وظلت دولت تعمل في بيت عزت باشا، وظلت على رغم أنفها عفيفة، فمحسن يصدف عنها إكراما لمكانها في البيت، وهي لا تبذل في سبيل اجتذابه إليها أية محاولة، فقد كانت تدرك الفارق بينهما، وكان إدراكها هذا يمحو مطامعها، ويقضي عليها قبل أن تحاول الظهور.
وماتت أمها، فلم يبق لها إلا هذا البيت، وعدل عزت باشا نهائيا عن فكرة إبعادها، واطمأن لما كشف بعينه الواعية انعدام الصلة بينها وبين محسن. ولم يحضر حامد وفاة أمه، فقام عنه خيري ومحسن بكل الأعباء وأرسلا يعزيانه، واكتفى هو بخطاب أرسله إلى أخته، وبعض خطابات أخرى أرسلها إلى الباشا ومحسن وخيري، ولم ينس يسري، فقد كان دائما يقدر أنه هو صاح بالفضل الأول عليه، وأنه عن طريقه استطاع أن يصل إلى عزت بك الذي أصبح باشا، ثم إلى هذه البعثة وإلى ذلك المستقبل الذي ينتظر عودته.
وقد حصل حامد على الدكتوراه، ولكن وفاة أمه واطمئنانه على مكان دولت جعلاه يطلب مد البعثة لينال شهادات أخرى. وكان عزت باشا وزيرا فأجيب طلبه.
واستطاعت فايزة أن تنتفع بهذه المعلومات القليلة التي كانت قد تعلمتها قبل أن تصاب، فتمكنت أن تتغلب على البله بالقراءة، فقرأت ولم تكن تفعل شيئا إلا أن تقرأ، وهل يمكن أن تفعل شيئا؟ قراءة تستريح منها بالسينما، وتستعين هناك بالقراءة أيضا، كانت تقرأ ترجمة الحوار التي كانت تكتب إلى جانب الشاشة على شاشة أخرى صغيرة، وكان رأسها يظل رائحا غاديا بين الشاشتين، ولكنها كانت تستمتع بما تشاهد. ولم تفكر بطبيعة الحال كما لم يفكر أهلوها أن تذهب إلى أفلام مصرية ناطقة، فما كانت هناك شاشة صغيرة تستعين بها. فإن كان لا بد من فيلم مصري فصامت، كحياتها، كآذانها، واستطاعت مع كل هذا أن تجد في هذه الحياة جمالا واستطاعت أن تضحك من النكتة المكتوبة، واستطاعت أن تلقي إلى قلبها إشراقا بريئا صنعته لنفسها من ثقافتها ومن قلبها الغض ومن عطف المحيطين بها ومن حبهم. •••
وجرت الحياة شبه رخاء لعزت باشا، فاشترك في الوزارة عدة مرات، وحصلت مصر على المعاهدة، وكان من الذين يرون فيها خطوة إلى الاستقلال وليست الاستقلال جميعا. وحاول عزت باشا أن يصرف كثيرا من جهده ووقته لإسعاد زوجته، وتقبلت إجلال محاولاته في شكر وتقدير، فكان لا يني عن طمأنتها على وفية، فقد كانت الأنباء تصل إليه دائما عنها، وكانت أنباء يرتاح لها فؤاده وفؤاد زوجته. وكانا يكتبان هذه الأنباء لفايزة فتفرح وتظهر فرحها في براءة حبيبة. وكانت وفية تأتي إليهما في كل عام، بل كانت تأتي إليهما خلال العام مرات، فقد كان لها من كياسة زوجها وغناه ما يهيئ لها هذا المجيء كلما شاءت.
وكان خيري يحرص على أن يراها مرة عند مجيئها ومرة قبل ذهابها، وكان اللقاء يثير بعض ذكريات ما تلبث أن تصطدم بالواقع، فتذوب مع الزمان الماضي الذي انبعثت منه.
