التوحيد أو تحقيق كلمة الإخلاص
التوحيد أو تحقيق كلمة الإخلاص
Chercheur
أبي مصعب طلعت بن فؤاد الحلواني
Maison d'édition
الفاروق الحديثة للطباعة والنشر
Numéro d'édition
الأولى
Année de publication
١٤٢٥ هـ - ٢٠٠٤ م
Genres
التوحيد أو تحقيق كلمة الإخلاص
3 / 41
بسم الله الرحمن الرحيم
وهو حسبي وبه أستعين
قال الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام زين الدين بن رجب -رحمه الله تعالى-:
خرج البخاري (١) ومسلم (٢) في الصحيحين عن أنس ﵁ قال: «كَانَ النَّبِيَّ ﷺ وَمُعاذٌ رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ، فَقَالَ: يَا مُعَاذَ. قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ! قَالَ: «يَا مُعَاذُ» قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ. قَالَ: يَا مُعَاذُ. قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ. قَالَ: مَا مِنْ عَبْدٍ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَلا أُخْبِرُ بِهَا النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا! قَالَ: إِذًا يَتَّكِلُوا» وَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا.
وفي "الصحيحين" (٣) عن عتبان بن مالك، عن النبي ﷺ قال: "إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، يَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ".
وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة -أو أبي سعيد، بالشك (٤) - أنهم كانوا مع النبي ﷺ في (غزاة) (*) تبوك فأصابتهم مَجَاعَةٌ، فدعا النبي ﷺ بِنِطَعٍ (٥) فَبَسَطَهُ، ثُمَّ دَعَا بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِكَفِّ ذُرَةٍ،
_________
(١) برقم (١٢٨).
(٢) برقم (٣٠/ ٤٨) من هذا الطريق أيضًا.
(٣) أخرجه البخاري (٤٢٥ مطولا) ومسلم (٣٣ مطولا، ٣٣/ ٢٦٣ ص ٤٥٥).
(٤) برقم (٢٧/ ٤٥ ص ٥٦ - ٥٧) والشاك هنا هو الأعمش، ورواه مسلم أيضًا (٢٧/ ٤٤ ص ٥٥ - ٥٦) عن أبي هريرة بغير شك.
(*) غزوة "نسخة".
(٥) النطع: هو بساط متخذ من أديم، وفيه أربع لغات: فتح النون وكسرها، ومع كل واحد فتح الطاء وسكونها.
وكانت الأنطاع تبسط بين أيدي الملوك والأمراء حين أرادوا قتل أحد صبرًا، ليصان=
3 / 43
وَيَجِيءُ الْآخَرُ بِكَفِّ تَمْرٍ، وَجَعَلَ الْآخَرُ يَجِيءُ بِكَسْرَةٍ، حَتَّى اجْتَمَعَ عَلَى النِّطَعِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ يَسِيرٌ، فَدَعَا رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَيْهِ بِالْبَرَكَةِ، ثُمَّ قَالَ: خُذُوا فِي أَوْعِيَتِكُمْ. فَأَخَذُوا فِي أَوْعِيَتِهِمْ، حَتَّى مَا تَرَكُوا فِي الْعَسْكَرِ وِعَاءً إِلَّا مَلَئُوهُ. قَالَ: فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا وَفَضَلَتْ فَضْلَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، لَا يَلْقَى اللهَ بِهِمَا عَبْدٌ غَيْرَ شَاكٍّ فَيُحْجَبَ عَنِ الْجَنَّةِ».
وفي "الصحيحين" (١) عن أبي ذر، عن النبي ﷺ قال: «مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا دَخَلَ الجَنَّةَ. قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى، وَإِنْ سَرَقَ؟! قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ، قَالَهَا ثَلاَثًا، ثُمَّ قَالَ فِي الرَّابِعَةِ: عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي ذَرٍّ. فَخَرَجَ أَبُو ذَرٍّ، وَهُوَ يَقُولُ: وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي ذَرٍّ».
وفي "صحيح مسلم" (٢) عن عبادة، أنَّه قال عند موته: سمعت رسول الله ﷺ- يقول: «مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ النَّارَ».
وفي " الصحيحين" (٣) عن عبادة عن النبي ﷺ قال: " «مَنْ شَهِدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَأَنَّ الجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ الجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنْ عَمَلِ».
وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة جدًّا، يطول ذكرها.
...
_________
=المجلس من الدم. انظر المصباح المنير مادة "نطع" وشرح النووي لصحيح مسلم.
