Le compendium des règles de prière
الجامع لأحكام الصلاة - محمود عويضة
Genres
الطبعة الأولى ٢٠٠١م
الطبعة الثانية ٢٠٠٢م
الطبعة الثالثة ٢٠٠٣م
الطبعة الأخيرة
مزيدة ومنقحة
المملكة الأردنية الهاشمية
رقم الإيداع لدى دائرة المكتبة الوطنية (٢٦٨٠/١٢/٢٠٠٣)
٢٦٢،٢
عويضة، محمود عبد اللطيف
الجامع لأحكام الصلاة/ محمود عبد اللطيف عويضة.-
ط ٣.- عمان: المؤلف، ٢٠٠٤.
٨٨٠ص.
ر. إ.: ٢٦٨٠/١٢/٢٠٠٣
الواصفات: /الصلوات//الإسلام//العبادات/
رقم الإجازة المتسلسل لدى دائرة المطبوعات والنشر ٣٤١/٢/٢٠٠١
هذا الكتاب يوزع مجانًا، ولا حقوق محفوظة لصاحبه،
فيصح لأي شخص أن يطبعه طبعة جديدة ويقوم
بنشره وتسويقه وبيعه متى شاء شرط أن يطبعه كما
هو دون أي تغيير مطلقًا، فلا يزيد عليه كلمة ولا
يحذف منه كلمة.
دار الوضاح للنشر والتوزيع - عمان الأردن - ٤٦١٣٠٧٦
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على رسول الله المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فهذا كتابٌ في أحكام الصلاة سميته [الجامع لأحكام الصلاة] لأنني دونت فيه جميع مسائل الصلاة التي تناولتها النصوص دون تلك الأبحاث التي دونها الفقهاء مستدلين عليها بالقياس أو بالاستحسان وما إلى ذلك مما لا يصح الاعتماد عليه في العبادات، ذلك أن العبادات توقيفية تُؤخذ من النصوص فحسب: الكتاب والسنة ولا يصح أخذها من سواهما، ولهذا جاءت الأحكام في هذا الكتاب بمثابة فقه النصوص ليس غير.
1 / 1
وقد راعيت عند أخذ النصوص أخذها من مصادرها من كتب الحديث وليس من كتب الفقه، إذ أن هناك تفاوتًا في الألفاظ بين الأحاديث في كتب الفقه وبين الأحاديث في كتب الحديث بشكل عام. وقد التزمت عند الاستدلال بالحديث بوضع صاحب اللفظ المثبَت في الكتاب - عند تعدد الرواة - في مقدمة الرواة، فإذا قلت رواه مسلم وأحمد والترمذي مثلًا، فإن اللفظ المُثْبَت في الكتاب هو لفظ مسلم، وإذا قلت رواه الترمذي ومسلم وأبو داود، فإن اللفظ المُثْبَت هو لفظ الترمذي، وهكذا، وإذا وجدتم في سياق الحديث فراغًا مملوءًا بالنقط، فإن ذلك يدل على جزءٍ محذوفٍ من الحديث لا يلزم إثباته عند الاستدلال، خاصةً إذا كان الحديث طويلًا.
أما الأحاديث التي رواها الإمام أحمد فقد أخذتها إمَّا من مُسنده مباشرة، وإمَّا من كتاب [الفتح الرَّبَّاني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني] لمؤلفه أحمد عبد الرحمن البنَّا، وقد نوَّهت بهذا الأمر لأن [الفتح الرَّبَّاني] ربما أورد أحاديث المسند بطريق الاقتباس أو اقتطاع أجزاء من الأحاديث، سيما عند تكرار وضعها في الكتاب حسب أبواب الفقه فيه.
وإذا قلتُ روى هذا الحديث مسلم مثلًا فإن ذلك لا يعني أن الحديث انفرد مسلم بروايته وأن أحدًا غيره لم يروه، وكذلك إذا قلت إن الحديث رواه البخاري والنَّسائي مثلًا، فإن ذلك لا يعني أن الراويَيْن قد انفردا بروايته وأن غيرهما لم يرووه، ففي هذا الأمر لم ألتزم بقاعدة ثابتة، فربما ذكرت راوي الحديث صاحب اللفظ فقط، وربما ذكرت صاحب اللفظ ورواةً آخرين شاركوه في الرواية، وإذا حصل ذلك فإنما هو من أجل زيادة المعلومات لدى القاريء، وإلا فكما قلت لا يكون اللفظ إلا لصاحبه الأول فحسب، وأما الرواة الآخرون فإن ألفاظهم ربما تطابقت مع لفظ الراوي الأول وربما اختلفت عنه قليلًا، فالمعتمد في الاستدلال هو لفظ الراوي الأول فحسب، راجيًا أن يكون هذا الأمر واضحًا تمامًا.
1 / 2
وقد التزمت في الاستدلال بأخذ الأحاديث الصحيحة والحسنة التي صحَّت وحسُنت عند جمهرة المُحَدِّثين أو بعضهم، ولم أستدلَّ بأي حديثٍ علمت أنه ضعيف عند جميع المُحَدِّثين، أما الحديث المختلَفُ عليه من حيث الصحة والضعف فربما أخذته وربما تركته، والأخذ والترك متعلقان بموافقة الحديث أو مخالفته للأحاديث الصحيحة والحسنة.
وهذه الأحكام المدوَّنة كلها قد توصلَّتُ إليها باجتهادٍ شخصي فلم آخذها من اجتهادات المجتهدين، وإنما هي أحكام مستقلة عن اجتهاداتهم، ربما تطابقت معها وربما اختلفت قليلًا أو كثيرًا. فعلى المتَّبعين في مسائل الصلاة للأئمة الأربعة أو لغيرهم أن يبقوا متَّبعين لأئمتهم إن هم اتبعوهم بعد معرفة أدلتهم، واعتبروهم أصحَّ اجتهادًا، أما إن هم قلَّدوهم تقليدًا - بمعنى أنهم أخذوا الأحكام منهم، وعملوا بها دون الاطِّلاع على أدلَّتها - فهؤلاء يمكنهم الانتقالُ إلى هذه الأحكام المقترنة بالأدلةِ ووجوهِ استنباطها، واتِّباعُها، وأما غير هؤلاء وأولئك فشأنهم في الأخذ بهذه الأحكام أو تركها، شرط أن لا يراعوا في ذلك الأسهل والأوفق لهواهم ومصالحهم، فإن ذلك حرام لا يجوز.
