Les Vertus de Médine et l'Étiquette pour y Vivre et Visiter
فضل المدينة وآداب سكناها وزيارتها
Maison d'édition
مطبعة النرجس
Numéro d'édition
الأولى
Année de publication
١٤٢١هـ/٢٠٠٠م
Genres
فضل المدينة وآداب سكناها وزيارتها
إعداد: عبد المحسن بن حمد العباد البدر
الحمدُ لله نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذ بالله من شرورِ أنفسنا ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، مَن يهدِه الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، وخليلُه وخِيرتُه من خلقِه، أَرسلَه الله بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنِه وسراجًا منيرًا، فدلَّ أُمَّتَه على كلِّ خيرٍ، وحذَّرها من كلِّ شرٍّ، اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله وأصحابِه ومَن سَلَكَ سبيلَه واهتدى بهديِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعدُ:
1 / 3
فإنَّ مدينةَ الرَّسول الكريم ﷺ طَيْبةَ الطيِّبةَ مهبطُ الوحي ومتنزَّلُ جبريلَ الأمين على الرسول الكريم ﷺ، وهي مأرزُ الإيمان، وملتقى المهاجرين والأنصار، وموطن الذين تبوؤوا الدارَ والإيمان، وهي العاصمة الأولى للمسلمين، فيها عُقدت ألويةُ الجهاد في سبيل الله، فانطلقت كتائبُ الحق لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومنها شعَّ النور، فأشرقت الأرض بنور الهداية، وهي دارُ هجرة المصطفى ﷺ، إليها هاجر، وفيها عاش آخر حياته ﷺ، وبها مات، وفيها قُبر، ومنها يُبعث، وقبره أول القبور انشقاقًا عن صاحبه، ولا يُقطع بمكان قبر أحد من الأنبياء سوى مكان قبره ﷺ.
وهذه المدينة المباركة شرَّفها الله وفضّلها، وجعلها خير البقاع بعد مكة، ويدل لتفضيل مكة على المدينة قولُ الرسول الكريم ﷺ لمّا أخرجه الكفار منها واتَّجه
1 / 4
إلى المدينة مهاجرًا، قال مخاطبًا مكة: "والله إنَّكِ لَخيْرُ أرضِ الله، وأَحبُّ أرضِ الله إلى الله، ولولا أنِّي أُخرجتُ منكِ ما خرجتُ"، رواه الترمذي، وابن ماجه، وهو حديثٌ صحيحٌ.
وأمَّا الحديثُ الذي يُنسبُ إلى الرَّسولِ ﷺ، وهو:"أنَّ النبِيَّ ﷺ دعَا وقال: "اللَّهمَّ إنَّكَ أخْرَجْتَنِي مِن أَحَبِّ البلادِ إلَيَّ - يعني مكَّةَ - فَأَسْكِنِّي في أحبِّ البلادِ إليك - يعني المدينةَ ـ"، فهو حديثٌ موضوعٌ، ومعناه غيرُ مستقيم؛ لأنَّه يدلُّ على أنَّ الأحبَّ إلى الله غيرُ الأحبِّ إلى رسول الله ﵊، والأَحَبّ إلى الرَّسول غير الأحبِّ إلى الله، ومِن المعلومِ أنَّ مَحبَّةَ الرَّسولِ ﷺ تابعةٌ لِمحَبَّة الله ﷾، ليس الأحب إلى الله غير الأحب إلى الرسول ﷺ.
1 / 5
وقد رأيتُ كتابةَ هذه الرسالةِ في فضل هذه المدينة المباركة وبيان آداب سُكناها وزيارتها، فأذكرُ فيها جملةً من فضائلِها، ثمَّ جملةً مِن آدابِ سُكناها، ثمَّ جملةً من آداب زيارتِها:
فمِن فضائلِ هذه المدينةِ المباركة: أنَّ الله تعالى جعلَها حَرَمًا آمنًا كما جعل مكَّةَ حَرمًا آمنًا، وقد جاء عن النَّبِيِّ الكريمِ ﷺ أنَّه قال: " إنَّ إبراهيمَ حرَّمَ مكَّةَ، وإنِّي حرَّمتُ المدينةَ"، رواه مسلم، والمقصودُ من هذا التحريمِ المضافِ إلى محمدٍ ﷺ وإلى إبراهيمَ ﷺ هو إظهارُ التحريم، وإلاَّ فإنَّ التَّحريمَ مِن الله ﷿، وهو الذي جعل هذا حَرَمًا، وجعلَ هذا حَرَمًا.
