Le bon avis sur l'union avec les mères des enfants d'hommes disparus
القول الصواب في تزويج أمهات أولاد الغياب
Chercheur
أبي مصعب طلعت بن فؤاد الحلواني
Maison d'édition
الفاروق الحديثة للطباعة والنشر
Numéro d'édition
الأولى
Année de publication
١٤٢٤ هـ - ٢٠٠٣ م
Genres
القول الصواب في تزويج أمهات أولاد الغياب
2 / 571
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمدُ لله نحمده ونستعينه ونستهديه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
هذه حادثة حدثت في الفتاوى وهي: أم ولد لرجل غاب عنها من نحو ثمان سنين أو أكثر، ولم يوقف له عَلَى خبر، وكان سفره من الشام إِلَى العراق في قافلة نهبت، وأُخذ أكثر أموال أهلها، وقتل منهم عدد كثير، فهل يجوز أن تتزوج أم ولده والحالة هذه أم لا؟
فالجواب عن هذه المسألة مبني عَلَى أصلين:
أحدهما: تزويج امرأة المفقود، وفيها قولان مشهوران:
أحدهما: أنها تتربص أربع سنين أكثر مدة الحمل، ثم تعتد للوفاة، ثم تتزوج، وهذا مروي عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير، وهو قول عمر بن عبد العزيز، وسعيد بن المسيب، وعطاء، والحسن وقتادة والزبير والأوزاعي، ومالك، وابن الماجشون، وأهل المدينة، وأحمد، وإسحاق. وأبي عبيد والشافعي في القديم، وأبي خيثمة، وسليمان بن داود الهاشمي، وعلي بن المديني، وفقهاء الحديث.
والقول الثاني: تنتظر أبدًا حتى يتبين خبره، وروي عن علي ﵁، وأنكر الإمام أحمد صحته عنه، وهو قول الكوفيين كالنخعي وابن أبي ليلى وابن شبرمة وأبي حنيفة وأصحابه والثوري، إليه ذهب الشافعي في الجديد، وروي ﴿عن﴾ (١) أبي قلابة، وحكي رواية عن أحمد، ومن أصحابه من لم يثبتها عنه؛ فإن المشهور عنه القول الأول، وقد أنكر قول من حكى عن خلافه.
_________
(١) سقطت من "الأصل"، والصواب إثباتها.
2 / 573
قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: إِنَّ إنسانًا قال: إِنَّ أبا عبد الله ترك قوله في المفقود، فضحك وقال: ومن ترك هذا القول فبأي شيء يقول؟ !
قال: وقال لي أبو عبد الله: ما أعجب من لا يفتي هنا! يذهبون بأقوال الناس ويحبسون المرأة المسيكينة أبدًا لا تتزوج؟ ! قيل: يَقُولُونَ: يطمع. قال: من يطمع بعد هذا الأجل؟ قال: وقال خمسة من أصحاب النبي ﷺ يفتون يَقُولُونَ: تزوج امرأة المفقود. قال: وهو مروي من عمر ﵁ من ثمانية أوجه.
قِيلَ لَهُ فروي عن عمر خلاف هذا؟ قال: لا، إلا أن يكون إنسان يكذب.
وقال أبو داود في "مسائله": سمعت أحمد قِيلَ لَهُ: في نفسك من المفقود شيء، فإن فلانًا وفلانًا لا يفتيان به؟
فَقَالَ: ما في نفسي منه شيء، هذا خمسة من أصحاب النبي ﷺ أمروها بالتربص، قال أحمد: هذا من ضيق العِلْم.
قال أبو داود: يعني ضيق علم الرجل أن لا يتكلم في المفقود. قال: وسمعته يقول: هذا عندي من ضيق العِلْم أن لا يتكلم في المفقود، وفيمن ليست عنده نفقة -يعني: في الفسخ.
والكلام في أدلة هذه المسأله من الجانيين واستيعاب تفاريع القولين يطول جدًّا، وليس غرضنا الآن تقرير ذلك، لكن القائلون بتزويج امرأة المفقود منهم من يقول: صرنا إِلَى ذلك متابعة لقضاه الخلفاء الراشدين، وإن كان عَلَى خلاف القياس.
ومنهم من يقول: بل هو عَلَى وفق القياس.
2 / 574
ثم منهم من يقول: لما ظهرت أمارات موته حكم عليه بحكم الميت واكتفي بذلك، كما يكتفى باشتهار موته بالاستفاضة وشهادة عدلين، ونحو ذلك مما لا يوقف معه عَلَى القطع، وهذا قول كثير من أصحابنا وغيرهم.
ومنهم من يقول: إِنَّمَا فسخ لرفع الضرر الحاصل بحبس الزوجة أبدًا، وهو قول مالك وبعض أصحابنا.
ومنهم من يقول: بل لما جهل بقاؤه جاز التصرف في أهله، وماله موقوف عَلَى إجازته عند ظهوره، كما لو جهل عين رب المال ابتداء كاللقطة ونحوها.
﴿الأصل الثاني﴾ (١): أن مال المفقود هل يقسم إذا حكم بجواز تزوج زوجته أم لا؟ وفيه قولان:
أحدهما: أنه يقسم بين مستحقيه من الورثة وغيرهم -وهو قول الحسن وقتادة، والزهري وأحمد وإسحاق- لحكمهم بموته ظاهرًا.
والثاني: لا يقسم ماله؛ بل يوقف، وهو قول من يقف الزوجة كما سبق، وقول من يبيح المزوجة النكاح لتضررها بانتظار زوجها أبدًا، كمالك والشافعي في القديم.
