The Rhetorical System Between Theory and Practice
النظم البلاغي بين النظرية والتطبيق
Maison d'édition
دار الطباعة المحمدية القاهرة
Numéro d'édition
الأولى ١٤٠٣ هـ
Année de publication
١٩٨٣ م
Lieu d'édition
مصر
Genres
الدكتور
حسن إسماعيل عبد الرازق
أستاذ البلاغة المساعد
بكلية اللغة العربية بالزقازيق
النظم البلاغي
بين النظرية والتطبيق
الطبعة الأولى حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
١٤٠٣ هـ - ١٩٨٣ م
دار الطباعة المحمدية
٣ درب الأتراك بالأزهر
1 / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين؛ سيدنا محمد النبي الأمي، وعلى آله وأصحابه والتابعين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين:
وبعد:
فقد كانت نظرية النظم البلاغي التي اهتدى إليها إمام البلاغة عبد القاهر الجرجاني، وهو يبحث دلائل إعجاز القرآن الكريم بمثابة بزوغ شمس البلاغة العربية التي اهتدى بأنوارها الرائعة علماء البلاغة من المتأخرين فساروا في دروب البلاغة على هدى من أضوائها؛ ونسجوا من خيوطها النورانية مصنفاتهم البلاغية،
ولكنهم - لأسباب لسنا بصدد الحديث عنها - قد ابتعدوا عن هذا الأصل؛ وراحوا يدورون في فلك المدرسة السكاكية التي تمثلت في القسم الثالث من كتاب "المفتاح" والتي نبه إليها الخطيب القزويني بتلخيصه لما قاله أبو يعقوب السكاكي في المفتاح، ثم بإيضاحه لهذا التلخيص في كتاب "الإيضاح" ثم توالت الشروح والحواشي والتقريرات، مهتمة بما قاله السكاكي في مفتاحه، أو بما قاله الخطيب في تلخيصه وإيضاحه؛ دون أن يرجعوا إلى الأصل في هذا كله وهو "نظرية النظم البلاغي" عند عبد القاهر الجرجاني، التي كانت سببًا في هذا الفيض الزاخر من المصنفات.
وليتهم نظروا إلى النظم البلاغي نظرة عبد القاهر إليه؛ فقد كان
1 / 3
عبد القاهر ينظر إلى النظم البلاغي على أنه قطب الدائرة للبلاغة العربية؛ ومنه تتفرع مسائل المعاني، التي عبر عنها بمعاني النحو فيما بين الكلم على حسب الأغراض التي يساق لها الكلام، ومن هذه المعاني تتكون صور البيان من تشبيه ومجاز وكناية؛ وبين هذه الصور وتلك المعاني تنتشر قيم جمالية راجعة إلى جمال المعاني، قبل أن تكون زينة للألفاظ.
ولكنهم نظروا إليه نظرة مختلفة عن نظرة عبد القاهر؛ فهم - وإن كانوا قد عرفوا البلاغة بأنها: مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحته أخذًا من تفسير عبد القاهر في دلائل الإعجاز لمعنى النظم البلاغي - قد انشغلوا بتقسيم البلاغة إلى علوم ثلاثة هي: علم المعاني. وعلم البيان، وعلم البديع، ثم بتقسيم هذه العلوم إلى أبوابها وفصولها ومسائلها.
وليتهم - إلى جانب هذا الجهد المشكور الذي بذلوه في تقنين البلاغة - قد انشغلوا - أيضًا - بتطبيق ما توصلوا إليه من قواعد بلاغية على النصوص الأدبية التي يزخر بها أدبنا العربي من شعر، أو نثر، ولكن إمعانهم في تتبع القواعد البلاغية، وصياغتها صياغة محكمة، ومحاولة ربطها بما أتقنوه من قواعد المنطق والفلسفة قد باعد بينهم وبين هذا التطبيق؛ اللهم إلا أن يأتوا لكل قاعدة بمثال!
وكأن البلاغة قد أصبحت في نظرهم قواعد مشفوعة بأمثلة؛ شأنها شأن النحو، أو الصرف، أو العروض، بل إنهم أمعنوا في إبعاد النص الأدبي عن البلاغة العربية بمحاولتهم الاكتفاء من النص بمحل الشاهد بيتًا كان، أو شطرًا من بيت، أو جملة واحدة!
