La Sunna Prophétique comme Révélation
السنة النبوية وحي - آيت سعيد
Maison d'édition
مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة
Genres
مقدمة:
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، أرسله رحمة للعالمين، وبشيرا ونذيرا للبرية أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه النجَبة، الصدور المحببَّة، والفطَنة النبَغة، معادنِ الصدق واليقين، وموائل الصبر والمثابرة والجهاد ومتانة الدين، الذين فاؤوا للحق فاستظلوا بظلاله، وفاء إليهم الحق فارتفعت بهم رايتُه، ورفرفت فوق هامِهم شارتُه ونَضارتُه، به خرجوا من العدم إلى الوجود، وبهم انصدعت آيه وبراهينه من جديد، فرضي الله عنهم من صفوة جديرة بالتقدير، وعُصبة جلّت عن إحصاء مكامن عزها بالاستقصاء والتنقير.
بيضُ الوجوه كريمة أحسابهم ... شُمُّ الأُنوف من الطراز الأَول
أمابعد: فإن السنة النبوية - شرفها الله تعالى - تعرضت ولا تزال لموجة عارمة من التشكيك بها تارة، أو إنكارها بالكلية تارة أخرى، أو الطعن في تدوينها، أو حصرها في دائرة ضيقة، يستأنس بها ولا يعتمد عليها، ولا تنشئ أحكاما، ولا يحتج بها في العقائد، ولا في الحدود، إلى غير ذلك من تضليلات وآراء لا حصرلها، يجمعها كلها، النظرُ إلى السنة بمنظار لم يعهده السلف المتقدمون، وغالبُ هذه الشُّبَه منقولة عن المستشرقين، والمستغربين من أبناء جلدتنا الذين يقلدونهم في كل شيء، إذ
1 / 1
تتلمذوا لهم، وكانوا واسطة في نقل مفترياتهم إلى العالم الإسلامي، ولئن كانت هذه الشبه ليست بجديدة من المستشرقين -لأن المعتزلة والشيعة قد سبقوهم إلى كثير منها- إنَّ ما يجمع بين حديثها وتليدها، هو توهين السنة في النفوس، وإزاحةُ تعظيمها، وقدسيتها، وعدّها أمرا عاديا لايستوجب الاعتناء.
وقد قام جهابذة النقاد، بزَيْفِ دعاوى المعتزلة ومن لف لفهم، ونفي شبههم، بأدلة دامغة للباطل، معزِّزة للحق، فعظُمت بذلك السنة في النفوس، وكثر طالبوها، والمولوعون بها، وانتشرت علومها، وعم منهجها، حتى نبغت نابغة من المعتزلة الجدد، الذين استقوا آراءهم الدحضة عن السنة ورواتها، من أفكار المتقدمين، من شتى الفرق المنحرفة عن منهج أهل السنة، وأفكار المتأخرين المتسترة وراء التجديد في مناهج دراسة السنة النبوية وتمحيصها، التي هي إعدام لها في الحقيقة، وتعطيل لها عن العمل، ومحاولة إبعادها نهائيا عن واقع الأمة بأساليب ملتوية، مشتملة على نفاق لا يخفى لحْنُه على ذوي الألباب.
هذا، وإن مدار هذا البحث على مصطلحين مشهورين، وهما السنة والوحي، ولابد من تعريفهما وضبط مفهومهما قبل الشروع في أحكامهما.
1 / 2
تعريف السنة:
أ - السنة لغة: تعني الطريقة، والسيرة المعتادة للإنسان، سواء كانت حسنة أو قبيحة، قال لبيد:
من معشر سنت لهم آباؤهم ... ولكل قوم سنة وإمامها
وسنَنُ الطريق، نهجه، قال شمر:"وهو طريق سنه أوائل الناس فصار مسلكا لمن بعدهم" (١) وقال ﵊ – في النوعين معا – من حديث جرير بن عبد الله ﵁: "من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء " (٢) .
وقال ابن فارس: " السين والنون، أصل واحد مطرد، وهو جريان الشيء واطراده في سهولة" (٣) . وسَنَّ الشيء ابتدأه، وسار عليه من بعده، فأصبح له سنة وعادة.
فتلخص من هذا أن السنة تعني الطريقة التي يداوم عليها الإنسان، حتى أصبحت عادة له، وسيرة يعرف بها.
ب - واصطلاحا: عرَّفها المحدثون بقولهم:" ما أُثر عن النبي ﷺ من قول، وفعل، وتقرير، وصفة خِلقية وخُلقية، وهَمٍّ وإشارة، يقظة ومناما، قبل النبوة وبعدها" (٤) .