والأوّل ﴿هو﴾ (٢) المأثور عن الصحابة ﵁ أيضًا.
وروى الإمام أحمد -فيما نقله عنه ابنه صالح- في "مسائله" (٣) ثنا عبد الرزاق، قال: أخبرني ابن جريج، قال: أخبرني عطاء الخراساني، عن الزهري: "أن عمر وعثمان قالا في امرأة المفقود: تتربص أربع سنين ثم تعتد أربعة أشهر وعشرًا، ويقسم ميراثه".
وخرَّج الجوزجاني، من طريق عمر بن هبيرة، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس قال: "إِنَّ امرأة المفقود تستقرض وتنفق؛ فإن جاء زوجها قضى ذلك، وإن لم يأت فهو من نصيبها".
_________
(١) بياض بالأصل والمثبت يناسب السياق.
(٢) في "الأصل": و.
(٣) (٣/ ١٢٠).
2 / 575
وهذا يدل عَلَى أنه يرى قسمة ماله بين الورثة.
إذا تقرر هذان الأصلان فلنرجع إِلَى الكلام عَلَى أم ولد المفقود فنقول: من قال بوقف مال المفقود وأزواجه؛ فلا شك في أنه يوقف أم ولده أيضًا.
وأما من أباح التزويج لأزواجه ولم يقسم ماله كمالك؛ فإنه يحتمل عَلَى أصله أن يقف أم ولده؛ لأنها مال، ويحتمل أن لا يقفها؛ لأنّ في إيقافها عن النكاح من الضرر كالزوجة، ولهذا يغلب عنده عَلَى أم الولد حكم الحرة، فلا تضمن عنده بغصب، ولا بالعقد الفاسد.
وأما من أباح نكاح زوجاته وقسمة ماله كأحمد، فلا وجه عنده للتوقف في نكاح أم ولده، وذلك لأنّ المغلب عند أصحابنا فيهم حكم المال، ولهذا يضمن عندهم بالغصب، ومن متأخريهم من قال: وبالعقد الفاسد أيضًا.
وعلى تقدير تغليب حكم الأحرار عليها فليلحق بالزوجة لما في انتظارها لسيدها أبدًا من الضرر.
وقد ذكر أبو داود في "مسائله" باب المفقود، ثم ذكر عن أحمد في زوجة المفقود أنها تتربص أربع سنين ثُم تعتد وتتزوج، ثم قال: سمعت أحمد سئل عن المفقود يقدم وقد تزوج أمهات ولده قال: يردون إِلَيْهِ، ثم ذكر كلام أحمد في قسمة مال المفقود بعد هذا.
فانظر إِلَى ترتيب أبي داود، كيف أدخل حكم أمهات ﴿أولاده﴾ (١) بين الزوجات والمال لترددها بينهما، ولو كان أحمد لا يرى جواز تزويج أمهات أولاده لأنكر تزويجهن، وقال: لم يكن يجوز ذلك، أو ما يدل عَلَى هذا المعنى.
وأيضًا فأبو داود لما ساق من كلام أحمد جواز تزويج زوجة المفقود كان تقريرًا منه لجواز تزويج أمهات أولاده، فلم يحتج إِلَى التصريح بجوازه، وإنما ساق أحكامه التي يحتاج إِلَى معرفتها لمخالفتها حكم تزويج الزوجة.
_________
(١) في "الأصل": "أوده" وهو تصحيف.
2 / 576
وممن روي عنه جواز تزويج أم ولد المفقود صريحًا: الحسن البصري.
قال حرب: ثنا عبد الله بن معاذ، ثنا أبي، ثنا أشعث بن عبد الملك، عن الحسن قال: إِن تزوجت أم ولد المفقود فهو أحق بها، وولدها بمنزلتها، ولا تتزوج هي حتى يمضي لها أربع سنين.
وقد روي عن عثمان وعلي أنهما قضيا في أم الولد إذا تزوجت لفقد سيدها ثم جاء سيدها أن الزوج يفدي ولده.
فروى الجوزجاني، ثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد بن زيد، عن أبي المليح، عن، سهيمة ابنة عميرة "أن زوجها صيفي بن قتيل أسر في خلافة عثمان، فتزوجت هي وأمهات أولاده، فجاءوا عثمان وهو محصور، فسألوه، فَقَالَ: ألا ترون عَلَى أي حال أنا؟ ! فقلنا: بلى يا أمير المؤمنين، فَقَالَ: أرى أن يخير بين الصداق وبين امرأته، وترد عليه أمهات أولاده، وعلى الآباء أن يفادوا أولاده، فلما قتل عثمان ﵁ وقام علي أتيناه فسألناه، فَقَالَ مثل ذلك، فأعطيته ألفين وأعطاه زوجي ألفين".
وروى هذا الحديث سعيد عن قتادة، عن أبي المليح "أن الحكم بن أيوب بعثه إِلَى سهيمة فسألها، فحدثت أن زوجها صيفيًّا قُتل، فتزوجت بعده العباس بن طريف القيسي، ثم إِنَّ الزوج الأول قدم، فأتينا عثمان بن عفان وهو محصور فأشرف علينا ثم قال: كيف أقضي بينكم وأنا عَلَى هذه الحال؟ ! فقلنا: قد رضينا بقولك، فقضى أن يخير الزوج الأول بين المرأة وبين الصداق فرجعنا، فلما قتل عثمان أتينا عليًّا فخير الزوج الأول بين الصداق وبين المرأة فاختار الصداق، وكانت له أم ولد فتزوجت بعده وولد لها أولاد من زوجها الآخر، فردها عليه وأولادها، وجعل لأبيهم أن يَفْتكّهُم (١) إِنَّ شاء".