ذلكم هو ما أغرى القائلين بانفصال البلاغة عن النقد الأدبي، بل وأغرى
1 / 4
القائلين باستبعاد البلاغة العربية تمامًا، لأنها أصبحت - في نظرهم - لا تواكب العصر! !
ومن هنا كانت فكرة دراسة النظم البلاغي بين النظرية والتطبيق؛ دراسة تتناوله من منابعه الأولى حيث عجز العرب عن معارضة القرآن الكريم؛ فوصفوه بأنه شعر؛ لأن له نظمًا يعلو كل نظم؛ وحيث حاول العلماء تفسير إعجاز القرآن الكريم على أساس نظمه العجيب، وأسلوبه العالي، وتأثيره البالغ في النفوس، ثم بنضوج فكرته في ذهن إمام البلاغة عبد القاهر الجرجاني، حيث صار نظرية واضحة المعالم بينة السمات ثم بتطبيق هذه النظرية في نظر المتأخرين من البلاغيين على حسب ما رآه الخطيب القزويني في الإيضاح.
بيد أنني لم أقف عند تمثيل المتأخرين لها بأمثلتهم التقليدية التي توارثوها جيلًا بعد جيل، ولكنني حاولت تطبيقها على النصوص الأدبية التي يزخر بها أدبنا العربي مما هو ثابت مدون بديوان الحماسة لأبى تمام وجمهرة أشعار العرب في الجاهلية والإسلام؛ ومفضليات الضبي، وأصمعيات الأصمعي، محاولًا إبراز مناسبة كل نص، وأثرها في إيجاد الظروف التي أملت على الشاعر هذا النص أو ذاك، كلما وجدت إلى ذلك سبيلًا.
على أن الأمثلة التي توارثها البلاغيون قد حاولت ربطها ببقية النصوص التي اقتطعت منهما؛ ليتعرف القارئ الكريم على مدى صلة المزايا البلاغية الناتجة عن مواضعها المناسبة بإضفاء الجمال البلاغي على النص الأدبي؛ مما يكون له أكبر الأثر في إمتاع القارئ الكريم بما يتضمنه النص الأدبي من مزايا النظم وأسرار التراكيب.
1 / 5
والله أسأل أن يوفقني إلى ما يحبه ويرضاه؛ إنه نعم المولى ونعم النصير.
حسن إسماعيل عبد الرازق
الزيتون في ٧ من جمادى الآخرة سنة ١٤٠٣ هـ
الموافق ٢٢ من مارس سنة ١٩٨٣ م
1 / 6
تمهيد
١ - البلاغة: (أ) جهود العلماء في محاولة تحديد معناها.
(ب) مراحل البحث البلاغي.
٢ - النقد الأدبي: [معنى النقد الأدبي - مناهج النقد الأدبي].
٣ - مكان البلاغة من النقد:
[الفرق بين البلاغة والنقد الأدبي - آراء العلماء في صلة البلاغة بالنقد الأدبي].
1 / 7
١ - البلاغة:
(أ) جهود العلماء في محاولة تحديد معنى البلاغة:
في لسان العرب: "وبلغت المكان بلاغًا: وصلت إليه، وكذلك إذا شارفت عليه، ومنه قوله تعالى: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ (١) أي قاربنه، وبلغت النخلة وغيرها من الشجر: حان إدراك ثمرها، وشيء بالغ: أي جيد، وقد بلغ في الجودة مبلغًا، ويقال: أمر الله بلغ بالفتح أي بالغ، عن قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ﴾ (٢)، وأمر بالغ وبلغ: نافذ: يبلغ أين أريد به وأمر بالغ: أي جيد. والبلاغة: الفصاحة؛ والبلغ: البليغ من الرجال؛ ورجل بليغ وبلغ من الكلام فصيحه يبلغ بعبارة لسانه كنه ما في قلبه، والجمع: بلغاء. وقد بلغ بضم اللام بلاغة: أي صار بليغًا، وقول بليغ: بالغ .. (٣).
ومما تقدم نستطيع القول بما يلي:
أولًا: أن مادة كلمة (بلاغة) تدور حول معنيين اثنين لا ثالث لهما؛ وهما: الوصول والانتهاء، والإتقان والجودة.
