دراسة وتحقيق قاعدة «الأصل في العبادات المنع»
دراسة وتحقيق قاعدة «الأصل في العبادات المنع»
Maison d'édition
دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع
Numéro d'édition
الأولى
Année de publication
١٤٣١ هـ
Lieu d'édition
المملكة العربية السعودية
Genres
دِرَاسَة وَتَحْقِيق قَاعِدَة «الأَصْلُ فِي الْعِبَادَات الْمَنْع»
تأليف
مُحَمَّد بن حُسَيْن الجيزاني
دَار ابْن الْجَوْزِيّ
Page inconnue
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين.
أما بعد، فإن الغاية المقصودة من الخَلق إنما هي عبوديته -سبحانه- كما ورد التصريح بذلك في قوله -جلَّ شأنه-: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦].
وحقيقة عبوديته -سبحانه- وسرها إنما يتحقق باتباع أمره واجتناب نهيه، فعند اتباع الأمر واجتناب النهي تتبين حقيقة العبودية وصحتها.
ومن هنا فقد سطَّر أهل العلم قاعدة شرعية جامعة في هذا الباب، ألا وهي: (الأصل في العبادات المنع)
وقد شرح الله صدري لدراسة هذه القاعدة، وجمع ما تناثر من كلام العلماء حولها
ويمكن تقسيم الدراسات السابقة حول هذه القاعدة إلى ما يأتي:
1 / 5
أولًا: كتب أصول الفقه، وذلك عند الكلام على ما يجري فيه القياس، وعند الكلام على الصحة والفساد من الحكم الوضعي، وعند الكلام على دليل الاستصحاب، وعلى المسائل المتعلقة بالحاكم، ومسألة اقتضاء النهي الفساد.
ثانيًا: كتب مقاصد الشريعة، وذلك عند الكلام على تقسيم أفعال المكلفين إلى عبادات وعادات، والكلام على التعبد والتعليل.
ثالثًا: كتب القواعد الفقهية، وذلك في الغالب مندرج تحت قاعدة: (اليقين لا يزول بالشك) وما يتفرع عنها من قواعد.
رابعًا: الكتب المصنفة في باب التحذير من البدع (١).
خامسًا: كتب العقيدة، وذلك عند الكلام على توحيد العبادة وإخلاص العبودية لله سبحانه (٢).
_________
(١) من أبرز ما كتب في هذا الباب وأنفعه:
١ - الحوادث والبدع: للطرطوشي المتوفى سنة ٥٣٠ هـ.
٢ - اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم: لتقي الدين ابن تيمية المتوفى سنة ٧٢٨ هـ.
٣ - الاعتصام للشاطبي المتوفى سنة ٧٩٠ هـ.
(٢) من أبرز الكتب المصنفة في توحيد الألوهية (العبادة): كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ومن أشهر شروحه: فتح المجيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب، وكتاب تيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب.
1 / 6
وتحسن الإشارة في هذا المقام إلى أمور ثلاثة:
أولها: أن لشيخ الإسلام ابن تيمية جهودًا مذكورة ومساعي مشكورة في تحرير هذه القاعدة؛ إذ له رسالة مفردة في ذلك، ألا وهي (العبودية) إضافة إلى عنايته الفائقة بمسألة العبادة والاتباع، وذلك مبثوث في ثنايا كتبه وفتاواه.
والثاني: أن كتاب مدارج السالكين لابن القيم قد حوى معاني جليلة ومقاصد سامية فيما يخص مسألة العبادة وغايتها وأصناف أهلها وغير ذلك من المسائل ذات الصلة بها.
والثالث: أن كتاب الاعتصام للشاطبي يعد من أعمق هذه المصادر فقهًا، وأوسعها مادة في هذه المسألة، وقد انفرد هذا لكتاب بما لا يوجد في غيره.
وقد اقتضى المقام تقسيم هذا البحث إلى تمهيد وأربعة فصول:
التمهيد في بيان: هل الأصل في الشريعة التعبد أو التعليل؟
وتحت هذه المسألة النقاط الآتية:
١ - تحرير محل النزاع.
٢ - الأقوال والأدلة.
٣ - الرأي الراجح ودليل الترجيح.
٤ - أثر الخلاف وثمرته.
1 / 7
الفصل الأول: معنى القاعدة.
وفي هذا الفصل مطلبان:
المطلب الأول: المعنى الإفرادي للقاعدة.
وفي هذا المطلب ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: معنى الأصل.
المسألة الثانية: معنى العبادة.
المسألة الثالث: معنى المنع.