واختصَّ الله ﷿ هاتيْن البلدَتَيْن بهذه الصِّفَةِ التي هي الحرمة دون سائر البلاد، ولَم يأتِ دليلٌ ثابتٌ يدلُّ على تحريمِ شيءٍ غير مكَّة والمدينة، وما شاعَ على أَلسِنَة كثيرٍ من النَّاسِ من أنَّ المسجدَ
1 / 6
الأقصَى ثالثُ الحَرمَيْن هو من الخطأ الشائعِ؛ لأنَّه ليس هناك للحرمين ثالثٌ، ولكنَّ التعبيرَ الصحيح أن يُقال: ثالث المَسجِدَيْن - أي المُشَرَّفيْن المُعظَّمَيْن ـ، والنبِيُّ ﷺ جاء عنه ما يدلُّ على فضلِ هذه المساجدِ الثلاثة وعلى قصدِها للصلاةِ فيها، حيث قال ﵊: "لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلاَّ إلى ثلاثةِ مساجد، المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصَى"، رواه البخاري ومسلم.
ثمَّ إنَّ المقصودَ بالحَرَم في مكَّةَ والمدينة ما تُحيطُ به الحدود لكلٍّ منهما، هذا هو الحرَمُ، وما شاعَ من إطلاقِ الحرَمِ على المسجدِ النَّبَويِّ فقط فهو من الخطأ الشائع؛ لأنَّه ليس هو الحرمُ وحده، بل المدينة كلُّها حَرَمٌ ما بين عَيْرٍ إلى ثَوْر، وما بين لابَتَيْها، وقد قال ﵊: "المدينةُ حرَمٌ ما بين عَيْر إلى ثور"، رواه البخاري ومسلم.
1 / 7
وقال ﷺ: "إنَّي حرَّمتُ ما بين لابَتَيْ المدينة أن يُقطَع عِضاهُها، أو يُقتل صيدُها"، رواه مسلم.
ومِن المعلومِ أنَّ المدينةَ قد اتَّسَعت في هذا الزَّمان حتَّى خرَجَ جزءٌ منها عن الحَرَم، ولِهذا لا يُقال: إنَّ كلَّ المباني الموجودةَ في المدينة من الحَرَمِ، ولكن ما كان داخلَ حدودِ الحرم منها فهو حرمٌ، وما كان خارِجَ حدود الحَرَم فإنَّه يُطلقُ عليه أنَّه من المدينة، ولكن لا يُقال إنَّه من الحرم.
وقد جاء عن النَّبِيِّ الكريمِ ﷺ في بيان حدود حرَم المدينة أنَّ الحرَمَ ما بين اللاَّبتَين، أو ما بين الحرَّتين، أو ما بين الجَبلَين، أو ما بين عَيْرٍ إلى ثَور، ولا تنافيَ ولا اضطراب بين هذه الألفاظ؛ فإنَّ الأصغرَ داخلٌ في الأكبرِ، فما بين اللاَّبتين حَرَمٌ، وما بين الحرَّتين حَرَمٌ، وما بين عيْر إلى ثورٍ حرمٌ، وإذا اشتبه الأمرُ في شيءٍ يُحتمَل أن يكون من الحرَم، ويُحتمل أن يكون من
1 / 8
غيرِه، فإنَّ هذا أمثلُ ما يُقال فيه إنَّه من الأمور المشتبهات، والأمورُ المشتبهات بيَّن النَّبِيُّ الكريمُ ﵊ الطريقةَ التي تُسلَكُ فيها، وهي أن يُحتاط فيها، كما قال النبِيُّ ﷺ في حديث النُّعمان بن بَشير المتفق على صحَّته: "فمَن اتَّقى الشُّبهات فقد اسْتبرَأَ لدينِه وعِرضِه، ومَن وقع في الشُّبُهات وقعَ في الحرام".
