Le Nectar Cacheté avec Ajouts
الرحيق المختوم مع زيادات
Maison d'édition
دار العصماء
Numéro d'édition
الأول
Année de publication
١٤٢٧
Lieu d'édition
دمشق
Genres
المقدمة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأكمل التسليم على سيد الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فإن سيرة النبي المصطفى محمد ﷺ هي الأساس الكامل والمرجع الرئيس لكل داعية يرجو لعمله النجاح، وللدعوة الإسلامية الاستمرار.
فالرسالة المحمدية والسيرة العطرة لا تزال متصلة يحملها العدول من كل زمان، من العلماء العاملين، والدعاة المخلصين، وقد تناقلت الأجيال سيرة رسول الله ﷺ جيلا بعد جيل، حفظا في الصدور، وكتابة في السطور، وسجلت في كتب يضيق بها الحصر والتعداد، وسوف تظل الكتابة فيها متواصلة ما بين مختصر وشارح، أو مفند وكاتب للعبر والدلالات، ويبقى الحديث عن السيرة قائما إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ومن فضل الله علي أن وفقني لتدريس مادة السيرة النبوية وقد اختارت لجنة المناهج كتابا قيما فكان الكتاب نواة لمنهج السيرة النبوية.
وقد وجدت أن من المفيد إضافة بعض التأملات والعبر والدروس لحوادث السيرة مما يجعل قراءتها أكثر أهمية وأجلّ نفعا.
وشفعتها بمصورات إيضاحية تبين الأماكن والآثار والمواقع ليسهل على الدارس معرفة الحوادث ودراستها.
والله أسأل أن ينفع بهذا العلم طلاب العلم وجميع المسلمين.
كما أسأله ﷿ أن يجعل عملي خالصا لوجهه الكريم.
د. علاء الدين زعتري
1 / 3
(بسم الله الرحمن الرحيم)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
تعتبر مادة السيرة النبوية من أهم المواد الشرعية لأنها ترسم منهاج حياة النبي ﷺ، وتكمن أهمية تدريس مادة السيرة في تقديمها بشكل شيق يجعلها منهاج حياة السامعين.
وأردد دائما مقولة أن السيرة النبوية صيدلية عظيمة وما علينا إلا استخدام الدواء المناسب للمرض المناسب. ففهمنا لسيرة النبي ﷺ تجعلنا نحسن استخدام أدويتها لحل مشاكلنا.
ولقد منّ الله تعالى عليّ بتدريس هذه المادة في كلية أصول الدين منذ بضع سنوات، جزى الله القائمين عليها كل خير، وجعلني أهلا لهذا.
ويعتبر هذا الكتاب في سيرة النبي ﷺ من خيرة وأحدث ما كتب في سيرة النبي ﷺ. فجهد المؤلف فيه عظيم ومشكور. ومع وجود الكثير من الأخطاء المطبعية فقد أكرمني الله ﷾ بالتعاون مع أخي الدكتور علاء الدين زعتري بوضع بعض التصويبات وإضافة بعض التعديلات والملاحظات التي تزيد الكتاب وضوحا وسهولة.
كما وتم إضافة الكثير من المصورات التي تساعد في فهم الغزوات والمعارك المختلفة وتوضح أماكن وقوع الحوادث التاريخية العظيمة وفي هذا خير عظيم للقارئ والدارس.
مما يجعل هذا الكتاب بوضعه الجديد مناسبا تماما للدراسة في كلية أصول الدين لطلاب السنة الأولى والسنة الثانية.
نرجو من الله تعالى تمام التوفيق وأن يجعل عملنا خالصا لوجهه الكريم (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) والحمد لله رب العالمين
غسان محمد رشيد الحموي مدرس مادة السيرة النبوية.
1 / 4
نسب النبي- ﷺ وأسرته نسب النبي- ﷺ:
لنسب النبي ﷺ ثلاثة أجزاء: جزء اتفق على صحته أهل السير والأنساب وهو إلى عدنان، وجزء اختلفوا فيه ما بين متوقف فيه وقائل به، وهو ما فوق عدنان إلى إبراهيم ﵇، وجزء لا نشك أن فيه أمورا غير صحيحة، وهو ما فوق إبراهيم إلى آدم ﵉، وقد أسلفنا الإشارة إلى بعض هذا، وهاك تفصيل تلك الأجزاء الثلاثة:
الجزء الأول: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب- واسمه شيبة- بن هاشم- واسمه عمرو- بن عبد مناف- واسمه المغيرة- بن قصي- واسمه زيد- بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر- وهو الملقب بقريش وإليه تنتسب القبيلة- بن مالك بن النضر- واسمه قيس- بن كنانة بن خزيمة بن مدركة- واسمه عامر- بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان «١» .
الجزء الثاني: ما فوق عدنان، وعدنان هو ابن أد بن هميسع بن سلامان ابن عوص بن بوز بن قموال بن أبي بن عوام بن ناشد بن حزا بن بلداس بن يدلاف بن طابخ بن جاحم بن ناحش بن ماخي بن عيض بن عبقر بن عبيد بن الدعا بن حمدان بن سنبر بن يثربي بن يحزن بن يلحن بن أرعوي بن عيض بن ديشان بن عيصر بن أفناد بن أيهام بن مقصر بن ناحث بن زارح بن سمي بن مزي بن عوضة بن عرام بن قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم ﵉ «٢» .