المطلب الثاني: المعنى الإجمالي للقاعدة.
الفصل الثاني: توثيق القاعدة.
وفي هذا الفصل أربعة مطالب:
المطلب الأول: صيغ القاعدة.
المطلب الثاني: القواعد الأصولية والفقهية ذات الصلة بالقاعدة.
المطلب الثالث: أدلة القاعدة.
المطلب الرابع: سياق كلام أهل العلم حول القاعدة.
الفصل الثالث: أثر القاعدة وتطبيقاتها:
وفي هذا الفصل أربعة مطالب:
المطلب الأول: أسماء الله وصفاته توقيفية.
المطلب الثاني: ألفاظ الأذكار توقيفية.
1 / 8
المطلب الثالث: المنع من الغلو في الدين.
المطلب الرابع: مسائل متفرقة.
الفصل الرابع: القواعد المندرجة تحت القاعدة.
وتحت هذا الفصل أربع قواعد:
القاعدة الأولى: لا تثبت العبادة إلا بتوقيف.
القاعدة الثانية: الأصل في العبادات المقيدة: الإتيان بها مقيدة.
القاعدة الثالثة: الأصل في العبادات المطلقة: التوسعة.
القاعدة الرابعة: ما شرع من العبادات على وجه العموم لا يدل على مشروعيته على وجه الخصوص.
وقد ذيلت هذا البحث بخاتمة تضمنت خلاصته، وبثبت للمصادر والمراجع.
أسأل الله -جل شأنه- أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
1 / 9
التمهيد
في بيان هل الأصل في الشريعة التعبد أو التعليل؟
وتحت هذه المسألة النقاط الآتية:
١ - تحرير محل النزاع.
٢ - الأقوال والأدلة.
٣ - الرأي الراجح ودليل الترجيح.
٤ - أثر الخلاف وثمرته.
1 / 11
١ - تحرير محل النزاع
وذلك في أمور ثلاثة:
الأمر الأول: أن كلا من التعبد والتعليل له معنى عام ومعنى خاص.
أولا: المعنى العام لكل من التعبد والتعليل:
التعبد بمعناه العام هو: ما دل عليه قوله ﷺ: «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا» (١)، وعبادته -سبحانه- هي: امتثال أوامره واجتناب نواهيه بإطلاق.
وبهذا يعلم أن علة التعبد العامة هي: الانقياد لأوامر الله -تعالى- وإفراده بالخضوع والتعظيم لجلاله والتوجه إليه؛ كما قال -سبحانه-: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦].
وبناء على ذلك فيمكن أن يقال: الشريعة كلها تعبدية.
وأما التعليل بمعناه العام هو: ما دل عليه قوله ﷺ: «حق العباد على الله إذا عبدوه ولم يشركوا به شيئًا ألا يعذبهم» (٢)، وهذا
_________
(١) أخرجه البخاري (٧/ ٣٠٨) برقم (٢٨٥٦)، ومسلم برقم (٣٠).
(٢) هو تتمة للحديث السابق ولكن بلفظ: «حق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا».
1 / 13
يفيد أن هذه الشريعة إنما وضعت لمصالح العباد عاجلا وآجلا.
ومن هنا يعلم أن أحكام الله ﷾ معللة بالحِكم ورعاية المصالح، وأن جميع الأوامر والنواهي مشتملة على حِكم جليلة ومصالح عظيمة.
وبناء على ذلك فيمكن أن يقال: الشريعة كلها معللة.
ثانيًا: المعنى الخاص لكل من التعبد والتعليل:
التعبد بمعناه الخاص هو: ما لا يُعقل معناه من الأحكام على الخصوص، ولا تدرك علته، وهو ما يسمى بالأمور التعبدية.
ومثالها: تحديد أعداد الركعات في الصلوات الخمس، وتحديد مقادير الأنصبة في الأموال التي تجب فيها الزكاة، ومقادير ما يجب فيها، ومقادير الحدود والكفارات، وفروض أصحاب الفروض في الإرث (١).
وهذا التعبد واقع في الشريعة؛ فإن بعض الأحكام قد تخفى علتها.
وأما التعليل بمعناه الخاص فهو: كون الحكم متضمنًا لمعنى مناسب ومصلحة يدركها العقل (٢).
_________
(١) علم أصول الفقه للشيخ عبد الوهاب خلاف ص (٦٢).
(٢) انظر: شفاء العليل لابن القيم ص (١٩٠)، ومفتاح دار السعادة (٢/ ٢٢)، ومذكرة الشنقيطي ص (٢٧٥).