_________
(١) انظر لسان العرب - ١٣/٢٢٦.
(٢) أخرجه مسلم في العلم – ٤/٢٠٥٩/٢٠٦٠.
(٣) المقاييس – ٣/٦٠.
(٤) انظر توجيه النظر – ٢/٣/ وتوضيح الأفكار – ١/٣.
1 / 3
ج - أقسام السنة: تنقسم السنة إلى الأقسام الثلاثة المذكورة في التعريف:
أ – السنة القولية: وهي إخبار النبي ﷺ بأمر من الأمور في مختلف الأغراض الدينية والدنيوية.
ب - السنة الفعلية: وهي أن يفعل النبي ﷺ أمرا من الأمور، فينقل إلينا أصحابه كيفية ذلك الفعل، كوضوئه، وصلاته بهم، وحجه، وما إلى ذلك
ج - السنة التقريرية: وهي أن يقر النبي ﷺ قولا أوفعلا وقع أمامه، أو بلغه ولم ينكره، بل سكت عنه، أو أظهر استحسانه، فكل ذلك يدل على أن ذلك الفعل سنة، ممدوح فاعله، لأنه لو كان منكرا لأنكره، إذ لا يقر أحدا على باطل.
والسنة في هذه الأقسام، وحي من الله تعالى لنبيه بكيفية من كيفيات الوحي الآتية.
ب - تعريف الوحي:
أ - الوحي لغة، مأخوذ من وحى وأوحى إليه، إذا كلمه بما يخفيه عن غيره، ويطلق على الإشارة السريعة، سواء كانت بإشارة، أو رمز، أو تعريض، ومدارُ هذه المادة على الخفاء والسرعة.
واصطلاحا: "هو الإخبار السريع الخفي الموجه لخاص من الناس ".
ب - أقسام الوحي: ينقسم الوحي إلى ستة أقسام:
أولها وأعلاها، وحي الله ﷿ لمن اختاره من خلقه من أنبيائه مباشرة بلا واسطة كما كلم موسى وفرض عليه ما شاء، وكلم محمدا ﷺ ليلة الإسراء بما شاء من أحكام.
1 / 4
وثانيها: الوحي بواسطة الملك، وهذا هو الغالب.
وثالثها: الإلهام الفطري للإنسان، كإلهام الله أم موسى أن تلقيه في اليم إذا خافت عليه، قال تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [القصص: ٧] .
هذا على مذهب من جعله وحي إلهام، وأما من جعله وحيا حقيقيا -كابن حز م- فيرجع إلى القسم الثاني
ورابعها: الإلهام الغريزي للحيوان، مثل قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾ [النحل: ٦٨] أي ألهمها ذلك، وجعله غريزة لها.
وخامسها: الإشارة الرمزية المعبِّرة، كقوله تعالى في قصة زكرياء:
﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّا﴾ [مريم: ١١] .
وسادسها: تزيين الشيطان ووسوسته، كقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام:١٢١]، أي: يوسوسون لهم بذلك، ويزينونه لهم.
ج – كيفيات الوحي للأنبياء والرسل ﵈.
إيصال الوحي للموحى إليه، يدور على كيفيات خمس.
إحداها: أن يأتي الملك النبي ﷺ في مثل صلصلة الجرس، وهو أشد حالات الوحي وأشقها.
وثانيتها: أن يأتيه الملك في صورة رجل، فيكلمه بالوحي، فيعي عنه ما يقول وهاتان الكيفيتان مذكورتان في حديث عائشة في الصحيح.
1 / 5
وثالثتها: أن يأتيه الملك في النوم، فيوحي إليه ما شاء الله، كما في قصة إبراهيم مع ابنه إسماعيل الذبيح، وكقوله ﷺ من حديث معاذ: " أتاني ربي، فقال: يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى ... الحديث (١) .
ورابعتها: أن ينفث الملك في رُوعه ما يريد من الوحي، فيتيقنه، وهذا النوع قد ورد في حديث ابن مسعود:" أن النبي ﷺ قال: "إن روح القدس، قد نفث في رُوعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب " (٢) والنفث، هو النفخ، وإلقاء الشيء فيستقر
وخامستها: التكليم المباشر من الله تعالى لنبي من أنبيائه، وقد تقدم (٣) .
والسنة النبوية يقع إيحاؤها بهذه الكيفيات كلها، فتارة يوحى إليه بها مباشرة، وتارة بواسطة ملك، وتارة في النوم، وتارة بالنفث في الروع.