ثمَّ إنَّ من الفضائلِ: التي جاءت في شأن هذه المدينة المباركةِ أنَّ النبِيَّ ﷺ سَمَّاها "طيبة"، و"طابة"، بل إنَّه ثبت في صحيح مسلم أنَّ اللهَ سَمَّاها "طابة"، قال النَّبِيُّ ﷺ: "إنَّ اللهَ سَمَّى المدينةَ طابة"، وهذان اللَّفظان مُشتقَّان من الطيب، ويَدلاَّن على الطيب، فهما لفظان طيِّبان، أطلقَا على بُقعةٍ طيِّبة
1 / 9
ومِن فضائلِها: أنَّ الإيمانَ يَأْرِزُ إليها، كما قال ﷺ: "إنَّ الإيمانَ لَيَأْرِزُ إلى المدينة كما تَأْرِزُ الحَيَّةُ إلى جُحرِها"، رواه البخاريُّ ومسلم.
ومعنى ذلك أنَّ الإيمانَ يتَّجِه إليها ويكون فيها، والمسلمون يَؤُمُّونَها ويَقصِدونها؛ يدفعُهم إلى ذلك الإيمانُ ومَحبَّةُ هذه البُقعةِ المباركةِ التي حرَّمها الله ﷿.
ومِن فضائلها: ما جاء عن النَّبِيِّ ﵊ أنَّه وَصفَها بأنَّها قريةٌ تأكلُ القُرى، قال ﷺ: "أُمرتُ بقريةٍ تأكل القُرى [يعني أُمرَ بالهجرةِ إلى هذه القريةِ التي تأكلُ القُرى] يقولون لها: يَثْرِب، وهي المدينة"، رواه البخاري ومسلم.
فقولُه ﵊: " تأكُلُ القُرى" فُسِّرت بأنَّها تنتصرُ عليها، وتكون الغلبَةُ لَها على
1 / 10
غيرِها من القُرى، وفُسِّرت بأنَّها تُجلَبُ إليها الغنائم التي تَحصُلُ في الجهاد في سبيل الله، وتُنقَلُ إليها، وكلٌّ من هذين الأمرَين قد وَقَعَ وحَصَلَ، فحَصَلَ تغَلُّبُ هذه المدينة على غيرِها من المدن، بأَن انطلَقَ منها الهُداةُ المُصلِحون والغُزاةُ الفاتِحون، وأخرجوا النَّاسَ من الظُّلمات إلى النُّورِ بإذن ربِّهم، فدخل النَّاسُ في دِينِ الله ﷿، وكلُّ خيرٍ حصل لأهل الأرضِ فإنَّما خرجَ من هذه المدينة المباركة، مدينة الرَّسول ﷺ، فكونُها تأكل القرى يصدُقُ على كون الانتصار لَها على غيرِها من المدن، كما حصل ذلك في الصَّدر الأول، ومع الرَّعيل الأول من أصحاب رسول الله ﷺ والخلفاء الرَّاشدين ﵃ وأرضاهم، وكذلك أيضًا حصولُ الغنائم والإتيانُ بها
1 / 11
إليها، وهذا أيضًا قد حصلَ، فإنَّ النَّبِيَّ ﷺ أخبَرَ عن إنفاقِ كنوزِ كِسرى وقيصر في سبيل الله ﷿، وقد حصل ذلك، فقد أُتِيَ بهذه الكنوز إلى هذه المدينة المباركة، وقُسِّمت على يدِ الفاروق رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
ومن فضائلها: أنَّ النَّبِيَّ ﷺ حثَّ على الصَّبرِ على لأوائِها وجَهدِها وقال: "المدينةُ خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون"، قال ذلك في حقِّ الذين فكَّروا في الانتقالِ من المدينة إلى الأماكنِ التي فيها الرَّخاء، وسَعَة الرِّزق، وكثرة المال، فالنَّبِيُّ ﷺ قال: "المدينةُ خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون، لا يَدَعُها أحدٌ رغبةً عنها إلاَّ أبدَلَ اللهُ فيها مَن هو خيرٌ منه، ولا يثبُتُ أحدٌ على لأْوَائِها وجَهدِها إلاَّ كنتُ له شفيعًا أو شهيدًا يوم القيامة"، رواه مسلم.