(١) أخرجه البخاري (٥٨٢٨)، ومسلم (٩٤).
(٢) برقم (٢٩).
(٣) أخرجه البخاري (٣٤٣٥)، ومسلم (٢٨).
3 / 44
أهل التوحيد لا يخلدون في النار وإن دخلوها
وأحاديث هذا الباب نوعان:
أحدهما: ما فيه أنَّ من أتى بالشهادتين دخل الجنة، أو لم يحجب عنها؛ وهذا ظاهر؛ فإن النار لا يخلد فيها أحد من أهل التوحيد الخالص، وقد يدخل الجنة ولا يحجب عنها إذا طُهِّر من ذنوبه بالنار.
وحديث أبي ذر معنا: أن الزنا والسرقة لا يمنعان دخول الجنة مع التوحيد، وهذا حق لا مرية فيه، ليس فيه أنَّه لا يعذب يومًا عليهما مع التوحيد.
وفي "مسند البزار" (١) عن أبي هريرة مرفوعًا: "مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ نَفَعَتْهُ يَوْمًا مِنَ دَهْرِهِ، يُصيبُهُ قَبْلَ ذَلِكَ مَا أَصَابَهُ".
_________
(١) برقم (٣ - كشف) وقال: لا نعلمه يروى عن النبي ﷺ إلا بهذا الإسناد.
ورواه عيسى بن يونس عن الثوري عن منصور أيضًا، وقد رُوي عن أبي هريرة موقوفًا، ورفعه أصح.
وسئل الدراقطني في العلل (١١/ ٢٣٨ - ٢٤٠) برقم (٢٢٦٠) عن هذا الحديث فَقَالَ: يرويه هلال بن يساف عن الأغر، حدث به منصور بن المعتمر وحصين بن عبد الرحمن، واختلف عنهما، فأما منصور، فرواه الثوري عن منصور، واختلف عنه؛ فرواه عيسى بن يونس وابن إسماعيل الفارسي عن الثوري عن منصور مرفوعًا إِلَى النبي ﷺ.
وخالفهما أبو نعيم، فوقفه عَلَى أبي هريرة وراد ابن إسماعيل الفارسي وهو محمد بن إسماعيل في هذا الحديث كلمة لم يقلها غيره، وهي قوله: "لقنوا موتاكم لا اله إلا الله".
ورواه أبر عوانة، واختلف عنه، فرواه حبَّان بن هلال عن أبي عوانة عن منصور مرفوعًا؛ وغيره يرويه عن أبي عوانة موقوفًا.
وكذلك رواه إبراهيم بن طهمان وجرير بن عبد الحميد وأبو حفص الأبار عن=
3 / 45
والثاني: ما فيه أنَّه يحرم عَلَى النار، وهذا قد حمله بعضهم عَلَى الخلود فيها، أو عَلَى نار يخلَّد فيها أهلُها، وهي ما عدا الدرك الأعلى، فإن الدرك الأعلى يدخله خلق كثير من عصاة الموحدين بذنوبهم، ثم يخرجون بشفاعة الشافعين، وبرحمة أرحم الراحمين.
وفي "الصحيحين" (١): "أن الله -تعالى- يقول: وعزتي وجلالي لأخرجن من النار من قال: لا اله إلا الله".
...
_________
=منصور، وأما حصين بن عبد الرحمن، فرواه عمرو بن عثمان الكلابي عن زهير بن معاوية عن حصين عن هلال عن الأغر عن أبي هريرة عن النبي ﷺ.
وخالفه شعبة وهشيم وعبثر بن القاسم؛ رووه عن حصين عن هلال موقوفًا.
ورواه علي بن عابس عن حصين عن الأغر عن أبي هريرة موقوفًا، أسقط منه هلال بن يساف، والصحيح عن حصين ومنصور الموقوف.
(١) أخرجه البخاري (٧٥١٠)، ومسلم (١٩٣/ ٣٢٦) في كتاب الإيمان باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها.
3 / 46
شروط لا إله إلا الله
وقالت طائفة من العُلَمَاء: المراد من هذه الأحاديث: أن لا إله إلا الله سبب لدخول الجنة والنجاة من النار، ومتقض لذلك، ولكن المقتضي لا يعمل عمله إلا باستجماع شروطه وانتفاء موانعه، فقد يتخلف عنه مقتضاه لفوات شرط من شروطه، أو لوجود مانع؛ وهذا قول الحسن ووهب بن منبه وهو الأظهر.