1 / 14
ونصوص القرآن والسنة طافحة بتعليل الأحكام ووجوه الحِكم، فمن الأمثلة على ذلك في القرآن الكريم (١):
أنه تارة يذكر ذلك بلام التعليل الصريحة؛ كقوله -تعالى-: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ [البقرة: ١٤٣].
وتارة يذكر "كي" الصريحة في التعليل، كقوله -تعالى-: ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ﴾ [الحشر: ٧].
وتارة يذكر "من أجل" الصريحة في التعليل؛ كقوله -تعالى-: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [المائدة: ٣٢].
وتارة يذكر "لعل" المتضمنة للتعليل المجردة عن معنى الرجاء المضاف إلى المخلوق؛ كقوله -تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: ١٨٣].
وتارة يذكر المفعول له؛ كقوله-تعالى-: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: ٨٩].
وتارة ينبه على السبب بذكره صريحًا؛ كقوله -تعالى-: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ﴾ [النساء: ١٦٠، ١٦١].
_________
(١) انظر: مفتاح دار السعادة (٢/ ٢٢)، وشفاء العليل لابن القيم ص (١٨٨ - ١٩٦).
1 / 15
وتعليل أفعال الله -سبحانه- لا يلزم منه -على مذهب السلف- القول بأنه يجب على الله رعاية مصالح العباد؛ ذلك لأن السلف يثبتون لله كمال القدرة والحكمة، ولا يشبهونه بشيء من خلقه، ولأجل ذلك يقولون:
"إن الله خالق كل شيء ومليكه، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو على كل شيء قدير، ويفعل -سبحانه- ما يفعل بأسباب ولحكم وغايات محمودة فله المشيئة العامة والقدرة التامة، والحكمة البالغة" (١).
ولا يجب عليه -سبحانه- شيء فيما يحكم ويقضي؛ إذ لا يجوز قياسه على خلقه (٢): ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء: ٢٣]، لذا فإن القول: بأن العلة مجرد علامة محضة لا يصح، لكونه مبنيًا على إنكار التعليل في أفعال الله، بل العلة هي الوصف المشتمل على الحكمة الباعثة على تشريع الحكم (٣).
الأمر الثاني: أن إجراء القياس في الأحكام الشرعية لا يمكن إلا بعد معرفة العلة وتعقل المعنى:
وبناء على ذلك فالقياس إنما يسوغ إجراؤه في الأحكام المعللة، وأما في الأحكام التعبدية غير المعللة فلا يمكن فيها إجراء والقياس بحال.
_________
(١) انظر: مجموع الفتاوى (٨/ ٩٧، ٩٩)، وشفاء العليل لابن القيم ص (٢٠٦).
(٢) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (٢/ ٧٧٦).
(٣) انظر: مجموع الفتاوى (٨/ ٤٨٥)، ومذكرة الشنقيطي ص (٢٧٥).
1 / 16
قال الطوفي عند بيانه لشروط القياس: "الشرط الثالث: أن يكون الأصل معقول المعنى، إذ لا تعدية بدون المعقولية، أي: ما لا يعقل معناه لا يمكن القياس فيه؛ لأن القياس تعدية حكم المنصوص عليه إلى غيره، وما لا يعقل لا يمكن تعديه، كأوقات الصلوات وعدد الركعات" (١).
وقال الشاطبي: "ذلك أن التعبد راجع إلى عدم معقولية المعنى، وبحيث لا يصح فيه إجراء القياس.
وإذا لم يعقل معناه دل على أن قصد الشارع فيه الوقوف عند ما حدَّه لا يُتعدى" (٢).
الأمر الثالث: محل النزاع في هذه المسألة إنما هو في الأصل الغالب في أحكام الشريعة: هل هو التعبد أو التعليل؟
حيث الاتفاق واقع على أن أحكام الشريعة منها ما هو تعبدي، لا تعرف له علة، ومن هذه الأحكام أيضًا ما هو معلل بنص الكتاب والسنة.
قال الطوفي: "الأحكام إما غير معلل؛ كالتعبدات أو معلل؛ كالحجر على الصبي لضعف عقله حفظًا لماله" (٣).
فمحل الخلاف إذن فيما عدا ذلك من الأحكام: ما الأصل فيها؛ هل تحمل على التعبد أو على التعليل؟
_________
(١) شرح مختصر الروضة (٣/ ٣٠١).
(٢) الموافقات (٢/ ٣١٨).
(٣) شرح مختصر الروضة (٣/ ٢٧٥).
1 / 17
٢ - الأقوال والأدلة
القول الأول: أن الغالب في أحكام الشريعة التعليل، وأن التعبد فيها قليل.
