الجوهر النفيس في سياسة الرئيس
الجوهر النفيس في سياسة الرئيس
Maison d'édition
مكتبة نزار مصطفى الباز
Numéro d'édition
الأولى
Année de publication
١٩٩٦م
Lieu d'édition
مكة / الرياض
Genres
(بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم)
الْحَمد لله مانح الْمُلُوك رياسة الْبِلَاد، وموليهم سياسة الْعباد ومؤيدهم بالنصر على الأضداد، من أهل الشقاق والعناد، وواعدهم على المعدلة حسن الْعَاقِبَة فِي الْمعَاد: ﴿إِن الله لَا يخلف الميعاد﴾ [آل عمرَان: ٩]، أَحْمَده على مَا أنعم وَأفَاد وأشكره شكرا لَيْسَ لَهُ نفاد، وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ، شَهَادَة أخْلص لَهُ فِيهَا اللِّسَان والفؤاد، وَأشْهد أَن محمداُ عَبده وَرَسُوله النَّاسِخ الضَّلَالَة بالرشاد، صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله الأمجاد وَأَصْحَابه الزهاد، صَلَاة لَا ينْحَصر لَهَا تعداد.
أما بعد: فَإِن من وصف الرياسة الْعدْل فِي السياسة، لتعمر الْبِلَاد ويأمن الْعباد، ويصخ الْفساد، وتجري الْأُمُور على وفْق السداد، وتنتعش الرّعية، وتقوى على أَدَاء الْفَرَائِض الشَّرْعِيَّة، وَتلك رَحْمَة من الله أودعها قُلُوب الْوُلَاة والملوك، لينصفوا بَين الْمَالِك والمملوك والغني والصعلوك.
والسياسة سياستان: سياسة الدّين، وسياسة الدُّنْيَا.
فسياسة الدّين، مَا أدّى إِلَى قَضَاء الْغَرَض.
1 / 118
وسياسة الدُّنْيَا، مَا أدّى إِلَى عمَارَة الأَرْض، وَكِلَاهُمَا يرجعان إِلَى الْعدْل الَّذِي بِهِ سَلامَة السُّلْطَان وَعمارَة الْبلدَانِ، لِأَن من ترك الْفَرْض ظلم نَفسه، وَمن خرب الأَرْض ظلم غَيره. قَالَ أفلاطون الْحَكِيم: بِالْعَدْلِ ثبات الْأَشْيَاء وبالجور زَوَالهَا.
وَلما كَانَ الْعدْل هُوَ ميزَان الله فِي أرضه، وَبِه يتَوَصَّل إِلَى أَدَاء فَرْضه، بادرت إِلَى جمع لمْعَة فِيمَا ورد من محَاسِن الْعدْل والسياسة لِذَوي النفاسة، وأرباب الرياسة وجعلتها كتابا ووسمته " بالجوهر النفيس فِي سياسة الرئيس "، وَكَانَ الَّذِي حداني على ذَلِك: مَا انْتَشَر فِي الْبِلَاد واشتهر بَين الْعباد، من حسن سيرة الْمولى الْأَمِير الْكَبِير الأسعد الأمجد، الْعَالم، الْعَادِل، الْكَامِل، الزَّاهِد، العابد، الْمُجَاهِد، أخص الْخَواص الْعَامِل بالإخلاص، كَهْف الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين، ملك الْأُمَرَاء والمقدمين، خَالِصَة أَمِير الْمُؤمنِينَ، سعد الدُّنْيَا وَالدّين ولي الدولة البدرية وصفي المملكة الرحيمية، خلد الله سلطانها وَأَعْلَى فِي الدَّاريْنِ مَكَانهَا وإمكانها، أحسن الله عاقبته وأبد ولَايَته فِي الْبِلَاد، وَجَمِيل سيرته ومعدلته بَين الْعباد، وَالْعَمَل بِالْعَدْلِ والإفضال وَالْفضل، وَحب الصَّدقَات وَفعل الْخيرَات والتنفيس عَن المكروبين، وَالْإِحْسَان إِلَى جَمِيع الْمُسلمين المقيمين بمقره والنازحين، وإغاثة الملهوف وتحبيس الْوُقُوف، وَإِعْطَاء الجزيل وإسداء الْجَمِيل، وتتبع فعل
1 / 119
الْخيرَات بِمَا لَا يُحْصى من جَمِيع الْجِهَات على دوَام الْأَوْقَات راجيًا مَا عِنْد الله يَوْم الْفَصْل والميقات ثَوابًا موفورًا: ﴿يَوْم تَجِد كل نفس مَا عملت من خير محضرا﴾ [آل عمرَان: ٣٠] .
