فقال لورد جلزلاند: «التمسوا المعذرة «لستروخان» العجوز، فلقد علمته التجارب أن قلبي أشد لينا من قلوب بلانتاجنت.»
فصاح به رتشارد: «قلبك لين! كيف هذا وأنت سلعة من الصلب العتيق، أو حجر من صوان «كمبرلاند»؟» ثم التفت إلى ابنة عمه وتكلم بأسلوب صعد منه الدم في وجنتيها، وقال: «إنما نحن، يا أديث، أبناء بلانتاجنت، الذين نفخر بالقلوب اللينة الحساسة. هات يدك يا ابنة عمي الحسناء، وأعطني يدك يا أمير اسكتلندا.»
فتراجعت أديث وجاهدت أن تخفي اضطرابها، وهي تزعم أنها تحاول المزاح بسلامة طوية قريبها المليك، وقالت: «أقلع عن هذا مولاي؛ ألا تذكر أن يدي قد كتب عليها أن تهدي صلاح الدين المسلم العربي - وكل جيوشه من ذوي العمائم - إلى الدين المسيحي؟»
فأجابها رتشارد قائلا: «أجل، ولكن ريح التنبؤ قد انقلبت، وهي الآن تهب من ركن آخر.»
فتقدم الناسك وقال: «لا تسخر وإلا اشتد إثمك؛ إن ملائكة السماء لا تكتب غير الحق في سجلها المنير؛ إنما هو بصر الإنسان الذي بلغ الوهن ألا يقرأ ما سطروا صوابا. اعلم أني حينما هجع صلاح الدين العربي وكنث في مغارتي، طالعت النجم وعلمت أن تحت سقيفتي أميرا، هو عدو رتشارد الطبيعي، وأن حياة أديث بلانتاجنت معقودة بحياته، فما كان لي أن أشك في أن ذلك هو صلاح الدين الذي كنت بمكانته عليما، لأنه كثيرا ما أتى لزيارتي بالكهف يحادثني في دورات الأجسام السماوية، ثم هدتني بعد ذلك أنوار الكون إلى أن الأمير، زوج أديث بلانتاجنت، سوف يكون مسيحيا، وأنا في تأويل النجوم ضعيف ساذج، فاستنبطت إذ ذاك اعتناق السلطان النبيل للمسيحية، وهو رجل كثيرا ما مالت به صفاته الكريمة نحو الحق. إن إحساسي بضعفي قد أذل أنفي إلى الرغام، ولكني في الرغام وجدت راحة الضمير! إني لم أصب مطالعة أقدار الآخرين. ومن يدريني لعلي كنت أخطئ حساب نجمي أنا نفسي؟ إن الله لا يريدنا أن نسطو على حقوق الملائكة أو نستطلع أسراره الخفية. إنما واجبنا أن ننتظر يوم الدين ساهرين خاشعين يعمر قلوبنا الخوف والأمل. لقد أتيت إلى هنا رسولا متقشفا، ونبيا شامخا، أجيد - حسب ظني - إرشاد الأمراء، وقد وهبني الله قوى غير طبيعية، وأثقلني بحمل حسبت ألا يطيقه غير عاتقي، ولكن مواثيقي قد تقطعت! فلأعودن من هنا متواضعا في جهالتي، نادما، ولكني لست قانطا بغير أمل.»
وبعدما أتم هذا الحديث انسحب من الجمع. ويسجل التاريخ أن نوبات الجنون قل أن عاودته من منذ ذلك الحين، وأن كفارته باتت من الضرب الخفيف، مصحوبة بأمل في المستقبل خير من أمله السالف. وكان لديه من الاعتداد بالرأي - حتى في جنونه - الشيء الكثير، حتى إنه لما أيقن أنه كان يرحب بنبوءة لا أساس لها - بل ويبشر بها بحماسة شديدة - كان لذلك على نفسه أثر كأثر الدم يغيض من جسم الإنسان فيلطف من حرارة الذهن ويخفف عنها.
ولا حاجة بنا إلى أن نتتبع بالبيان المفصل مؤتمرات السرادق الملكي، أو أن نعرف هل «دافيد إيرل هنتنجدن» كان في حضرة أديث بلانتاجنت صامتا صمته حينما كان مضطرا إلى العمل وهو متنكر في شخص مغامر مجهول لا اسم له. ويجوز لنا أن نعتقد صوابا أنه كان في هذا المقام يعبر بالحماسة اللائقة عن عاطفته التي كثيرا ما تعسر عليه من قبل أن يلبسها ثوب الكلام.