وقال أيوب: "جعل أولادها لأبيهم".
خرجه الأثرم ومحمد بن سعد في "الطبقات" (٢)، وخرّجه الخلال في
_________
(١) أي: يعتقهم، من الفكاك وهو العتق.
(٢) (٨/ ٤٧١).
2 / 577
"العلل" وذكر عن الميمونى، عن أحمد أنه قال: حماد بن زيد يجوده ويفسره.
وهذا يدل عَلَى ترجيح أحمد رواية حماد بن زيد، عن أيوب عَلَى رواية قتادة هذه.
وقد عد أحمد في رواية الأثرم هذا الحديث من جملة أحاديث امرأة المفقود، فدل عَلَى أنه رأى أن نعي هذه المرأة (لها هو أثرها وانقطاع خبره) (١) الَّذِي فسره حماد بن زيد في روايته، وهذه بلغها مع ذلك موته من وجه لا يثبت مجرده فانضم ذلك إِلَى انقطاع خبره، وهذا القضاء من عثمان وعلي ﵄ يدل عَلَى أنهما رأيا الحكم بحرية ام الولد عند فقد سيدها ظاهرًا، فلذلك قضيا بفداء الزوج ولده منها، كما يفدي المغرور بحرية أمته ولده منها عند ظهور سيدها، فإن من تزوج أمة يعلم رقها كان ولده منها رقيقًا لا يفدون إلا باختيار سيد الأمة بخلاف المغرور، وهذا الاستدلال ظاهر عَلَى رواية حماد عن أيوب أن عليًّا وعثمان قضيا بفداء الأولاد حتمًا.
وأما سعيد عن قتادة؛ فإنه جعل عليًّا وحده هو القاضي في ذلك، وأنه رد الأولاد عَلَى سيد أم الولد، وجعل لأبيهم أن يَفْتَكَّهم إِنَّ شاءوا، وهذا عَلَى تقدير أن يكون محفوظًا؛ فإنه قد يحمل عَلَى أن المغرور لا يحكم بحرية ولده إلا فكاكهم، وهو رواية عن أحمد.
قال أحمد في رواية حنبل في أمة قالت: إني حرة، فتزوجها فولدت منه أولادًا قيل للأب: أفتكَّ ولدك هؤلاء وإلا هم يتبعون الأم.
فظاهر هذه الرواية أن ولد المغرور بالحرية ينعقدون أرقاء، وإنما الأب يفتكهم بالفداء فيعتقون عليه، وظاهر ما روي عن علي يدل عَلَى أن الأب لا يجب عليه الافتداء، كما لا يجب عليه شراء ولده إذا رآه يباع، وقد يحمل عَلَى وجه آخر وهو أن من تزوج أم ولد فقد (....) (٢) سيدها؛ فإنه أقدم عَلَى نكاح أمة حكم بعتقها بسبب ظاهر، مع جواز ظهور بقاء رقها
_________
(١) كذا! !
(٢) بياض بالأصل.
2 / 578
بظهور سيدها. فلم يدخل عَلَى نكاح حرة في نفس الأمر، فلهذا كان ولدها منه تبعًا لها في حريتها الظاهرة ورجوعهم إلي الرق بظهور السيد، وهذا بخلاف الغرور الَّذِي لم يشعر برق المرأة المغرور بحريتها بالكلية، وبخلاف من شهد بموته اثنان، فحكم بعتق أم ولده ثم ظهر حيًّا؛ لأنّ العتق هنا استند إِلَى بينة شرعية، يجب العمل بها، بخلاف الحكم بعتق أمهات أولاد المفقود، فإنه إِنَّمَا استند عليه ظن مجرد.
وعلى هذين المحملين يحمل كلام الحسن البصري في قوله: ولدها بمنزلتها.
ونقل مهنا عن أحمد في أم ولد غاب عنها، فمكثت سنتين، ثم جاءها الخبر أنه قد مات. فزوجها، أخوها، فدخل بها وولدت منه، ثم جاء سيدها، لمن يكون الولد؟ قال: للآخر، ﴿وعلى﴾ (١) الَّذِي زوجها قيمة الولد، يدفعه إِلَى السيد. فقلت له: وترجع إِلَى سيدها؟ قال: نعم".
فهذه المسألة إِن حملت عَلَى أنها زوجت بخبر ثبت به الموت شرعًا كانت مما نحن فيه.
وإن حملت عَلَى أعم من ذلك دخلت فيه أم ولد المفقود، وأيضًا فقصة عثمان وعلي ﵄ تدل عَلَى جواز نكاح أم ولد المفقود عند إباحة نكاح نسائه ﴿لأنّ﴾ (٢) وقوع ذلك في كلام عثمان إِنَّمَا يكون بعلمه وإذنه غالبًا، فإن مثل هذه القضايا المشكلة لا يفتات فيها عَلَى الإمام، وقد تنازع العُلَمَاء في توقيفها عَلَى إذن الإمام عَلَى قولين مشهورين، هما روايتان عن أحمد.
ولو قدر أنها لم تكن بإذن عثمان فالظاهر أنها كانت عن فتاوى أعيان علماء الصحابة. وأسوأ ما تقدر أن ذلك وقع عن غير فتيا ولا حكم، لكنه لم ينكر مع ظهوره واشتهاره.
_________
(١) في "الأصل": "وعن" والمثبت أنسب للسياق.
(٢) في "الأصل": "لا" والمثبت أنسب للسياق.