ثانيًا: أن بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي للبلاغة صلة كبيرة نتبينها من قول ابن منظور: "ورجل بليغ وبلغ من الكلام فصيحه يبلغ بعبارة لسانه كنه ما في قلبه":
_________
(١) البقرة: ٢٣٤ والطلاق: ٢.
(٢) الطلاق: ٣.
(٣) لسان العرب: مادة (بلغ).
1 / 9
ثالثًا: إن اللغويين حتى عصر متأخر لم يكونوا يفرقون بين البلاغة والفصاحة، شأنهم في ذلك شأن كثير من البلاغيين والنقاد الذين سوف نتعرض لآرائهم فيما بعد: والبلاغة بالمعنى الاصطلاحي والذي انتهى إليه علماء البلاغة إلى عصرنا هذا. هي: "مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحته" (١).
وسوف نتعرف - من خلال عرض موجز - على آراء البلاغيين حول تعريف البلاغة منذ حاولوا تعريفها ذلك التعريف الذي لا يزال إلى اليوم مدار بحث البلاغيين واهتمامهم.
وأقدم محاولة لتعريف البلاغة كانت لأبى عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (ت ٢٥٥) هـ فقد وردت مصطلحات البلاغة في كتابه: "البيان والتبيين" غير أنه لم يكن يقصد بها ما قصده المتأخرون من البلاغيين فقد استعمل ألفاظ الفصاحة والبيان والبلاغة مترادفات تدل على معنى واحد؛ فإذا ما عرف "البيان" بأنه "اسم جامع لكل ما كشف لك قناع المعنى؛ وهتك الحجاب عن الضمير حتى يفضي السامع إلى حقيقة اللفظ ويهجم على محصوله كائنًا ما كان" (٢) فإنه يستعمل البيان بمعنى البلاغة في موضع آخر، وذلك حين يورد إجابة جعفر بن يحيى لمن سأله: ما البيان؟ فيجيب بقوله: أن يكون الاسم يحيط بمعناك، ويجلى من مغزاك وتخرجه من الشركة: ولا تستعين عليه بطول الفكرة، والذي لابد منه أن يكون سليمًا من التكلف بعيدًا من الصنعة، بريئًا من التعقيد، غنيًا عن التأويل (٣)،
_________
(١) الإيضاح - ٨.
(٢) التبيان والتبيين ١/ ٨٨.
(٣) البيان والتبيين: ١/ ١٠٦.
1 / 10
وما نرى إجابة جعفر إلا منطبقة على معنى البلاغة ومدلولها.
على أن الجاحظ قد أورد أربعة تعاريف للبلاغة لأربعة رجال من أمم مختلفة (١)؛ ثم أورد جملة تعاريف لبعض العرب لكي يوضح لنا المعنى الذي قصده العرب من كلمة "البلاغة" إلى أن أورد تعريف ابن المقفع لها بأنها: "اسم جامع لمعاني تجري في وجوه كثيرة .. وأنها في دلالة صدر الكلام على حاجة المتكلم، وفي إعطاء كل مقام حقه" (٢).
فإذا ما التقينا بإسحاق بن إبراهيم بن سليمان بن وهب في كتابه "البرهان في وجوه البيان" وجدناه يعرف البلاغة بقوله: "وحدها عندنا: أنها القول المحيط بالمعنى المقصود مع اختيار الكلام وحسن النظام وفصاحة اللسان" (٣) ثم يتبع هذا التعريف بالشرح والتحليل.
على أن هذا التعريف قد خلا من "مطابقة الكلام لمقتضى الحال" التي سبق بها ابن وهب، والتي عرفناها منذ قليل في تعريف ابن المقفع.
ولعل في قوله: "واختيار الكلام" ما يغني عن تلك العبارة.
أما صاحب الصناعتين: أبو هلال العسكري (ت ٣٩٥ هـ) فإنه يعتبر أول عالم من علماء البلاغة قد حدد معنى كل من الفصاحة والبلاغة تحديدًا يقرب من معناه الحديث؛ إذ الكلام عنده إنما يكون فصيحًا إذ حوى الفخامة والجزالة؛ وإذا لم يحوهما لم يكن فصيحًا؛ ولو جمع نعوت الجودة؛ وإنما يكون بليغًا إذا وافق المقام.
_________
(١) البيان والتبيين: ١/ ٨٨.
(٢) البيان والتبيين: ١/ ١١٥.
(٣) نقد النثر ص ٧٦.