1 / 12
وهذا يدلُّنا على فضلِ هذه المدينة، وفضلِ الصَّبرِ على الشدَّة واللأوَى والجَهد والضَنْك إذا حصلَ لأحدٍ، فلا يكون ذلك دافعًا له إلى أن ينتقلَ منها إلى غيرِها يبحَثُ عن الرَّخاءِ وعن سَعَة الرِّزقِ، بل يصبر على ما يحصلُ له فيها، وقد وُعِدَ بهذا الأجرِ العظيم، والثَّوابِ الجزيلِ من الله ﷾.
ومن فضائلها: أنَّ النَّبِيَّ ﵊ بَيَّن عِظَمَ شأنِها وخطورةَ الإحداثِ فيها عندما بَيَّن حُرمتَها قال: "المدينةُ حَرَمٌ ما بين عَيْرٍ إلى ثَور، مَن أَحدَث فيها حَدَثًا أو آوَى مُحدِثًا فعليه لعنةُ الله والملائكةِ والنَّاسِ أجمعين، لا يَقبلُ اللهُ منه صَرْفًا ولا عَدْلًا"،رواه البخاري ومسلم.
ومِن فضائِلِها: ما جاء عن النَّبِيِّ ﷺ من الدُّعاءِ لَها بالبرَكَة، ومِن ذلك قولُه ﷺ: "اللَّهمَّ بارِك لَنا في
1 / 13
ثَمَرِنا، وبارِك لَنا في مدينَتِنا، وبارِك لنا في صاعِنا، وبارِك لَنا في مُدِّنا"، رواه مسلم.
ومِن فضائِلِها: أنَّها لا يدخُلُها الطَّاعونُ ولا الدَّجَّالُ، قال ﷺ: "على أنقابِ المدينة ملائكةٌ، لا يَدخُلُها الطَّاعونُ ولا الدَّجَّالُ"، رواه البخاري ومسلم.
والأحاديثُ في فضلِ المدينة كثيرةٌ جدًّا، وهذا الذي ذكرتُ جُملةٌ منها مِمَّا في الصحيحين أو أحدِهما.
ومِن أحسنِ ما أُلِّف في فضائل المدينة الكتاب الذي أعدَّه الشيخ الدكتور صالِح بن حامد الرفاعي لنيل درجة الدكتوراه في الجامعة الإسلامية بالمدينة بعنوان "الأحاديث الواردة في فضائل المدينة جمعًا ودراسةً"، وأُوصِي طلبةَ العلم بالرجوعِ إليه والاستفادةِ منه.
1 / 14
ومِمَّا اشتملت عليه هذه المدينةُ مسجدان عظيمان، هما: مسجد الرَّسول الكريم ﷺ، ومسجد قباء.
أما مسجدُ الرَّسول الكريم ﷺ فقد جاء في فضلِه أحاديثُ منها قولُه ﵊: "لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلاَّ إلى ثلاثةِ مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى"، رواه البخاري ومسلم. ففي هذه المدينة أحدُ المساجد الثلاثة التي بناها أنبياء، وهي التي لا تُشَدُّ الرِّحال إلاَّ إليها.
وأيضًا جاء ما يدلُّ على فضل الصلاة فيه، وأنَّها خيرٌ من ألف صلاة، قال ﵊: "صلاةٌ في مسجدي هذا أفضلُ من ألف صلاة فيما سِواه إلاَّ المسجد الحرام"، رواه البخاري ومسلم. فهذا فضلٌ عظيمٌ وموسِمٌ من مواسم الآخرة، الأرباح فيه مضاعفةٌ، ليست بالعشرات ولا بالمئات، ولكن أكثر من الألف.
1 / 15
ومن المعلومِ أنَّ أصحابَ التِّجارات الدُنيوية إذا عَرَفوا أنَّ سِلعَهم تَروجُ في مكانٍ ما في وقتٍ من الأوقات، فإنَّهم يستعدُّون ويتهيَّئون لذلك الموسم، ولو كان الرِّبحُ النصفَ أو الضعفَ، ولكن كيف وهنا الرِّبح في الآخرة ليس عشرة أضعاف، ولا مائة ضعف، ولا خمسمائة، ولا ستمائة، بل أكثر من ألف؟!
ومِمَّا يُنبَّه عليه حول هذا المسجد المبارَك أمورٌ:
الأول: أنَّ التضعيفَ لأجرِ الصلاة فيه بأكثرَ من ألف ليس مقيَّدًا بالفرضِ دون النَّفل، ولا بالنَّفلِ دون الفرض، بل لَهما جميعًا؛ لإطلاقِ قوله ﷺ: "صلاة"، فالفريضةُ بألف فريضة، والنَّافلةُ بألف نافلة.