2 / 579
والمعنى في جواز نكاح أمهات أولاد المفقود أنه إما أن يشبهن بالزوجات فلا يحبسن عَلَى مولاهن؛ لما فيه من الضرر كضرر الزوجات، فيتعين أنه يجوز لهن النكاح؛ دفعًا عن الضرر، ويوضح هذا أن الإماء يجب عَلَى سيدهن إعفافهن، إما بالوطء إِن أمكن، وإما بالتزويج، وإما أن يبيعهن لمن يقوم مقامه في ذلك إِن أمكن البيع.
وأمهات الأولاد لا يمكن فيهن البيع فيتعين إعفافهن بأحد الأمرين الأولين، والغائب قد يتعذر الإعفاف منه بالوطء فيتعين وجوب إعفافهن بالنكاح إِن طلبنه، وهذا ينقضي جواز إنكاح الحاكم لهن مع الغيبة المطلقة.
وإن لم يكن السيد مفقودًا؛ بل حصل لهن الضرر بترك الوطء، فقد صرح بذلك القاضي أبو يعلى في "الجامع الكبير" وإن الحاكم يزوج إماء الغائب إذا طلبن ذلك، وكانت غيبته منقطعة بحيث يجوز للولي الأبعد تزويج الحرة مع غيبة الولي الأقرب، فَإِذَا كان هذا في الغائب دون المفقود، فالمفقود أولى وأحرى أن يزوج أمهات أولاده.
وأما إِن تشبهت -أعني أمهات الأولاد- بالإماء القن (١) تغليبًا للمالية فيهن وهو مقتضى كلام أصحابنا في تضمينهن بالغصب ﴿والعقد﴾ (٢) كما سبق ذكره، فيجب حينئذ أن يحكم فيهن بحكم المال، ومعلوم أن ماله يقسم عند الإمام أحمد إذا مضت مدة انتظاره كما سبق ذكره.
وإذا وجب قسمته فإنه يجب قسمته عَلَى مقتضى قسمة سائر التركات، فيبدأ بإخراج ما يخرج من رأس المال من ديون ونحوها، ثم بما يخرج من الثلث من الوصايا ونحوها، ثم يقسم الباقي بين الورثة عَلَى حكم الميراث.
_________
(١) العبد القنّ: الَّذِي وُلد عندك، ولا يستطيع أن يخرج عنك. والأنثى: قنّ بغير هاء. قال الأصمعي: القن: الَّذِي كان أبوه مملوكًا لمواليه، وكأن القن مأخوذ من القنية. "اللسان" مادة: (قنن).
(٢) في "الأصل": "اليد".
2 / 580
وقول الأصحاب: يقسم ماله بين ورثته مرادهم به أنه يقسم عَلَى حكم سائر المواريث، لم يريدوا أنه يقسم جميعه عَلَى الورثة، ولا يخرج منه ما يخرج من رءوس الأموال، فإن هذا لا يقوله عاقل، وبعضهم صرح به يقسم بين الغرماء والورثة، منهم ابن عقيل وغيره، وهذا واضح لا خفاء به، ومعلوم أن عتق أمهات الأولاد يتعين إخراجه من رأس المال قبل الديون وغيرها، ولهذا لو مات المفلس وعليه ديون، ولم يخلف غير أم ولده لعتقت ولم يتخلص فيها الغرماء، فكيف يتوهم متوهم أن مال المفقود يوفى منه ديونه، ويترك أمهات أولاده يعتقن، وعتقهن يقدم عَلَى الديون؟ أم كيف يتوهم متوهم أن ماله يقسم بين ورثته ولا تخرج منه ديونه ولا تنفذ منه وصاياه؟
فإن قيل: ما الفرق بين توريث المال والحكم بالعتق؟
أما توريث المال لم يشترط له تعين حياة الوارث ولا الموروث عند أحمد بدليل أنه يورث الغرقاء والهدماء بعضهم من بعض، ويورث المفقود من مال مورثه الَّذِي مات في مدة انتظاره في أحد الوجهين لأصحابه وقد قيل: إِنَّ في كلامه إيماء إِلَيْهِ، فلذلك لا يعتبر له تعين وفاة الموروث.
وأما العتق فلا يحكم به مع الشك في وقوعه، كما لا يحكم بالطلاق مع الشك فيه.
قيل: قسمة مال المفقود عند الإياس من قدومه مشبه بملك اللقطة بعد حول التعريف للإياس من الاطلاع عَلَى مالكها، وكلاهما جائز لما في قسمة المال والتصرف فيه من المصلحة، ولما في ﴿إمساكه﴾ (١) وحبسه من الفساد وتعرضه لاستيلاء الظلمة عليه، وذلك هو الواقع في هذه الأزمان لا محالة، وكلاهما يجوز من غير استئذان حاكم، وقد نص عليه أحمد في رواية أبي داود في مال المفقود، مع تردده في رفع أمر زوجته إِلَى الحاكم، وكلاهما
_________
(١) في "الأصل": "إنفاقه" والمثبت أنسب للسياق.
2 / 581
يتصرف فيه تصرفًا مراعًى بظهور صاحبه؛ فإن لم يظهر استمر التصرف في المالين عَلَى ما كان عليه من الصحة، وإن ظهر صاحبه؛ فإن كان عين المال موجودًا وجب رده عَلَى صاحبه، وإن كان مستهلكًا فهل يضمن له أم لا؟ عَلَى قولين مشهورين، وقد حكاهما الأصحاب روايتين عن أحمد في مال المفقود، وإن كان المنصوص عنه في أكثر الروايات عدم الضمان.