الجزء الثالث: ما فوق إبراهيم ﵇، وهو ابن تارح- واسمه آزر- بن ناحور بن ساروع- أو ساروغ- بن راعو بن فالخ بن عابر بن شالخ ابن أرفخشد بن سام بن نوح- ﵇ بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ- يقال هو إدريس ﵇ ابن يرد بن مهلائيل بن قينان بن آنوشة بن شيث بن آدم ﵉ «٣»
_________
(١) ابن هشام ١/ ١، ٢. تلقيح فهوم أهل الأثر ٥، ٦، رحمة للعالمين ٢/ ١١، ١٢، ١٣، ١٤، ٥٢.
(٢) قد جمع العلامة محمد سليمان المنصور فوري هذا الجزء من النسب برواية الكلبي، وابن سعد بعد تحقيق دقيق. انظر رحمة للعالمين ٢/ ١٤، ١٥، ١٦، ١٧ وفيه اختلاف كبير بين المصادر التاريخية.
(٣) ابن هشام ١/ ٢، ٣، ٤ تلقيح فهوم أهل الأثر ص ٦، خلاصة السير للطبري ص ٦، ورحمة للعالمين ٢/ ١٨ واختلفت هذه المصادر في تلفظ بعض هذه الأسماء وكذا سقط من بعض المصادر بعض الأسماء.
1 / 5
طيب نسبه ﷺ
روى الترمذي أنه ﷺ قام على المنبر، فقال: من أنا؟ فقالوا: أنت رسول الله عليك السلام، فقال: أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، إن الله خلق الخلق، ثم جعلهم فرقتين، فجعلني في خيرهم فرقة، ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتهم، فجعلني في خيرهم بيتا، وخيرهم نفسا.
وروى مسلم من حديث وائلة بن الأسقع قال: قال رسول الله ﷺ عن نفسه:
«إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» .
1 / 6
المولد وأربعون عاما قبل النبوة
المولد:
ولد سيد المرسلين ﷺ بشعب بني هاشم بمكة في صبيحة يوم الإثنين التاسع من شهر ربيع الأول، لأول عام من حادثة الفيل، ولأربعين سنة خلت من ملك كسرى أنوشروان، ويوافق ذلك العشرين أو الثاني وعشرين من شهر أبريل سنة ٥٧١ م حسبما حققه العالم الكبير محمد سليمان المنصور فوري والمحقق الفلكي محمود باشا «١» .
وروى ابن سعد أن أم رسول الله ﷺ قالت: لما ولدته خرج مني نور أضاءت له قصور الشام، وروى أحمد عن العرباض بن سارية ما يقارب ذلك «٢» .
وقد روي أن إرهاصات بالبعثة وقعت عند الميلاد، فسقطت أربع عشرة شرفة من إيوان كسرى، وخمدت النار التي يعبدها المجوس، وانهدمت الكنائس حول بحيرة ساوة بعد أن غاضت، روى ذلك البيهقي «٣» ولا يقره محمد الغزالي «٤» .
ولما ولدته أمه أرسلت إلى جده عبد المطلب تبشره بحفيده، فجاء مستبشرا ودخل به الكعبة، ودعا الله وشكر له، واختار له اسم محمد- وهذا الاسم لم يكن معروفا في العرب- وختنه يوم سابعه كما كان العرب يفعلون «٥» .
_________
(١) محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية للخضري ١/ ٦٢، رحمة للعالمين ١/ ٣٨، ٣٩ واختلافهم في تعيين تاريخ أبريل فرع للاختلاف في التقويمات الميلادية.
(٢) انظر مختصر سيرة الرسول ﷺ للشيخ عبد الله النجدي ص ١٢ وابن سعد ١/ ٦٣.
(٣) نفس المصدر الأول.
(٤) انظر فقه السيرة لمحمد الغزالي ص ٤٦.
(٥) ابن هشام ١/ ١٥٩، ١٦٠، ومحاضرات تاريخ الأمم الإسلامية للخضري ١/ ٦٢ وقيل إنه ولد مختونا، انظر-
1 / 7
وأول من أرضعته من المراضع- بعد أمه ﷺ ثويبة مولاة أبي لهب بلبن ابن لها يقال له مسروح، وكانت قد أرضعت قبله حمزة بن عبد المطلب، وأرضعت بعده أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي «١» .
في بني سعد:
وكانت العادة عند الحاضرين من العرب أن يلتمسوا المراضع لأولادهم، ابتعادا لهم عن أمراض الحواضر؛ لتقوى أجسامهم، وتشتد أعصابهم، ويتقنوا اللسان العربي في مهدهم، فالتمس عبد المطلب لرسول الله ﷺ الرضعاء، واسترضع له امرأة من بني سعد بن بكر- وهي حليمة بنت أبي ذؤيب- وزوجها الحارث بن عبد العزى المكنى بأبي كبشة، من نفس القبيلة.
وإخوته ﷺ هناك من الرضاعة عبد الله بن الحارث، وأنيسة بنت الحارث، وحذافة أو جذامة بنت الحارث (وهي الشيماء- لقب غلب على اسمها-) وكانت تحضن رسول الله ﷺ وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، ابن عم رسول الله ﷺ.
وكان عمه حمزة بن عبد المطلب مسترضعا في بني سعد بن بكر، فأرضعت أمه رسول الله ﷺ يوما وهو عند أمه حليمة، فكان حمزة رضيع رسول الله ﷺ من وجهين، من جهة ثويبة ومن جهة السعدية «٢» .