الثاني: أنَّ التضعيفَ الواردَ في الحديثِ ليس مُختصًّا في البقعة التي هي المسجد في زمانه ﷺ، بل لَها ولكلِّ ما أُضيفَ إلى المسجدِ من زياداتٍ، ويَدلُّ
1 / 16
على ذلك أنَّ الخليفَتَيْن الرَّاشدَين عمر وعثمان ﵄ زادا المسجد من الجهةِ الأماميَّة، ومِن المعلومِ أنَّ الإمامَ والصفوفَ التي تلِيه في الزيادة خارجُ المسجد الذي كان في زمنه ﷺ، فلولا أنَّ الزيادةَ لَها حكمُ المزيد لَما زاد هذان الخليفتان المسجدَ من الجهةِ الأمامية، وقد كان الصحابةُ في وقتِهما متوافِرِين ولَم يعتَرِض أحدٌ على فِعلِهما، وهو واضحُ الدِّلالةِ على أنَّ التضعيفَ ليس خاصًّا بالبُقعةِ التي كانت هي المسجد في زمنِه ﷺ.
الثالث: في المسجد بُقعةٌ وَصَفها رسول الله ﷺ بأنَّها رَوضَةٌ من رياض الجَنَّةِ، وذلك في قولِه ﷺ: "ما بين بَيتِي ومِنبَري رَوضةٌ من رياض الجَنَّة"، رواه البخاري ومسلم، وتَخصيصُها بهذا الوصفِ دون غيرها من المسجدِ يدلُّ على فضلِها وتَميُّزِها، وذلك
1 / 17
يكون بأداء النَّوافِلِ فيها، وكذا ذِكر الله وقراءةُ القرآن فيها إذا لَم يَحصل إضرارٌ بأحدٍ فيها أو في الوصولِ إليها، أمَّا صلاةُ الفريضةِ فإنَّ أداءَها في الصفوفِ الأماميَّة أفضلُ؛ لقولِه ﷺ: "خيرُ صفوفِ الرِّجال أوَّلُها وشرُّها آخرُها"، رواه مسلم، وقوله ﷺ: "لو يَعلمُ الناسُ ما في النِّداءِ والصفِّ الأولِ، ثمَّ لَم يَجِدوا إلاَّ أن يسْتَهِموا عليه لاسْتهَموا عليه"، رواه البخاري ومسلم.
الرَّابع: إذا امتلأ المسجدُ النبويُّ بالمصلين، فلِمَن جاء متأخِّرًا أن يُصلِّيَ في الشوارِعِ بصلاةِ الإمامِ في الجهات الثلاث غير الجهة الأمامية، ويكون له أجر صلاة الجماعة، أمَّا التضعيف بأكثرَ من ألف فإنَّه خاصٌّ بِمَن كانت صلاتُه في المسجد؛ لقول النَّبِيِّ ﷺ: "صلاةٌ في مسجدي هذا خيرٌ من ألف صلاةٍ فيما سواه إلاَّ المسجد الحرام"، ومَن صلَّى في
1 / 18
الشوارع لَم يكن مُصلِّيًا في مسجدِه، فلا يَحصُلُ له هذا التضعيف.
الخامس: شاع عند كثيرٍ من الناس أنَّ مَن قَدِمَ إلى المدينة فعليه أن يُصلِّي أربعين صلاةً في مسجد الرَّسول ﷺ لحديثٍ في مسند الإمام أحمد عن أنس ﵁، عن النَّبِيِّ ﷺ أنَّه قال: "مَن صلَّى في مسجدي أربعين صلاةً لا تفوتُه صلاةٌ كُتبت له براءةٌ من النار ونَجاةٌ من العذابِ، وبَرِئَ من النفاق"، وهو حديثٌ ضعيفٌ لا تقومُ به الحُجَّةُ، بل الأمرُ في ذلك واسعٌ، وليس مَن قَدِمَ المدينةَ مُلزَمًا بصلواتٍ معيَّنةٍ في مسجده ﷺ، بل كلُّ صلاةٍ فيه خيرٌ من ألفِ صلاة، دون تحديدٍ أو تقييدٍ بصلواتٍ معيَّنة.
