائط بنصف وجهه، وإحدى ذراعيه ممتدة عبر جسمه، وقد حجب أكثر وجهه بكمه الواسع الطويل، ولكن جبينه العالي ما زال باديا، وسكنت عروقه التي كانت دائبة التدفق وهو في يقظته، وأضحى وجهه كالمرمر الأسود، وأهداب جفونه الطويلة الناعمة كالحرير تنطبق على أعين نافذة كعيون الصقر، ويده مبسوطة مسترخية، وأنفاسه عميقة هادئة تتوالى في انتظام؛ وكل ذلك دليل على سبات عميق، وما كان أعجب تلك الجماعة التي تتألف من هذا النائم وذينك الشبحين الطويلين، أحدهما الناسك مرتديا جلد العنز المشعث وبيده المصباح، والآخر الفارس في سترة ضيقة من الجلد، وعلى وجه الناسك أمارة قوية من اكتئاب التقشف، وأما الفارس فقد انطبعت طلعة المشوق على ملامحه المسترجلة انطباعا قويا.
وقال الناسك بنغم خافت كالذي كان من قبل: «إنه في نوم عميق.» ثم ردد هذه الكلمات، ولكنه لم يقصد بها هذه المرة إلى معناها اللفظي، وإنما كان يرمي إلى معنى مجازي، قال: «إنه ينام في الظلام، ولكن عما قريب يطالعه الفجر. أيها «الضريم»! ما أشبه أحلام يقظتك في عبثها وتوحشها بالرؤى التي ترقص مترنحة في خيالك وأنت نائم، ولكن عما قريب تدق الطبول وتتبدد الأحلام.»
Page inconnue