ورأت حليمة من بركته ﷺ ما قصّت منه العجب، ولنتركها تروي ذلك مفصلا:
قال ابن إسحق: كانت حليمة تحدث: أنها خرجت من بلدها مع زوجها وابن لها صغير ترضعه، في نسوة من بني سعد بن بكر، تلتمس الرضعاء قالت: وذلك في سنة شهباء لم تبق لنا شيئا، قالت: فخرجت على أتان لي قمراء «٣»، معنا شارف لنا «٤»، والله ما تبض بقطرة، وما ننام ليلنا أجمع من صبينا الذي معنا، من بكائه من الجوع، ما في ثديي ما يغنيه، وما في شارفنا ما يغذيه، ولكن كنا نرجو الغيث والفرج، فخرجت على أتاني تلك فلقد أدمت بالركب حتى شق ذلك عليهم ضعفا وعجفا، حتى قدمنا مكة نلتمس الرضعاء، فما منا امرأة إلا وقد عرض
_________
- تلقيح فهوم أهل الأثر ص ٤ وقال ابن القيم: ليس فيه حديث ثابت. انظر زاد المعاد ١/ ١٨.
(١) تلقيح فهوم الأثر ص ٤، مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص ١٣.
(٢) زاد المعاد ١/ ١٩.
(٣) أي ضعيفة.
(٤) أي ناقة.
1 / 8
عليها رسول الله ﷺ فتأباه، إذا قيل لها إنه يتيم، وذلك أنا كنا نرجو المعروف من أبي الصبي، فكنا نقول: يتيم! وما عسى أن تصنع أمه وجده! فكنا نكرهه لذلك فما بقيت امرأة قدمت معي إلا أخذت رضيعا غيري، فلما أجمعنا الانطلاق قلت لصاحبي: والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ولم آخذ رضيعا، والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه. قال: لا عليك أن تفعلي، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة. قالت: فذهبت إليه، فأخذته، وما حملني على أخذه إلا أني لم أجد غيره، قالت: فلما أخذته رجعت به إلى رحلي، فلما وضعته في حجري أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن، فشرب حتى روي، وشرب معه أخوه حتى روي، ثم ناما، وما كنا ننام معه قبل ذلك، وقام زوجي إلى شارفنا تلك، فإذا هي حافل، فحلب منها ما شرب وشربت معه حتى انتهينا ريا وشبعا، فبتنا بخير ليلة، قالت: يقول صاحبي حين أصبحنا: تعلمي والله يا حليمة! لقد أخدت نسمة مباركة، قالت: فقلت: والله إني لأرجو ذلك، قالت: ثم خرجنا وركبت أنا أتاني، وحملته عليها معي، فوالله لقطعت بالركب ما لا يقدر عليه شيء من حمرهم، حتى إن صواحبي ليقلن لي: يا ابنة أبي ذؤيب، ويحك! اربعي علينا، أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها؟ فأقول لهن: بلى والله! إنها لهي هي، فيقلن: والله إن لها شأنا، قالت: ثم قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد وما أعلم أرضا من أرض الله أجدب منها، فكانت غنمي تروح علَّي حين قدمنا به معنا شباعا لبّنا، فنحلب ونشرب، وما يحلب إنسان قطرة لبن، ولا يجدها في ضرع حتى كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعيانهم: ويلكم اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب، فتروح أغنامهم جياعا ما تبض بقطرة لبن، وتروح غنمي شباعا لبّنا، فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصلته وكان يشب شبايا لا يشبه الغلمان، فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلاما جفرا، قالت: فقدمنا به على أمه ونحن أحرص على مكثه فينا، لما كنا نرى من بركته، فكلمنا أمه، وقلت لها: لو تركت ابني عندي حتى يغلظ، فإني أخشى عليه وباء مكة، قالت: فلم نزل بها حتى ردته معنا «١» .
وهكذا بقي رسول الله ﷺ في بني سعد، حتى إذا كانت السنة الرابعة أو الخامسة «٢» من
_________
(١) ابن هشام ١/ ١٦٢، ١٦٣، ١٦٤.
(٢) هذا ما ذهب إليه عامة أهل السير، ويقتضي سياق رواية ابن إسحاق أنه وقع في السنة الثالثة، انظر ابن هشام ١/ ١٦٤، ١٦٥.
-
1 / 9
مولده وقع حادث شق صدره، روى مسلم عن أنس أن رسول الله ﷺ أتاه جبريل، وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده إلى مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه- يعني ظئره- فقالوا: إن محمدا قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون «١» .
إلى أمه الحنون:
وخشيت عليه حليمة بعد هذه الوقعة حتى ردته إلى أمه، فكان عند أمه إلى أن بلغ ست سنين «٢» .
ورأت آمنة وفاء لذكرى زوجها الراحل أن تزور قبره بيثرب، فخرجت من مكة قاطعة رحلة تبلغ خمسمائة كيلو مترا، ومعها ولدها اليتيم- محمد ﷺ وخادمتها أم أيمن، وقيمها عبد المطلب، فمكثت شهرا، ثم قفلت، وبينما هي راجعة إذ يلاحقها المرض، ويلح عليها في أوائل الطريق، فماتت بالأبواء بين مكة والمدينة «٣» .
إلى جده العطوف:
وعاد به عبد المطلب إلى مكة، وكانت مشاعر الحنو في فؤاده تربو نحو حفيده اليتيم، الذي أصيب بمصاب جديد نكأ الجروح القديمة، فرق عليه رقة لم يرقها على أحد من أولاده، فكان لا يدعه لوحدته المفروضة، بل يؤثره على أولاده، قال ابن هشام: كان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة، فكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه، لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالا له، فكان رسول الله ﷺ يأتي وهو غلام جفر حتى يجلس عليه، فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه، فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك منهم: دعوا ابني هذا فوالله إن له لشأنا،
_________
(١) صحيح مسلم، باب الإسراء ١/ ٩٢.