وهو مذهب الحنفية، ونسب ذلك إلى الإمام الشافعي، وقال به من الحنابلة القاضي أبو يعلي وأبو الخطاب (١).
واستدلوا بما يأتي (٢):
أولًا: أنَّ تعقُّل العلة وإدراك المناسبة أقرب إلى القبول من التعبد، وأدعى إلى العمل والامتثال.
ثانيًا: أن التعبد في الأحكام قليل نادر، وأن التعليل هو الأغلب، وهو المألوف في عرف الشارع، فيلحق الفرد بالأعم الأغلب، ألا وهو التعليل، وإنما يحكم بالتعبد فيما لا تظهر فيه مناسبة.
ثالثًا: العمومات الدالة على العمل بالقياس؛ فإنها تفيد أن هذه الشريعة مبناها على التعليل، وإدراك المناسبات حتى يمكن إلحاق النظير بنظيره.
_________
(١) انظر: شرح التلويح (٢/ ٦٤)، وشرح الكوكب المنير (٤/ ١٥١، ١٥٢).
(٢) انظر: البحر المحيط (٥/ ٢٠٨)، وشرح الكوكب المنير (٤/ ١٥٢).
1 / 18
القول الثاني: أن الغالب في أحكام الشريعة التعبد، وأن التعليل فيها قليل.
وهو المشهور عند الشافعية، وعلى هذا المذهب طائفة من السلف (١).
واستدلوا بالآتي (٢):
أولًا: أن الموجب للامتثال إنما هو صيغة الأمر والنهي لا العلة.
ثانيًا: أن الالتفات إلى التعليل يضعف الانقياد، وذلك أن من لم يمتثل الأمر حتى تظهر له علته لم يكن منقادًا للأمر، وأقل درجاته أن يضعف انقياده له.
ولهذا كانت طريقة بعض السلف عدم التعرض لعلل التكاليف؛ خشية هذا المحذور.
وقد ورد في بعض الآثار: "يا بني إسرائيل لا تقولوا: لِم أمر ربنا؟ ولكن قولوا: بم أمر ربنا؟ " (٣).
_________
(١) انظر: شرح التلويح (٢/ ٦٤)، ومدارج السالكين (٢/ ٥١٩)، وشرح الكوكب المنير (٤/ ١٥١، ١٥٢).
(٢) انظر: مدارج السالكين (٢/ ٥١٩)، وشرح الكوكب المنير (٤/ ١٥٢).
(٣) مدارج السالكين (٢/ ٥١٩).
1 / 19
٣ - الرأي الراجح ودليل الترجيح
يظهر لي أن الراجح في هذه المسألة هو ما اختاره الإمام الشاطبي، وهو: "التفرقة بين العبادات والعادات، وأنه غلب في باب العبادات جهة التعبد، وفي باب العادات جهة الالتفات إلى المعاني، والعكس في البابين قليل" (١).
ومستند هذا الترجيح أمران:
أولهما: أن في هذا القول جمعًا بين أدلة الفريقين، كما أن فيه توفيقًا بين القولين.
وثانيهما: أن الشاطبي قد اعتمد في اختيار هذا الرأي على استقراء الشريعة وتتبُع نصوصها وأحكامها (٢).
وبيان ذلك على النحو الآتي:
أما أمور العبادات فمما يدل على أن الأصل فيها الالتفات إلى التعبد دون التعليل:
أن الصلوات خُصَّت بأفعال مخصوصة على هيئات مخصوصة إن خرجت عنها لم تكن عبادات.
_________
(١) الموافقات (٢/ ٣٩٦).
(٢) انظر: الموافقات (٢/ ٣٠٠ - ٣٠٦).
1 / 20
وأن الذكر المخصوص في هيئة ما مطلوب، وفي هيئة أخرى غير مطلوب.
وأن طهارة الحدث مخصوصة بالماء الطهور وإن أمكنت النظافة بغيره، وأن التيمم وليست فيه نظافة حسية، يقوم مقام الطهارة بالماء المطهر.
وهكذا سائر العبادات كالصوم والحج وغيرهما.
فالركن الوثيق الذي ينبغي الالتجاء إليه الوقوف عند ما حُدَّ دون التعدي إلى غيره؛ لأنا وجدنا الشريعة حين استقريناها تدور على التعبد في باب العبادات فكان أصلا فيها.
فيجب أن يؤخذ في هذا الضرب التعبد دون الالتفات إلى المعاني أصلا يبني عليه وركنًا يلجأ إليه.