وقال الحسن للفرزدق -وهو يدفن امرأته-: ما أعددت لهذا اليوم؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله منذ سبعين سنة. قال الحسن: نعم العُدة إن لـ "لا إله إلا الله" شروطما؛ فإياك وقذف المحصنة!.
ورُوي عنه أنَّه قال للفرزدق: هذا العمود. فأين الطنب (١)؟
وقيل للحسن: إن ناسًا يَقُولُونَ: من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة؟ فَقَالَ: من قال: لا إله إلا الله، فأدّى حقها وفرضها دخل الجنة.
وقال وهب بن منبه لمن سأله: أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة؟ قال: بلى، ولكن (ليس) (*) مفتاح إلا وله أسنانُ؛ فإن جئت بمفتاح له أسنان فُتح لك، وإلا لم يُفتَح لك.
وهذا الحديث: "إن مفتاح الجنة لا اله إلا الله" خرجه الإمام أحمد (٢) بإسناد
_________
(*) ما من "نسخة".
(١) قال في القاموس المحيط: هو حبل طويل يشد به سرادق البيت أو الوتد.
(٢) في مسنده (٥/ ٢٤٢).
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (١/ ٢١): رواه أحمد والبزار، وفيه انقطاع بين شهر ومعاذ، وإسماعيل بن عياش روايته عن أهل الحجار ضعيفة، وهذا منها.
وقد أخرجه ابن عدي في الكامل (٤/ ٣٨ - ٣٩) وقال ابن عدي (٤/ ٤٠):=
3 / 47
منقطع. عن معاذ قال: "قال لي رسول الله ﷺ: إذا سألك أهل اليمن عن مفتاح الجنة فقل: شهادة أن لا إله إلا الله".
ويدل عَلَى صحة هذا القول أن النبي ﷺ رتَّب دخول الجنة عَلَى الأعمال الصالحة في كثير من النصوص، كما في "الصحيحين" (١) عن أبي أيوب أن رجلًا قال: يا رسول الله! أَخْبِرْنِى بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِى الْجَنَّةَ. فَقَالَ: "تَعْبُدُ اللَّهَ، لا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِى الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ".
وفي "صحيح مسلم" (٢) عن أبي هريرة "أنَّ رَجُلًا قال: يا رسول الله، دُلَّنِى عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ، قَالَ: تَعْبُدُ اللَّهَ لا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاةَ الْمَكْتُوبَةَ، وَتُؤَدِّى الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ. فَقَالَ الرَّجُلُ: وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لا أَزِيدُ عَلَى هَذَا شَيْئًا وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُ.
فَقَالَ النبي ﷺ: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا".
وفي "المسند" (٣) عَنْ بَشِيرِ بْنِ الْخَصَاصِيَةِ قَالَ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ لِأُبَايِعَهُ فَاشْتَرَطَ عَلَيَّ: شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنْ أُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَأَنْ (أُؤَدِّي) (٤) الزَّكَاةَ، وَأَنْ أَحُجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ، وَأَنْ أَصُومَ رَمَضَانَ، وَأَنْ أُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمَّا [اثْنَتَانِ] (٥) فَوَاللَّهِ لاَ أُطِيقُهُمَا: الْجِهَادُ وَالصَّدَقَةُ! فَقَبَضَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَدَهُ ثُمَّ حَرَّكَهَا، وَقَالَ: فَلَا جِهَادَ وَلَا صَدَقَةَ، فَبِمَ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِذًا؟! قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَنْ أُبَايِعُكَ، فَبَايَعْتُهُ عَلَيْهِنَّ كُلِّهِنَّ».
_________
=ولشهر بن حوشب هذا غير ما ذكرت من الحديث .... وشهر هذا ليس بالقوي في الحديث، وهو ممن لا يحتج بحديثه ولا يتدين به.
(١) أخرجه البخاري (١٣٩٦)، ومسلم (١٣).
(٢) برقم (١٤)، وكذا البخاري (١٣٩٧).
(٣) (٥/ ٢٢٤) وفي إسناده مؤثر بن عفارة وهو مجهول.
(٤) "أوتي": نسخة.
(٥) في الأصول المخطوطة "اثنتين" وما نقلته من المسند، وهو الصواب.
3 / 48
شروط دخول الجنة
ففي هذا الحديث أن الجهاد والصدقة شرط في دخول الجنة، مع حصول التوحيد والصلاة والصيام والحج.
ونظير هذا أن النبي ﷺ قال: "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله" (١).