(٢) تلقيح فهوم أهل الأثر ص ٧، ابن هشام ١/ ١٦٨.
(٣) ابن هشام ١/ ١٦٨، تلقيح فهوم أهل الأثر ص ٧، محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية للخضري ١/ ٦٣، فقه السيرة للغزالي ص ٥٠.
1 / 10
ثم يجلس معه على فراشه، ويمسح ظهره بيده ويسره ما يراه يصنع «١» .
ولثماني سنوات وشهرين وعشرة أيام من عمره ﷺ توفي جده عبد المطلب بمكة، ورأى قبل وفاته أن يعهد بكفالة حفيده إلى عمه أبي طالب شقيق أبيه «٢» .
إلى عمه الشفيق:
ونهض أبو طالب بحق ابن أخيه على أكمل وجه، وضمه إلى ولده، وقدمه عليهم، واختصه بفضل احترام وتقدير، وظل فوق أربعين سنة يعز جانبه. ويبسط عليه حمايته، ويصادق ويخاصم من أجله، وستأتي نبذ من ذلك في مواضعها.
بحيرا الراهب:
ولما بلغ رسول الله ﷺ اثنتي عشرة سنة- قيل وشهرين وعشرة أيام «٣» - ارتحل به أبو طالب تاجرا إلى الشام، حتى وصل إلى بصرى «٤» - وهي معدودة من الشام وقصبة لحوران، وكانت في ذلك الوقت قصبة للبلاد العربية التي كانت تحت حكم الرومان- وكان في هذه البلد راهب عرف ببحيرا واسمه جرجيس فلما نزل الركب خرج إليهم، وأكرمهم بالضيافة، وكان لا يخرج إليهم قبل ذلك وعرف رسول الله ﷺ بصفته، فقال وهو آخذ بيده: هذا سيد العالمين، هذا يبعثه الله رحمة للعالمين. فقال أبو طالب: وما علمك بذلك؟ فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق حجر ولا شجر إلا وخرّ ساجدا، ولا تسجد إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة في أسفل غضروف كتفه مثل التفاحة، وإنا نجده في كتبنا، وسأل أبا طالب أن يرده، ولا يقدم به إلى الشام، خوفا عليه من اليهود، فبعثه عمه مع بعض غلمانه إلى مكة «٥» .
_________
(١) ابن هشام ١/ ١٦٨.
(٢) تلقيح فهوم أهل الأثر ص ٧، ابن هشام ١/ ١٦٩.
(٣) قاله ابن الجوزي في تلقيح فهوم أهل الأثر ص ٧.
(٤) تبعد ٢٠ كم شرق درعا.
(٥) مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص ١٦، وابن هشام ١/ ١٨٠، ١٨١، ١٨٢، ١٨٣، ووقع في كتاب الترمذي وغيره أنه بعث معه بلالا (تحفة الأحوذي) وهو من الغلط الواضح، فإن بلالا إذ ذاك لعله لم يكن موجودا، وإن كان موجودا فلم يكن مع عمه ولا مع أبي بكر. زاد المعاد ١/ ١٧.
1 / 11
حرب الفجار:
ولخمس عشرة من عمره ﷺ كانت حرب الفجار بين قريش ومن معهم من كنانة وبين قيس عيلان، وكان قائد قريش وكنانة كلها حرب بن أمية لمكانته فيهم سنا وشرفا، وكان الظفر في أول النهار لقيس على كنانة، حتى إذا كان وسط النهار كان الظفر لكنانة على قيس. وسميت بحرب الفجار لانتهاك حرمات الحرم والأشهر الحرم فيها، وقد حضر هذه الحرب رسول الله ﷺ، وكان ينبل على عمومته، أي يجهز لهم النبل للرمي «١» .
حلف الفضول:
وعلى أثر هذه الحرب وقع حلف الفضول في ذي القعدة في شهر حرام، تداعت إليه قبائل من قريش: بنو هاشم، وبنو المطلب، وأسد بن عبد العزى، وزهرة بن كلاب، وتيم بن مرة، فاجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان التيمي لسنه وشرفه، فتعاقدوا وتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته، وشهد هذا الحلف رسول الله ﷺ، وقال بعد أن أكرمه الله بالرسالة: لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت «٢»
وهذا الحلف روحه تنافي الحمية الجاهلية التي كانت العصبية تثيرها، ويقال في سبب هذا الحلف إن رجلا من زبيد قدم مكة ببضاعة، واشتراها منه العاص بن وائل السهمي، وحبس عنه حقه، فاستعدى عليه الأحلاف عبد الدار، ومخزوما، وجمحا، وسهما، وعديا، فلم يكترثوا له، فعلا جبل أبي قبيس، ونادى بأشعار يصف فيها ظلامته رافعا صوته، فمشى في ذلك الزبير بن عبد المطلب، وقال: ما لهذا مترك؟ حتى اجتمع الذين مضى ذكرهم في حلف الفضول، فقاموا إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه حق الزبيدي بعد ما أبرموا الحلف «٣»
_________
(١) ابن هشام ١/ ١٨٤، ١٨٥، ١٨٦، ١٨٧، قلب جزيرة العرب ص ٢٦٠، محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية للخضري ١/ ٦٣.
(٢) ابن هشام ١/ ١١٣، ١٣٥، مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص ٣٠، ٣١.
(٣) نفس المصدر الأخير ص ٣٠، ٣١.
