ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي
ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي
Maison d'édition
دار الكلمة
Numéro d'édition
الأولى
Année de publication
١٤٢٠ هـ - ١٩٩٩ م
Genres
منهم، غير أن هذا الداء قد اعتراها ففسدت المعرفة نفسها تبعًا لفساد الإرادة والمقصد، فخرجت من التمسك بالسنة إلى البدعة، ومن إرشاد السائرين إلى قطع الطريق عليهم.
وفي عصرنا نماذج حية من هؤلاء، ترى الواحد منهم في الأصل وارثًا لعلم السلف معتقدًا لعقيدتهم نظريًا، لكن انصراف همته وإرادته للدنيا أخرجه - في واقع حياته - إلى ضلال في التصورات وانحراف في السلوك، شعر أو لم يشعر، فبينا هو يعجب من حال أهل العقائد البدعية إذا الشيطان ينسج حوله شباك بدع من جنس آخر، فأصبح فتنة لأهل البدع ومنديلًا لذوي السلطان ومرقاة لأصحاب الأهواء والشهوات.
وهذه عقبة كبرى وباب خطر قل من يجتازه وينجو من بلاءه، وإنما يبدأ به الشيطان من باب التوسع في المباحات والترفع عن المساكين وإن كانوا من المتقين. ثم يفضي به إلى الإنغماس في الشهوات ومجاراة الكبراء في دنياهم، ثم يجوز به من باب التبرير لما هو فيه إلى الإفتاء بصحته ومشروعيته ومعاداة مخالفه، وعندئذ يتكدر عليه صفاء معرفته وينقلب عليه سلاح علمه فلا يزال يقول على الله بغير علم، ويكتم ظاهر الحجج، ويتعلل بفنون التأويلات، حتى ينسلخ من نور العلم ويصبح مثله - كمثل الذي ضرب الله في سورة الأعراف - كالكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث.
وعن هذا يقول الإمام الحافظ ابن القيم: "كل من آثر الدنيا من أهل العلم واستحبها، فلابد أن يقول على الله غير الحق في فتواه وحكمه في خبره وإلزامه، لأن أحكام الرب سبحانه كثيرًا ما تأتي على خلاف أغراض الناس - ولا سيما أهل الرياسة والذين يتبعون الشبهات، فإنهم لا تتم لهم أغراضهم إلا بمخالفة الحق ودفعه كثيرًا.
فإذا كان العالم والحاكم محبيّن للرياسة متبعين للشهوات لم يتم لهما ذلك إلا بدفع ما يضاده من الحق، ولا سيما إذا قامت له شبهة، فتتفق الشبهة والشهوة ويثور الهوى فيخفى الصواب وينطمس وجه الحق، وإن كان الحق ظاهرًا لا خفاء به ولا شبهة فيه أقدم على مخالفته، وقال: لي مخرج بالتوبة.
وفي هؤلاء وأشباههم قال تعالى:
«فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا»
1 / 117