1 / 3
إن الغاية من وضع هذا الكتاب، وخاصة الجزء الأول منه هي أنني أردت أن أضع نموذجًا لكتابة الفقه، رأيت أنه الأنسب والأصح، يبرز فيه استعراض النصوص كلها في المسألة الواحدة، واستحضار الأحكام التي استنبطها الفقهاء لمحاكمتها، ومن ثَمَّ التوصُّل إلى الحكم الصحيح وبيان الحكم الخطأ، حتى يأخذ المسلم الحكم بقناعةٍ واطمئنان نفسٍ، وينأى بذلك عن التقليد الأعمى لهذا الفقيه أو ذاك، فالتقليد الأعمى آفة أصابت المسلمين في عهودهم الأخيرة، فسببت لهم الهبوط ولا أقول الانحطاط، ولم أقصد من وضع هذا الكتاب أن أضع مجرد كتابٍ في الفقه، وذلك لأن كتب الفقه المطبوعة دون المخطوطة تزيد كثيرًا عن حاجة المسلمين، فهذا الكتاب ليس سوى محاولة مني لوضع النموذج الصحيح الذي أراه لكتابة الفقه، راجيًا من الله سبحانه أن أكون قد وُفِّقتُ فيما سعيت إليه.
كما أنني بوضع هذا الكتاب إنما أشارك عددًا من العلماء الذين ثاروا على واقع هذه الأمة الإسلامية الكريمة، ورفضوا الإذعان لغلق باب الاجتهاد الذي أدى إلى هبوط الأمة فكريًا ومن ثَمَّ سياسيًا، أُشارك هؤلاء المجتهدين بفتح باب الاجتهاد على مصراعيه للعلماء المخلصين المالكين لأدوات الاجتهاد وهم بأعداد لا بأس بها، ولا تنقص معظمهم إلا الجرأة والإقدام على طَرْق هذا الباب والولوج فيه.
وليعلم هؤلاء أن المجتهد غير عالم أصول الفقه، فكما أن الأديب غير عالم النحو والصَّرف، إذ يستطيع أن يكتب القطع الأدبية دون إتقانٍ منه لعلوم اللغة كإتقان عالم النحو والصرف، فكذلك المجتهد يستطيع أن يستنبط الأحكام من أدلتها دون إتقانٍ منه لعلم أُصول الفقه كإتقان عالم أصول الفقه، فهذا وذاك يحتاجان من هذه العلوم إلى قدر معقول ومناسب دون الإتقان التام والإحاطة الكاملة لهذه العلوم، فربما اجتهد مجتهد في عشر مسائل وعشرين مسألة دون أن يحتاج من علم أصول الفقه إلا للقدر اليسير منه.
1 / 4
لقد وضعت هذا الكتاب ابتداءً في عام ١٤٠٧ من الهجرة و١٩٨٧ للميلاد، وقد حالت ظروفٌ دون نشر الكتاب من قبل، وفي هذا العام وقد تيسَّر لي نشره قمت بمراجعته وإدخال إضافاتٍ كثيرة نافعة عليه، راجيًا أن يلقى من القراء جميعًا الرضى والقبول.
واللهَ أسأل أن يتقبَّل مني ما بذلت وما نويت وما إليه هدفت، والحمد لله أولًا وآخرًا.
تمهيد
الطهارة في اللغة النقاوة والتنزُّه من الأدناس. وفي الشرع رفعُ ما يمنع الصلاة والطواف ومسَّ المصحف من حَدَثٍ بالماء، أو رفع حكمه بالتراب، وإزالة النجاسة بهما أو بغيرهما. فأغسال الجنابة والحيض والنفاس تدخل تحت رفع الحدث الأكبر، والوضوء يكون لرفع الحدث الأصغر، وكلاهما يدخل تحت مدلول الطهارة، فالمسلم يكون طاهرًا طهارة كاملة بالغسل والوضوء إضافةً إلى إزالة النجاسة.
والطهارة عبادة وعمل من الأعمال، فتفارق المعاملات التي هي تصرفات قولية، ولذلك احتاجت إلى النية لقوله ﵊ «إنما الأعمال بالنِّيَّة، وإنما لامريءٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه» رواه مسلم والبخاري من طريق عمر بن الخطاب.
وقد جاءت النصوص تعيِّن الماء لرفع هذين الحدثين دون سواه، خلافًا لرأي أبي حنيفة الذي يجيز الوضوء بالنبيذ، فإن عدم الماء قام التراب في التيمُّم مقامه مؤقتًا في جميع الأغسال والوضوء ريثما يوجد الماء.
1 / 5
أما إزالة النجاسة فلا تفتقر إلى النية، خلافًا لمالك وأحمد، وأن المطلوب فقط هو زوال النجاسة بأي شكل أو أداة أو مادة، خلافًا لمالك والشافعي وأحمد الذين أوجبوا إزالة النجاسة بالماء فحسب. فالجسم نجس ما حمل نجاسة، وطاهر ما خلا منها، والحكم إنما يكون في الحال لا في المآل ولا في سابق الوقت، فإذا كان جسم لا يحمل نجاسة حكمنا بطهارته دونما حاجة لمعرفة ما إذا كان من قبلُ نجسًا أو لا، ولا كيف زالت نجاسته إن علمنا أنه كان من قبلُ نجسًا، كما أننا نعُدُّه طاهرًا ما دام لم يتنجس.