1 / 11
غير أنه قال مرة أخرى: "البلاغة: كل ما تبلغ به المعنى قلب السامع فتمكنه في نفسه لتمكنه في نفسك مع صورة مقبولة ومعرض حسن" (١).
ولعله عندما قصر البلاغة على المعنى والفصاحة على اللفظ كان يحاول تحديد كل منهما بالمعنى الاصطلاحي وعندما قال عن البلاغة: "إنها كل ما تبلغ به قلب السامع"، كان يحاول ربط المعنى العلمي للبلاغة بالمعنى اللغوي.
وأما ابن رشيق (ت ٤٦٣ هـ) فإنه يورد تعريفات للبلاغة معظمها وارد في الكتب السابقة؛ ولكنه يتبع هذا كله بتعريف آخر يقول فيه: "البلاغة: إهداء المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ" (٢).
فإذا ما وصلنا إلى إمام البلاغة عبد القاهر الجرجاني (ت ٤٧١ هـ) تلميذ القاضي أبى الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني (ت ٣٩٢ هـ) وجدنا البلاغة عنده مازالت مرادفة للفصاحة؛ كقوله: "الفصاحة في ترتيب الألفاظ حسب المعاني" وهذا هو معنى البلاغة عنده.
وكقوله: "إذا قصرنا الفصاحة على هذه الصفة لزمنا أن نخرج الفصاحة من حيز البلاغة ومن أن تكون نظيرة لها" (٣).
على أن أول من فرق بين الفصاحة والبلاغة تفريقًا لا يزال موجودًا إلى اليوم هو ابن سنان الخفاجي المتوفى سنة ٤٦٦ هـ فقد قصر الفصاحة على الألفاظ والبلاغة لا تكون إلا للألفاظ مع المعاني، وعلى هذا فكل كلام بليغ فصيح وليس كل كلام فصيح يكون بليغًا.
_________
(١) الصناعتين ص ١.
(٢) العمدة ١٦١.
(٣) دلائل الإعجاز ص ٥.
1 / 12
أما ضياء الدين بن الأثير (ت ٦٣٧ هـ) فقد جعل علم البيان شاملًا للفصاحة والبلاغة، فقد عرف موضوعه بقوله: "هو الفصاحة والبلاغة، وصاحبه يسأل عن أحوالهما اللفظية والمعنوية" (١).
ويفهم من قوله هذا أن البلاغة تغاير الفصاحة:
ولكننا عندما نصل إلى أبى يعقوب السكاكي (ت ٦٢٦ هـ) فإننا نجد البلاغة عنده قد بدأت تتضح معالمها وتتميز مسائلها. إذ يجعلها شاملة لعلمي المعاني والبيان، وإليك تعريفه للبلاغة:
"البلاغة": هي بلوغ المتكلم في تأدية المعاني حدًا له اختصاص بتوفية خواص التراكيب حقها، وإيراد أنواع التشبيه والمجاز، والكناية على وجهها" (٢).
فقد قصر البلاغة على علمي المعاني والبيان، وأما البديع فإنه لم يدخله في البلاغة.
فإذا ما انتهينا إلى الخطيب القزويني (ت ٧٣٩ هـ) وجدنا البلاغة عنده تأخذ وضعها النهائي؛ فقد فرق تفرقة واضحة بين كل من الفصاحة والبلاغة وعرف البلاغة بأنها: "مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحته (٣) ثم عقب على ذلك بقوله: "وقد علم بما ذكرناه أمران:
أحدهما: أن كل بليغ فصيح ولا عكس:
الثاني: أن البلاغة في الكلام مرجعها إلى الاحتراس عن الخطأ في تأدية المعنى المراد، وإلى تمييز الكلام الفصيح من غيره.
_________
(١) المثل السائر ١/ ٧.
(٢) المفتاح ص ٢٢٠.
(٣) الإيضاح ص ٨.
1 / 13
على أننا نأخذ على الخطيب القزويني، أنه أخرج المحسنات البديعية من دائرة البلاغة، فلم يجعلها أصلية فيها، وإنما جعلها ذيلًا من ذيولها، وذنبًا من أذنابها، لا تجئ إلا تابعة ولا تسموا إلى آفاق الذاتية والأصالة.
فقد قال - بعد أن عرف بلاغة الكلام -: "وتتبعها وجوه أخرى تورث الكلام حسنًا".