بلغه الله الآمال فِي الدُّنْيَا والمآل، وأدام دولته، وَحفظ مهجته، وأعز أنصاره، وضاعف اقتداره وَأحسن إِلَيْهِ بإحسانه إِلَيْنَا، وأنعم عَلَيْهِ بإنعامه علينا بِمُحَمد وَآله الطاهرين، وَأَصْحَابه المنتجبين. وَلما تمّ هَذَا الْكتاب كالدر والعقيان فِي نحور الحسان، حَملته خدمَة مني لمحروس خزانته العامرة وَنعمته الغامرة، لِيَزْدَادَ من حسن سيرته، وَجَمِيل معدلته، وَتلك نعْمَة أنعمها الله عَلَيْهِ، ليؤدي شكرها إِلَيْهِ.
ثَبت الله قَوَاعِد سُلْطَانه وأيده بتأييد أعوانه، وتولاه فِيمَا ولاه بِمُحَمد وَمن اصطفاه.
وبنيت أصُول هَذَا الْكتاب على عشرَة أَبْوَاب: الْبَاب الأول فِي فضل الْعدْل من ذَوي الْفضل
1 / 120
الْبَاب الثَّانِي فِي فضل السياسة من أَرْبَاب الرياسة الْبَاب الثَّالِث فِي فضل الْحلم والأناة من الْمُلُوك والولاة الْبَاب الرَّابِع فِي فضل الْعَفو المشوب بالصفو الْبَاب الْخَامِس فِي اصطناع الْمَعْرُوف إِلَى الْمَجْهُول وَالْمَعْرُوف الْبَاب السَّادِس فِي مَكَارِم الْأَخْلَاق من متوفري الخلاق الْبَاب السَّابِع فِي السؤدد والمروة من ذَوي الْفضل والفتوة الْبَاب الثَّامِن فِي حسن الْخلق من الْخلق الْبَاب التَّاسِع فِي فضل المشورة من ذَوي الآراء الْبَاب الْعَاشِر فِي فضل السخاء والجود الْمفضل فِي الْوُجُود وَالله تَعَالَى الْمَسْئُول فِي بُلُوغ المأمول، إِنَّه ولي الْإِجَابَة وَمَوْضِع الطّلبَة مِنْهُ، وَطوله وقوته وَحَوله.
1 / 121
(الْبَاب الأول)
(فِي فضل الْعدْل من ذَوي الْفضل)
رُوِيَ فِي " الْخَبَر الْجَلِيّ " عَن الْجَانِب الْمُقَدّس النَّبَوِيّ أَنه قَالَ [ﷺ]: " الْعدْل ميزَان الله فِي الأَرْض فَمن أَخذ بِهِ قَادَهُ إِلَى الْجنَّة، وَمن تَركه قَادَهُ إِلَى النَّار ".