السادس: ابتُلِيَ كثيرٌ من المسلمين في كثيرٍ من الأقطارِ الإسلامية ببناء المساجد على القبورِ، أو دفن
1 / 19
الموتى في المساجد، وقد يتشبَّثُ بعضُهم لتسوِيغِ ذلك بوجود قبرِه ﷺ في مسجدِه، ويُجابُ عن هذه الشُّبهةِ بأنَّ النَّبِيَّ ﷺ هو الذي بنى المسجدَ أولَ قدومِه المدينة، وبنى بيوتَه التي تسكنُها أُمَّهاتُ المؤمنين بجوارِ مسجِدِه، ومنها بيت عائشة الذي دُفِن فيه ﷺ، وبقيت هذه البيوتُ كما هي خارج المسجد في زمن الخلفاء الرَّاشدين ﵃ وزمن معاوية ﵁، وزمن خلفاء آخرين بعده، وفي أثناء خلافة بني أُميَّة وُسِّع المسجدُ وأُدخلَ بيتُ عائشةَ الذي قُبِرَ فيه ﷺ في المسجد، وقد جاء عن النَّبِيِّ ﷺ أحاديثُ مُحكمةٌ لا تَقبَلُ النسخَ تدلُّ على تحريمِ اتِّخاذِ القبور مساجد، منها حديثُ جندب بن عبد الله البجليِّ ﵁ الذي سمِعَه من رسول الله ﷺ قبل وفاتِه بخمسِ ليالٍ قال فيه: سَمِعتُ رسول الله ﷺ قبل أن يَموتَ بخمسٍ يقول: "إنَّي أبرَأ إلى الله أن يكون لي
1 / 20
منكم خليلٌ، فإنَّ اللهَ اتَّخذَنِي خليلًا كما اتَّخذَ إبراهيمَ خليلًا، ولو كنتُ متَّخَذًا من أُمَّتي خليلًا لاتَّخذتُ أبا بَكر خليلًا، ألاَ وإنَّ مَن كان قبلكم كانوا يتَّخذون قبورَ أنبيائهم وصالِحيهم مساجد، ألاَ فلا تتَّخذوا القبورَ مساجدَ فإنِّي أنهاكم عن ذلك"، رواه مسلمٌ في صحيحه.
بل إنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا نزل به الموتُ حذَّرَ من اتِّخاذ القبور مساجد كما في الصحيحين عن عائشة وابن عباس ﵄ قالاَ: "لَمَّا نزل برسول الله ﷺ طَفِقَ يَطرحُ خميصةً على وجهه، فإذا اغتمَّ كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك: "لعنةُ الله على اليهودِ والنصارى اتَّخذوا قبورَ أنبيائِهم مساجد، يُحذِّرُ ما صَنعُوا".
فهذه الأحاديثُ عن عائشة وابن عباس وجندب
1 / 21
﵃ مُحكمةٌ لا تقبلُ النسخَ بحالٍ من الأحوالِ؛ لأنَّ حديثَ جندبٍ في آخر أيامه، وحديثَي عائشة وابن عباس في آخر لحظاتِه ﷺ، فلا يجوزُ لأحدٍ من المسلمين أفراد أو جماعات تَركُ ما دلَّت عليه هذه الأحاديث الصحيحةُ المُحكَمة، والتعويلُ على عملٍ حصل في أثناء عهدِ بني أُمَيَّة، وهو إدخالُ القبر في مسجدِه ﷺ فيستدلُّ بذلك على جواز بناءِ المساجد على القبور أو دفن الموتَى في المساجد.
وأمَّا مسجدُ قُباء، فهو ثاني المسجدَين اللَّذَين لهما فضلٌ وشأنٌ في هذه المدينة وقد أُسِّسَا على التقوى من أوَّلِ يوم، وقد جاء عن النَّبِيِّ ﷺ مِن فعلِه وقولِه ما يدلُّ على فضلِ الصلاة في مسجدِ قباء.
أمَّا فعلُه فعَن عبد الله بن عمر ﵄ قال: "كان النَّبِيُّ ﷺ يأتي مسجدَ قباء كلَّ سبتٍ ماشيًا وراكبًا فيُصلِّي فيه ركعتين"، رواه البخاري ومسلم.
1 / 22