وعلق سعد الدين التفتازاني - المتوفى ٧٩٢ هـ على كلامه هذا بقوله: "أي: وتتبع بلاغة الكلام وجوه أخرى سوى المطابقة والفصاحة تورث الكلام حسنًا وفي قوله: (وتتبعها) إشارة إلى أن تحسين هذه الوجوه للكلام عرضي خارج عن حد البلاغة، وأن هذه إنما تعد محسنة بعد رعاية المطابقة والفصاحة" (١).
وقد توهم بعض المعاصرين (٢) أن الخطيب قد جعل مصطلح البلاغة شاملًا المعاني والبيان، والبديع، وأن ذلك منه يعد ميزة اختص بها، وأنه يحمد عليها، فقال:
"من هذا كله ندرك الميزة التي يمتاز بها تعريف الخطيب للبلاغة، والتي تمثلت في أن الرجل قد جعل هذا المصطلح يشمل المعاني والبيان، والبديع".
فكيف يكون الخطيب قد جعل مصطلح البلاغة شاملًا للمعاني والبيان والبديع؛ مع أنه هو نفسه قد جعل البلاغة راجعة إل علمي المعاني والبيان ثم قال: "وتتبعها وجوه أخرى تورث الكلام حسنًا"؟ ! وصحيح أن المحسنات البديعية يمكن أن تدخل تحت مطابقة الكلام لمقتضى الحال إذا
_________
(١) الصبغ البديعي ص ٤٩٨.
(٢) الصور البيانية للدكتور حفني شرف ص ١٩.
1 / 14
اقتضاها المقام - ولكن الخطيب نفسه لم يكن يقصد هذه المطابقة، بدليل قوله السابق.
وعلى أية حال: فقد ظل تعريف الخطيب القزويني للبلاغة العربية أهم تعريف التف حوله الباحثون والدارسون إلى يومنا هذا.
فقد وقف منه قوم موقف الاحترام والإكبار، فلم يحاولوا الانتفاض منه أو الزيادة عليه. ووقف منه قوم آخرون موقف النقد والشك والاتهام.
أما من وقفوا منه موقف الاحترام والإكبار، فقد تناولوه بالشرح والتفسير والتوضيح والتعليق.
وأما من وقفوا منه موقف النقد: فقد ثاروا عليه، ورأوا أن يستبدل بتعريف آخر بل وأن تدرس البلاغة العربية دراسة جديدة تنظم أبحاثها وموضوعاتها تنظيمًا جديدًا يختلف تمامًا عما تعارف عليه البلاغيون القدماء بحيث يشمل المعارف الإنسانية التي تحتاج إليها دراسة البلاغة في العصر الحديث.
1 / 15
- ١ -
(ب) مراحل البحث البلاغي:
اشتهر العرب - في جاهليتهم - بفصاحة اللسان وبلاغة القول، وجمال التعبير؛ كما اشتهروا بالإيجاز والاختصار في أقوالهم. والبعد عن فضول الكلام في أحاديثهم، حتى يكون كلامهم مؤديًا للغرض المقصود من أقرب طريق.
وقد بلغوا في إتقان أقوالهم، وتهذيب كلامهم. وتنسيق عباراتهم، مبلغًا جعل الجاحظ يدعي للعرب الفضل على الأمم (١) قاطبة في الخطابة والبلاغة، فقد كان فيهم (٢) الخطباء المصانع، والشعراء المتلقون.
وقد وصفوا كلامهم في أشعارهم فجعلوها كبرود العصب، وكالحلل والمعاطف، والديباج والوشى وأشباه (٣) ذلك ووصف الجاحظ كلامهم يكرم الديباجة. وعجيب الرونق، وجودة السبك والنحت، مما لا يستطيع أشعر الناس - على حد تعبيره - ولا أرفعهم في البيان أن يقول مثله إلا في اليسير النادر (٤).
وهذا خالد بن صفوان يقول عنهم: كيف نجاريهم، وإنما نحكيهم، أم كيف نسابقهم وإنما نجري على ما سبق إلينا من أعراقهم (٥)؟
_________
(١) ثلاث رسائل في إعجاز القرآن ص ١١٧.
(٢) المصدر السابق ص ٢٢.