وَقَالَ النَّبِي [ﷺ]: " يَوْم من أَيَّام إِمَام عَادل أفضل من عبَادَة سِتِّينَ سنة ". قلت: وناهيك مِنْهَا حَالَة على كل الْأَحْوَال فاخرة، تزين دنيا وَتثبت آخِرَة، أوفت عبَادَة العابدين مقَاما، إِذا نَالَتْ محاولها أَفْخَر مَآلًا وأشرف مقَاما، وَذَلِكَ أَن الْعدْل صفة من صِفَات الْخَالِق، وَرَحْمَة مَوْجُودَة فِي الْخَلَائق، يقمع سَيْفه كل باغٍ وَعَاد، ويكنف ظله كل ملهوف وصادٍ، وَهُوَ غرس جناه أعذب خير، لِأَن خير الْأَعْمَال مَا تعدى نَفعه إِلَى الْغَيْر وَأَقُول: // (الْكَامِل) //:
1 / 122
(وَالله مَا حلي الإِمَام بحليةٍ ... أبهى من الْإِحْسَان والإنصاف)
(فلسوف يلقى فِي الْقِيَامَة فعله ... مَا كَانَ من كدرٍ أَتَاهُ وصافي)
وَقَالَ النَّبِي [ﷺ]: " زين الله السَّمَاء بالشمس وَالْقَمَر وَالْكَوَاكِب، وزين الأَرْض بالعلماء والمطر وَالسُّلْطَان الْعَادِل ".
وَقَالَ النَّبِي [ﷺ]: " إِن أفضل مَا يمن الله على عباده الْملك الْخَيْر الْفَاضِل ". وَعَن عبد الله بن عمر - ﵄ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله ﷺ: " المقسطين عِنْد الله يَوْم الْقِيَامَة على مَنَابِر من نور على يَمِين الرَّحْمَن وكلتا يَدَيْهِ يَمِين، الَّذين يعدلُونَ فِي حكمهم وأهاليهم وَمَا ولوا ". وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء: " بالراعي تصلح الرّعية، وبالعدل تملك الْبَريَّة وَمن عدل فِي سُلْطَانه اسْتغنى عَن أعوانه، وَالظُّلم مسْلبَةٌ النعم، ومجلبة
1 / 123
النقم، وَأقرب الْأَشْيَاء سرعَة الظلوم وأنفذ السِّهَام دَعْوَة الْمَظْلُوم، وَمن سل سيف الْعدوان سلب من السُّلْطَان ". وَقَالَ أرسطاطاليس: " الْحَكِيم الْعَالم بستانٌ، سياجه الدولة، الدولة ولَايَة تحرسها الشَّرِيعَة، الشَّرِيعَة سنة يستنها الْملك الْملك راعٍ يعضده الْجَيْش، الْجَيْش أعوان يكفيهم الرزق، الرزق مَال تجمعه الرّعية، الرّعية عبيد يستعبدهم الْعدْل، الْعدْل مألوف وَهُوَ قوام الْعَالم "، وَكَانَ مَكْتُوبًا على خَاتم كسْرَى أنو شرْوَان: " عدل السُّلْطَان أَنْفَع من خصب الزَّمَان ".
قَالَ الفضيل بن عِيَاض ﵀: " إِن الله تَعَالَى لَا يهْلك الرّعية، وَإِن
1 / 124
كَانَت ظالمة إِذا كَانَت الْأَئِمَّة هادية مهديةٌ: وَيهْلك الرّعية وَإِن كَانَت هادية مهدية إِذا كَانَت الْأَئِمَّة ظالمة، لِأَن أَعمال الْأَئِمَّة تعلو أَعمال الرّعية ". وروى جَعْفَر بن مُحَمَّد الصَّادِق - ﵉ - يرفعهُ إِلَى النَّبِي _[ﷺ]_ أَنه قَالَ: " مَا من ملك يصل رَحمَه، وَذَا قرَابَته، ويعدل فِي رَعيته، إِلَّا شدّ الله ملكه، وأجزل ثَوَابه، وَأكْرم مآبه وخفف حسابه ".
1 / 125
(الْبَاب الثَّانِي)
(فِي فضل السياسة من أَرْبَاب الرياسة)
رُوِيَ عَن النَّبِي _[ﷺ]_ أَنه قَالَ: " أَشد النَّاس عذَابا يَوْم الْقِيَامَة رجلٌ أشركه الله فِي سُلْطَانه فجار فِي حكمه ".
وَقَالَ النَّبِي [ﷺ]: " من استرعاه الله رعية فَلم يحطهَا بنصيحة لم يرح رَائِحَة الْجنَّة، وَإِن رِيحهَا لتوجد من مسيرَة خَمْسمِائَة عَام ".