1 / 12
حياة الكدح:
ولم يكن له ﷺ عمل معين في أول شبابه، إلا أن الروايات توالت أنه كان يرعى غنما، رعاها في بني سعد «١»، وفي مكة لأهلها على قراريط «٢» وفي الخامسة والعشرين من سنه خرج تاجرا إلى الشام في مال خديجة ﵂، قال ابن إسحق: كانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها، وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم، وكانت قريش قوما تجارا فلما بلغها عن رسول الله ﷺ ما بلغها من صدق حديثه، وعظم أمانته وكرم أخلاقه بعثت إليه، فعرضت عليه أن يخرج في مال لها إلى الشام تاجرا، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار، مع غلام لها يقال له ميسرة، فقبله رسول الله ﷺ منها، وخرج في مالها ذلك، وخرج معه غلامها ميسرة حتى قدم الشام «٣» .
زواجه خديجة:
ولما رجع إلى مكة، ورأت خديجة في مالها من الأمانة والبركة ما لم تر قبل هذا، وأخبرها غلامها ميسرة بما رأى فيه ﷺ من خلال عذبة، وشمائل كريمة، وفكر راجح، ومنطق صادق، ونهج أمين. وجدت ضالتها المنشودة- وكان السادات والرؤساء يحرصون على زواجها، فتأبى عليهم ذلك- فتحدثت بما في نفسها إلى صديقتها نفيسة بنت منية، وهذه ذهبت إليه ﷺ تفاتحه أن يتزوج خديجة، فرضي بذلك، وكلم أعمامه، فذهبوا إلى عم خديجة، وخطبوها إليه، وعلى إثر ذلك تم الزواج، وحضر العقد بنو هاشم ورؤساء مضر، وذلك بعد رجوعه من الشام بشهرين، وأصدقها عشرين بكرة، وكانت سنها إذ ذاك أربعين سنة، وكانت يومئذ أفضل نساء قومها نسبا وثروة وعقلا، وهي أول امرأة تزوجها رسول الله ﷺ، ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت «٤» .
_________
(١) ابن هشام ١/ ١٦٦.
(٢) فقه السيرة لمحمد الغزالي ص ٥٢.
(٣) ابن هشام ١/ ١٨٧، ١٨٨.
(٤) ابن هشام ١/ ١٨٩، ١٩٠، فقه السيرة لمحمد الغزالي ص ٥٩، تلقيح فهوم أهل الأثر ص ٧.
1 / 13
وكل أولاده ﷺ منها سوى إبراهيم، ولدت له أولا القاسم- وبه كان يكنى- ثم زينب ورقية، وأم كلثوم وفاطمة وعبد الله، وكان عبد الله يلقب بالطيب والطاهر، ومات بنوه كلهم في صغرهم، أما البنات فكلهن أدركن الإسلام فأسلمن وهاجرن، إلا أنهن أدركتهن الوفاة في حياته ﷺ، سوى فاطمة ﵂ فقد تأخرت بعده ستة أشهر، ثم لحقت به «١»
فضل خديجة ومنزلتها في حياة النبي ﷺ
ثبت في الصحيين أنها خير نساء زمانها على الإطلاق.
روى البخاري ومسلم عن عائشة أنها قالت: ما غرت على نساء النبي ﷺ إلا على خديجة، وإني لم أدركها، قالت: كان رسول لله ﷺ إذا ذبح الشاة، فيقول:
أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة، قالت: فأغضبته يوما، فقلت: خديجة!! فقال ﷺ «إني قد رزقت حبها» .
وروى الطبراني وأحمد عن عائشة قالت: كان رسول لله ﷺ لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة فيحسن الثناء عليها، فذكرها يوما من الأيام، فأخذتني الغيرة، فقلت: هل كانت إلا عجوزا، قد أبدلك الله خيرا منها؟ فغضب ثم قال: «لا، والله ما أبدلني الله خيرا منها، آمنت إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد دون غيرها من النساء» .
_________
(١) نفس المصدر الأول ١/ ١٩٠، ١٩١، والثاني ص ٦٠، وفتح الباري ٧/ ٥٠٧ وبين المصادر اختلاف يسير أخذنا ما هو الراجح عندنا.
1 / 14
خطبة أبي طالب في خطبة خديجة من النبي ﷺ
الحمد لله الذي جعلنا من زرع إبراهيم، وذرية إسماعيل، وضئضيء معدّ، وعنصر مضر، وجعلنا حضنة بيته، وسوّاس حرمه، وجعله لنا بيتا محجوجا، وحرما آمنا، وجعلنا حكام الناس.
ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يوزن به رجل من قريش إلا رجح عليه برا، وفضلا، وكرما، وعقلا، ومجدا، ونبلا، وإن كان في المال قلّ، فإن المال ظل زائل، وأمر حائل، وعارية مسترجعة، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم، وخطر جليل! وله في خديجة بنت خويلد رغبة، ولها فيه مثل ذلك، وما أحببتم من الصداق فعليّ.
