ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي
ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي
Maison d'édition
دار الكلمة
Numéro d'édition
الأولى
Année de publication
١٤٢٠ هـ - ١٩٩٩ م
Genres
٣- الإقرار بالافتقار من حال إلى حال
وأما الإقرار بالافتقار فمن أجلى الأدلة على التوحيد وحقيقة الإيمان، والخلاف فيه بين الكافر والمؤمن من أعظم ما يميز كلا منهما عن الآخر، ثم هو مما يميز الذاكرين الصابرين عن الغافلين الهلعين من المؤمنين.
فالمؤمن مقر بافتقاره إلى الله في كل لحظة عين، ومن كان شاكرا لأنعمه ذاكرا لآلائه في حال الرخاء والشدة معا، يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها، ولا يمل دعاءه ولو لأدنى حاجاته.
وبالجملة هو مشاهد لحقيقة افتقاره إلى مولاه يدعوه صباحًا ومساء بما أوصى به النبي ﷺ ابنته فاطمة ﵂: "يا حي يا قيوم برحمتك استغثت، أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين" (١)
بل إن المؤمن ليستشعر ذلك في أعز ساعات الانتظار والتمكين.
وقد قص الله تعالى من حال أنبيائه في القرآن ما فيه بيان وقدوة؛ فهذا يوسف ﵇ (في اللحظة التي تم فيها كل شيء تحققت رؤياه: «وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ» .
في هذه اللحظة نزع يوسف ﵇ نفسه من اللقاء والعناق والفرحة والابتهاج ليتجه إلى ربه في تسبيح الشاكر الذاكر، كل دعوته وهو في أبهة السلطان وفي فرحة تحقيق الأحلام: «رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ»
(١) صحيح الترغيب والترهيب رقم (٦٥٤)، قال: رواه النسائي والبزار بإسناد صحيح والحاكم، وقال: على شرطهما.
1 / 122