وَقَالَ النَّبِي [ﷺ]: " كلكُمْ راعٍ وكلكم مسئول عَن رَعيته "، قَالَ رجل للرشيد - ﵀ - فِي بعض غَزَوَاته، وَقد ألح
1 / 126
عَلَيْهِم الثَّلج: " أما ترى يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا نَحن فِيهِ والرعية وَادعَة؟ فَقَالَ: اسْكُتْ على الرّعية الْمَنَام وعلينا الْقيام، وَلَا بُد لِلرَّاعِي من حراسة رَعيته ".
فَقَالَ بعض الشُّعَرَاء فِي ذَلِك: // (الْكَامِل) //:
(غضِبت لغضبتك القواطع والقنا ... لما نهضت لنصرة الْإِسْلَام)
(نَامُوا إِلَى كنفٍ بعد لَك وَاسع ... وسهرت تحرس غَفلَة النوام)
وَقَالَ بَعضهم: " طلب الرياسة صَبر على مضض السياسة " وَقَالَ زِيَاد: " جمال الْولَايَة شدَّة فِي غير إفراط ولين فِي غير إهمال ".
وَقَالَ زِيَاد لحاجبه عجلَان: " قد وليتك بَابي وعزلتك عَن أَربع: طَارق ليل شَرّ مَا جَاءَ بِهِ أم خير، وَرَسُول صَاحب الثغر فَإِنَّهُ إِن تَأَخّر سَاعَة بَطل عمل
1 / 127
سنة، وَهَذَا الْمُنَادِي بِالصَّلَاةِ وَصَاحب الطَّعَام إِذا أدْرك، فَإِن الطَّعَام إِذا أُعِيد عَلَيْهِ التسخين فسد ".
قَالَ أَبُو الْحسن: " لما ولي زِيَاد الْكُوفَة صعد الْمِنْبَر بعد صَلَاة الظّهْر، فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: أَيهَا النَّاس إِنِّي قد رَأَيْت إعظام ذَوي الشّرف، وإجلال أهل الْعلم، وتوقير ذَوي الْأَسْنَان، وَإِنِّي أعَاهد الله لَا يأتيني شرِيف بوضيع لم يعرف لَهُ شرفه على ضعته إِلَّا عاقبته، وَلَا يأتني كهلٌ بحدثٍ لم يعرف لَهُ فضل سنة إِلَّا عاقبته، وَلَا يأتيني عَالم بجاهل لاحاه فِي علمه ليهجنه عَلَيْهِ إِلَّا عاقبته، فَإِنَّمَا النَّاس بأشرافهم وعلمائهم وَذَوي أسنانهم، ثمَّ تمثل بقول الأفوه الأودي: // (الْبَسِيط) //:
(تهدى الْأُمُور بِأَهْل الرَّأْي مَا صلحت ... وَإِن تولت فبالأشرار تنقاد)
1 / 128
(لَا يصلح النَّاس فوضى لَا سراة لَهُم ... وَلَا سراة إِذا جهالهم سادوا)
قَالَ أَعْرَابِي: " إِذا كَانَ الرَّأْي عِنْد من لَا يقبله، وَالسِّلَاح عِنْد من لَا يَسْتَعْمِلهُ، وَالْمَال عِنْد من لَا يُنْفِقهُ ضَاعَت الْأُمُور "، وَبلغ بعض الْمُلُوك حسن سياسة ملكٍ، فَكتب إِلَيْهِ: " أفدني بِمَا بلغت هَذَا فَكتب إِلَيْهِ: لم أهزل فِي أمرٍ وَلَا نهيٍ وَلَا وعدٍ وَلَا وعيدٍ، واستكفيت على الْكِفَايَة، وَأثبت على العناء، لَا على الْهوى، وأودعت الْقُلُوب هَيْبَة لم يشبها مقت، وودًا لم يشبه كدرٌ، وعممت بالقوت، ومنعت الفضول ".