هذا، وسأرتب هذا البحث بعد هذه المقدمة على تمهيد، وثلاثة مباحث وخاتمة:
المبحث الأول: عصمة الأنبياء ﵈.
المبحث الثاني: اجتهاد الأنبياء ﵈.
المبحث الثالث: بسط أدلة القول بأن السنة وحي كالقرآن.
خاتمة في نتائج البحث المستخلصة منه.
_________
(١) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ص ٥/٣٦٨/ وأحمد – ٥/ ٢٥٣ / من حديث معاذ، وقال الترمذي حسن صحيح، وسأل عنه البخاري، فصححه، وله شاهد من حديث ابن عباس عند الترمذي، وأحمد –١/٣٦٨/ وفي إسناده مقال، لكنه يقوى بهذا.
(٢) أخرجه الحاكم في المستدرك – ٢/ ٤/ وله شواهد عديدة يصح بها.
(٣) انظر هذه الأقسام في الإتقان للسيوطي /١/٩٨/٩٩.
1 / 6
تمهيد:
إن البيان بلحنه وخطابه، وإشارته ودلالته، وحفزه - وبلاغته، وتأثيره في النفوس، وإذكاءِ روح اليقظة فيها وتحميسها على الإقدام أو الإحجام عن شيء مّا، دون أن يمارس عليها ذلك بقوة السلطان، ولا ببريق السيوف ولا يفتقر في وجوده إلى الاستدلال، لأنه أمر وجداني يحس به المرء من نفسه، ولا يطيق درأه، والوجدانياتُ اضطراريات، فمن يبحث عن دليل وجودها فهو معاكس للفطرة، منكر لأمر يجده من نفسه، ويشعر به من داخلته.
وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل
والبيانُ له صولة على النفوس، ويدخل إليها من منحنياتها العديدة بغير استئذان، ويفعل بها ما يفعله السحر بالمسحور، ولذا مدَحه النبي ﷺ وذمَّه، لاعتبارين مختلفين، وقصدين متغايرين: مدحه بقوله في حديث ابن عمر: " إن من البيان لسحرا" (١) وذمه بقوله من حديث أم سلمة: " إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أبلغُ بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه، فإنما أقطع له قطعة من النار فلا يأخذها" (٢) .
وعقل الفقهاء عن رسول الهدى أنه مدح البيان، إذا كان لقصد صحيح، وذمَّه إذا كان لغرض فاسد، وذاك يدل على أنه ليس بمذموم ولا ممدوح
_________
(١) أخرجه البخاري في النكاح - الفتح - ٩/١٠٩/ وفي الطب ١٠/ ٢٤٧ عن ابن عمر قال: قدم رجلان من المشرق فخطبا، فعجب الناس لبيانهما، فقال رسول الله ﷺ: " إن من البيان لسحرا ".
وفي لفظ في الموطأ - ٢/ ٩٨٦ / " إن بعض البيان لسحر".
(٢) سيأتي تخريجه وتفصيله في ص – ٣٦.
1 / 7
لذاته، وإنمَّا لمِاَ يلحقه من الأغراض، ونقل الحافظ في الفتح عن الخطابي أنه قال: " البيان اثنان: أحدهما ما تقع به الإبانة عن المراد بأي وجه كان، والآخر ما دخلته الصنعة بحيث يروق للسامعين، ويستميل قلوبهم، وهو الذي يشبه بالسحر إذا خلَب القلب، وغلب على النفس، حتى يحوِّل الشيءَ عن حقيقته، ويصرفَه عن جهته، فيلوحَ للناظر في معرض غيره، وهذا إذا صَرف إلى الحق يمدح، وإذا صَرف إلى الباطل يذم، قال: فعلى هذا، فالذي يشبه بالسحر منه هو المذموم " ا؟.
قال الحافظ:" وقد حمل بعضهم الحديث على المدح، والحث على تحسين الكلام، وتحبير الألفاظ ... وحمله بعضهم على الذم لمن تصنع في الكلام، وتكلفه لتحسينه، وصرَف الشيء عن ظاهره، فشُبِّه بالسحر الذي هو تخييل لغير حقيقة" (١) . وقال صعصعة بن صوحان عن هذا الحديث:" صدق رسول الله ﷺ الرجل يكون عليه الحق، وهو ألحنُ بالحجة من صاحب الحق، فيسحرُ الناس ببيانه، فيذهبُ بالحق " (٢) .
قال الحافظ: "وحمل الحديث على هذا صحيح، لكن لا يمنع حملَه على المعنى الآخر إذا كان في تزيين الحق، وبهذا جزم ابن العربي وغيره من فضلاء المالكية، وقال ابن بطال: أحسن ما يقال في هذا، أن هذا الحديث ليس ذما للبيان كله ولا مدحا، لقوله: " من البيان " فأَتى بلفظة " مِنْ " التي للتبعيض،
_________
(١) الفتح ١٠/ ٢٤٨.