بناء الكعبة وقضية التحكيم:
ولخمس وثلاثين سنة من مولده ﷺ قامت قريش ببناء الكعبة، وذلك لأن الكعبة كانت رضما فوق القامة، ارتفاعها تسعة أذرع من عهد إسماعيل، ولم يكن لها سقف، فسرق نفر من اللصوص كنزها الذي كان في جوفها، وكانت مع ذلك قد تعرضت- باعتبارها أثرا قديما- للعوادي التي أوهت بنيانها، وصدعت جدرانها، وقبل بعثته ﷺ بخمس سنين جرف مكة سيل عرم، انحدر إلى البيت الحرام، فأوشكت الكعبة منه على الانهيار، فاضطرت قريش إلى تجديد بنائها حرصا على مكانتها، واتفقوا على أن لا يدخلوا في بنائها إلا طيبا، فلا يدخلوا فيها مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس، وكانوا يهابون هدمها، فابتدأ بها الوليد ابن المغيرة المخزومي، وتبعه الناس لما رأوا أنه لم يصبه شيء، ولم يزالوا في الهدم حتى وصلوا إلى قواعد
1 / 15
إبراهيم، ثم أرادوا الأخذ في البناء، فجزأوا الكعبة، وخصصوا لكل قبيلة جزءا منها، فجمعت كل قبيلة حجارة على حدة، وأخذوا يبنونها، وتولى البناء بنّاء رومي اسمه باقوم، ولما بلغ البنيان موضع الحجر الأسود اختلفوا فيمن يمتاز بشرف وضعه في مكانه، واستمر النزاع أربع ليال أو خمسا، واشتد حتى كاد يتحول إلى حرب ضروس في أرض الحرم، إلا أن أبا أمية بن المغيرة المخزومي عرض عليهم أن يحكموا فيما شجر بينهم أول داخل عليهم من باب المسجد فارتضوه، وشاء الله أن يكون ذلك رسول الله ﷺ، فلما رأوه هتفوا: هذا الأمين، رضيناه، هذا محمد. فلما انتهى إليهم، وأخبروه الخبر طلب رداء، فوضع الحجر وسطه، وطلب من رؤساء القبائل المتنازعين أن يمسكوا جميعا بأطراف الرداء، وأمرهم أن يرفعوه، حتى إذا أوصلوه إلى موضعه أخذه بيده، فوضعه في مكانه، وهذا حل حصيف رضي به القوم.
وقصرت بقريش النفقة الطيبة فأخرجوا من الجهة الشمالية نحوا من ستة أذرع، وهي التي تسمى بالحجر والحطيم، ورفعوا بابها من الأرض؛ لئلا يدخلها إلا من أرادوا، ولما بلغ البناء خمسة عشر ذراعا سقفوه على ستة أعمدة.
وصارت الكعبة بعد انتهائها ذات شكل مربع تقريبا يبلغ ارتفاعه ١٥ مترا، وطول ضلعه الذي في الحجر الأسود والمقابل له ١٠، ١٠ م، والحجر موضوع على ارتفاع ٥٠، ١ م من أرضية المطاف. والضلع الذي في الباب والمقابل له ١٢ م وبابها على ارتفاع مترين على الأرض، ويحيط بها من الخارج قصبة من البناء أسفلها، متوسط ارتفاعها ٢٥، ٠ م ومتوسط عرضها ٣٠، ٠ م وتسمى بالشاذروان، وهي من أصل البيت لكن قريشا تركتها «١» .
_________
(١) انظر في تفصيل بناء الكعبة ابن هشام ١٢/ ١٩٢ إلى ١٩٧، وفقه السيرة لمحمد الغزالي ص ٦٢، ٦٣، وصحيح البخاري باب فضل مكة وبنيانها ١/ ٢١٥، ومحاضرات تاريخ الأمم الإسلامية للخضري ١/ ٦٤، ٦٥.
1 / 16
أهم ما تعاقب على الكعبة من الهدم والبناء
بنيت الكعبة خلال الدهر كله، أربع مرات بيقين، ووقع الخلاف والشك فيما قبل هذه المرات الأربع وبعدها.
أما المرة الأولى منها: فهي التي قام بأمر البناء فيها نبي الله إبراهيم ﵊ يعينه ابنه إسماعيل ﵊، وذلك استجابة لأمر الله، وقد ثبت ذلك بصريح القرآن والسنة.
قال الله تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (البقرة: ١٢٧)
وفي الحديث: «... ثم قال- أي إبراهيم-: يا إسماعيل، إن الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمرك ربك، قال: وتعينني؟ قال: وأعينك، قال: فإن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتا، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها، قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء، جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه، وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: «ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم» قال: فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت، وهما يقولان: «ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم» . رواه البخاري في كتاب الأنبياء (٦٤) باب (يزفون) / الصافات ٩٤/ النسلان في المشي (١٢) حديث رقم (٣١٨٤)، عن ابن عباس، ج ٣، ص ١٢٣٠.
وأما المرة الثانية: فهي تلك التي بنتها قريش قبل الإسلام، واشترك النبي ﷺ في بنائها، وقصّرت النفقة بقريش فلم يتمموا البناء على قواعد إبراهيم ﵇.
وفي ذلك يقول النبي ﷺ: «يا عائشة، لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية، لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه، وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين بابا شرقيا وبابا غربيا، فبلغت به أساس إبراهيم» .
1 / 17
فذلك الذي حمل ابن الزبير ﵄ على هدمه، قال يزيد- ابن رومان-: وشهدت ابن الزبير حين هدمه وبناه، وأدخل فيه الحجر، وقد رأيت أساس إبراهيم حجارة كأسنمة الإبل، قال جرير- ابن حازم- فقلت له: أين موضعه؟ قال: أريكه الآن، فدخلت معه الحجر، فأشار إلى مكان، فقال: هاهنا، قال جرير: فحزرت من الحجر ستة أذرع أو نحوها. رواه البخاري في كتاب الحج (٣٢)، باب فضل مكة وبنيانها (٤١)، حديث رقم (١٥٠٩)، ج، ص ٥٧٤.