1 / 129
وَلما أَرَادَ الاسكندر الْخُرُوج إِلَى أقاصي الأَرْض قَالَ لأرسطاطاليس: " أخرج معي قَالَ: قد كل بدني، وضعفت عَن الْحَرَكَة، فَلَا تزعجني، قَالَ: فأوصني فِي عمالي خَاصَّة قَالَ: انْظُر من كَانَ لَهُ مِنْهُم عبيدٌ فَأحْسن سياستهم فوله الْجند، وَمن كَانَت لَهُ ضَيْعَة، فَأحْسن تدبيرها فوله الْخراج ".
وَقَالَ زِيَادٌ: " مَا غلبني مُعَاوِيَة فِي شَيْء من أَمر السياسة إِلَّا فِي شَيْء وَاحِد، وَذَاكَ أَنِّي اسْتعْملت رجلا على " دستميسان " فَكسر الْخراج وَلحق بِمُعَاوِيَة، فَكتبت إِلَيْهِ أسأله أَن يبْعَث بِهِ إِلَيّ فَكتب: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، أما بعد: فَإِنَّهُ لَيْسَ يَنْبَغِي لمثلي وَمثلك أَن نسوس النَّاس جَمِيعًا بسياسة وَاحِدَة،
1 / 130
وَأَن نشتد جَمِيعًا فنخرهم، أَو نلين جَمِيعًا فنمرجهم وَلَكِن تكون أَنْت إِلَى الفظاظة والغلظة وأكون أَنا أَلِي الرأفة وَالرَّحْمَة، فَإِذا هرب هارب من بَاب وَاحِد وجد بَابا يدْخل فِيهِ، وَالسَّلَام.
سَأَلَ ملك من مُلُوك الْفرس موبذان: " مَا شَيْء وَاحِد يعز بِهِ السُّلْطَان؟ قَالَ: الطَّاعَة، قَالَ: فَمَا سَبَب الطَّاعَة؟ قَالَ: تقريب الْخَاصَّة، وَالْعدْل على الْعَامَّة، قَالَ: فَمَا صَلَاح الْملك؟ قَالَ: الرِّفْق بالرعية، وَأخذ الْحق مِنْهُم، وأداؤه إِلَيْهِم عِنْد أَوَانه، وسد الْفروج، وَأمن السبل، وإنصاف الْمَظْلُوم من الظَّالِم، وَأَن يحرص الْقوي على الضَّعِيف، قَالَ فَمَا صَلَاح الْملك؟ قَالَ: وزراؤه وأعوانه فَإِنَّهُم إِن صلحوا صلح، وَإِن فسدوا فسد.
1 / 131
قَالَ: فأية خصْلَة تكون فِي الْملك أَنْفَع؟ قَالَ: صدق النِّيَّة " وَقَالَ الإِمَام عَليّ بن أبي طَالب ﵇: " يَنْبَغِي للْملك أَن يعْمل بخصال ثَلَاث: تَأْخِير الْعقُوبَة فِي سُلْطَان الْغَضَب، وتعجيل الْمُكَافَأَة للمحسن، وَالْعَمَل بالأناة فِيمَا يحدث فَإِن لَهُ فِي تَأْخِير الْعقُوبَة إِمْكَان الْعَفو، وَفِي تَعْجِيل الْمُكَافَأَة بِالْإِحْسَانِ المسارعة فِي الطَّاعَة من الرّعية، وَفِي الأناة انفساح الرَّأْي، واتضاح الصَّوَاب ".
وَقَالَ أنو شرْوَان: النَّاس ثَلَاث طَبَقَات، تسوسهم ثَلَاث سياسات: طبقَة من خَاصَّة الْأَبْرَار، نسوسهم بالْعَطْف واللين وَالْإِحْسَان.
وطبقة من خَاصَّة الأشرار نسوسهم بالغلظة، والشدة.
وطبقة بَين هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء، نسوسهم بالغلظة مرّة وباللين مرّة، لِئَلَّا تخرجهم الغلظة وَلَا يبطرهم اللين.