(٢) الفتح ٩/١٠٩ – وانظر مقالة صعصعة بن صوحان في أبي داود – في الأدب – حديث – ٥٠١٢.
1 / 8
وكيف يُذَم البيان وقد امتن الله به على عباده حيث قال: ﴿خَلَقَ الْأِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ [الرحمن٣-٤] (١) .
قلت: وهو كلام صحيح، فالبيان فيه المذموم والممدوح كما تقدم، ولفظ الحديث في الموطأ دال على هذا التقسيم.
وإذا كان البيان بهذه المنزلة، فلا ريب أنه بمنزلة عظيمة، فبه يبلَّغ الوحي الإلهي إلى الناس، وبطلاوته ينساب إلى أفئدتهم، وعلى قوة أثره يعوَّل في تفنيد الشبهات، وقمع الشهوات، وفَتِّ المأْفُوكات وإزاحةِ اللبس عن الآي البينات.
ومن الاهتبال بالبيان وإحلاله منزلة عالية، أسمى الله تعالى كتابه بيانا في قوله: ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران:١٣٨] وأسمى نبيه مبينا في قوله:
﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [النحل: ٦٤] وقد أُوتي ﷺ من البيان والفصاحة ذروتهما، وله فيهما أفنانٌ ومذاهبُ، لا ترتقي مصاقِعُ البلغاء إلى عليائها، ولا تطمح أن تتبوأ أعاليها، وحسبها أن تُطرِق لبيانه، وأن تتسمع لبلاغته، وأن تتلمس توجيهها، وإثارةَ غرائبها، وإدراك معانيها.
إنه في بيانه لَإمام ... حارَ في درْك غوره البلغاء
_________
(١) الفتح ١٠/٢٤٨.
1 / 9
وهذا يستدعي حقيقة هامة، أغفلها كثير ممن يتعاملون مع الوحيَيْن قديما وحديثا، وهي أن من لم يتمكن من ناصية الأدب واللغة العربية، فلن يكون فهمه في عمومه سليما لهذين الوحيين، لأنهما في قمة سامقة من جوامع كلم البلاغة، فالتعامل معهما يستوجب استعدادا خاصا.
وما وقع فيه جميعُ الفرق المنحرفة عن فهم السلف المتقدمين: من تأويلات فاسدة، وآراء عليلة، مرَدُّ أغلبها إلى عُجْمتهم، وعدم إدراكهم مراد المتكلم من كلامه، فحملوا كلام الله ورسوله على ما لا يرضاه أحدهم لنفسه في كلامه، فضلوا بذلك وأضلوا. ولو كانوا عربا أقحاحا، أو استمدوا العربية تعلما من معادنها، لما وقعوا فيما وقعوا فيه من غرائب المحامل.
وكان العرب الخُلَّص من الأئمة أمثال مالك والشافعي، وأحمد، وأضرابهم، سلِيمِي الفهم، دقيقي التعليل، دراكين لمقاصد النصوص ومعانيها المرادة منها، فعلى أفهامهم يعوَّل وعلىما قعَّدوه يعتمَد في التفريع والتأصيل، وبه يستهدَى في التأويل والتنزيل.
1 / 10
السنة النبوية وحي من الله، محفوظة كالقرآن
الأستاذ الدكتور: الحسين آيت سعيد
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المبحث الأول: في عصمة الأنبياء
أ - إن عصمة الأنبياء، من القضايا الخطيرة في الدين، والمسائلِ الأساسية فيه، التي لا يصح شيء منه إلا بصحتها وإثباتها بآياتها وبراهينها، ذلك أن التصديق بالوحي كلِّه أنه من عند الله، وأن الآتي به أرسله الله، يتوقف على ثبوت عصمته في كل ما يقول ويفعل ويبلغ عن الله تعالى.
وهذه القضية من قضايا العقيدة، فهي بذلك من أصول الدين لا من فروعه التي يجوز فيها الخلاف، ولذلك ينبغي أن تبحث في كتب العقائد. وقد أكثر من تشقيق الكلام عليها وتفصيله، المتكلمون المحكِّمون لعقولهم، حتى قالوا ما تقشعر منه الجلود، وتنفر منه الطباع السليمة، واستفاضوا في تفاصيل لا يترتب عليها أي عمل، ولا يتعلق بها أي مقصود، وأكثروا من تجويزات عقلية -لا وجود لها إلا في أذهانهم- في هذا الموضوع الواقعي، فجرَّهم ذلك الترفُ الفكري إلى أن جوزوا على الأنبياء ما لا يجوز، وصرحوا بما يتحاشى كل مسلم أن يصرح به، وجرَّؤُوا السفهاء ممن لا عقل لهم، أو لادين لهم -من العلمانيين والمستشرقين والمستعربين- على منصب النبوة بهذه الأقوال السمجة، كما فعل ابن الراوندي الملحد في كتاب الزمرد (١) .