والنجاسات تسع: أربعٌ من الإنسان هي البول والغائط والمذي والودي، وثلاث من الحيوان هي الكلب والخنزير والميتة، وواحدة مشتركة بينهما هي الدم المسفوح، وواحدة من غيرهما هي الخمر. والنجاسات هذه لا تُطَهَّر، وإذا خالطت جسمًا طاهرًا نجَّسته، فصار هذا الجسم الطاهر متنجِّسًا، وعلى المتنجِّس مدار البحث في إزالة النجاسة. هذا هو مجمل الكتاب، وإليكم البيان والتفصيل.
الفصل الأول
أحكام المياه
خلق الله سبحانه الأرض وغطى ثلثيها بالماء، وخلق الحيوان والنبات - وهما طعام الإنسان - خلقهما من الماء، وتوَّج مخلوقاته بالإنسان، وجعل ثلاثة أرباع بدنه ماء، وصدق الله إذ يقول ﴿وجَعَلْنا من الماءِ كُلَّ شَيءٍ حَيٍّ﴾ الآية ٣٠ من سورة الأنبياء. فالله سبحانه قد كرَّم الماء إذ جعل مدار الحياة في الأرض عليه، وجعله طَهورًا، وعلَّق به وبوجوده العديد من العبادات، فبالماء يزيل المسلم جنابته، وبه يتوضأ لتكتمل بذلك طهارته من الحدثين كي يتسنى له الوقوف أمام ربه في أجلِّ عبادة هي الصلاة، ويطوف في حجِّه حول الكعبة مبتدئًا بالحجر الأسود يمينِ اللهِ في الأرض، ويلمس المصحف المجيد، وبالماء يزيل معظم ما يصيبه من النجاسات، وبالماء ينظف بدنه وثيابه وأشياءه.
1 / 6
ولما كان مدار الطهارة عليه فقد جعله الله ﷾ كلَّه طَهورًا، فماء المطر طَهور لقوله تعالى ﴿ويُنزِّل عليكم من السَّماءِ ماءً ليُطهِّرَكم به﴾ الآية ١١ من سورة الأنفال. ولقوله سبحانه ﴿وأنزلنا من السَّماءِ ماءً طَهورًا﴾ الآية ٤٨ من سورة الفرقان.
وماء البحر طَهور لما رُوي عن أبي هريرة أنه قال «سأل رجلٌ رسولَ الله ﷺ فقال: إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ من ماء البحر؟ قال: فقال النبي ﷺ: هو الطَّهور ماؤُه الحِلُّ ميتتُه» رواه أحمد ومالك وأبو داود والنَّسائي والترمذي. وصححه البخاري والترمذي وغيرهما.
وماء الآبار والينابيع طَهور لما رُوي عن أبي سعيد أنه قيل لرسول الله ﷺ «أنتوضأ من بئر بُضاعة - وهي بئر يُطرح فيها الحِيَض ولحم الكلاب والنتن - فقال رسول الله ﷺ: الماء طَهور لا ينجِّسه شيء» رواه أبو داود والترمذي وحسَّنه. وصحَّحه أحمد ويحيى بن معين.
والطَّهور هو الطاهر في نفسه المطهِّر لغيره، فقول الرسول ﵊ «الماء طَهور لا ينجِّسه شيء» عام في كل ماء، سواء نزل نقيًا من السماء أو خالطته ملوحة في البحار، أو علِقت به طحالبُ وأتربةٌ في مجاري الينابيع والأنهار، ما دام يحمل اسم الماء، ولذا فإن الأصل في الماء كلِّ الماء الطُّهوريةُ وعدمُ إخراج أي ماء من الطُّهورية. فهذا هو حكم الماء، وذلك لأنه لم يرد في النصوص أي وصف آخر له من حيث الطُّهورية.
1 / 7
وتتخرج من ذلك حالتان، الأولى: ما إذا خالطه شيءٌ أو أشياء بحيث يفقد اسمه بتغيُّر أحد أوصافه، بحيث لا يعود يطلق على المزيج الجديد اسم الماء، بل يصبح شيئًا آخر غير الماء، وآنذاك لا يكون ماء طَهورًا، لأنه لم يَعُد ماءً لا في اسمه ولا في وصفه، والثانية أنه قد ورد نصٌّ شرعي يستثني حالة واحدة فحسب من حالات الماء - مع بقائه ماء - من الطُّهورية، هو ما رُوي عن عبد الله بن عمر ﵁ أنه قال «سمعت رسول الله ﷺ وهو يُسأل عن الماء يكون في الفلاة من الأرض وما ينوبه من السباع والدواب، قال: فقال رسول الله ﷺ: إذا كان الماء قُلَّتين لم يحمل الخَبَثَ» رواه الترمذي وأبو داود وأحمد. وصححه ابن خُزَيمة وابن حِبَّان والحاكم. ولأحمد «لم ينجِّسه شيء» . ولأبي داود «فإنه لا ينجُس» . فاستثنى من حالات الماء حالة واحدة هي كون الماء دون قُلَّتين وقد أصابته نجاسة، ففي هذه الحالة فحسب يفقد الماء طُهوريته ويصبح نجسًا، أي ينتقل مباشرة من الطُّهورية إلى النجاسة. فالماء ليست له سوى حالتين اثنتين فقط هما حالة الطهورية، وحالة النجاسة المستثناة.
هذه ببساطة أحكام المياه، فالماء طَهور ما دام يحمل اسم الماء، ولا يفقد طهوريته إلا في حالة وحيدة هي ما إذا كان دون القُلَّتين وأصابته نجاسة، ففي هذه الحالة يفقد طهوريته ويفقد طهارته لأنه يصير نجسًا، وما سوى هذه الحالة يظل طَهورًا صالحًا للغسل من الجنابة، وللوضوء، ولإزالة النجاسات.