وكذلك عنه في اللقطة روايتان أيضًا حكاهما ابن أبي موسى، ومن هنا حكم الصحابة ﵃ بأن أم ولد المفقود إذا جاء وقد تزوجت فإنهم خيروه بينها وبين الصداق الَّذِي دفعه إليها؛ لأنّ الزوجة ليست ملكًا له، وإنما كان يملك الانتفاع ببعضها، وفي مقابلة ذلك بذل لها الصداق، فلذلك خير بين المال الَّذِي لزمه مقابلة البضع وبين عوضه وهو البضع، وحينئذ فلا فرق بين قسمة ماله بين ورثته وبين عتق أمهات أولاده، وليس هذا من قبيل الحكم بالعتق مع الشك في شروطه، وإنما هو من قبيل التصرف في مال من أيس من وجوده لفقده، وأيضًا فما ذكر من الفرق غير صحيح عَلَى مقتضى سواعد مذهب أحمد؛ فإن ﴿العتق﴾ (١) عنده يحكم به مع الشك في عين من وقع عليه، كما يحكم إخراج المعتقة المسببة عنده بالقرعة، ويكون ذلك مراعاة بدوام النسيان عَلَى أحد الوجهين؛ بل وفي الطلاق أيضًا كذلك عَلَى الصحيح المنصوص عنه وعليه أكثر الأصحاب؛ فإن قيل فأحمد يحتاط للأبضاع ويفرق بينها وبين المال، ولهذا قال فيمن مات بأرض غربة ولا وارث له: إنه يجوز لمن معه أن يجمع ماله ويبيعه إلا الجواري؛ فإنه لا يبيعهن إلا الحاكم، وعلل بأن البضع يحتاط له، فلا يجوز أن يباع إلا بإذن الملك أو الحاكم، وكذلك فرق بين بيع المدبرة والمدبر في رواية عنه لهذا المعنى، وهذا يقتضي أن يفرق هاهنا بين مال المفقود وأمهات أولاده وهذا التفريق لم يقل به أحد في مال
_________
(١) في "الأصل": "المعتق" والمثبت أنسب للسياق.
2 / 582
المفقود، وذلك أنه سوى بين حكم ماله وزوجاته عَلَى ما سبق، وبضع الزوجة آكد حرمة من بضع الأمة، وأيضًا فإنه لم يفرق في مال المفقود بين الإماء وغيرهن، ولا أحد من ﴿الصحابة﴾ (١)، فلو كان في ماله أمة جاز بيعها وقسمة ثمنها، وجاز لبعض الورثة أن يأخذها من نصيبه برضاء الباقين، ولو كان الوارث واحدًا واختص بها ﴿جاز﴾ (٢) له وطؤها.
فعلم أن أحمد لم يراع هذا الفرق في مال الفقود بالكلية، وحينئذ فتجب التسوية بين أمهات أولاده وسائر رقيقه وأمواله في حكم القسمة، إلا أن قسمة أم الولد بين الورثة والغرماء والوصايا متعذر، وإنما قسمتها إرسالها وتمكينها عَلَى حكم العتق لها ظاهرًا.
ومما يدل عَلَى هذا أن أحمد يرى أن المفقود إذا مضت هذه المدة في انتظاره بحكم له بأحكام الموتى مطلقًا، وأنه نص عَلَى أن نفقة زوجته تسقط من ماله بعد مدة انتظاره، ولو حبست نفسها عليه بعد ذلك منتظرة له.
قال في رواية الأثرم: مال المفقود إذا أمرت به امرأته أن تزوج قسمت ماله بين ورثته، قال: فقلت له: ففي هذه الأريع سنين والأربعة أشهر أليس ينفق عليها من ماله؟ قال لي: فبد لها من نفقة، قلت: فإن أحبت أن تقيم عليه بعد الأربع سنين والأربعة أشهر أليس لها ذاك؟ فمن أين ينفق عليها بعد؟ قال: أنا أرى إذا مضى هذا الأجل أن يقسم المال، قلت: فَإِذَا قسم المال فمن أين ينفق عليها؟ أليس لها بعد الأجل نفقة؟
وهذا نص في أن نفقتها تسقط بانقضاء أربع سنين وأربعة أشهر وعشر عنه بموته بعد انقضاء هذه المدة، وإنما وجب لها النفقة هاهنا في مدة العدة، وإن كان عنده لا يجب ﴿للمتوفى﴾ (٣) عنها نفقة في مدة عدتها؛ لأنّ الوفاة هاهنا غير متيقنة فيها بخلاف من علمت وفاة زوجها، وقد أشار إِلَى هذا المعنى في
_________
(١) في الأصل: أصحابه.
(٢) في الأصل: وجاز.
(٣) في الأصل: المتوفى.
2 / 583
رواية صالح فَقَالَ في نفقة الحامل، يموت عنها زوجها أو يطلقها: إِن قامت البينة فمن نصيبها، وإن لم يصح الخبر ولم تقم البينة فمن جميع المال؛ لأنها حبست نفسها عليه، وهذا النص يخالف ما قاله كثير من الأصحاب: أن لها النفقة من مال الغائب ما لم تتزوج أو يفسخ الحاكم نكاحها، ولما قاله بعضهم كابن الزاغوني أنه لا نفقة لها في مدة الأربعة أشهر لا كما في عدة وفاته، وذكر أبو البركات في "شرح الهداية" أنه قياس المذهب عنده، والمنصوص عن أحمد هو منقول عن عمر وابن عباس، لكنهما اختلفا في نفقة الأربع سنين، فَقَالَ ابن عمر: هي من مال المفقود. وقال ابن عباس: إذًا يجحف بالوارث، ولكن يستقرض وينفق؛ فإن جاء زوجها قضى ذلك، وإن لم يأت فهو من نصيبها. وكذلك نص أحمد عَلَى أن مال المفقود بعد مضي المدة المعتبرة لانتظاره يُزكى لما مضى من السنين معللًا بأن صاحبه مات وعليه زكاته، والزكاة تخرج من رأس المال، وهذا يدل عَلَى أنه يحكم بوفاته ظاهرًا بعد هذه المدة، وعلى هذا فتخرج الزكاة من أصل مال المفقود، فإن كان عليه دين تحاصا عَلَى المنصوص عليه في اجتماع الزكاة والدين عَلَى الميت.