ومن هذه الافتراضات، ما ذهب إليه الباقلاني وارتضاه الآمدي أن النبي ﷺ لا تجب عصمته من الكذب غلطا ونسيانا (٢) .
ومنها أنه ذهب بعض الكرامية إلى تجويز الكذب عليهم في التبليغ (٣) .
_________
(١) انظر الانتصار، والرد على ابن الراوندي الملحد للخياط - ٣٢
(٢) حجية السنة ١٠٠.
(٣) الفصل في الأهواء والملل والنحل–٤/٢.
1 / 11
ومنها أن بعض الخوارج، جوزت الكفر على الأنبياء قبل البعثة، حكاه صاحب "المواقف" وزعم هو أنه لم يقم دليل سمعي على امتناع صدور الكبائر منهم قبل النبوة (١) .
ب - ما العصمة؟
العصمة لغة المنع والحفظ والوقاية، قال ابن فارس:" العين والصاد والميم، أصل واحد صحيح، يدل على إمساك ومنع وملازمة، والمعنى في ذلك كله معنى واحد، من ذلك العصمة، أن يعصم الله تعالى عبده من سوء يقع به، واعتصم العبد بالله إذا امتنع، واستعصم: التجأ" (٢) . وفي اللسان:" عصمه يعصمه عصما منعه، يقال: عصمته فانعصم، واعتصمت بالله، إذا امتنعت بلطفه من المعصية، وعصمه الطعامُ منعه من الجوع، واعتصم به واستعصم، امتنع وأَبىَ ..." (٣) .
وهذه المادة تكررت في القرآن الكريم مرارا بصيغ مختلفة، تؤول لمعنى الحفظ والمنع.
قال تعالى حاكيا عن ابن نوح: ﴿قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾ [هود: ٤٣] . وقال: ﴿قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً﴾ [الأحزاب:١٧] وقال: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ [المائدة:٦٧] .
_________
(١) المواقف في علم الكلام ٣/٢٠٤.
(٢) المقاييس – ٤/٣٣١.
(٣) لسان العرب - ٢١/٤٠٣/٤٠٤.
1 / 12
والعصمة شرعا: قد اختلف المتكلمون في تعريفها اختلافا كثيرا أدى إلى تناقضهم وافتراضهم أمورًا لا وجود لها إلا في أذهانهم، وكل منهم ينطلق في النظر للعصمة من منحاه العقدي (١) . وأقربُ التعاريف للصواب، هو قول ابن النجار " إن العصمة صرف دواعي المعصية عن المعصية، بما يلهم الله المعصوم من ترغيب وترهيب" (٢) .
ج - من أي شيء عُصِمَ الأنبياء ﵈؟
اتفق أهل الإسلام على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، قد عُصِموا من كل ما يخل بالتبليغ، كالشك، والجهل بالأحكام المنزلة عليهم، وكتمان الوحي، والكذب، والوسواس، وأن يقولوا ما ليس بحق، والتقصير في البلاغ، وتسليط الشيطان وتلبيسه عليهم، وتسليط الإنس أيضا عليهم بالإيذاء المُخِل بالرسالة. وبالجملة فهم معصومون من جميع الكبائر، والإجماعُ على هذا حكاه غير واحد.
قال ابن النجار: " فالإجماع منعقد على عصمتهم من تعمد الكذب في الأحكام وغيرها، لأن المعجزة قد دلت على صدقهم فيها، فلو جاز كذبهم فيها، لبطلت دلالة المعجزة، ولا يقع ما يخل بصدقهم لا غلطا ولا سهوا عند الأكثر " (٣) . وقال ابن بَرْهان:" فإن الأمة أجمعت على أن الأنبياء معصومون عن الكبائر " (٤) .
_________
(١) انظر محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين للرازي ص ٣١٧والشفا لعياض ص٦٠٦ والإرشاد للجويني ٢٩٨.
(٢) شرح الكوكب المنير – ٢/١٦٧.
(٣) شرح الكوكب المنير – / ٢ /١٦٩.
(٤) الوصول إلى الأصول – ٣٥٨.