(٣) البيان والتبيين ج ٢ ص ٩٠ (الطبعة الأولى بالمطبعة العلمية سنة ١٢١١ هـ).
(٤) ثلاث رسائل في إعجاز القرآن ص ١١٨.
(٥) نفس المصدر.
1 / 16
وقد وصفهم الله تعالى بالجدل، واللدد في الخصومة؛ فقال - جل وعلا -: "ما ضربوه لك إلا جدلًا؛ بل هم قوم خصمون (١)، وقال - سبحانه -: ﴿وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا﴾ (٢).
فإذا ما علمنا بأن البيان كان عند الجاهلين متى إمارات السيادة وشروطها، ودليلًا على اكتمال النباهة وأماراتها، علمنا بأنهم كانوا قد أوتوا حظًا من الإفصاح وقوة الإبانة لم تؤته أمة من الأمم.
فقد ذكر الجاحظ في كتاب "شرائع المروءة" أن العرب كانت تسود على أشياء .. وكان أهل المدينة لا يسودون إلا من تكاملت فيه ست خصال: السخاء، والنجدة، والصبر، والحلم، والتواضع، والبيان، وصار في الإسلام سبعًا (٣).
ولعل السر في تفوق الجاهليين على غيرهم في الفصاحة والبلاغة: أنهم كانوا أميين؟ لا يقرأون ولا يكتبون، ولم يكن لهم من وسيلة تحفظ أيامهم ووقائعهم، وأخلاقهم ومكارمهم وأحسابهم، وأنسابهم إلا الذاكرة التي تعتمد اللسان أساسًا في نشرها وإذاعتها، وإظهار ما خفي منها.
ولهذا فإنهم قد اجتهدوا في أن تكون كلماتهم معبرة أصدق تعبير، وأوضحه، وأجعله، عما نجيش به نفوسهم، وما تعتمل به صدورهم، وما تختزنه ذاكرتهم.
فقد كان اللسان - إذن - أداتهم الوحيدة في نقل أفكارهم وأخبارهم. والتعبير عن أمالهم وآلامهم، والتغني بما تعتمل به صدورهم من شوق وحنين إلى مرابعهم التي كانوا غالبًا ما يرحلون عنها طلبًا للماء والمرعى. إذا ما أجدبت، وخلت من متطلبات الحياة.
_________
(١) الزخرف: ٥٨٠.
(٢) مريم: ٩٧.
(٣) خزانة الأدب للبغدادي ج ٣ ص ٩٥.
1 / 17
ولهذا - أيضًا - كنوا باللسان عن اللغة؛ فقال أعشى بأهلة:
إني أتتني لسان لا أسر بها ... من علو لا عجب منها ولا سخر
قال ابن بري: اللسان هنا: الرسالة والمقالة؛ ومثله قول الآخر:
أتتني لسان بني عامر ... أحاديثها بعد قول نكر
ومنه قول الله تعالى: ﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ﴾ (١).
ولهذا قالوا: رجل لسن، بين اللسن إذا كان ذا بيان وفصاحة، وقد سمى الله تعالى القرآن لسانًا؛ فقال عز من قائل: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا﴾ (٢).
على أنهم وإن كانوا يحبون البيان والطلاقة والتحبير والبلاغة والتخلص والرشاقة - كما يقول الجاحظ - فإنهم كانوا يكرهون السلاطة والهذر والتكلف والإسهاب والإكثار؛ لما في ذلك من التزيد والمباهاة وإتباع الهوى والمنافسة في العلو والقدر كما كانوا يكرهون الفضول في البلاغة؛ لأن ذلك يدعو إلى السلاطة، والسلاطة تدعو إلى البذاء (٣).
أما نقدهم فقد نظروا فيه إلى انسجام الوزن؛ كما صنع أهل يثرب مع النابغة الذبياني؛ فقد أقوى في قوله:
أمن آل مية رائح أو مغتد ... عجلان ذا زاد وغير مزود
زعم البوارح أن رحلتنا غدًا ... وبذاك خبرنا الغراب الأسود
فلما قدم المدينة عابوا عليه ذلك، ولكنه لم يأبه لقولهم؛ حتى
_________
(١) الروم: ٢٢.
(٢) لسان العرب مادة (ل س ن).
(٣) البيان والتبيين ج ٢ ص ٧٩.