ففهم عمر، وجماعة من الصحابة أن من أتى بالشهادتين امتنع من عقوبة الدُّنْيَا بمجرد ذلك، فتوقفوا في قتال مانعي الزكاة، وفهم الصِّديق أنَّه لا يمتنع قتاله إلا بأداء حقوقها، لقوله ﷺ: "فإذا فعلوا ذلك منعوا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها. وقال: الزكاة حق المال" (٢).
وهذا الَّذِي فهمه الصديق؛ قد رواه عن النبي ﷺ (صريحًا غير واحد من الصحابة) (*) منهم: ابن عمر (٣) وأنس (٤) وغيرهما (٥)، وأنه قال: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ» ".
_________
(١) أخرجه البخاري (٢٥)، ومسلم (٢٢) من حديث ابن عمر بهذا اللفظ، وورد بلفظ: "حتى يقولوا" في الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب، وفي صحيح البخاري من حديث أنس، وفي صحيح مسلم من حديث جابر.
(*) جماعة من الصحابة "نسخة".
(٢) انظر تخريج الحديث السابق.
(٣) كما سبق في الصحيحين.
(٤) أخرجه البخاري (٣٩٢).
(٥) منهم:
أ- جابر بن عبد الله، كما عند مسلم برقم (٢١/ ٣٥).
ب- وعمر، كما عند البخاري برقم (١٣٩٩)، ومسلم برقم (٢٠).
ج- وأبو هريرة، كما عند مسلم برقم (٢١).
3 / 49
وقد دل عَلَى ذلك قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ﴾ [التوبة: ٥].
كما دل قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ﴾ [التوبة: ١١]، عَلَى أن الأخوة في الدين لا تثبت إلا بأداء الفرائض مع التوحيد، فإن التوبة من الشرك لا تحصل إلا بالتوحيد.
ولما قرر أبو بكر هذا للصحابة رجعوا إِلَى قوله (١)، ورأوه صوابًا.
فإذا عُلم أن عقوبة الدُّنْيَا لا ترفع عمن أدّى الشهادتين مطلقًا.
بل قد يعاقب بإخلاله بحق من حقوق الإسلام، فكذلك عقوبة الآخرة.
وقد ذهب طائفة إِلَى أن هذه الأحاديث المذكورة أولًا وما في معناها، كانت قبل نزول الفرائض والحدود، منهم:
الزهري والثوري وغيرهما.
وهذا بعيد جدًا، فإن كثيرًا منها كان بالمدينة قد نزل بعد نزول الفرائض والحدود، وفي بعضها أنَّه كان في غزوة تبوك (وهي) (*) في آخر حياة النبي ﷺ.
وهؤلاء منهم من يقول في هذه الأحاديث أنها منسوخة، ومنهم من يقول: هي (**) محكمة، ولكن ضم إليها شرائط، ويلتفت هذا إِلَى أن الزيادة عَلَى النص: هل هي نسخ أم لا؟ والخلاف في ذلك بين الأصوليين مشهور.
وقد صرَّح الثَّوري وغيره بأنها منسوخة، وأن نسخها الفرائض والحدود، وقد يكون مرادهم بالنسخ البيان والإيضاح، فإن السَّلف كانوا يطلقون النسخ
_________
(١) وعلى رأسهم عمر ﵁ كما عند البخاري (١٤٠٠)، ومسلم (٢٠) حيث قال: "فوالله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق".
(*) وهو "نسخة".
(**) إنها: "نسخة".
3 / 50
عَلَى مثل ذلك كثيرًا، ويكون مقصودهم أن آيات الفرائض والحدود تبين بها توقفُ دخول الجنة والنجاة من النار عَلَى فعل الفرائض واجتناب المحارم، فصارت تلك النصوص منسوخة، أي: مبيَّنة مفسَّرة، ونصوص الفرائض والحدود ناسخة أي: مفسَّرة لمعنى تلك، موضِّحة لها.
***
3 / 51
فهم النصوص المطلقة في ضوء النصوص المقيدة
وقالت طائفة: تلك النصوص المطلقة قد جاءت مقيَّدة في أحاديث أُخر، ففي بعضها: "من قال: لا إله إلا الله مخلصًا" (١) وفي بعضها: (مُستيقنًا) (*) " (٢)، وفي بعضها: "يصدق قلبه لسانه" (٣) وفي بعضها: "يقولها حقًّا من قبله" (٤) وفي بعضها: "قد ذل بها لسانه، واطمأن بها قلبه" (٥).
