فأجاب العربي، ولم تبد عليه أمارات البغض لهذا اللفظ الشديد وذاك التهجم العنيف الذي صوب إليه، وقال: «أي هاماكو أيها الرجل الطيب، حذار أن تزهو ثانية بفضائلك إلى هذا الحد، واعلم أنني كمسلم مؤمن بالله أجل المرء إذا أعاضه الله بروح التنبؤ عن نعمة العقل، ولكني لا أحب أن تمتد إلى زمام جوادي أو إلى شخصي يد غير يدي. خبرني إذن ماذا تريد، وثق أنك في مأمن من غضبي، واعلم أنك إن هددتني بالعنف دققت رأسك المشعث وفصلته عن كتفيك النحيلتين.» ثم اعتلى صهوة جواده واستطرد قائلا: «أما أنت يا صديقي كنث، فاعلم أنني أحب في رفيق الصحراء الإخلاص في العمل أكثر مما أحب التظرف في الكلام، وحسبي ما أسمعتني من طيب الحديث، وإنما كان خيرا لي أن تسارع إلى نجدتي في عراكي مع هاماكو، وقد أوشك أن يقضي على حياتي وهو في نشوة الجنون.»
قال الفارس: «حقا لقد خارت عزيمتي، بل قل لقد أبطأت في إسعافك بالنجدة، ولكن غرابة مهاجمك ومفاجأته بالقتال - وكأن أنشودتك الذميمة بتوحشها قد أنبتت بيننا شيطانا - أربكت عقلي، فانقضت دقيقتان أو ثلاث قبل أن أسل سلاحي.»
فأجاب العربي: «ما أنت يا صاح إلا رفيق متبلد الإحساس، شديد الحرص. لو أن هاماكو تغالى في جنونه ذرة واحدة، ولبثت ممتطيا جوادك، شاهرا سلاحك دون أن تحرك إصبعا لنجدتي، لخر زميلك إلى جوارك صريعا، ولحقك العار ما دمت حيا.»
فأجاب المسيحي: «وحق مهندي أيها العربي لأصارحك القول، لقد ظننت ذلك الجسم الغريب شيطانا من بني جنسك، ولم أدر أي سر عائلي بينكما تتبادلان فيه الحديث، وأنتما تتمرغان معا فوق الرمال.»
فقال العربي: «هذه السخرية منك يا أخي كنث رد غير مقبول؛ ولتعلم أن لو كان مهاجمي هو الشيطان عينه، لكان حتما عليك - مع ذلك - أن تنازله القتال في سبيل رفيقك، واعلم كذلك أنه إن كان بهاماكو مس من جن أو شيطان، فهو أقرب إلى منبتك منه إلى منبتي، فما هاماكو هذا في الحق إلا الناسك الذي أتيت إليه حاجا.»
فأجاب السير كنث، وقد نظر إلى الجسم الماثل أمامه ممشوق القد، وإن يكن منهوك القوي، وقال: «هذا! هذا! إنما أنت تهزأ أيها العربي، وما هذا بتيودوريك الوقور!»
فرد عليه شيركوه وقال: «سله إن كنت لا تصدقني!» ولم تكد تخرج الكلمات من فيه حتى شهد الناسك على نفسه وقال: «أنا تيودوريك، رجل عين جدة، أنا المشاء في الصحراء، أنا صاحب الصليب، وسوط الكبار والمنافقين وأتباع الشيطان. عني! عني! ليهلك الكفرة جميعا.» ثم استل - وهو يتكلم - من تحت جلبابه المشعث شيئا يشبه أن يكون مطرقة أو هراوة ذات مفاصل موثوقة بالحديد، وهزها فوق رأسه بمهارة فائقة.»
وقال العربي: «ها أنت ذا تشهد قديسك!» ثم ضحك لأول مرة من السير كنث، وقد نظر «كنث» بدهشة ما بعدها دهشة إلى حركات تيودوريك الوحشية، وأنصت إليه يتمتم تمتمة عجيبة، بعدما لوح بعصاه هنا وهناك، وكأنه لا يعبأ أعلى رأس العربي وقعت أم على رأس المسيحي، وأخيرا ضرب بها صخرا إلى جانبه، فتهشم الصخر فتاتا، وظهرت من الرجل قوته ومتانة سلاحه.
فقال السير كنث: «هذا رجل مجنون.»
ورد عليه المسلم، وتكلم وفقا للعقيدة الشرقية المعروفة، التي ترى أن المجنون رجل تحت تأثير الوحي المباشر وقال: «وليس هذا أسوأ القديسين. اعلم أيها المسيحي أنه إذا انطفأ من إحدى العينين نور اتقد في الأخرى الضياء، وإذا بترت إحدى اليدين قويت اليد الأخرى، وكذلك إذا اضطرب العقل أو فسد تفكيره في أمور البشر، اتجهت البصيرة نحو السماء وهي أشد نفاذا وأتم كمالا.»
Page inconnue