واقتربت الظهيرة، ولبث صلاح الدين ينتظر أمراء العالم المسيحي في خيمة لا تختلف كثيرا عن الخيام المألوفة بين عامة الكرد والعرب، اللهم إلا في ضخامة حجمها، ومع ذلك فقد أعدت تحت طرفها الأسود الفسيح مأدبة على أفخر طراز في الشرق، ومدت على بسط من أنفس الأنواع، نثرت عليها الوسائد للزائرين، ولكنا لا نستطيع أن نقف بالقارئ ونصف له صحائف الذهب والفضة، والتفويف الفاخر بالنقوش العربية، وشملات الكشمير، وحرير الهند، التي كانت منشورة هناك بكل جلالها وجمالها، كما أنا لا نستطيع البتة أن نتحدث عن أصناف الحلوى العديدة، والطعام المحفوف بالأرز الملون على أشكال عدة، وكل ما لذ وطاب من غير ذلك من ألوان الطهي الشرقي، من خراف مشوية بأسرها، وصيد وطير وطهي بالأرز واللحم والتوابل، مكدسا في أوان من ذهب ومن فضة وخزف، ومختلطا بأقداح من حلو الشراب المبرد بالثلج والجليد من كهوف جبل لبنان. وكان على رأس المأدبة كدس عظيم من الوسائد كأنه أعد لصاحب الوليمة، ولمن يدعوهم من أصحاب المقام الرفيع لأن يتخذوا مكانهم في ذلك الموضع المميز. وكم من راية وعلم، وكم من شارة من شارات الظفر في الحروب وقهر الممالك والدول كانت ترفرف فوق الخيمة في كل ناحية، وبخاصة فوق هذا المقعد الرفيع الشأن. ولكن بين هذا كله، وفوق هذا كله، كان هناك رمح طويل يتعلق به كفن، هو علم الموت، وقد كتبت عليه هذه العبارة القوية: «صلاح الدين ملك الملوك. صلاح الدين قاهر القاهرين. صلاح الدين يجب أن يموت.» ووسط هذا الإعداد، وقف العبيد - الذين أعدوا ألوان الطعام - برءوس منكسة وسواعد مطبوقة، صامتين لا حراك بهم كأنهم تماثيل للذكرى، أو شخوص آلية تنتظر مس الفنان لتتحرك.
وكان السلطان يعتقد - كغيره - في الكثير من خرافات زمانه، فوقف - وهو ينتظر اقتراب زائريه الأمراء - يستطلع بروج السماء وبيده كتاب مسطور بعث به إليه ناسك عين جدة حينما فصل عن المعسكر.
وتمتم لنفسه قائلا: «ما أعجب هذا العلم وما أغمضه! إنه يزعم أنه يكشف عن المستقبل الحجاب، ولكنه يضل أولئك الذين يتظاهر بإرشادهم، ويظلم المنظر الذي يزعم إضاءته، من ذا الذي كان لا يقول أني كنت ألد خصوم رتشارد وأشدهم عليه خطرا، وأن عداوته سوف تنتهي بالزواج من قريبته؟ ولكن الآن يظهر أن اقتران ذلك «الإيرل» الشهم بالسيدة، سوف يؤدي إلى الصداقة بين رتشارد واسكتلندا، وهي بلد أشد مني عداوة وخطرا، فهي كالقط الوحشي في الغرفة يخشى بأسه أكثر من الليث في الصحراء النائية ...» ثم وسوس لنفسه قائلا: «ولكن النجم كان يشير إلى أن هذا الزوج سوف يكون مسيحيا.» وسكت قليلا وكرر الكلمة وقال: «أجل، مسيحيا؛ ولقد بعث ذلك في المنجم المتهوس المجنون الأمل في احتمال ارتدادي عن ديني! ولكن ما كان هذا ليخدعني أنا، أنا ذلك التابع المخلص للنبي.» ثم رمى بالمكتوب تحت أكداس الوسائد وقال: «البث هنا أيها المكتوب الخفي الغامض، ما أعجب ما نبأت به، وما أشده على النفوس وقعا، ما دمت - حتى إن صدقت فيما جاء بك - لن تصيب من يحاول حل رموز معانيك إلا بكل أثر من آثار الباطل. ماذا يقصد هذا القادم؟»
Page inconnue