وهذا كله إشارة إِلَى عمل القلب، وتحققه بمعنى الشهادتين، فتحققه بقول: لا إله إلا الله أن لا يأله القلب غير الله حبًّا ورجاءً، وخوفًا، وتوكلا واستعانة، وخضوعًا وإنابة وطلبًا، وتحققه بأن محمدًا رسول الله، ألا يعبد الله بغير ما شرعه الله عَلَى لسان رسوله محمد ﷺ.
_________
(١) أخرجه أحمد (٥/ ٢٣٦).
(*) "متيقنا": "نسخة".
(٢) أخرجه مسلم (٣١) من حديث أبي هريرة.
(٣) أخرجه أحمد (٢/ ٣٠٧) قال الهيثمي في المجمع (١٠/ ٤٠٧): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير معاوية بن معتب، وهو ثقة.
(٤) أخرجه أحمد (١/ ٦٣).
قال الهيثمي في "المجمع" (١/ ٢٠): قلت: لعمر حديث رواه ابن ماجه، بغير هذا السياق، ورجاله ثقات، رواه أحمد.
(٥) أخرجه البيهقي في الشعب رقم (٩) من حديث أبي قتادة.
وأورده الهيثمي في المجمع (١/ ٢٦) عن سعد بن عبادة قال: سمعت النبي ﷺ يقول: "من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أطاع بها قلبه، وذل بها لسانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله حرمه الله ﷿ عَلَى النار".
وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط وفيه عبد الرحمن بن ريد بن أسلم، والأكثر عَلَى تضعيفه.
3 / 52
وقد جاء هذا المعنى مرفوعًا إِلَى النبي ﷺ صريحًا أنَّه قال: «مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ
إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصًا دَخَلَ الْجَنَّةَ. قِيلَ: مَا إِخْلَاصُهَا يَا رَسُولَ الله؟! قَالَ: أَنْ تَحْجِزَكَ (عَمَّا) (*) حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيكَ».
وهذا يُروى من حديث أنس بن مالك (١)، وزيد بن أرقم (٢)، ولكن إسنادهما لا يصح. وجاء أيضًا من مراسيل الحسن نحوه.
وتحقيق هذا المعنى وإيضاحه أن قول العبد: لا إله إلا الله يقتضي أن لا إله غير الله، والإله الَّذِي يطاع فلا يعصى هيبة له وإجلالا، ومحبة وخوفًا ورجاء، وتوكلًا عليه، وسؤالا منه، ودعاء له، ولا يصلح ذلك كله إلا لله ﷿، فمن أشرك مخلوقًا في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية كان ذلك قدحًا في إخلاصه في قول: لا إله إلا الله، ونقصًا في توحيده (فكان فيه عبودية لذاك المخلوق) (**) بحسب ما فيه من ذلك.
...
_________
(*) عن كل ما: "نسخة".
(١) أخرجه الخطيب في تاريخه (١٢/ ٦٤).
(٢) أخرجه الطبراني في الكبير (٥/ ٥٠٧٤)، وفي الأوسط (٣ - مجمع البحرين).
وأورده الهيثمي في المجمع (١/ ٢٣) وقال: رواه الطبراني في الأوسط والكبير إلا أنَّه قال في الكبير: قال رسول الله ﷺ: "إخلاصه أن تحجزه عما حرم الله عليه" وفي
إسناده: محمد بن عبد الرحمن بن غزوان، وهو وضاع.
(**) وكان فيه من عبودية المخلوق "نسخة".
3 / 53
الشرك والكفر له أصل وفروع
وهذا كله من فروع الشرك، ولهذا ورد إطلاق الكفر والشرك عَلَى كثير من المعاصي (التي) (*) منشؤها من طاعة غير الله أو خوفه أو رجائه، أو التوكل عليه أو العمل لأجله، كما ورد في (الصحيح) (**) إطلاق الشرك عَلَى الرياء (١)، وعلى الحلف بغير الله (٢)، وعلى التوكل عَلَى غير الله والاعتماد عليه، وعلى من سوَّى بين الله وبين المخلوق في المشيئة، مثل أن يقول: ما شاء الله وشاء فلان (٣).
وكذا قوله: ما لي إلا الله وأنت؛ وكذلك ما يقدح في التوكل وتفرد الله بالنفع والضر: كالطيرة، والرُّقَى المكروهة، وإتيان الكهان وتصديقهم بما يَقُولُونَ، وكذلك اتباع هوى النفس فيما نهى الله عنه، قادحٌ في تمام التوحيد وكماله.
ولهذا أطلق الشرع عَلَى كثير من الذنوب التي منشؤها من اتباع هوى النفس بما هو كفر وشرك؛ كقتال المسلم (٤)، ومن أتى حائضًا أو امرأة في
_________
(*) الَّذِي: "نسخة".