ولقد تشعَّبت آراء الفقهاء وتعدَّدت كثيرًا في هذه المسألة، ونحن سنستعرض هذه الآراء كلها بإذن الله، ونناقشها حتى نقف على الصحيح منها ونطرح ما سواه.
قالوا: الماء أقسام عديدة منه الطَّهور ومنه الطاهر، ومنه النجس، ومنه المستعمَل الطَّهور، ومنه المستعمَل الطاهر، ومنه المستعمَل النجس، فجعلوا الماء ستة أقسام، وكان حقه أن يكون قسمين اثنين فقط.
1 / 8
الماء الطَّهور
قالوا إن الماء الطهور إذا خالطته مواد طاهرة فغيرت أوصافه، كأن صار لونه أحمر أو أصفر، أو صارت له رائحة، أو تغير طعمه، أو تغير قِوامه، صار هذا الماء طاهرًا وفقد طُهوريته، ولم يعد يصلح للاغتسال به من الجنابة أو الحيض أو النفاس، أو للوضوء، ولم يكتفوا بذلك بل فصَّلوه على النحو التالي:
أ- ما يوافق الماء في الطُّهورية كالتراب والملح.
ب- وما لا يختلط بالماء كالدهن.
جـ- وما لا يمكن التحرُّز منه كالطُّحلب.
د- وما سوى هذه الأنواع كالزعفران.
دون أن يذكروا إن كان الماء دون قلتين أو أكثر، وأعطَوْا لكل حالة حكمًا، ودخلوا في تفريعات لا حاجة بنا لذكرها، فنرد عليهم بما يلي:
أما ما ذكروه في أول البند فصحيح من وجه وخطأ من وجه آخر، والحالات الأربع داخلة في الصحيح والخطأ دون حاجة لهذه التبويبات. أما أنَّ الماء إذا تغير بمخالطته لمواد طاهرة فَقَدَ طُهوريته فقولٌ صحيح، ولكن أن يقولوا إنه صار ماءً طاهرًا فخطأ، لأن الماء هو تلك المادة ذات الصفات والخصائص المعروفة، فإذا اختلفت هذه الصفات والخصائص بشكل بيِّن لا يبقى الماء ماء، ولا يصح إطلاق اسم الماء عليه، وسمِّه آنئذ بما شئتَ من أسماء حسب المادة التي اختلطت به. فقولهم يكون الماء طاهرًا - هكذا بذكر كلمة (الماء) - خطأ، فالنبيذ وهو ماء نُقِع فيه تمر لا يصح أن يقال عنه إنه ماء طاهر غير طَهور، لأنه لم يعد ماء لا في اسمه ولا في واقعه، والشاي المشروب الأحمر لا يسمى ماء، والسوس لا يسمى ماء، والماء إذا غُلي فيه الحمص حتى صار أصفر ذا طعم خاص لا يصح أن يقال إنه ماء، لا ماء طاهر ولا ماء طَهور، فما دامت هذه الأشربة والمحاليل لا تتصف بصفات الماء ولا تحمل خصائصه فيجب إخراجها من هذا البحث، وعدم إدراجها في باب المياه وأقسامها.
1 / 9
والقاعدة الواجب اعتمادها هي أن الماء ما دام ماء - أي اسمه ماء وحقيقته أنه ماء - إن خالطته شوائب طاهرة فلم تسلُبْه اسمَه، ولم تغيِّر أوصافه وخصائصه ظل ماء طَهورًا يصلح لكل حالات التطهير، لا فرق بين الحالة والأخرى من الحالات الأربع. فإذا أُذيب في الماء قَدر كبير من الملح أو خالطته كمية كبيرة من التراب والطين أو الكبريت أو الزعفران بحيث لم يعد يسمى ماء أُخرج من بحث أقسام المياه ودخل في بحث المواد الأخرى التي سلبته اسمه وحقيقته. فشراب الزعفران طاهر، وشراب السوس طاهر، والشاي طاهر، والنبيذ - أي منقوع التَّمر - طاهر، ومحلول الكبريت طاهر، ولكن هذه لا تُبحث في باب المياه ولا تأخذ أحكامها، وبالتالي لا يقال لهذه الأشربة والمحاليل إنها مياه طاهرة غير طَهورة، ولا فرق في ذلك بين ما كان فوق القُلَّتين أو دونهما.
وهذا الموضوع كله ليس موضوع نصوص، وإنما هو موضوع تحقيق مناط الماء، والرسول ﵊ يقول «الماء طَهور» ونحن نبحث في مناط الماء وعلى ماذا ينطبق هذا اللفظ، ولم يقل ﵊ شراب الزعفران طاهر أو طَهور حتى يدخل في هذا الباب. وعليه فإن قولهم إن الماء طاهر إن خالطه ما غيَّر أوصافه أو سلبه اسمه صحيح من وجه وخطأ من وجه، وقد بان الوجهان تمامًا. وقل مثل ذلك على إدام الطعام وأدوية الصيدليات السائلة والمحاليل الكيماوية والعُصارات والعطور، فكلها لا علاقة لها بأحكام المياه من حيث الطُّهورية والطهارة لا من قريب ولا من بعيد، فلا تصلح للوضوء ولا للأغسال من نفاس وحيض وجنابة.
قد يقال إن عكرمة والحسن والأوزاعي وأبا حنيفة أجازوا الوضوء بالنبيذ مستدلين بما رُوي عن ابن مسعود ﵁ أن النبي ﷺ قال له ليلة الجن «ما في إداوتك؟ قال: نبيذ، قال: تَمْرةٌ طيبةٌ وماءٌ طَهور» رواه أبو داود وأحمد والترمذي وابن ماجة. فنردُّ عليهم من ثلاثة أوجه:
1 / 10
أحدها: أنه يعارض الآية الكريمة ﴿... فلم تجدوا ماءً فتيمَّموا ...﴾ سورة النساء ٤٣، وسورة المائدة ٦. ذلك أن الآية قد أوجبت الانتقال إلى التراب عند فقد الماء ولم تجعل بينهما شيئًا آخر.