1 / 13
وقال الزركشي:" والكلام في العصمة يرجع إلى أمور: أحدها في الاعتقاد، ولاخلاف بين الأمة في وجوب عصمتهم عما يناقض مدلول المعجزة، وهو الجهل بالله تعالى، والكفر به. وثانيها: أمر التبليغ، وقد اتفقوا على استحالة الكذب والخطأ فيه. وثالثها في الأحكام والفتوى، والإجماعُ على عصمتهم فيها، ولو في حال الغضب، بل يُستَدل بشدة غضبه ﷺ على تحريم ذلك الشيء. ورابعها في أفعالهم وسيرهم، فأما الكبائر فحكَى القاضي إجماع المسلمين أيضا على عصمتهم فيها، ويلحق بها ما يُزْرِي بمناصبهم، كرذائل الأخلاق والدناءات، وإنما اختلفوا في الطريق، هل هو الشرع أو العقل " ... (١) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:" فإن القول بأن الأنبياء معصومون عن الكبائر دون الصغائر، هو قول أكثر علماء الإسلام وجميع الطوائف، حتى إنه قول أكثر أهل الكلام، كما ذكر الآمدي أن هذا قولُ أكثر الأشعرية، وهو قول أكثر أهل التفسير والحديث والفقهاء، بل هو لم يُنقَل عن السلف والأئمة والصحابة والتابعين وتابعيهم، إلا ما يوافق هذا القول... " (٢) .
د -هل هم معصومون من الصغائر؟
هذه المسألة فيها خلاف بين النظار في موضعين: أحدهما هل تتصور منهم الصغائر، والثاني هل وقعت منهم؟. فأما تصورها منهم، فقد منعه الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني، وإمام الحرمين (٣) .
_________
(١) البحر المحيط ٤/١٧٠.
(٢) الفتاوى - ٤/ ٣١٩
(٣) البحر المحيط - ٤/ ١٤٠ / والإرشاد ـ٢٩٨.
1 / 14
وأما وقوعها منهم، فقد قال به ابن السمعاني، ونقل ابن القشيري وإمام الحرمين عن الأكثرين عدم الوقوع، ورجحه الزركشي في البحر المحيط، وهو مذهب أبي بكر بن مجاهد، وابن فورك، ونقل عياض وقوعها منهم عن أبي جعفر الطبري وغيره من الفقهاء (١) . هكذا نقل الزركشي وعياض عن هؤلاء، ونقل عنهم ابن حزم خلاف هذا الإطلاق بقوله:"وذهبت طائفة إلى أن الرسل عليهم الصلاة والسلام لا يجوز عليهم كبيرة من الكبائر أصلا، ويجوز عليهم الصغائر بالعمد، وهو قول ابن فورك الأشعري، وذهب جميع أهل الإسلام من أهل السنة، والمعتزلة، والنجارية، والخوارج، والشيعة، إلى أنه لا يجوز البتة أن يقع من نبي أصلا معصية بعمد، لا صغيرة ولا كبيرة، وهو قول ابن مجاهد الأشعري شيخ ابن فورك، والباقلاني المذكورين، وهذا القول الذي ندين الله تعالى به، ولا يحل لأحد أن يدين بسواه " (٢) .
فهذا النص يفيد أنهم قيدوا عدم الوقوع بالعمد، وما نقله الزركشي عنهم مطلق، يحتمل التقييد وعدمه، وأقوالُ أصحاب المقالات، يقع فيها مثل هذا الاضطراب، فقد يُنقَل عن شخص واحد كالأشعري مثلا شيءٌ وضده، وذلك راجع إما لأقوال له في المسألة، أو خطأ في النقل، ولاسيما أن هذه المقالات، تنقل بلا أَزمَّة الأسانيد، التي يمكن تقويمها من خلالها.
وكيفما كان، فما قاله ابن حزم ومن معه، فهو الصواب الذي يجب اعتقاده من أن الصغائر لا تصدر منهم عمدا، فإذا وقعت منهم، فتكون سهوا، أو خطأ.
_________
(١) المصدر نفسه ٤ / ١٤٠/ والشفا للقاضي عياض ص ٦٢٨.
(٢) الفصل في الملل والأهواء والنحل /٤ / ٢ /.
1 / 15
وسبب الخلاف في وقوعها منهم أو عدم وقوعها، اختلافهم في تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر، فذهب أبو إسحاق الاسفراييني إلى أن الذنوب كلها شيء واحد، لأنها مخالفة أمرالآمر، وتبعه الجويني بقوله:" المرضي عندنا أن كل ذنب كبيرة، إذ لاتراعى أقدار الذنوب حتى تضاف إلى المعصي بها" (١) ثم في فصلِ عصمة الأنبياء، ذكَر ما يدل على أنه يقر بالتقسيم (٢) .
