والملاحظة أن هذه «الحيثيات» التي تعرض علينا الألوان المختلفة من السلوك المعيب أو المضحك أو المقزز إلخ، تأتي من ناحية البنية أو التركيب اللغوي الأصلي على هيئة جملة واحدة (هو من النوع الذي، أو هو ذلك الذي) تتبعها سلسلة طويلة من الصيغ المصدرية المتلاحقة. ولا يغير ثيوفراسط هذا القالب إلا في حالات نادرة نجده فيها يستعيض عنه بتعبيرات مقاربة، كأن يقول مثلا «ومن عادته أن يفعل كذا وكذا، أو أن لديه القدرة على كذا وكذا»، بحيث يستطرد في الأوصاف التي تؤيد التعريف الذي بدأ به. هذه الأوصاف التي يسردها للتصرفات السلوكية تأتي عادة على شكل تقديرات وصفية لمجموعة من العادات التي يتبعها «الطبع» الذي يتحدث عنه، كما تستلزم مجموعة أخرى من اللوازم التعبيرية والمواقف السلوكية التي يتفاعل معها صاحب هذا الطبع ويسجلها المؤلف بصورة نمطية مطردة. وهذا الأسلوب النمطي المطرد يخلو في معظم الأحيان من أي تنويع أسلوبي، كما يستغني عن أي زخرف بلاغي، بحيث نجد أنفسنا - كما سبق القول - أمام تقريرات موضوعية محايدة عن ألوان متفرقة من سلوك البشر العاديين في حياتهم اليومية، وبحيث نتصور أننا أمام عالم نفسي سلوكي حديث يرصد الظواهر، ولا يعطي نفسه الوقت ولا الفرصة لتحليل معانيها الباطنة أو دلالتها على الحالة النفسية للشخصية التي يتحدث عنها. ومع ذلك فلا يصح مرة أخرى أن نعمم الحكم؛ لأننا نشعر في بعض اللوحات أن الفيلسوف والعالم قد فك قيوده وترك نفسه للفنان أو للقاص الكامن في داخله، بل إننا لنلمس هذا أحيانا في تشكيل «المشاهد والمواقف المختلفة واللغة الدقيقة الحية المعبرة عنها». ويكفي في هذا الصدد أن يراجع القارئ بعض اللوحات (مثل مروج الإشاعات والجبان في اللوحتين رقم 8 و25 على الترتيب) ليرى كيف تحول القلم فجأة إلى ريشة ترسم موقفا حيا بالغ الطرافة والروعة لا ينقصه إلا أن يدخل في بناء قصصي أو مسرحي أكثر تركيبا وأقدر على تضفير خيوط «الحبكة» والوصول بها إلى الذروة ثم الحل. ولو ألقينا على سبيل المثال نظرة خاطفة على لوحة المجامل (اللوحة الخامسة) لأدهشتنا قدرة ثيوفراسط على تصوير المواقف المضحكة لهذا الإنسان العجيب الذي يتسول رضا السادة بكل وسيلة، فيكسب تعاطفنا معه ورثاءنا له، وربما التمسنا له الأعذار وفكرنا في الأسباب الاجتماعية التي ألجأته لإهانة نفسه بهذه الصورة المضحكة المبكية. هل نستغرب بعد ذلك أن يكون هذا الكتاب منبع وحي لا ينضب لكوميديا الموقف، وللسخرية القاسية أو الرحيمة من تفاهة «البرجوازي»، وغباء الإنسان العادي أو سذاجته أو ضيق أفقه، وإثباته على مر التاريخ أنه لا يتعلم أبدا من التاريخ؟ (8)
ذكرت من قبل أن كتاب الطباع ليس عملا فلسفيا بالمعنى الدقيق، ولا يندرج تحت فلسفة الأخلاق كما يفهمها المشتغلون بها. ومع ذلك فهو عمل كتبه فيلسوف تتلمذ على المعلم الأول وكتبه في الأخلاق، وله هو نفسه فلسفته الأخلاقية المستقلة من بعض الوجوه. فإلى أي حد تأثر بأستاذه في شكل هذا الكتاب وفي مضمونه؟ وكيف انعكست فلسفته في الأخلاق - ولو بصورة غير مباشرة! - على فهمه للطباع ورسمه لأنماطها الطريفة أو المقززة؟
من المعروف أن أرسطو يتوسع خلال وصفه لإحدى الفضائل أو الرذائل توسعا شديدا في عرضه لألوان السلوك والتصرفات التي تميز الشخص الذي تنطبق عليه تلك الفضيلة أو الرذيلة التي عني بتحديد ماهيتها؛ أي إن الجانب العملي أو الحياتي المتعلق بالممارسة لم يغب عن بال صاحب الأخلاق إلى نيقوماخوس أو الأخلاق الأويديمية وغيرهما. بيد أن الإنصاف للحقيقة يقتضينا القول بأن «طباع» ثيوفراسط لا تفهم من جهة الأخلاق الأرسطية، بل على أساس فلسفته هو نفسه في الأخلاق.