وأما أمور العادات فمما يدل على أن الأصل فيها الالتفات إلى المعاني والتعليل، دون التعبد:
أنا وجدنا الشارع قاصدًا لمصالح العباد، وأن الأحكام العادية وجدناها تدور مع المصلحة حيثما دارت؛ فترى الشيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة، فإذا كان فيه مصلحة جاز.
فمن أمثلة ذلك: أن الدرهم بالدرهم إلى أجل يمتنع في المبايعة ويجوز في القرض.
1 / 21
ومن ذلك: نهيه عن الخذف (١)، وتعليل ذلك بأنه: «يفقأ العين ويكسر السن» (٢).
وقوله ﷺ: «لا ضرر ولا ضرار» (٣).
وفي القرآن: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ [المائدة: ٩١] إلى غير ذلك مما لا يحصى.
وجميعه يشير بل يصرِّح باعتبار المصالح للعباد، وأن الإذن دائر معها أينما دارت؛ فدل ذل على أن العادات مما اعتمد الشارع فيها الالتفات إلى المعاني.
_________
(١) الخذف: هو رمي الحصاة ونحوها بطرفي الإبهام والسبابة. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (٢/ ١٦)، والمصباح المنير ص (١٦٥).
(٢) رواه البخاري (١٠/ ٥٩٩) برقم (٦٢٢٠)، ومسلم برقم (١٥٤٧).
(٣) رواه ابن ماجة (٢/ ٧٨٤) برقم (٢٣٤١) والحديث صححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (١/ ٤٤٣) برقم (٢٥٠).
1 / 22
٤ - أثر الخلاف وثمرته
انبني على هذه المسألة ثلاث قواعد:
القاعدة الأولى: محل القياس في الأحكام الشرعية؛ حيث يسوغ إجراء القياس في الأحكام المعللة على وجه الخصوص دون الأحكام التعبدية، وهذا أمر واضح.
وأما ما كان من الأحكام مترددًا بين كونه تعبديًا أو معللا فهذا محل نظر وهو يفتقر إلى اجتهاد وترجيح.
قال الطوفي: "الأحكام إما غير معلل كالتعبدات، أو معلل كالحجر على الصبي لضعف عقله حفظًا لماله، أو ما يتردد في كونه معللًا أو لا، كقولنا: استعمال التراب في غسل ولوغ الكلب هل هو تعبد أم معلل؟
وخرج على ذلك الخلاف في قيام الأشنان والصابون الغسلة الثامنة مقامه:
إن قلنا: هو تعبد، لم يقم غيره مقامه، وإن قلنا: معلل بإعانة الماء على إزالة أثر الولوغ؛ قام ذلك مقامه لوجود معنى الإزالة.
وكذلك إن قلنا: هو تعبد؛ كفى بالتراب مُسمَّاه، وإن لم
1 / 23
يعم أجزاء محل الولوغ، وإن قلنا: هو معلل؛ اشترط تعميمه به؛ عملا بمقتضى التعليل.
وكذلك غسل اليد عند الوضوء، وعند القيام من النوم إن قيل: هو عبادة، وجبت له النية، وإن قيل: نظافة لم يجب، ونظائر هذا كثير.
وبالجملة لا نقيس إلا حيث فهمنا المعنى ووجدت شروط القياس: فأما كون هذه المسألة الخاصة معللة أو غير معللة؛ فتلك مسألة أخرى خارجة عما نحن فيه يثبت فيها من الحكم بالتعبد أو التعلل ما قام عليه الدليل (١).
القاعدة الثانية: أن الأصل في العبادات المنع والحظر، وذلك بناء على أن الأحكام الشرعية في باب العبادات مبناها على التعبد والوقوف على ما حدَّه الشارع.
القاعدة الثالثة: أن الأصل في العادات الحل والإباحة وهذا مبني على أن الأصل في الأحكام الشرعية في باب العادات التعليل والالتفات إلى المعاني.
وقد أشار الشاطبي إلى ابتناء هاتين القاعدتين على هذين الأصلين؛ حيث قرر أن الأصل في العبادات التعبد وفي العادات التعليل ثم قال: "وإذا ثبت هذا فمسلك النفي متمكن في العبادات ومسلك التوقف متمكن في العادات" (٢).
_________
(١) شرح مختصر الروضة (٣/ ٢٧٥).
(٢) الموافقات (٢/ ٣٩٦).
1 / 24
الفصل الأول
معنى القاعدة
وفي هذا الفصل مطلبان:
المطلب الأول: المعنى الإفرادي للقاعدة.
المطلب الثاني: المعنى الإجمالي للقاعدة.
1 / 25