(**) في نسخة استانبول: صحيح، وما أثبته الأنسب للسياق، والأحاديث في "المسند" وليست في الصحيح.
(١) أخرجه أحمد (٥/ ٤٢٨) بلفظ: "إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر.
قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: "الرياء" من حديث محمود بن لبيد.
(٢) أخرجه أحمد (٢/ ١٢٥)، وأبو داود (٣٢٥١)، والترمذي (١٥٣٥). بلفظ: "لا تحلف بأبيك؛ فإنَّه من حلف بغير الله فقد أشرك" من حديث ابن عمر.
(٣) أخرجه أحمد (٥/ ٣٨٤، ٣٩٤، ٣٩٨)، وأبو داود (٤٩٨٠) بلفظ: "لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان" من حديث حذيفة بن اليمان.
(٤) أخرج البخاري (٦٠٤٤)، ومسلم (٦٤) من حديث ابن مسعود مرفوعًا بلفظ:=
3 / 54
دبرها (١)، ومن شرب الخمر في المرة الرابعة (٢)، وإن كان ذلك لا يخرجه عن الملّة بالكلية.
ولهذا قال السَّلف: كُفر دون كفر، وشرك دون شرك.
_________
= "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر".
(١) أخرج الترمذي (١٣٥) وغيره من حديث أبي هريرة مرفوعًا بلفظ: "من أتى حائضًا أو امرأة في دبرها أو كاهنا فقد كفر بما أنزل عَلَى محمد".
وقال الترمذي: لا نعرف هذا الحديث إلا من حديث حكيم الأثرم عن أبي تميمة الهجيمي عن أبي هريرة. وإنَّما معنى هذا عند أهل العِلْم عَلَى التغليظ. وقد رُوي عن النبي ﷺ قال: "من أتى حائضًا فليتصدق بدينار". فلو كان إتيان الحائض كفرًا لم يؤمر فيه بالكفارة.
وضعف محمد هذا الحديث من قبل إسناده.
(٢) أخرج الترمذي (١٤٤٤) وغيره من حديث معاوية مرفوعًا بلفظ: "من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة فاقتلوه".
قال الترمذي: وفي الباب عن أبي هريرة والشريد وشرحبيل بن أوس وجرير وأبي الرَّمَد البَلَوي وعبد الله بن عمرو.
وقال أبو عيسى: حديث معاوية هكذا روى الثوري أيضًا عن عاصم عن أبي صالح عن معاوية عن النبي ﷺ، وروى ابن جريج ومعمر عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي ﷺ.
قال: سمعت محمدًا يقول: حديث أبي صالح عن معاوية عن النبي ﷺ في هذا أصح من حديث أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي ﷺ، وإنما كان هذا في أول الأمر ثم نسخ بعد.
هكذا روى محمد بن إسحاق عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله عن النبي ﷺ قال: "إِنَّ مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ عَادَ فِي الرَّابِعَةِ فَاقْتُلُوهُ"، قال: ثُمَّ أُتِيَ النَّبِيُّ ﷺ بَعْدَ ذَلِكَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الرَّابِعَةِ فَضَرَبَهُ وَلَمْ يَقْتُلْهُ.
وكذلك روى الزهري عن قبيصة بن ذويب عن النبي ﷺ نحو هذا، قال: فَرَفَعَ الْقَتْلَ وَكَانَتْ رُخْصَةً، والعمل عَلَى هذا الحديث عند عامة أهل العِلْم لا نعلم بينهم اختلافًا في ذلك في القديم والحديث، ومما يقوي هذا ما رُوي عن النبي ﷺ من أوجه كثيرة أنَّه قال: "لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلا بِإِحْدَى ثَلاثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِى، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ".
3 / 55
وقد ورد إطلاق الإله عَلَى الهوى المتَّبع، قال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ [الجاثية: ٢٣] وقال الحسن: هو الَّذِي لا يهوى شيئًا إلا ركبه.
وقال قتادة: هو الَّذِي كلما هوى شيئًا ركبه، وكلما اشتهى شيئًا أتاه لا يحجزُه عن ذلك ورعٌ ولا تقوى.
ورُوي من حديث أبي أمامة مرفوعًا بإسناد ضعيف: «مَا تَحْتَ ظِلِّ السَّمَاءِ إِلَهٌ يُعْبَدُ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ هَوًى مُتَّبَعٍ» (١).