وكان محسن يسير في طريقه المرسوم عابثا جادا، ناجحا في دروسه ناجحا في مغامراته، وإن جد عليه شيء فهذا الاهتمام المفاجئ بأعمال أبيه السياسية، وبالحزب وبالصراع بينه وبين الأحزاب الأخرى. ولكن اهتمامه لم ينل من حق دراسته أو من الحقوق الأخرى التي يتيحها لشبابه، ولم يكن لهوه جميعا نساء وخمرا، بل كان كإخوانه يمتع نفسه بكل شيء، ومناحي المتعة عنده كثيرة، فهو يحب المسرح، ويحب الأدب، ويطرب للشعر ويسعى إلى مجالسه، وينتشي للغناء ويهفو للنكتة، ويفطن إليها مهما تكن خافية. الحياة جميعها رقيقة الأستار أمام عينيه بأعبائها ولهوها، بجدها وهزلها، بوقارها الذي تفرضه عليه، وبعربدته التي يفرضها هو عليها، يحب من حوله ويبذل جهده ليحبوه، ويحب الحياة ويبذل جهده أن تحبه الحياة. وحين أقبلت بوادر الحرب استقبلوها في اهتمام ساخر، فقد عرفوا أين يقضون لياليهم. ولم يمنعهم النور المحبوس داخل الحجرات أن ينعموا وإن حرموا بعض المتع، فقد استطاعت نفوسهم المرتاحة الهادئة أن تقبل الحرمان في نكتة أو ضحكة أو تعبيسة واهنة ما تلبث أن تزول في متعة أخرى - مهما تكن هذه المتعة - هي النقاش حول تطورات الموقف الحربي، وحول أفضلية الألمان على الإنجليز أو أفضلية الإنجليز على الألمان. على أن النقاش لم يكن في يوم عنيفا، فقد كان الساسة يكرهون الإنجليز، وكان كره المستعمر مغروسا في النفوس شب معها وكبر، فكان الرأي العام يكاد يتجه بكله إلى رجاء هزيمة الإنجليز لمجرد الانتقام منهم لا بفكرة أخرى، لا يقف رجاؤهم هذا عند حد إلا إذا ذكر أحدهم الآخر بأن الألمان قد يكونون شرا في استعمارهم من الإنجليز، وأننا قد نبدأ عهدا جديدا من استعمار جديد يحتاج إلى بدء مفاوضات أخرى كانت قد وصلت إلى معاهدة الشرف والاستقلال. وما كانت شيئا قليلا. وعندما تبدو هذه الحجج في أثناء النقاش تتجه رغبة الانتقام المنطلقة عن العاطفة إلى التفكير، بعض التفكير، وينتهي النقاش على غير هزيمة أو انتصار.
الفصل الحادي والعشرون
أوغلت الحرب فلم تعف أحدا، ولم يستطع أحد مهما يتح له من اطمئنان أن يباعد ما بينه وبينها.
فقد عادت وفية إلى مصر تحمل طفلها عزت جميل. ولعلك مدرك من تسميتها لابنها أنها أثيرة على زوجها مجابة الرجاء عنده يبذل غابة جهده لإرضائها، فهو يسمي ابنهما باسم أبيها ولا يسميه باسم أبيه. ولعلك مدرك أيضا أنها سعت مع الأيام، فلحبها القديم في نفسها آثار. وابنها، ابنها أرسلته إليها السماء الكبيرة فترى في ابتسامته ابتسامة الأيام، وترى في طلعته اعتذارا عن حب كبير لم تتحقق آمالها فيه. ولعلك مدرك من وجود هذا الابن أن الزواج أثمر، وأن قلبي الزوجين قد التقيا على ولدهما. وأني مطمئنك أيضا أنهما التقيا على تلك الصداقة الحبيبة التي ينشأ في ظلالها الحب الرقيق الناعم العميق، تزيده المعاشرة اطمئنانا وتزيده الأيام توثقا، ذلك الحب الذي يولد صغيرا كالطفل ويتغذى من الود والوفاق فينمو مع الأيام الطوال، ويستطيع مع هذه الأيام أن يمد جذوره في حياة الزوجين فيثبت قويا على الأعاصير والعواصف مهما يكن هبوبها من ماض جياش بالهوى، أو من جهل الزوجين كليهما بالآخر قبل الزواج. اطمأنت الحياة بالزوجين، وثبت فيها العطف المزدهر والود الوثيق. وحين عادت وفية إلى بيت أبيها كان خيري يلقاها وتتصافح منهما الأيدي وتثب إلى الذهن خيالات من الماضي فلا تجد في نفسيهما إلا حبا دارسا أصبح صداقة وطيدة يحفها الإكبار والإعجاب، والذكريات والأمنيات المفعمة برجاء السعادة والرغد والنجاح في الحياة.
Page inconnue