1 / 18
أسمعوه إياه في غناء؛ وأهل القرى ألطف نظرًا من أهل البدو، فقالوا للجارية: إذا صرت إلى القافية فرتلي، فلما قالت: "الغراب الأسود" بالضم مع أن القافية مكسورة، علم فانتبه، فلم يعد فيه، وقال: قدمت الحجاز وفي شعري ضعة، ورحلت عنها وأنا أشعر الناس (١).
كما أنهم نظروا إلى المعنى وصوابه، كالذي تجده في قصة طرفة مع المسيب بن علس، فقد مر المسيب بمجلس بني قيس بن ثعلبة فاستنشدوه فأنشدهم، فلما بلغ قوله:
وقد أتناسى الهم عند إدكاره ... بناج عليه الصيعرية مكدم
فقال طرفة: "أستنوق الجمل".
وأساس نقد طرفة للمسيب: أنه وصف الجمل بما توصف به الناقة؛ إذا أنهم قالو للناقة: ناجية ولم يقولوا للبعير: ناج (٢).
ونظروا إلى المقام وما يقتضيه من كلام، كالذي رووه من أن النابغة الذبياني كان حكم العرب في الجاهلية وكانوا يضربون له قبه من أدم بسوق عكاظ، فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها، فيقول فيه كلمته فتسير في الناس، ولا يستطيع أحد أن ينقضها؛ قالوا: وقد جلس النابغة للفصل مرة وتقاطر عليه الشعراء ينشدون بين يديه آخر ما أحدثوه من الشعر، أو أجود ما أحدثوه. وكان فيمن أنشده: أبو بصير ميمون أعشى بني قيس، فما إن سمع قصيدته حتى قضى له، ثم جاء من بعده شعراء كثيرون فيهم حسان بن ثابت الأنصاري، فأنشدوه، وجاءت في أخريات القوم: تماضر بنت عمرو بن الشريد، الخنساء، فأنشدته رائيتها التي ترثى فيها أخاها صخرًا، والتي تقول فيها:
_________
(١) الموشح للمرزباني ص ٣٨.
(٢) القاموس المحيط ج ٤ ص ١٥٧.
1 / 19
وإن صخرًا لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار
فيروقه هذا الكلام ويأخذ بمجامعه، فيقول للخنساء لولا أن أبا بصير أنشدني آنفًا لقلت: إنك أشعر الجن والإنس، ويسمع حسان ذلك فتأخذه الغيرة ويذهب الغضب بتجلده، فيقول للنابغة: "أنا - والله - أشعر منها، ومنك، ومن أبيك: فيقبل عليه أبو إمامة، فيسأله: "حيث تقول ماذا؟ فيقول: حيث أقول:
لنا الجفنات الغر، يلمعن بالضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
ولدنا بني العنقاء وابني محرق ... فأكرم بنا خالا، وأكرم بنا ابنما
فيقبل عليه النابغة، فيقول له: "إنك شاعر، ولكنك أقللت حنانك، وسيوفك، وقلت يلمعن بالضحى، ولو قلت: "يبرقن بالدجى" لكان أبلغ في المديح، لأن الضيف في الليل أكثر، وقلت: "يقطرن من نجدة دمًا" ولو قلت: "يجرين" لكان أكثر لأنصاب الدم.
كما أنهم قد رووا - أن النابغة قدم المدينة فدخل السوق، فنزل عن راحلته، ثم جثا على ركبته، ثم اعتمد على عصاه، ثم قال: ألا رجل ينشد؟ فتقدم إليه قيس بن الخطيم فجلس بين يديه وأنشده:
أتعرف رسمًا كاطراد المذهب؟
فلم يزد على نصف بيت حتى قال له: أنت أشعر الناس يا ابن أخي!
هكذا حدثنا الرواة، وليس يعنينا أن تصدق هذه الروايات أو تكذب، لأن لها على أية حال دلالة صادقة على ما نريد أن نقوله هنا، وهو أن للعلماء الذين رووا شعر الجاهليين، كانوا يعرفون للعرب في جاهليتهم بصرًا
1 / 20
بالنقد، وعلمًا بما تقتضيه أحوال الكلام، من القصد في القول أحيانًا، والمبالغة فيه أحيانًا أخرى، وكان لهم مع ذلك خبرة بما يحسن أن يستعمل من الكلام في مواطن كالفخر دون غيره، وبما يجمل بالمتكلم أن يهجره ولا يعمد إليه (١).