وفي حديث آخر: "لا تزال لا إله إلا الله تدفع عن أصحابها حتى يؤثروا دنياهم عَلَى دينهم، فَإِذَا فعلوا ذلك رُدَّت عليهم، وقِيلَ لَهُم: كذبتم" (٢).
_________
(١) أخرجه ابن عدي (٢/ ٣٠١)، (٣/ ٦٩) والطبراني في الكبير (٨/ ٧٥٠٢)، وأبو نعيم في الحلية (٦/ ١١٨) من طريق الحسن بن دينار عن الخصيب بن جحدر عن راشد بن سعد عن أبي أمامة.
قال ابن عدى (٢/ ٣٠١): وهذا إن كان البلاء فيه من الحسن، وإلا من الخصيب ابن جحدر، ولعله أضعف منه.
وقال ابن عدي (٣/ ٦٩): وللخصيب أحاديث غير ما ذكرته، وأحاديثه قلما يتابعه أحد عليها، وربما روى عنه ضعيف مثله مثل عباد بن كثير والحسن بن دينار، كما ذكرته، فلعل البلاء منهم لا منه.
وقال الهيثمي في المجمع (١/ ١٩٣): رواه الطبراني في الكبير، وفيه الحسن بن دينار، وهو متروك الحديث.
(٢) أخرجه أبو يعلى (٤٠٣٤) من حديث أنس.
وسئل أبو حاتم الرازي عنه كما في العلل لابنه برقم (١٨٥٧) فَقَالَ: هذا خطأ، إِنَّمَا هو أبو سهيل عن مالك بن أنس عن النبي ﷺ مرسل.
وقال الهيثمي في المجمع (٧/ ٢٧٧): رواه البزار وإسناده. حسن. قلت: وليس كما قال.
وأخرجه العقيلي في الضعفاء (٢/ ٢٩٧) من حديث أبي هريرة، وفي إسناده: عبد الله بن محمد بن عجلان، قال عنه العقيلي: منكر الحديث، لا يتابع على هذين الحديثين. وذكر هذا الحديث وآخر.
وأورده الهيثمي في المجمع (٧/ ٢٧٧) وقال: رواه البزار، وفيه: عبد الله بن محمد ابن عجلان، وهو ضعيف جدًّا. اهـ.
وللحديث روايات أخرى كلها ضعيفة.
3 / 56
ويشهد لذلك الحديث الصحيح عن النبي ﷺ: "تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ، تَعِسَ عَبْدُ الْقَطِيفَةِ، تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيصَةِ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلا انْتَقَشَ" (١).
فدل هذا عَلَى أن كل من أَحَبّ شيئًا وأطاعه، وكان غاية قصده ومطلوبه، ووالى لأجله، وعادى لأجله؛ فهو عبده، وذلك الشيء معبوده وإلهه.
...
_________
(١) أخرجه البخاري (٢٨٨٦).
3 / 57
طاعة الشيطان تقدح في توحيد الرحمن
ويدل عليه أيضًا أن الله -تعالى- سمَّى طاعة الشيطان في معصية عبادةً للشيطان، كما قال تعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ﴾ [يس: ٦٠]. وقال حاكيًا عن خليله إبراهيم أنَّه قال لأبيه: ﴿يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا﴾ [مريم: ٤٤].
فمن لم يحقق عبودية الرحمن وطاعته فإنَّه يعبد الشيطان بطاعته له، ولم يخلص من عبادة الشيطان إلا من أخلص عبودية الرحمن، وهم الذين قال فيهم: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾ [الحجر: ٤٢].
فهم الذين (حققوا) (*) قول: "لا إله إلا الله" وأخلصوا في قولها، وصدقوا قولهم بفعلهم، فلم يلتفتوا إِلَى غير الله، محبةً ورجاءً وخشية وطاعة وتوكلا، وهم الذين صدقوا في قول: "لا إله إلا الله" وهم عباد الله حقًّا.
فأما من قال: "لا إله إلا الله" بلسانه ثم أطاع الشيطان، وهواه في معصية الله ومخالفته فقد كذب فعلُهُ قولَهُ، ونقص من كمال توحيده بقدر معصية الله في طاعة الشيطان والهوى ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ﴾ [القصص: ٥٠] ﴿وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [ص: ٢٦].
فيا هذا كن عبد الله لا عبد الهوى، فإن الهوى يهوي بصاحبه في النار: ﴿أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ [يوسف: ٣٩] "تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ، تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ" والله ما ينجو غدًا من عذاب الله إلا من حقق عبودية الله
_________
(*) حفظوا: "نسخة".