والجويني كثير الاضطراب في تقرير أصول المعتقد، فهو أحيانا يجمع بين الشيء ونقيضه. وقال ابن تيمية: " لم يذكر الله عن نبي من الأنبياء ذنبًا إلا ذكر توبته منه، ولهذا كان الناس في عصمة الأنبياء على قولين: إما أن يقولوا بالعصمة من فعلها، وإما أن يقولوا بالعصمة من الإقرار عليها، لا سيما فيما يتعلق بتبليغ الرسالة، فإن الأمة متفقة على أن ذلك معصوم أن يقر فيه على خطأ، لأن ذلك يناقض مقصود الرسالة، ومدلول المعجزة. ...والمقصود هنا أن الله لم يذكر في كتابه عن نبي من الأنبياء ذنبا إلا ذكر توبته منه ... واعلم أن المنحرفين في مسألة العصمة، على طرفي نقيض، كلاهما مخالف لكتاب الله من بعض الوجوه، قومٌ أفرطوا في دعوى امتناع الذنوب، حتى صرفوا نصوص القرآن المخبرة بما وقع منهم من التوبة من الذنوب، ومغفرةِ الله لهم، ورفْعِ درجاتهم بذلك، وقوم أفرطوا في أن ذكروا عنهم ما دل القرآن على براءتهم منه، وأضافوا إليهم ذنوبًا وعيوبا نزههم الله عنها، وهؤلاء مخالفون للقرآن،
_________
(١) الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد -٣٢٨.
(٢) انظر ص ٢٢٨.
1 / 16
وهؤلاء مخالفون للقرآن، ومن اتبع القرآن على ما هو عليه من غير تحريف، كان من الأمة الوسَط، مهتديا إلى الصراط المستقيم (١) .
وقال:" والكلام في هذا المقام مبني على أصل، وهو أن الأنبياء - صلوات الله عليهم - معصومون فيما يخبرون به عن الله سبحانه وفي تبليغ رسالته باتفاق الأمة، ولهذا وجب الإيمان بكل ماأُوتُوه ... وهذه العصمةُ الثابتة للأنبياء، هي التي يحصل بها مقصود النبوة والرسالة ... والعصمةُ فيما يبلغون عن الله ثابتة، فلا يستقر في ذلك خطأ باتفاق المسلمين، ولكن هل يَصْدر ما يستدركه الله، فيَنسخ ما يُلقِي الشيطانُ، ويُحكِم الله آياته، فهذا فيه قولان، والمأثور عن السلف يوافق القرآن بذلك .... وأما العصمة في غير ما يتعلق بتبليغ الرسالة، فللناس فيه نزاع، هل هو ثابت بالعقل أو بالسمع، ومتنازعون في العصمة من الكبائر والصغائر أو من بعضها، أم هل العصمة إنما هي في الإقرار عليها لا في فعلها؟ أم لا يجب القول إلا في التبليغ فقط ... والقولُ الذي عليه جماهير الناس - وهو الموافق للآثار المنقولة عن السلف - إثبات العصمة من الإقرار على الذنوب مطلقا ... وحججُ القائلين بالعصمة إذا حُرِّرت إنما تدل على هذا القول، وحجج النفاة لا تدل على وقوع ذنب أُقر عليه الأنبياء، فإن القائلين بالعصمة، احتجوا بأن التأسي بهم مشروع فيما أُقروا عليه دون مانهوا عنه، ورجعوا عنه ... وكذلك ما احتجوا به من أن الذنوب تنافي الكمال، أو أنها ممن عظُمت عليه النعمة أقبح، أو أنها توجب التنفير... فهذا إنما يكون مع البقاء على ذلك وعدم الرجوع، وإلا فالتوبة
_________
(١) الفتاوى -١٥/١٤٧/١٤٨/١٥٠/ وانظر أيضا -٥١/٥٢/ ٥٣.
1 / 17
النصوح التي يقبلها الله، يرفع بها صاحبها إلى أعظمَ مما كان عليه، كما قال بعض السلف: كان داودُ ﵇ بعد التوبة خيرًا منه قبل الخطيئة.
وقال آخر: لو لم تكن التوبة أحب الأشياء إلى الله، لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه ... وفي الكتاب والسنة الصحيحة، والكتب التي قبل القرآن مما يوافق هذا القول، ما يتعذر إحصاؤه.