وثانيها: هذا الحديث ضعيف، لأن في إسناده أبا زيد، وأبو زيد هذا قال عنه الترمذي (مجهول عند أهل الحديث) وقال ابن حِبَّان (ليس يُدرَى مَن هو ولا أبوه ولا بلده، ومن كان بهذا النعت ثم لم يروِ إلا خبرًا واحدًا خالف فيه الكتاب والسنة والإجماع والقياس استحق مجانبة ما رواه) .
وثالثها: إن مسلمًا روى أن ابن مسعود نفسه قال «لم أكن ليلة الجنِّ مع رسول الله ﷺ ووددت أني كنت معه» . وروى أبو داود أن ابن مسعود قد سُئل «من كان منكم مع رسول الله ﷺ ليلة الجن؟ فقال: ما كان معه منا أحد» . وبذلك يسقط الاحتجاج بالحديث على جواز الوضوء بالنبيذ. قال ابن قُدامة في المغني (فأما غير النبيذ من المائعات غير الماء كالخل والدهن والمرق واللبن فلا خلاف بين أهل العلم فيما نعلم أنه لا يجوز بها وضوء ولا غسل، لأن الله سبحانه أثبت الطُّهورية للماء بقوله ﴿ويُنَزلُ عليكم من السماءِ ماءً ليُطهِّرَكم به﴾ وهذا لا يقع عليه اسم الماء) وهو تلخيص جيد وصحيح.
إلا أن الشرع الحنيف قد خفف عن المسلمين في ماء البحر وماء السواقي، فجعل ماء البحر طَهورًا رغم أنه يفقد صفة من صفات الماء لكونه مالحًا، وجعل ماء السواقي طَهورًا رغم ما يعلق به من طين أو شوائب تغيِّر لونه، فهذان الماء إن حالة استثنائية فيُقْتَصَرُ عليهما ولا يقاس عليهما، ويبقى ما سواهما يعامَل كما سبق بحثه، ولذلك قال الفقهاء والأئمة إن الماء إذا خالطه ما يختلط به عادة يظل طَهورًا كالملح والتراب، وما سوى ذلك إذا خالط الماء فسلبه صفة من صفاته بطل عدُّه ماء، ولا يجري تصنيفه في أقسام المياه الطَّهورة.
1 / 11
من كل ما سبق يتبين لنا أنه لا يوجد شيءٌ اسمه الماء الطاهر غير الطَّهور، وبذلك يسقط القسم الثاني من أقسام الماء.
الماءُ النَّجِس
أما القسم الثالث من تقسيماتهم وهو الماء النجس فهو صحيح جُملةً، أي أنه موجود في الواقع، ولكن فيه تفصيل لا بد من الوقوف عليه.
لقد افترق الفقهاء في هذه المسألة ثلاث فرق: فرقتين كبيرتين وفرقة ثالثة هي أبو حنيفة وأصحابه. فذهب ابن عباس وأبو هريرة وحذيفة والحسن البصري وسعيد بن المسيِّب وعطاء وعكرمة وجابر بن زيد وابن أبي ليلى والثوري وداود وإبراهيم النخعي ويحيى القطان والأوزاعي وعبد الرحمن بن مهدي ومحمد بن المنذر ومالك بن أنس وأحمد بن حنبل في رواية عنه والشافعي في رواية عنه إلى أن الماء إذا خالطته نجاسة فغلبت عليه وسلبته اسمه وغيَّرت أوصافه صار نجسًا، وإذا خالطته نجاسة فلم تغيِّر أوصافه ولم تسلبه اسمه ظل طَهورًا، سواء كان الماء قليلًا أو كثيرًا.
وذهب عبد الله بن عمر وسعيد بن جبير ومجاهد وإسحق وأبو عبيد، والشافعي وأحمد في المشهور عنهما إلى أن الماء إذا كان قُلَّتين فأكثر وخالطته نجاسة فغلبت عليه وسلبته اسمه وغيَّرت أوصافه صار نجسًا، وإذا كان دون القُلَّتين تنجَّس بحلول النجاسة فيه، سواء غيرت اسمه وأوصافه أو لم تغيِّر، قليلةً كانت أو كثيرة. وسنعرض لرأي كلٍّ من هذين الفريقين ونناقشهما، ثم نعرض لرأي أبي حنيفة وأصحابه.
استدل الفريق الأول على رأيهم بالأحاديث الآتية:
١ - عن أبي سعيد الخُدري ﵁ قال «قيل: يا رسول الله أنتوضأ من بئر بُضاعة؟ - وهي بئر يُلقى فيها الحِيَض ولحومُ الكلاب والنتنُ - فقال رسول الله ﷺ: إن الماء طَهور لا يُنجِّسه شيء» رواه الترمذي وحسَّنه. ورواه أبو داود، وصححه أحمد ويحيى بن معين وابن حزم.
1 / 12
٢ - عن أبي هريرة ﵁ قال «سُئل رسول الله ﷺ عن الحياض التي تكون فيما بين مكة والمدينة، فقيل له: إن الكلاب أو السباع تَرِدُ عليها؟ فقال: لها ما أخذت في بطونها ولنا ما بقي شراب وطَهور» رواه الدارقطني. ورواه الطبراني من طريق سهل. ورواه البيهقي من طريق أبي سعيد الخدري وقال: إسناده حسن. إلا أن الهيثمي والحاكم وابن الجوزي قد ضعَّفوه.
٣- عن أبي أُمامة الباهلي قال: قال رسول الله ﷺ «إن الماء لا يُنجِّسه شيء إلا ما غَلَب على ريحِه وطعمِه ولونِه» رواه ابن ماجة والبيهقي. ورواه الدارقطني أيضًا من طريق ثوبان دون قوله «ولونه» . وجميع طرق هذا الحديث ضعيفة. فقالوا إن الرسول ﵊ لم يفرِّق بين القليل والكثير، ولأنه لم تظهر على الماء إحدى صفات النجاسة، فلم ينجس بها كالزائد عن القُلَّتين، وردُّوا حديث القُلَّتين لأنه ضعيف.