رفع إِلَى المعتضد - ﵀ - أَن قوما يَجْتَمعُونَ ويرجفون ويخوضون فِي الفضول، وَقد تفاقم فسادهم، فَرمى بالرقعة إِلَى وزيره عبيد الله بن سُلَيْمَان، فَقَالَ: " الرَّأْي قتل بَعضهم وإحراق بَعضهم، فَقَالَ المعتضد: وَالله لقد بردت لهيب غَضَبي بقسوتك هَذِه، ونقلتني إِلَى اللين من حَيْثُ أَشرت بِالْقَتْلِ والحرق، وَمَا علمت أَنَّك تستجيز هَذَا فِي دينك، أما علمت أَن الرّعية وَدِيعَة الله
1 / 132
عِنْد سلطانها وَأَن الله تَعَالَى سائله عَنْهَا، أما تَدْرِي أَن أحدا من الرّعية لَا يَقُول إِلَّا لظلم لحقه أَو داهية نالته، أَو نَالَتْ صاحبًا لَهُ، ثمَّ قَالَ: سل عَن الْقَوْم فَمن كَانَ سيئ الْحَال فَصله، وَمن كَانَ يُخرجهُ إِلَى هَذَا البطر خَوفه " فَفعل فصلحت الْحَال، قَالَ بعض الْحُكَمَاء: " من تغدى بسيئ السِّيرَة تعشى بِزَوَال الْقُدْرَة ".
وَقَالَ آخر: " من ساءت سيرته لم يَأْمَن أبدا، وَمن حسنت سيرته لم يخف أحدا ".
وَقَالَ آخر: " من أحسن فبنفسه بدا، وَمن أَسَاءَ فعلى نَفسه جنى، وَمن طَال تعديه كثر أعاديه ".
وَقَالَ آخر: " أفضل الْمُلُوك من أحسن فِي فعله وَنِيَّته، وَعدل فِي جنده ورعيته ".
قيل للإسكندر: " لَو استكثرت من النِّسَاء ليكْثر ولدك، فيدوم بهم ذكرك، فَقَالَ: دوَام الذّكر تَحْسِين السِّيرَة وَالسّنَن، وَلَا يحسن بِمن غلب الرِّجَال أَن يغلبه النِّسَاء ".
وَقَالَ بعض الْعلمَاء: " مَا أعلم شَيْئا بعد الْإِخْلَاص بِاللَّه أفضل من نصيحه الْوَالِي لرعيته ".
1 / 133
(الْبَاب الثَّالِث)
(فِي فضل الْحلم والأناة من الْمُلُوك والولاة)
قَالَ الْهِلَالِي: بَلغنِي أَن جِبْرِيل - ﵇ - نزل على النَّبِي _[ﷺ]_ فَقَالَ: " يَا مُحَمَّد إِنِّي أَتَيْتُك بمكارم الْأَخْلَاق كلهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة ﴿خُذ الْعَفو وَأمر بِالْعرْفِ وَأعْرض عَن الْجَاهِلين﴾ [الْأَعْرَاف: ١٩٩]، وَهُوَ يَا مُحَمَّد أَن تصل من قَطعك وَتَعْفُو عَمَّن ظلمك وَتُعْطِي من حَرمك ".
قَالَ الشّعبِيّ: " قلت لِابْنِ هُبَيْرَة: عَلَيْك بالتؤدة، فَإنَّك على فعل مَا لم تفعل أقدر مِنْك على رد مَا قد فعلت ".
قَالَ يزِيد بن مُعَاوِيَة لِأَبِيهِ: " يَا أبه هَل ذممت عَاقِبَة حلمٍ قطّ؟ أم
1 / 134
حمدت عَاقِبَة إقدام قطّ؟ قَالَ: مَا حلمت عَن لئيم، وَإِن كَانَ وليا إِلَّا أعقبني ندمًا وَلَا أقدمت على كريم وَإِن كَانَ عدوا إِلَّا أعقبني أسفا ".