والرادّون لذلك، تأولوا ذلك بمثل تأويلات الجهمية، والقدرية، والدهرية، لنصوص الأسماء والصفات ونصوص القدر ونصوص المعاد، وهي من جنس تأويلات القرامطة الباطنية التي يُعلَم بالاضطرار أنها باطلة، وأنها من باب تحريف الكلم عن مواضعه، وهؤلاء يقصد أحدهم تعظيمَ الأنبياء فيقع في تكذيبهم، ويريد الإيمان بهم، فيقع في الكفر بهم" (١) .
وهذا المذهب الذي يرى الذنوب كلها في مرتبة واحدة باطل، لأن النصوص متواترة عن النبي ﷺ في تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر، والقرآن الكريم قد صرح بذلك بلا لبس، قال تعالى: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ [النساء:٣١] ومعنى الآية أن اجتناب الكبائر والبعدَ عنها، يكون سببا في تكفير ما اقترف من السيئات، وهي الصغائر، فلو كانت الكبائر هي السيئات، لكان معنى الآية: إن تجتنبوا الكبائر نكفر عنكم الكبائر، وهذا معنى باطل، لأن مالم يفعل لا يتصور فيه التكفير، وإنما التكفير ينصب على ما فعل من الصغائر التي لا يخلو منها بشر.
_________
(١) الفتاوى - ١٠/٢٨٩ -٢٩٠/ إلى - ٢٩٥.
1 / 18
وأحاديثُ النبي ﷺ في انقسام الذنوب إلى صغائر وكبائر، أكثر من أن تحصى، منهاقوله من حديث أبي بكرة: " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر" فكررها ثلاثا (١) ويقابل هذا الغلو في نفي التقسيم غلو آخر، يرى أصحابه أنه ﷺ لاتقع منه صغائر لا عمدا ولاسهوا، وقد نقل هذا المذهبَ إمامُ الحرمين وابن القشيري عن الأكثرين (٢) وردوا عشرات النصوص المتواترة الدالة على ذلك في الكتاب والسنة، من مثل قوله تعالى:
﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ﴾ [الفتح:٢] وقوله: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ [غافر:٥٥] .
وقوله ﷺ من حديث " إنه ليغان على قلبي، وإني أستغفر الله سبعين مرة " (٣) وحملوا ذلك كله على ما قبل النبوة، أو ترك الأَوْلى، أو فعلوا ذلك بتأويل. وهذا التمحل يؤدي إليه اعتقاد هؤلاء أن القول بأنه ﷺ تصدر عنه بعض الصغائر سهوا، يَغُضُّ من مقامه، وليس الأمر كذلك، بل الصواب أنها قد تصدر عنه صغائر سهوا أو خطأ، فينبَّه عليها ويتوب منها، فتكون منزلته عند الله ﷿ بعد التوبة أرقى منها قبل التوبة، وهو بذلك ينزقى من كمال إلى أكمل.
هـ - هل السهو يجوز عليهم؟
قال ابن حزم: " إنه يقع من الأنبياء السهو من غير قصد، ويقع منهم أيضا قصد الشيء يريدون به وجه الله تعالى والتقرب به منه، فيوافق خلاف
_________
(١) أخرجه البخاري في الأدب - ١٠ /٤١٩ ومسلم في الإيمان / ١ / ٩١.
(٢) البرهان - ٤ / ١٧٠.
(٣) أخرجه مسلم في الذكر والدعاء - ٤ /٢٠٧٥ - من حديث الأغر المزني.
1 / 19
مراد الله تعالى، إلا أنه تعالى لا يقرهم على شيء من هذين الوجهين أصلا، بل ينبههم على ذلك ولا يداثر (١) وقوعه منهم، ويظهر عزوجل ذلك لعباده ويبين لهم، كمافعل نبيُّه في سلامه من اثنتين، وقيامه من اثنتين، وربما عاتبهم على ذلك بالكلام كما فعل مع نبيه ﵇ في أمر زينب أم المؤمنين، وطلاق زيد لها ﵄ وفي قصة ابن أم مكتوم ﵁ " (٢) .
وينبغي تقييد السهو منهم - كما ذهب إليه أكثر الفقهاء والمتكلمين - بالأفعال دون الأقوال، لأن الأدلة إنما جاءت في سهوهم في الأفعال، دون الأقوال، وقد حكى العلامة القاضي عياض الإجماع على امتناع السهو فيها (٣) . وهذا هو الصواب الذي لا محيد عنه.
_________
(١) أي: لا يغفل.
(٢) الفصل ٤/٢.
(٣) الشفا ص ٦٧٥.
1 / 20