3 / 58
وحده، ولم يلتفت معه إِلَى شيء من الأغيار".
من علم أن إلهه ومعبوده فرد، فليُفرده بالعبودية ﴿وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: ١١٠].
كان بعض العارفين يتكلم عَلَى أصحابه عَلَى رأس جبل، فَقَالَ في كلامه: لا ينال أحد مراده حتى ينفرد فردًا بفرد، فانزعج واضطرب، حتى رأى أصحابه أن الصخور قد تدكدكت، وبقي عَلَى ذلك ساعات، فلما أفاق فكأنه نُشر من قبر.
قوله: "لا إله إلا الله" يقتضي أن لا يحب سواه، فإن الإله هو الَّذِي يطاع، محبةً وخوفًا ورجاءً، ومن تمام محبته محبةُ ما يحبه وكراهية ما يكرهه، فمن أَحَبّ شيئًا مما يكره الله، أو كره شيئًا مما يحبه الله لم يكمل توحيده ولا صدقه في قول: لا إله إلا الله، وكان فيه من الشرك الخفي بحسب ما كرهه مما يحبه الله، وما أحبه مما يكرهه الله. قال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾ [محمد: ٢٨].
***
3 / 59
دلالة محبة الله ﷿
قال الليث، عن مجاهد في قوله تعالى: ﴿لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ [النور: ٥٥]، قال: لا تحبوا غيري.
وفي صحيح الحاكم (١) عن عائشة عن النبي ﷺ قال: «الشَّرَكُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ الذَّرِّ عَلَى الصَّفَا فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ، وَأَدْنَاهُ أَنْ تُحِبَّ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْجَوْرِ، أَوْ أَنْ تُبْغِضَ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْعَدْلِ، وَهَلِ الدِّينُ إِلَّا الْحُبُّ وَالْبُغْضُ؟».
قَالَ اللَّهُ ﷿: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران: ٣١].
وهذا نص في أن محبة ما يكرهه الله وبغض ما يحبه متابعة للهوى، والموالاة عَلَى ذلك والمعاداة عليه من الشرك الخفي.
وقال الحسن: اعلمْ أنك لن تحب الله حتى تحب طاعته!
وسئل ذو النون: متى أحبّ ربي؟ قال: إذا كان ما يبغضه عندك أمرَّ من الصبر.
وقال بشر بن السري: ليس من أعلام الحب أن تحب ما يبغضه حبيبك.
وقال أبو يعقوب النَّهْرجَوري: كل من ادعى محبة الله ولم يوافق الله في أمره فدعواه باطلة.
وقال يحيى بن معاذ: ليس بصادقٍ من ادعى محبة الله ولم يحفظ حدوده.
وقال رويم: المحبة: الموافقة في جميع الأحوال. وأنشد:
وَلَوْ قُلْتَ لي مُتْ مُتُّ سَمعًا وطَاعَةً ... وَقلت لِدَاعي المَوْتِ أهلا ومَرْحَبًا
_________
(١) أخرجه الحاكم في مستدركه (٢/ ٢٩١) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم=
3 / 60
ويشهد لهذا المعنى أيضًا قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران: ٣١].
قال الحسن: قال أصحاب النبي ﷺ: يا رسول، الله إنا نحب ربنا حبًّا شديدًا؛ فأحبَّ الله أن يجعل لحبه علمًا. فأنزل الله -تعالى- هذه الآية.
ومن هنا يُعلم أنَّه لا تتم شهادة أن لا إله إلا الله إلا بشهادة أن محمدًا رسول الله؛ فإنَّه إذا علم أنَّه لا تتم محبة الله إلا بمحبة ما يحبه وكراهة ما يكرهه. ولا طريق إِلَى معرفة ما يحبه وما يكرهه إلا من جهة محمد المبلّغ عن الله ما يحبه وما يكرهه، فصارت محبة الله مستلزمة لمحبة رسوله وتصديقه ومتابعته.
ولهذا قرن الله بين محبته ومحبة رسوله في قوله: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ ...﴾ إِلَى قوله: ﴿أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [التوبة: ٢٤] كما قرن بين طاعته وطاعة رسوله في مواضع كثيرة.
وقال ﷺ: "ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللهُ مِنْهُ، وَأَنْ يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِى النَّارِ" (١).
...
_________
=يخرجاه. وتعقبه الذهبي في التلخيص قائلا: عبد الأعلى، قال الدارقطني: ليس بثقة.
(١) أخرجه البخاري (١٦)، ومسلم (٤٣) من حديث أنس.
3 / 61