إن عنوان الكتاب لا يخلو في حد ذاته من دلالة هامة؛ (فثيوفراسط هو أول من استخدم كلمة «الطباع» (خاركتير
17
للتعبير عن النفس الإنسانية ووصف دخيلتها. وأخذت عنه اللغات الأوروبية هذه الكلمة مع المعنيين اللذين تتضمنهما: معنى «الطابع» الذي يدل عليه تركيبها اللغوي بما في ذلك الأداة المستعملة في الطبع أو الختم، ثم معنى «المطبوع» أو الهيئة الحاصلة من الطبع أو الختم (أو الصك عندما تكون بصدد طبع العملة أو صكها). ومن هنا يمتد المعنيان إلى الإنسان وطبعه الذي تكشف عنه ملامح وجهه أو سمات تعبيره ونطقه التي يمكن أن تتطبع بلهجة أو لكنة معينة. وفي الحالين يفهم من الطبع أنه ثابت لا يمكن تغييره، وإن أمكن تربيته وصقله وتهذيبه بوسائل مختلفة. ولا بد أن تطبيق الكلمة مع المعنيين المقترنين بها على الإنسان هو الذي حمل ثيوفراسط على أن يضيف إليها صفة شارحة، بحيث أصبحت هي الطباع الأخلاقية التي «تنطبع» على ذلك الجزء من أجزاء النفس الذي تمتد فيه جذور الدوافع التي تجعل الفرد يقدم على هذا الفعل أو ذاك، والذي لا دور للعقل فيه إلا بقدر طاعته لأوامره وإرشاداته. والواقع أن البنية اللغوية والشكلية للنماذج أو الأنماط الثلاثين ترتبط بالمعاني التي استخلصناها من كلمتي العنوان؛ فلا يكاد المؤلف ينتهي من تقديم تعريفه لمفهوم الطبع وللشخص الذي يتصف به حتى تتوالى الصيغ المصدرية التي تسرد علينا أنواع السلوك المختلفة من حيث هي نتائج مترتبة على ذلك الطبع الذي «تطبع» به الإنسان وانتهى الأمر. (ربما تتجلى هنا أيضا الطبيعية «القدرية» للعقل والوجدان اليوناني، على الرغم من حديث بعض الفلاسفة - مثل أرسطو وثيوفراسط نفسه - عن الأسس المادية والبيولوجية للأخلاق والطباع الثابتة.)
ولكن ما هو الأصل في هذه الطباع - أو الماهيات الأخلاقية والنفسية - الثابتة؟
يرى أرسطو أن الفضيلة والرزيلة ينشآن بتأثير ثلاثة عوامل متداخلة؛ هي طبيعة الإنسان، والتعود أو المران والممارسة، ودور العقل في الإرشاد والتوجيه؛ مع العلم بأن دور العاملين الأولين ووزنهما أكبر وأهم. وإذا كان أرسطو يتصور الطبيعة على أنها مجرد استعداد أو قدرة على اكتساب الفضيلة عن طريق التعود والتعلم، فإن تلميذه ينطلق من هذه البداية ليقيم الفضيلة والرذيلة، ومن ثم الأخلاق بأكملها، على أساس بيولوجي؛ فالإنسان مفطور بطبيعته على استعدادات معينة للسلوك يسميها ثيوفراسط «بذور الفضيلة». وهي استعدادات يمكن تنميتها من خلال الرعاية والتوجيه والرقابة والتهذيب؛ أي باختصار من خلال التربية (وكلمة التربية بمعناها اللغوي الأصلي عند الإغريق تدل على الصوغ أو التكوين أو التشكيل؛ أي على الطبع كما شرحناها من قبل). ويترتب على هذا أن الإنسان بحكم طبيعته ومولده لا يمكن أن يكون كائنا كاملا، وإنما يمكنه بلوغ الكمال عن طريق التربية. وإذا انعدمت التربية أو أسيء استخدامها أو انحرفت عن وسائلها وغاياتها الصحيحة، فلا بد أن يؤدي به ذلك إلى الانحراف. وطبيعي أن تكون التربية أبسط وأيسر في السنوات المبكرة من حياة الإنسان؛ لأن «ماهيته» أو «جوهره» يكون أكثر مرونة وطواعية للتشكيل و«الطبع». ولو تصورنا إنسانا ينشأ بغير تربية فاسدة، فإن الدوافع الجامحة التي تتحكم في أفعاله هي التي ستحدد ماهيته وتشكل «نواته» الباطنة، ومع الزمن تتصلب هذه النواة أو تتدرع كالسلحفاة بقشرة سميكة يصبح من المتعذر إن لم يكن من المستحيل اختراقها أو تغييرها إلا بتدمير صاحبها؛ لأن هذا الإنسان قد انطبع بطابع ثابت هو الذي يحدد أفعاله بإرادته أو في الأغلب الأعم بغير إرادته.
والطباع التي يقدمها هذا الكتاب بصور عيانية حية هي من النوع الأخير. وقد حفظ لنا ستوبايوس
18
Page inconnue