فقال رتشارد إلى إيرل سولزبري: «إن هذا الوغد المتصلب، هذا الرجل المتلون يقابلني راهبا، ولكن دعها تذهب يا «لنجسورد»؛ لا ينبغي لنا أن نضيع على المسيحية من أجل هذه التقاليد خدمات هؤلاء المقاتلين المدربين الذين أدخل الظفر في قلوبهم الغرور. صه يا صاح! ها هو ذا قد أقبل خصمنا الباسل دوق النمسا، انظر إلى صورته وهيئته يا «لنجسورد»، وأنت أيها النوبي دع الكلب يملأ ناظريه، وحق السماء لقد أتى نديمه معه!»
وحقا لقد أقبل ليوبولد يتبعه المحدث والمهرج؛ إما لأنه تعود صحبتهما، أو لأنه - على الأرجح - أراد أن يلمع إلى استخفافه بالحفل الذي أوشك أن ينضم إليه، ثم تقدم إلى رتشارد وأخذ يصفر صفيرا أراد أن يدل به على قلة اكتراثه، ولكن رزانة ملامحه كانت تنم عن اكتئاب في نفسه يمازجه خوف كخوف الصبي الهارب من المدرسة وهو يقترب من أستاذه.
أقبل الدوق في حشمة ووقار، وأدى التحية وهو كاره، وفي عينيه التجهم والعبوس، فهز المحدث بعصاه، وأعلن كما يعلن الرائد أن أرشدوق النمسا، وهو يقدم لرتشارد الخضوع والولاء، لا ينزل عن امتيازه ومرتبته؛ مرتبة الملك الأمير، فأجابه المهرج بصوت جهوري وقال: «اللهم آمين!» فأثار الضحك بين الواقفين.
وتطلع الملك رتشارد إلى النوبي وإلى كلبه أكثر من مرة، ولكن النوبي لم يبد حراكا، ولم يجذب الكلب مقوده، حتى إن رتشارد قال للعبد في شيء من السخرية والازدراء: «إني لأخشى أن نجاحك في هذا المشروع يا صاحبي الأسود - وقد أتيت بكلبك يؤيدك بحكمته - لن يرفعك إلى مرتبتك بين السحرة، ولن يزيد من حقك علينا.»
فلم يجب النوبي كعادته بأكثر من انحناء قليل.
ثم سارت بعد ذلك أمام ملك إنجلترا جنود المركيز منتسرا متتابعين حسب مراكزهم، ولكي يعرض هذا البارون القوي الماكر صفوف جيشه عرضا يبهر الأبصار، قسمهم كتيبتين، ووضع أخاه «إنجراند» على رأس أولاها، وهي تتألف من أنصاره وأتباعه الذين جمعهم من أملاكه في سوريا، ثم جاء بنفسه يتبع أخاه على رأس فرقة باسلة من مائتين وألف مقاتل من خفاف الفرسان الذين جمعهم أهل البندقية من أملاكهم في دلماشيا وأسلموا قيادتهم للمركيز، وهو يرتبط بالجمهورية بروابط عدة. وكان هؤلاء المقاتلون يرتدون أزياء نصف أوروبية، عليها كثير من سمات اللباس الشرقي؛ كانوا يلبسون الزرد ويغطونه بجلباب من فاخر الثياب بهيج اللون، ويلبسون السراويل الفضفاضة والأحذية القصيرة، وعلى رءوسهم قلنسوات مستقيمة معتدلة تشبه قلنسوات الإغريق، ويحملون تروسا صغيرة مستديرة، وسهاما وقسيا وخناجر وسيوفا، وكانوا يمتطون جيادا عني بانتقائها وأعدت كامل الإعداد على حساب دولة البندقية، وسيوفهم وعددهم تشبه ما يستخدمه الأتراك، وكانوا كذلك - كهؤلاء - يضعون أقدامهم على ركابات قصيرة ويجلسون على مقاعد مرتفعة. وكان هؤلاء الجند ذوي نفع عظيم في مناوءة الأعراب، ولكنهم ما كانوا يقدرون على الحرب السجال، مثلهم في ذلك مثل رجال الحرب في غرب أوروبا وشمالها المدججين بالسلاح.
وفي طليعة هذه الفرقة الرائعة أقبل كنراد في زي كأزياء الجند، ولكنه أفخر ثيابا، حتى لقد بدا للرائي وكأنه يتألق ذهبا وفضة، وقد علق بقلنسوته ريشة ناصعة البياض، ووثقها بمشبك من الماس، وهي تكاد بطولها تناطح السحاب، وكان الجواد النبيل الذي يمسك بعنانه يقفز ويدور يمنة ويسرة، مبديا خفته ورشاقته على صورة ربما كل منها فارس أقل مهارة من المركيز الذي ملك زمامه برشاقة بإحدى يديه، ورفع بالأخرى عصاة لها من مطلق النفوذ على صفوف جيشه ما للمركيز على جواده، ولكن سلطان المركيز على محاربيه - رغم هذا - كان ظاهرا أكثر منه حقيقة، إذ كان يسير الهوينى إلى جواره رجل ضئيل الجسم، يستر جسمه كله بالسواد، أجرد اللحية والشارب، ومظهره على الجملة وضيع زري إذا قيس بالأبهة والعظمة التي تحيط به، ولكن هذا الرجل المسن الزري الهيئة كان أحد أولئك المندوبين الذين كانت حكومة البندقية تبعث بهم إلى المعسكرات كي يرقبوا مسلك الزعماء الذين وكلت إليهم القيادة، ولكي يبقوا على الغيرة ويحافظوا على نظام التجسس والرقابة اللذين تميزت بهما سياسة الجمهورية زمنا طويلا.
وكان كنراد قد أخذ عن رتشارد روح الفكاهة فأحرز شيئا من رضاه، وما إن اقترب من رتشارد حتى هبط ملك إنجلترا خطوة أو خطوتين كي يقابله، وصاح به في الوقت ذاته قائلا: «ها، أفقد أتيت أيها اللورد مركيز على رأس جندك، وظلك - كعادته - يتبعك سواء أشرقت الشمس أو لم تشرق! هل لي أن أسألك إن كانت إمرة الجند بيدك أم بيد ظلك؟»
فهم كنراد بالجواب وعلى شفتيه ابتسامة، حينما أخذ رزوال ذلك الكلب النبيل ينبح نباح الهائج المستشري، ثم قفز إلى الأمام، وأفلت النوبي زمام الكلب من يده، فانطلق الكلب ووثب على جواد كنراد النبيل، وأمسك بالمركيز من حلقه وأنزله عن صهوة الجواد، فأخذ الراكب ذو الريشة يتدحرج فوق الرمال، وفر الحصان - وهو يرتعد - يعدو عدوا ثائرا خلال المعسكر.»
فقال الملك للنوبي: «أشهد لقد أصاب كلبك الفريسة الحق فيمن أنزل، وإني لأقسم بالقديس جورج إنه لحيوان نبيل! أبعده خشية أن يخنق الرجل.»
Page inconnue