وهذا نص منه بإخراج جميع الواجبات عن الميت من ماله بعد مدة انتظاره، سواء كانت لآدمي أو لله، وعتق أم ولد المفقود من قبيل إخراج الزكاة من ماله؛ لأنّه حق واجب لله تعالى، وإن كان مستحقه آدميًّا معينًا بخلاف الزكاة؛ فإن مستحقها آدمي غير معين، وطرد هذا أن تنفذ منه وصاياه ويعتق المدبرون.
***
2 / 584
فصل: [في وصف حال المفقود الَّذِي يجوز أن تتزوج زوجته]
والمفقود الَّذِي يجوز أن تتزوج زوجته ويقسم ماله عند الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- هو من فقد في حالة، الظاهر منها الهلاك، فأما من سافر سفر سلامة ثم انقطع خبره فليس عنده بمفقود؛ بل هو غائب.
قال الأثرم: قيل لأبي عبد الله: أي شيء المفقود؟
قال: عَلَى حديث عمر إذا خرج من أهله لحاجة فلم يرجع، أو كان بين الصفين ففقد، فلم يدر أقتل ام أسر. قال: ولا يكون المفقود (.....) (١) يخرج إِلَى الحج أو إِلَى السفر. ولو خرج إِلَى الصفين فلم يأت خبره وانقطع كتابه لا يكون مفقودًا.
قيل لأبي عبد الله: فكان مع أصحاب له في سفر، فتوجه من بينهم لحاجة، ثم لم يعد إليهم. فَقَالَ: هذا مفقود، بمنزلة الَّذِي خرج من أهله لحاجة، فلم يرجع إليهم؟ قال أبو عبد الله: ترى هؤلاء الذين فقدوا في الحرب تربص أهاليهم إِلَى الساعة؟ والذين فقدوا في بلاد الروم؟ ! يعني: إنكارًا لذلك ثم قال: حديث أبي نضرة "أن رجلًا خرج من أهله .. " وحديث أبي عمرو الشيباني "أن قومًا لقوا العدو ففقد بعضهم .. " فهذا المفقود.
يشير إِلَى أن المفقود الَّذِي أجل عمر امرأته؛ إِنَّمَا هو عَلَى ما جاء في هذه الروايات، وهو أن يكون فقده عَلَى وجه ظاهر بالهلاك، فلا يلحق به ما ليس في معناه، فنقل إسماعيل بن سعيد، عن أحمد قال: "إِنَّمَا المفقود أن يكون الرجل في أهله فيصبح وليس بينهم، ولم يعلموا أنه أراد سفرًا، أو يركب البحر فتنكسر بهم السفينة، أو تحملهم الريح في البحر أو يلقوا العدو فيفقد".
فأما من سافر فطالت غيبته فليس بمفقود.
_________
(١) بياض بمقدار كلمة.
2 / 585
ولأحمد ﵁ نصوص كثيرة في هذا المعنى، وكذلك مذهب إسحاق بن راهويه، قال حرب: قال إسحاق: المفقود هو الَّذِي يفقد من موضع منزله، أو في كورة (١) أخرى، أو في طريق سفر أو غيره يكون معهم ثم يفقدونه فيَقُولُونَ: أين فلان؟ وأين ذهب؟ فلا يدري الجن ذهبت به، أم مات، أم غاب حيث لا يدري في بر أو بحر. فهذا المفقود.
فأما إذا غاب عن منزله إِلَى سفر أو قصد كورة فكان فيها في تجارة أو حاجة ثم انقطع علمه عن منزله وأهله فلم يأتهم خبر؛ فإن هذا لا يسمى مفقودًا، هذا غائب، ولا يحكم له حكم المفقود.
وقال إسحاق بن منصور: قلت لأحمد: ما المفقود؟
قال: لا يكون مفقودًا حتى يغزو أو يركب البحر فينكسر بهم، أو رجل خرج من الليل فَسَبتْهُ الجن، فهو عَلَى قول عمر.
قال إسحاق -يعني: ابن راهويه-: هو عَلَى ما قاله، وكذلك كل ما رئي في موضع ثم فقد منه.
وأما مالك ﵁ فالمفقود عنده أقسام منها المفقود في التجارة، فتتربص امرأته أربع سنين ثم تعتد.
ومنها المفقود في معارك القتل، فيجتهد فيه الإمام، وليس فيه أجل معلوم، ثم تعتد بعد الاجتهاد عدة الوفاة.
وأما الأسير عنده إذا انقطع خبره، فلا يفرق بينه وبين امرأته.
وحكى ابن المنذر عن سعيد بن المسيب أن المفقود بين الصفين تؤجل امرأته سنة، وإن فقد في غير صف فأربع سنين.
وعن الأوزاعي قال: إذا فقد -يعني: في الصف- ولم يثبت عَلَى أحد منهم أنهم قتلوا وأسروا، فعليهن عدة المتوفى عنهن ثم يتزوجن.
_________
(١) قال الجوهري: الكورة: المدينة. "اللسان" مادة: (كور).