واستدل الفريق الثاني بالأحاديث التالية:
١- عن عبد الله بن عمر ﵁ قال «سمعتُ رسول الله ﷺ وهو يُسأل عن الماء يكون في الفلاة من الأرض وما ينوبه من السباع والدواب، قال: فقال رسول الله ﷺ: إذا كان الماء قُلَّتين لم يحمل الخَبَث» رواه الترمذي وأحمد وأبو داود. وفي رواية ثانية لأبي داود «فإنَّه لا ينجس» ورواية ثالثة للحاكم وأحمد «لم يُنجِّسه شيءٌ» وسنعرض بعد قليل لدرجة هذا الحديث.
٢- عن أبي هريرة ﵁ أن النبي- ﷺ قال «إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا، فإنه لا يدري أين باتت يده» رواه مسلم وأحمد وأبو داود والنَّسائي والترمذي. ورواه البخاري ولم يذكر العدد ثلاثًا.
1 / 13
٣ - عن أبي هريرة ﵁ أن رسول الله ﷺ قال «إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فلْيغسله سبع مرات» رواه مسلم والبخاري وأحمد. وفي روايةٍ لمسلم «طُهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهنَّ بالتراب» .
فقالوا: تحديد الحديث الأول بالقُلَّتين يدل على أن ما دونهما ينجس، إذ لو استوى حُكم القُلَّتين وما دونهما لم يكن التحديد مفيدًا. وقالوا عن الحديث الثاني إنه لولا أنه يفيد منعًا لم ينه عنه. وعن الحديث الثالث قالوا: أمر الرسول ﵊ بغسل الإناء من ولوغ الكلب وإِراقةِ سُؤْرِه، ولم يفرِّق بين ما تغير وما لم يتغير، مع أن الظاهر عدم التغيُّر، وردُّوا حديث أبي أُمامة الذي رواه ابن ماجة وغيره لأنه ضعيف. واستشهد الفريقان بأشياءَ أخرى، وقالوا كلامًا آخر دون الكلام الأول سنعرض له في المناقشة بإذن الله.
من استعراض أدلة الفريقين وما استنبطوه من أحكام يتبين أن الخلاف بينهما ليس واسعًا فالماء قسمان - ما دون القُلَّتين، وقُلَّتان فأكثر - أما ما كان قُلَّتين فأكثر فقد اتفق الفريقان على أنه لا ينجس بوقوع النجاسة فيه، إلا إذا غيَّرت النجاسة أوصافه وسلبته اسمه، أما إذا وقعت فيه فلم تسلبه اسمه ولم تغير أوصافه بقي طَهورًا - أما أبو حنيفة وأصحابه فإن لهم رأيًا مختلفًا سنعرض له فيما بعد كما قلنا - أما ما كان دون القُلَّتين فقد اتفقوا أيضًا على أنه إذا وقعت فيه نجاسة فغيَّرته وسلبته اسمه صار نجسًا، وهذا قول صحيح أيضًا. قال محمد بن المنذر (أجمع العلماء على أن الماء القليل والكثير إذا وقعت فيه نجاسة فغيَّرت له طعمًا أو لونًا أو ريحًا فهو نجس) . بقي الماء دون القُلَّتين وأصابته نجاسة قليلة لم تغير وصفه ولا سلبته اسمه، هذا الماء فقط هو مدار الخلاف بين الفريقين هذين، ونناقش هذه المسألة فنقول:
1 / 14
إن الماء إذا بلغ قُلَّتين فأكثر وخالطته نجاسة يسيرة فلم تغيِّر وصفه ولم تسلبه اسمه بقي طَهورًا، وإذا كثرت النجاسة بحيث سلبته اسمه وغيَّرت وصفه صار نجسًا، وهذا الأخير واضح فيه خروجه من أقسام المياه، وأنه بالتالي لا يصح إدراجه في أقسام المياه، لأنه خرج عن كونه ماء، فيكون مثل الماء الذي خالطته أشياء طاهرة فغيَّرت أوصافه وسلبته اسمه، والذي أخرجناه من قبلُ من أقسام المياه. وما قلتُه عن هذا الماء أقوله عن الماء الذي دون القُلَّتين وخالطته نجاسة فغيَّرت وصفه وسلبته اسمه، فإنه يخرج هو الآخر عن كونه ماء، وبالتالي لا يصح إِدراجه في أقسام المياه.
أما الماء النجس المتبقي والذي يُدْرَج في أقسام المياه فهو ما كان دون قُلَّتين وخالطته نجاسة يسيرة لم تغيِّر وصفه ولم تسلبه اسمه، فهذا يُدرج في أقسام المياه، وهذا الماء هو المختَلَف فيه بين الفريقين: فريق يقولون بنجاسته، والآخرون يقولون بطُهوريته.
وبالنظر في أدلة الفريقين يتبين أن الفريق الأول أخذوا بعمومات الأدلة، بينما استشهد الفريق الثاني بالأدلة المخصِّصة، ولذا بقي الخلاف بينهما، وكان يمكن لهذا الخلاف أن ينتهي لو وافق الفريق الأول الفريق الثاني على أدلة التخصيص هذه، ولكنهم رفضوا منها ما رفضوا وتأوَّلوا منها ما تأوَّلوا، ولهذا السبب استمر الخلاف ولم ينته. ونحن سنعمل على استعراض هذه الأحاديث من حيث السند والمتن، ثم ننظر في دلالاتها منطوقًا ومفهومًا كي نصل في هذه المسألة إلى الرأي الراجح بإذن الله.