ومن الدروس المستفادة ما رواه جابر بن عبد الله ﵄: أن رسول الله ﷺ، كان ينقل معهم الحجارة للكعبة، وعليه إزارة، فقال له العباس عمه: يا ابن أخي، لو حللت إزارك فجعلته على منكبيك دون الحجارة، قال: فحلّه فجعله على منكبيه، فسقط مغشيا عليه، فما رئي بعد ذلك عريانا ﷺ. رواه البخاري في كتاب الصلاة في الثياب (٩) باب كراهية التعري في الصلاة وغيرها (٧)، حديث رقم (٣٥٧)، ج ١، ص ١٤٣، وتكرر تحت رقم ١٥٠٥ و٣٦١٧.
وأما المرة الثالثة: فقد كانت عند ما احترق البيت زمن يزيد بن معاوية حين غزتها جيوشه من أهل الشام، عند ما حاصروا عبد الله بن الزبير بقيادة الحصين بن نمير في آخر سنة ست وأربعين للهجرة، ورموا البيت بالمنجنيق، فتهدم واحترق.
فانتظر ابن الزبير حتى قدم الناس الموسم، فاستشارهم قائلا: أيها الناس، أشيروا عليّ في الكعبة، أنقضها ثم أبني بناءها، أو أصلح ما وهى منها؟ فقال له ابن عباس: أرى أن تصلح ما وهى وتدع بيتا أسلم الناس عليه، وأحجارا أسلم الناس عليها، فقال ابن الزبير: لو كان أحدكم احترق بيته ما رضي حتى يجدّه، فكيف بيت ربكم؟ إني مستخير ربي ثلاثا ثم عازم على أمري.
ثم باشر نقضه بعد ثلاثة أيام حتى بلغوا به الأرض، فأقام ابن الزبير أعمدة من حوله، وأرخى عليها الستور، ثم باشروا في رفع بنائه، وزاد فيه ما أخرجت قريش منه.
وزاد في ارتفاعه إلى السماء عشرة أذرع، وجعل له بابين، اتباعا لحديث عائشة.
وأما المرة الرابعة: فقد كانت بعد مقتل ابن الزبير.
روى مسلم عن عطاء أنه لما قتل ابن الزبير، كتب الحجاج إلى عبد الملك بن مروان يخبره بذلك، ويخبره أن ابن الزبير قد وضع البناء على أسّ نظر إليه العدول
1 / 18
من أهل مكة، فكتب إليه عبد الملك: إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء. أما ما زاد في طوله- ارتفاعه- فأقرّه، وأما ما زاد فيه من الحجر فردّه إلى بنائه، وسدّ الباب الذي فتحه، فنقضه وأعاده إلى بنائه.
أما ما وقع الشك والخلاف فيه فهو بناء الكعبة قبل بناء نبي الله إبراهيم ﵊، روى البيهقي في دلائل النبوة من حديث عبد الله بن عمرو قال:
قال رسول الله ﷺ: «بعث الله ﷿ جبريل ﵇ إلى آدم وحواء، فقال لهما: ابنيا لي بيتا، فخط لهما جبريل ﵊، فجعل آدم يحفر، وحواء تنقل حتى أصابه الماء، فنودي من تحته: حسبك يا آدم، فلما بنياه أوحى الله إليه أن يطوف به، وقيل له: أنت أول الناس، وهذا أول بيت، ثم تناسخت القرون حتى حجه نوح ﵇، ثم تناسخت القرون حتى رفع إبراهيم ﵊ القواعد منه» .
وهناك روايات وآثار أخرى قريبة في المعنى الذي رواه البيهقي، إلا أن جميعها لا يخلوا من ضعف أو نكارة.
فالأولى اعتماد ما ثبت يقينا، وأما ما وراء ذلك فنكل علمه إلى الله.
1 / 19
في ظلال النبوة والرسالة
في غار حراء:
ولما تقاربت سنه ﷺ الأربعين، وكانت تأملاته الماضية قد وسعت الشقة العقلية بينه وبين قومه، حبب إليه الخلاء، فكان يأخذ السويق والماء ويذهب إلى غار حراء في جبل النور، على مبعدة نحو ميلين من مكة- وهو غار لطيف طوله أربعة أذرع، وعرضه ذراع وثلاثة أرباع ذراع من ذراع الحديد- ومعه أهله قريبا منه، فيقيم فيه شهر رمضان، يطعم من جاءه من المساكين، ويقضي وقته في العبادة والتفكير فيما حوله من مشاهد الكون، وفيما وراءها من قدرة مبدعة، وهو غير مطمئن لما عليه قومه من عقائد الشرك المهلهلة، وتصوراتها الواهية، ولكن ليس بين يديه طريق واضح، ولا منهج محدد، ولا طريق قاصد يطمئن إليه ويرضاه «١» .
وكان اختياره ﷺ لهذه العزلة طرفا من تدبير الله له، وليعده لما ينتظره من الأمر العظيم.
ولا بد لأي روح يراد لها أن تؤثر في واقع الحياة البشرية فتحولها وجهة أخرى.. لا بد لهذه الروح من خلوة وعزلة بعض الوقت، وانقطاع عن شواغل الأرض وضجة الحياة، وهموم الناس الصغيرة التي تشغل الحياة.
وهكذا دبر الله لمحمد ﷺ وهو يعده لحمل الأمانة الكبرى، وتغيير وجه الأرض، وتعديل خط التاريخ.. دبر له هذه العزلة قبل تكليفه بالرسالة بثلاث سنوات، ينطلق في هذه العزلة شهرا من الزمان، مع روح الوجود الطليقة، ويتدبر ما وراء الوجود من غيب مكنون، حتى يحين موعد التعامل مع هذا الغيب عند ما يأذن الله «٢» .