قَالَ أَبُو بكر بن عَيَّاش: " اجْتمع أَرْبَعَة مُلُوك: ملك " الْهِنْد "، وَملك " الصين "، و" كسْرَى "، و" قَيْصر "، فَقَالَ أحدهم: أَنا أندم على مَا قلت، وَلَا أندم على مَا لم أقل، وَقَالَ الآخر: إِذا تَكَلَّمت بِالْكَلِمَةِ ملكتني وَلم أملكهَا، وَإِذا لم أَتكَلّم بهَا ملكتها وَلم تملكني، وَقَالَ الثَّالِث: عجبت للمتكلم إِن رجعت الْكَلِمَة عَلَيْهِ ضرته، وَإِن لم ترجع ضرته، وَقَالَ الرَّابِع: أَنا على رد مَا لم أقل أقدر مني على رد مَا قلت ".
سَأَلَ عَليّ - ﵇ - كَبِيرا من كبراء " فَارس ": " أَي ملوككم كَانَ أَحْمد سيرة؟ قَالَ: أنو شرْوَان قَالَ: فَأَي أخلاقه كَانَ أغلب عَلَيْهِ؟ قَالَ: الْحلم والأناة، فَقَالَ عَليّ ﵇: هما توءمان ينتجهما علو الهمة ".
أُتِي الْحجَّاج بِرَجُل من الْخَوَارِج فَأمر بِضَرْب عُنُقه، فاستنظره يَوْمًا قَالَ: وَمَا تُرِيدُ بذلك؟ قَالَ: أؤصل عَفْو الْأَمِير مَعَ مَا تجْرِي بِهِ الْمَقَادِير، فَاسْتحْسن قَوْله وخلاه.
1 / 135
أُتِي بعض الْمُلُوك بِرَجُل قد أجرم فَأمر بِضَرْب عُنُقه، فَقَالَ لَهُ الرجل: يَا مولَايَ تأن عَليّ فَإِن التأني نصف الْعقُوبَة، فَعَفَا عَنهُ، أَخذ مُصعب بن الزبير رجلا من أَصْحَاب الْمُخْتَار بن أبي عبيد فَأمر بِضَرْب عُنُقه، فَقَالَ: أَيهَا الْأَمِير مَا أقبح بك أَن أقوم يَوْم الْقِيَامَة إِلَى صُورَتك هَذِه الْحَسَنَة ووجهك هَذَا الَّذِي يستضاء بِهِ، فأتعلق بأطرافك وَأَقُول: يَا رب سل مصعبًا فيمَ قتلني؟ فَقَالَ: مُصعب: أَطْلقُوهُ قَالَ: اجْعَل مَا وهبت من حَياتِي فِي خفض قَالَ: أَعْطوهُ عشرَة آلَاف دِرْهَم، قَالَ: بِأبي أَنْت وَأمي، أشهد الله أَن لِابْنِ قيس الرقيات خَمْسَة آلَاف، قَالَ: وَلم؟ قَالَ: لقَوْله: // (الْخَفِيف) //
(إِنَّمَا مُصعب شهَاب من الله ... تجلت عَن وَجهه الظلماء)
(يَتَّقِي الله فِي الْأُمُور وَقد أَفْلح ... من كَانَ همه الاتقاء)
1 / 136
فَضَحِك مُصعب وَقَالَ: فِيك مَوضِع للصنيعة، وَأمره بملازمته وَأحسن إِلَيْهِ وَلم يزل مَعَه حَتَّى قتل مُصعب.
قَالَ الْمَدَائِنِي: " ثَلَاثَة لَا ينتصفون من ثَلَاثَة: حَلِيم من أَحمَق، وبر من فَاجر وشريف من دني ".
وَكَانَ يُقَال: " لَيْسَ الْحَلِيم من ظلم فحلم حَتَّى إِذا قدر انتقم، وَلَكِن الْحَلِيم من ظلم فحلم حَتَّى إِذا قدر عَفا ".
قَالَ خَالِد بن صَفْوَان التَّمِيمِي: " شهِدت عَمْرو بن عبيد، وَرجل يشتمه فَمَا ترك شَيْئا إِلَّا وأوسعه إِيَّاه، فَلَمَّا فرغ قَالَ لَهُ عَمْرو: آجرك الله على مَا ذكرت من صَوَاب، وَغفر لَك مَا ذكرت من أخطاء، فَمَا حسدت أحدا حسدي على هَاتين الْكَلِمَتَيْنِ ".
1 / 137