1 / 15
١- حديث أبي سعيد «إن الماء طَهور لا يُنجِّسه شيء» يصلح للاحتجاج، لأن أحمد وابن معين وابن حزم قد صحَّحوه. هذا الحديث منطوقه يفيد العموم، لأن كلمة (الماء) المعرَّفة بأل الجنس عامة تشمل كل ماء، فالحديث عام ليس فيه تخصيص، وحديث الحياض الذي فيه «لها ما أخذت في بطونها ولنا ما بقي شراب وطَهور» مطلق في الماء من حيث الكمية، لأن كلمة «لنا ما بقي» مطلقة دون تقييدٍ بحجم أو كيل فتظل على إطلاقها، فليس في الحديثين تخصيص وإنما هما يفيدان العموم والإطلاق.
على أن حديث الحياض ليس سوى إسنادٍ للحديث الأول، فليس فيه جديد، ولذا فلو طعن فيه المُحدِّثون وأسقطوه لما تأثر حكم القائلين بعدم التخصيص، فالأمر سيَّان العملُ به أو ردُّه. أما الحديث الثالث فنصفه الأول «إن الماء لا ينجِّسه شيء» يماثل في لفظِهِ الحديثَ الأول، وأما الاستثناء في آخره «إلا ما غَلَب على ريحه وطعمه ولونه» فأقول: حيثما ورد الاستثناء في روايات هذا الحديث فهو ضعيف، فقد رواه ابن ماجة والدارقطني من طريق أبي أُمامة وفي سنده رشدين بن سعد وهو متروك، ورواه الدارقطني أيضًا من طريق ثوبان بلفظ «الماء طَهور إلا ما غَلَب على ريحه أو على طعمه» وفي سنده أيضًا رشدين بن سعد، وهو متروك كما ذكرنا. وروى البيهقي هذا الحديث عن أبي أُمامة عن النبي ﷺ قال «إن الماء طاهر إلا إنْ تغيَّر ريحُه أو طعمُه أو لونُه بنجاسةٍ تَحدُث فيه» وفيه أيضًا رشدين. قال الشافعي: وما قلت من أنه إذا تغيَّر طعم الماء ولونه وريحه كان نجسًا يُروى عن النبي من وجه لا يُثبِت أهل الحديث مثلَه. وقال الدارقطني (لا يَثبُت هذا الحديث) وقال النووي (اتفق المُحدِّثون على تضعيفه) . فيسقط الاحتجاج بالحديث. ومع ذلك يبقى الحكم قائمًا ودليله الحديث الأول.
1 / 16
وأود أن أشير هنا إلى أن هذا الحديث وإن كان ضعيفًا، أو كان الاستثناء الذي فيه ضعيفًا إلا أن معناه صحيح، وهو ما حققناه من قبل في بحث تحقيق مناط الماء. قال الشافعي والبيهقي وغيرهما: الإجماع على أن التغيُّر بالنجاسة ريحًا أو لونًا أو طعمًا نجس. وهم يعنون بالإجماع هنا إجماع العلماء، وقد سقنا من قبل قول ابن المنذر بهذا الخصوص فلا نعيد، وأثبتنا هناك أن هذا الأمر لا يحتاج إلى نصوص.
٢- رد الفريق الأول حديث القُلَّتين وقالوا إنه ضعيف لأنه مضطرب سندًا ومتنًا، فلا ينتهض عندهم لتخصيص الحديث الأول، فيظل الحكم على عمومه، وقالوا إن مدارَه على الوليد بن كثير عنه عن محمد بن جعفر بن الزبير، وقيل عنه عن محمد بن عباد بن جعفر، وقيل عنه عن عبيد الله بن عمر، وقيل عنه عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، وهذا اضطراب في السند. وقالوا إنه قد رُوي أيضًا بلفظ «إذا كان الماء قدر قُلَّتين أو ثلاث لم ينجِّسه شيء» كما في روايةٍ لأحمد والدارقطني. وبلفظ «إذا بلغ الماء أربعين قُلَّة فإنه لا يحمل الخَبَث» كما في روايةٍ للدارقطني من طريق جابر بن عبد الله. وهذا اضطراب في المتن.
فنجيبهم على دعوى الاضطراب في الإسناد بأن هذا لا يُعدُّ اضطرابًا لأنه انتقالٌ من ثقة إلى ثقة. قال ابن حجر (وعند التحقيق أنه عن الوليد بن كثير عن محمد بن عباد بن جعفر عن عبد الله بن عمر المكبر، وعن محمد بن جعفر بن الزبير عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر المصغر وما سوى ذلك وهْمٌ) وهؤلاء كلهم ثِقات. وللحديث طريق ثالثة عند الحاكم جوَّد إسنادها يحيى بن معين، وقال الحاكم (صحيح على شرطهما وقد احتجَّا بجميع رواته) وقال ابن منده: إسناد حديث القُلَّتين على شرط مسلم. وبذلك يتضح أن سنده صحيح.
1 / 17
أما دعوى الاضطراب في المتن فهي ساقطة أيضًا، فإن رواية «وثلاث» شاذة، ورواية «أربعين قُلَّة» ضعيفة ضعَّفها الدارقطني بالقاسم بن عبد الله العُمَري فلا يُحتج بها، وهذا لا يهمُّ ما دامت رواية القُلَّتين ذات إسناد جيد.