على أن الجاهليين في نقدهم لم يكتفوا بالنظر إلى صحة الوزن وانسجامه، وإلى المعنى وصوابه فحسب، وإنما تعدت نظرتهم إلى القصيدة بتمامها، كما يتضح لك هذا من اختيارهم للمعلقات، وإلى نتاج الشاعر جميعه، كما يتضح لك من نبذهم عدى بن ربيعة بالمهلهل لما رأوا في شعره من اختلاف واضطراب (٢)، وكما يتضح لك من تلقييهم شعراءهم بألقاب تدل على مدى إحسانهم في رأيهم، كالمرقش، والمثقب، والمنخل، والمتنخل، والأفوة، والنابغة (٣).
ومن هذه الروايات وأمثالها مما لم يتسع المجال لذكره، نجد أن العرب في جاهليتهم كان لهم بصر بنقد الأساليب، ومعرفة بما يجدر أن يكون عليه الكلام من مطابقة لمقتضى الحال، وملاءمة الألفاظ والمعاني، وعناية بتصوير المعاني صورًا رائعة أخاذة، واهتمام بما يجب أن يبدو فيه الأسلوب من خلال الجمال اللفظي والمعنوي.
على أننا نقرأ في تاريخ الأدب العربي أن زهيرًا صاحب الحوليات، وهي القصائد التي كانت ينظمها وبعيد النظر فيها حولًا كاملًا حتى يستقيم بناؤها، ويصح نظمها، ويصبح خاليًا من التعقيد، بعيدًا من كل ما قد يكون مظنة القدح أو النقد.
_________
(١) تهذيب السعد ج ١ ص ٦.
(٢) محاضرات في تاريخ البلاغة العربية للدكتور/ محمد عبد الرحمن الكودي ص ٩.
(٣) البلاغة تطور وتاريخ د/ شوقي صيف ص ١٠.
1 / 21
ومدرسة زهير كان أصحابها رواة، يتخرج فيها بعضهم على بعض، فالتلميذ يلزم أستاذًا له، يأخذ برواية شعره ومعرفة طريقته، وما يزال به حتى تتفتح مواهبه، ويسيل الشعر على لسانه، وحينئذ ورد عليه بعض ملاحظاته على ما ينظم، وقد يصلح له بعض نظمه (١).
فهل نقول بعد ذلك: إن معرفتهم بأحوال الكلام، وبصرهم بالنقد كان ص ٢٢ وطبعًا؟ لا .. إن مدرسة زهير وهي التي كانت تعتني بالقصيدة حولًا كاملًا، تنقية وتثقيفًا وتهذيبًا لهي خير شاهد على أن الأمر لم يكن متروكًا الطبع "وليس أدل على ذلك من أن العرب في جميع عصورهم لم يعنوا بشيء قط عنايتهم بفصاحة اللفظ وجزالته، ورقيق الأسلوب ورصانته، وقد جعلوا الإعراب واصطفاء اللفظ، والملاءمة بين الكلمة والكلمة في الجرس الذي ييسر على اللسان نطقه ويزين في الأذن وقعه أساسًا لكل هذه
الخصال (٢) ".
يقول ابن خلدون: "يظن كثير من المغفلين ممن لم يعرف شأن ص ٢٢ أن الصواب للعرب في لغتهم إعرابًا وبلاغة أمر طبيعي ويقول: كانت للعرب تنطق بالطبع، وليس كذلك، وإنما هي ملكة لسانية في نظم الكلام تمكنت ورسخت فظهرت في بادئ الرأي أنها جبلة وطبع وهذه الملكة كما تقدم إنما تحصل بممارسة كلام العرب وتكرره على السمع والتفطن لخواص تراكيبه .. فملكة البلاغة في اللسان تهدي البليغ إلى وجود النظم وحسن التراكيب الموافق لتراكيب العرب في لغتهم ونظم كلامهم ... واستعير لهذه الملكة عندما ترسخ وتستقر اسم الذوق (٣) ".
_________
(١) البلاغة تطور وتاريخ د/ شوقي ضيف ص ٢٣.
(٢) ألوان د/ طه حسين ص ١٤ دار المعارف ط ٤.
(٣) مقدمة ابن خلدون ص ٥٦٢، ص ٥٦٣.
1 / 22