2 / 586
قال: وأجمع كل من نحفظ عنه من أهل العِلْم عَلَى أن زوجة الأسير لا تنكج، حتى يعلم بتعين وفاته، ما دام عَلَى الإسلام. هذا قول النخعي، والزهري، ومكحول، ويحيى الأنصاري، ومالك، والشافعي، وأبي ثور وأبي عبيد وأصحاب الرأي.
وتابعه عَلَى هذا النقل صاحب "المغني" وليس الأمر كما ذكره، وقد صح عن الزهري خلاف ما حكاه عنه.
قال الجوزجاني: حدثنا أبو صالح أن الليث حدثه ثني يونس، عن ابن شهاب قال: "الأسير قد علم بحياته، لا تزوج امرأته ما علم بحياته، ولا يقسم ماله؛ فَإِذَا انقطع خبره كانت سنته سنة المفقود، وقال في رجل انطلق في معشر من أنصار المسلمين لحاجة أو تجارة؛ فغاب أربع سنين لم يأت عنه خبر ولا كتاب ولا نفقة، قال: "هو بمنزلة المفقود" وهذا إسناد صحيح.
قال الجوزجاني: وثنا صفوان، ثنا عمر -هو ابن عبد الواحد- عن الأوزاعي قال: قلت للزهري، في العبد تكون تحته الحرة فأسر؟ قال: إِن علم أنه حي فلا سبيل لها إِلَى التزويج، وإن لم يعلم مكانه فأجلها مثل أجلها تحت الحر، قلت: فإن أبق؟ قال: هي مثل الَّذِي قبلها" وهذا الإسناد صحيح أيضًا.
وكذلك حكى كثير من الفرضيين عن أكثر العُلَمَاء أن الأسير إذا انقطع خبره كان حكمه حكم المفقود، وصرح أصحابنا أيضًا بهذا القول في كتبهم، وأن الأسير المنقطع خبره حكمه حكم المفقود، منهم القاضي وأبو الخطاب وابن عقيل وغيرهم، حتى قال أبو محمد الحلواني في "تبصرته": تتربص زوجته أربع سنين ثم تعتد وتتزوج. وهذا تصريح بأن حكمه حكم المفقود الَّذِي غالب أمره الهلاك، وكذلك نقله الخبرين صريحًا عن أحمد، لا سيما إِن كان مأسورًا عند قوم يعرفون بقتل الأسارى، وعلم أنهم قتلوا بعض الأسارى، ولم يدر هل هو ممن قتل أم لا؛ فإن هذا يصير حكمه حكم المفقود في المعركة.
2 / 587
وقد تنازع الفقهاء في وصية الأسير، هل هي من رأس ماله أو من ثلثه، ومنهم من فصل بين أن يكون خائفًا أو آمنًا، ومنهم من فصل بين أن يكون عند قوم يعرفون بقتل الأسارى فتكون وصيته من الثلث وبين أن يكون عند من لا يعرف بذلك، فتكون وصيته من رأس المال.
ولو غاب الزوج غيبة منقطعة ولم يترك للزوجة مالا ينفق عليها منه، ولم يبعث لها بمال، وليس بمعسر؛ فمن قال: إنه يثبت له حكم المفقود فحكمه ظاهر.
وأما من لم يثبت له حكم المفقود بذلك، فاختلفوا هل يثبت لها الفسخ لامتناعه؟ عَلَى قولين:
أحدهما: أنه لا فسخ بذلك، وهو ظاهر مذهب الشافعي، وقول القاضي من أصحابنا وابن عقيل في كتاب "الفصول".
والثاني: يثبت به الفسخ كما لو كان معسرًا، وهو قول أبي الخطاب من أصحابنا وابن عقيل في كتاب "المفردات" و"عمدة الأدلة" ورجحه صاحب "المغنى" و"المحرر" ولا فرق عندهم بين أن يكون غائبًا أو حاضرًا إذا تعذر أخذ النفقة منه، وهو ظاهر كلام الخرقي، بل هو ظاهر كلام أحمد، فإنه قال في رواية الميموني: إذا كانت السنة فيمن عجز عن النفقة، وهو مقيم معها أن يفرق بينهما، أليس هذا أقل من أن يكون لا يوصل إليها وهو غائب عنها؟
فبين أحمد أن الغائب إذا لم يوصل إِلَى زوجته النفقة فهي أولى بالفسخ من زوجة العاجز المقيم، وهو اختيار أبي الطيب الطبري من الشافعية.
***
2 / 588
فصل: [متى يفرق بين الغائب وامرأته؟]
وأما الغائب المعلوم خبره إذا طلبت امرأته قدومه، فإن كان سفره فوق ستة أشهر وأبى القدوم من غير عذر؛ فإنه يفرق بينهما عند الإمام أحمد، نص عليه في رواية ابن منصور. قال ابن منصور: قلت لأحمد: كم يغيب الرجل عن أهله؟ قال: ستة أشهر.
قال إسحاق بن راهويه: كذا هو قول أحمد: يكتب إِلَيْهِ؛ (فإن أبى أن يرجع فرقت، فإن رجع وإلا فرق) (١).
وقال حرب: سألت أحمد قلت: كم يجوز للرجل أن يغيب عن أهله؟
قال: يروى ستة أشهر حديث عمر، وقد يغيب الرجل أكثر من ذلك لابد له.
وحمل القاضي أبو يعلى هذ الرواية عَلَى أن الزيادة عَلَى ستة أشهر كانت في سفره واجب متعين لابد منه، كالحج والجهاد، فلا يحتسب عليه بالزيادة، وكلام أحمد أعم من ذلك.