_________
(١) رحمة للعالمين ١/ ٤٧، وابن هشام ١/ ٢٣٥، ٢٣٦، في ظلال القرآن الجزء ٢٩/ ١٦٦.
(٢) نفس المصدر الأخير ٢٩/ ١٦٦، ١٦٧.
1 / 22
جبريل ينزل بالوحي:
ولما تكامل له أربعون سنة- وهي رأس الكمال، وقيل: ولها تبعث الرسل- بدأت آثار النبوة تتلوح وتتلمع له من وراء آفاق الحياة، وتلك الآثار هي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، حتى مضت على ذلك ستة أشهر- ومدة النبوة ثلاث وعشرون سنة، فهذه الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة- فلما كان رمضان من السنة الثالثة من عزلته ﷺ بحراء شاء الله أن يفيض من رحمته على أهل الأرض، فأكرمه بالنبوة، وأنزل إليه جبريل بآيات من القرآن «١» .
وبعد النظر والتأمل في القرائن والدلائل يمكن لنا أن نحدد ذلك اليوم بأنه كان يوم الإثنين لإحدى وعشرين مضت من شهر رمضان ليلا، ويوافق ١٠ أغسطس سنة ٦١٠ م، وكان عمره ﷺ إذ ذاك بالضبط أربعين سنة قمرية، وستة أشهر، و١٢ يوما، وذلك نحو ٣٩ سنة شمسية وثلاثة أشهر و٢٢ يوما «٢» .
_________
(١) قال ابن حجر: وحكى البيهقي أن مدة الرؤيا كانت ستة أشهر، وعلى هذا فابتداء النبوة بالرؤيا وقع في شهر مولده وهو ربيع الأول، بعد إكماله أربعين سنة، وابتداء وحي اليقظة في رمضان (فتح الباري ١/ ٢٧) .
(٢) اختلف المؤرخون اختلافا كبيرا في أول شهر أكرمه الله فيه بالنبوة، وإنزال الوحي، فذهبت طائفة كبيرة إلى أنه شهر ربيع الأول، وذهبت طائفة أخرى إلى أنه رمضان، وقيل هو شهر رجب (انظر مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب النجدي ص ٧٥) ورجحنا الثاني- أي أنه شهر رمضان- لقوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ (٢: ١٨٥) ولقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (٩٧: ١) ومعلوم أن ليلة القدر في رمضان، وهي المرادة بقول تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ، إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٤٤: ٣) ولأن جواره ﷺ بحراء كان في رمضان، وكانت وقعة نزول جبريل فيها كما هو معروف. ثم اختلف القائلون ببدء نزول الوحي في رمضان في تحديد ذلك اليوم، فقيل: هو اليوم السابع، وقيل السابع عشر، وقيل الثامن عشر (انظر مختصر سيرة الرسول المذكور ص ٧٥، ورحمة للعالمين ١/ ٤٩) وقد أصر الخضري في محاضراته على أنه اليوم السابع عشر (محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية للخضري ١/ ٦٩) . وإنما رجحنا أنه اليوم الحادي والعشرون مع أنا لم نر من قال به لأن أهل السيرة كلهم أو أكثرهم متفقون على أن مبعثه ﷺ كان يوم الإثنين، ويؤيدهم ما رواه أئمة الحديث عن أبي قتادة ﵁ أن رسول الله ﷺ سئل عن صوم يوم الإثنين، فقال: فيه ولدت فيه أنزل علي، وفي لفظ: ذاك يوم ولدت فيه ويوم بعثت أو أنزل علي فيه (صحيح مسلم ١/ ٣٦٨، أحمد ٥/ ٢٩٧، ٢٩٩، البيهقي ٤/ ٢٨٦، ٣٠٠، -
1 / 23
ولنستمع إلى عائشة الصديقة رضي الله تعالى عنها تروي لنا قصة هذه الوقعة التي كانت شعلة من نور الله، أخذت تفتح دياجير ظلمات الكفر والضلال، حتى غيرت مجرى الحياة، وعدلت خط التاريخ. قالت عائشة ﵂:
أول ما بدىء به رسول الله ﷺ من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه- وهو التعبد- الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ: فقلت: ما أنا بقارىء، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارىء، فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ «١» فرجع بها رسول الله ﷺ يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الورع، فقال لخديجة، مالي، وأخبرها الخبر، لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة: كلا، والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزي ابن عم خديجة- وكان امرءا تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي- فقالت له خديجة: يا ابن عم! اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله ﷺ خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزله الله على موسى، يا ليتني فيها جذعا، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك فقال رسول الله ﷺ: أو مخرجيّ هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي،
_________
- الحاكم ٠٢/ ٦٠٢) ويوم الإثنين في رمضان من تلك السنة لا يوافق إلا اليوم السابع، والرابع عشر، والحادي والعشرين، والثامن والعشرين، وقد دلت الروايات الصحيحة أن ليلة القدر لا تقع إلا في وتر من ليالي العشر الأواخر من رمضان وأنها تنتقل فيما بين هذه الليالي، فإذا قارنا بين قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وبين رواية أبي قتادة أن مبعثه ﷺ كان يوم الإثنين وبين حساب التقويم العلمي في وقوع يوم الإثنين في رمضان من تلك السنة تعين لنا أن مبعثه ﷺ كان في اليوم الحادي والعشرين من رمضان ليلا.
(١) كان نزول الآيات إلى قوله تعالى: عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ.
1 / 24