٣- ولكنهم لم يتوقفوا عن الطعن في هذا الحديث، فقالوا إن القِلال غير معلومة المقدار، وإنَّ تقييد من أخذوا بالحديث للقِلال بقِلال هَجَر غير مقبول، وردوا الرواية التي قيدتها بقِلال هَجَر بأنها من رواية المغيرة بن صقلاب وهو منكر الحديث. هذه حجتهم في الرد أيضًا، وهي حجة واهية لأن الرسول ﵊ حينما يذكر كيلًا أو وزنًا يُفسَّر ويُحدَّد بمعرفة ما كان الناس عليه زمنه ﵊، ولا يلزم أن يقع ذلك في حديثه ﵊. فبالرجوع إلى ما كان عليه المسلمون زمن الرسول ﵊ نجد أن قِلال هَجَر هي التي كانت شائعة فيهم، فلا يُصار إلى غيرها إلا بنص، فقد كثر استعمال العرب لها في أشعارهم كما قال أبو عبيد في كتاب الطهور، وروى البيهقي عن مالك ابن صعصعة عن النبي ﷺ، فذكر حديث المعراج وفيه «ثم رُفِعتُ إلى سِدْرة المُنْتَهى، فحدَّث نبي الله ﷺ أن ورقها مثل آذان الفيلة وأن نَبقَها مثل قِلال هَجَر» وقال بعد ذلك (مخرَّج في الصحيحين من حديث ابن أبي عروبة)، وهذا يدل على أنها كانت مشهورة فعلًا، ولذا لا يضيرنا ضعف رواية المغيرة بن صقلاب لأنها ليست بلازمة.
1 / 18
إذن حديث القُلَّتين صالح للاحتجاج ولا يضيره أن عددًا من الأئمة ضعَّفوه، لأنه لا يكاد يخلو حديث من تضعيف إمام أو أكثر، ولو شئنا أن نردَّ عليهم بمثل ردهم لقلنا بضعف حديث أبي سعيد «الماء طَهور لا يُنجِّسه شيء» لأن الدارقطني قال عنه إنه ليس بثابت، وأعلَّه ابن القطان بجهالة راويهِ عن أبي سعيد واختلاف الرواة في اسمه واسم أبيه ولكننا لا نفعل وإلا تعطل العديد من الأحكام. فهذا الحديث صحيح ويُحتج به لأن أحمد قال: حديث بئر بُضاعة صحيح. وصححه أيضًا يحيى بن معين وابن حزم والحاكم، حتى إن ابن القطان قال بعد تضعيف الحديث: له طريق أحسن من هذه. فالمطلوب حين العمل بالأحاديث أن تصح منها رواية واحدة ولو ضُعِّفت سائر رواياتها، وهذا الحديث قد صحت منه أكثر من رواية، فيُعمل به وهو صالح للتخصيص.
قال الشَّوكاني (والحاصل أنه لا معارضة بين حديث القُلَّتين وحديث الماء طَهورٌ لا ينجِّسه شيء، فما بلغ مقدار القُلَّتين فصاعدًا فلا يحمل الخبث ولا ينجس بملاقاة النجاسة، إلا أن يتغير أحد أوصافه فنجس بالإجماع، فيخص به حديث القُلَّتين وحديث لا ينجِّسه شيء، وأما ما دون القُلَّتين فإنْ تغير خرج عن الطهارة بالإجماع وبمفهوم حديث القُلَّتين، فيخص بذلك عموم حديث لا ينجِّسه شيء، وإنْ لم يتغير بأن وقعت فيه نجاسة لم تغيره، فحديث لا ينجِّسه شيء يدل بعمومه على عدم خروجه عن الطهارة لمجرد ملاقاة النجاسة، وحديث القُلَّتين يدل بمفهومه على خروجه عن الطُّهورية بملاقاتها) .
٤- ما قلناه عن الحديث الثاني والحديث الثالث من أدلة الأولين من أنهما غير لازمَيْن لإثبات رأيهم نقوله عن حديثي الاستيقاظ وولوغ الكلب، وذلك بعد ثبوت الحجة بحديث القُلَّتين هذا عدا عن أن حديث الاستيقاظ ليس منطبقًا على المشكلة لأنه ليس بحثًا في النجاسة، وإنما هو بحث في الاستقذارِ، والنجاسةُ فيه مرجوحة.
1 / 19
أما حديث الولوغ فهو في النجاسة وإن كان المالكية صرفوه عنها بادِّعاء الناحية التعبدية فيه حتى تطرَّفوا في الحكم، فاعتبروا سُؤر الكلب طاهرًا يجوز التوضؤ به. وثانيًا لو افترضنا أنهما في لبِّ المشكلة فليس فيهما تحديدٌ لكمية الماء التي تتنجس إن أصابتها نجاسة، فإن كلمة (إناء) الواردة في حديث الولوغ وفي حديث الاستيقاظ في رواية له «إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يُدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات، فإنَّ أحدكم لا يدري أين باتت يده أو أين كانت تطوف يده» رواه أبو داود من طريق أبي هريرة. ورواه الترمذي وابن ماجة. هذه الكلمة لا تفيد تحديدًا كحديث القُلَّتين، وكل ما تفيده أن الماء قليل، فيقتضي منا بعدئذ البحث عن دليل آخر يحدد هذا القليل، وهكذا نعود أدراجنا إلى حديث القُلَّتين. ولسوف نناقش هذين الحديثين بما يغني في باب الماء المستعمَل وباب النجاسات بإذن الله.
٥- حشد الفريق الثاني زيادةً على ما سبق مجموعةَ أدلة لا تغني شيئًا ولا تُثبت حجة أُوردها هنا التزامًا بالنقل فقط، ولن أطيل الوقوف عندها لأنها ظاهرة في عدم انطباقها على موضوع البحث وهاكم الأحاديث:
أ - عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال «لا يبولنَّ أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل فيه» رواه البخاري ومسلم وأحمد والنَّسائي وأبو داود.
ب - عن وابصة بن مَعْبَد أن رسول الله ﷺ قال له «يا وابصة استفتِ قلبك واستفتِ نفسك، ثلاث مرات، البِرُّ ما اطمأنت إليه النفس والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتَوْك» رواه أحمد والدارمي، وحسنه السيوطي والنووي.
ج - سُئل الحسن بن علي «ما حفظتَ من رسول الله ﷺ؟ قال: حفظتُ من رسول الله ﷺ: دع ما يَريبك إلى ما لا يَريبك ...» رواه التِّرمذي وصحَّحه، وصحَّحه أحمد وابن حِبَّان.
1 / 20