وفي مسائل إسحاق بن هانئ عن أحمد: سألته عن رجل يغيب عن امرأته أكثر من ستة أشهر قال: إذا كان في حج أو غزو أو مكتسب -كسب عليَّ عياله- أرجو أن لا يكون به بأس، إذا كان قد تركها في كفاية من النفقة، ومحرم رجل يكفيها، مثل أب أو عم أو خال.
ومذهب مالك: إذا أطال الغيبة عن امرأته مختارًا لذلك، وكرهت امرأته غيبته أمر بالقدوم إليها أو نقلتها إِلَيْهِ، فإن امتنع منه أمر بفراقها؛ فإن لم يفعل فرق الحاكم بينهما:
نقله صاحب "التفريع".
_________
(١) كذا!!
2 / 589
وقال ابن عقيل من أصحابنا في كتاب "المفردات": قد يباح الفسخ وطلاق الحاكم لأجل الغيبة إذا قصد بها الإضرار، بناء عَلَى أصلنا: إذا ترك الاستمتاع بها من غير يمين أكثر من أربعة أشهر، فعلى هذه الغيبة المضرة بمجردها قد أثبتت الفسخ لنكاحه، انتهى.
وهذا الأصل الَّذِي أشار إِلَيْهِ قد ذكره القاضي في خلافه ومن تبعه، وهو ترك الوطء لقصد الإضرار بغير يمين أن حكمه حكم المولى، وأخذه من قول أحمد، في رجل تزوج بامرأة، فلم يدخل بها ويقول: اليوم أدخل، وغدًا أدخل، قال: أذهب إِلَى أربعة أشهر، إِن دخل بها وإلا فرق بينهما.
ونص فيمن ظاهر من امرأته سنة فجاءت تطالب فليس له أن يعضلها بعد أربعة أشهر، ثم تطلق عليه إِن أبي التكفير والطلاق.
وقال ابن عقيل في "عمدة الأدلة" وفي كتاب "المفردات": عندي إِن قصد الإضرار خرج مخرج الغائب، وإلا فمتى حصل إضرارها بامتناعه من الوطء، وإن كان ذاهلًا عن قصد الإضرار تضرب له المدة. وذكر في آخر كلامه: إِن حصل له الضرر بترك الوطء لعجزه عنه كان حكمه كالعنين.
فيؤخذ من كلامه أن حصول الضرر للزوجة بترك الوطء لعجزه عنه كان حكمه يقتضي الفسخ بكل حال، سواء كان بقصد من الزوج أو بغير قصد، وسواء كان مع قدرته أو عجزه، وكذا ذكره الشيخ تقي الدين ابن تيمية في العاجز، وألحقه بمن طرأ عليه خنث أو عُنة، وبالعاجز عن النفقة.
وذكر أبو الخطاب، وصاحب "المحرر" إِن امتنع من وطء زوجته أكثر من أربعة أشهر بغير عذر، وطلبت الفرقة فرق بينهما، ولم يعتبرا قصد الإضرار.
وقال صاحب "المغني": لابد أن يظهر دليل يدل عَلَى إرادة الضرر.
ومذهب مالك وأصحابه أن ترك الوطء من غير عذر يوجب الفسخ مع اختلافهم في تقدير المدة، فهذا كله في حق الزوجات.
2 / 590
فأما الإماء، فمذهب أحمد أنه يجب عَلَى السيد إعفافهن إذا طلبن الإعفاف: إما بنفسه إِن أمكن، وإما بالتزويج، أو بخروجهن عن ملكه بالعتق، وفي إجباره عليه ضرر له، فَإِذَا لم يعفهن بنفسه تعين إعفافهن بالتزويج.
وقد ذكر القاضي في غير موضع من كتابه "الجامع الكبير" أن الحاكم لا يجبر السيد عَلَى تزويج إمائه إذا طلبن ذلك؛ لأنّ لنا طريقًا إِلَى إزالة ضررها بدون النكاح، فلذلك قام الحاكم فيه مقام الأولياء عند امتناعهم منه، وهذا التعليل يقتضي أن أم الولد يزوجها الحاكم إذا امتنع السيد من تزويجها؛ لأنّه لا يمكن نقل الملك فيها إلا أن نقول: يجبره الحاكم عَلَى أحد أمرين: إما إعفافهن بالوطء، أو بالنكاح.
وقد يقال: إنه يمكن إزالة ضررها، بإخراجها عن ملكه بالعتق لتصير حرة.
ثُم قال القاضي -بعد ما ذكره من التعليل والفرق-: فعلى هذا لو كان السيد غائبًا غيبة منقطعة، وله أمة، وقد دعيت إلي التزويج، أو كان سيدها صبيًّا أو مجنونًا احتمل أن يزوجها الحاكم كما ينفق عليها من ماله.
ومعنى هذا أنه إذا طلبت الأمة النكاج وكان الزوج ممن لا يمكن أن يطلب منه عقد النكاح عليها، إما لغيبته أو صغره أو جنونه؛ فإن الحاكم يقوم مقامه حينئذ فيه؛ لأنّه حق وجب إبقاوه، وقد تعذر فعله منه، فقام الحاكم فيه مقامه كما يقوم مقامه في الإنفاق عَلَى الأمة من ماله، وهذا المعنى لا فرق فيه بين أمهات الأولاد وغيرهن للاشتراك في وجوب الإعفاف، والله تعالى أعلم.
ولذلك ذكر القاضي في "خلافه" أن سيد الأمة إذا غاب غيبة منقطعة، فطلبت منه التزويج في غيبته زوجها الحاكم، وأن هذا قياس المذهب، ولم يذكر فيه خلافًا.
وكذلك نقله عنه صاحب "المحرر" في تعليقه عَلَى "الهداية" ولم يعترض عليه بشيء.
2 / 591