La voie claire dans le voyage nocturne
المحجة في سير الدلجة
Chercheur
أبي مصعب طلعت بن فؤاد الحلواني
Maison d'édition
الفاروق الحديثة للطباعة والنشر
Numéro d'édition
الأولى
Année de publication
١٤٢٥ هـ - ٢٠٠٤ م
Genres
المحجة في سير الدلجة
4 / 389
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
خرَّج البخاري ﵀ في "صحيحه" (١) من حديث أبي هريرة ﵁ عن النبي ﷺ قال: "لن يُنَجِّيَ أحدًا منكم عملُه".
قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟
قَالَ: "ولا أنا إلاَّ أن يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ برحمتِهِ، سَدِّدوا وقاربوا واغدوا ورُوحوا وشيءٌ من الدُّلجة، والقصدَ القصدَ تبلغوا".
وخرَّجه أيضًا (٢) في "موضع آخر" (*) في كتابه، ولفظه: "إن هذا الدِّين يُسر، ولن يشادَّ الدينَ أحدٌ إلاَّ غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة".
وخرج أيضًا (٣) من حديث عائشة ﵂ عن النبيّ ﷺ أنّه قَالَ: "سدّدوا وقاربوا وأبشروا، فإنَّه (لا يُدخل الجنةَ أحدًا عملُه) (**) ". قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟
قَالَ: "ولا أنا إلاَّ أن يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ برحمتِهِ" (...) ".
وخرج أيضًا (٤) من حديثها عن النبيّ ﷺ قَالَ: "سدّدوا وقاربوا واعلموا أنّه لن يُدخل أحدَكم عملُه الجنة، وإنَّ أحبَّ الأعمال إِلَى الله أدومها وإنْ قلَّ".
اشتملت هذه الأحاديثُ الشريفةُ عَلَى أصلٍ عظيمٍ، وقاعدةٍ مهمةٍ. ويتفرع عليها مسائلُ شتَّى من مسائِل السير والسلوك إلى الله تعالى في طريقه الموصل إِلَيْهِ.
_________
(١) برقم (٦٤٦٣).
(٢) برقم (٣٩).
(*) مواضع آخر: "نسخة".
(٣) برقم (٦٤٦٧).
(**) (لن يَدخلَ الجنةَ أحد بعمله): "نسخة".
(...) بمغفرته ورحمته: "نسخة".
(٤) برقم (٦٤٦٤).
4 / 391
الأصل العظيم
أمَّا الأصلُ (فهو أنَّ عمل الإنسان لا يُنْجِيه) (*) من النَّار ولا يُدْخِله الجنَّة، وإنَّ ذلك كلَّه إِنَّمَا يحصل بمغفرة الله ورحمته.
وقد دلَّ القرآن العزيز عَلَى هذا المعنى في مواضع كثيرة كقوله تعالى: ﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ [آل عمران: ١٩٥]. وقوله: ﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ﴾ [التوبة: ٢١]، وقوله: ﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ [الصف: ١١ - ١٢].
فَقَرَن بين دخول الجنة والنجاة من النار وبينَ المغفرة والرحمة فدلَّ عَلَى أنّه لا يُنال شيء من ذلك بدون مغفرة الله ورحمته.
قَالَ بعض السَّلف: الآخرة إمَّا عفو الله أو النار، والدنيا إما عصمة الله أو الهلكة.
وكان محمد بن واسع يودع أصحابه عند موته ويقول: عليكم السلام إِلَى النار أو يعفو الله.
...
_________
(*) فإن الإنسان لا ينجيه عمله: "نسخة".
4 / 392
بيان معنى الباء في الآية والحديث
فأما قوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الزخرف: ٧٢]، وقوله: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾ [الحاقة: ٢٤]، فقد اختلف العُلَمَاء في معنى ذلك عَلَى قولين:
أحدهما: أنَّ دخول الجنة (برحمته) (*)، ولكن انقسام المنازل بحسب الأعمال.
قَالَ ابن عيينة: كانوا يرون النجاة من النار بعفو الله ودخول الجنة بفضله واقتسام المنازل بالأعمال.
والثاني: أنَّ الباء المثبتة، في قوله تعالى: ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ وقوله ﴿بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾، باء السببية، وقد جعل الله العمل سببًا لدخول الجنة.
والباء المنفية في قوله ﷺ: "لن يَدخلَ أحدٌ الجنة بعمله"، باء المقابلة والمعاوضة، والتقديرُ لن يستحقَّ أحدُ دخول الجنة بعمل يعمله. فأزال بذلك توهم من يتوهم أنَّ الجنة ثمن الأعمال، وأنَّ صاحب العمل يستحق عَلَى الله دخول الجنة كما يستحق من دفع ثمن سلعة إِلَى صاحبها تسليم سلعته، فنفى بذلك هذا التوهم، وبيَّن أن العمل وإن كان سببًا لدخول الجنة، فإنما هو من فضل الله ورحمته.
فصار الدخول مضافًا إِلَى فضل الله ورحمته ومغفرته؛ لأنّه هو المتفضل بالسبب والمسيَّب المرتَّب عليه، ولم يبق الدخول مرتبًا عَلَى العمل نفسه.
في "الصحيح" (١) عن النبى ﷺ: "إن الله تعالى يقول للجنة: أنتِ
_________
(*) برحمة الله: "نسخة".
(١) أخرجه البخاري (٤٨٥٠)، ومسلم (٢٨٤٦).
4 / 393
رحمتي أرحمُ بكَ مَنْ أشاء مِنْ عبادي".
ما للعباد عليه حقٌّ واجب ... كلا ولا (سعي) (*) لديه ضائع
إن عُذِّبو فبعدلِهِ أو نُعِّمُوا ... فبفضله وهو الكريمُ الواسع
...
_________
(*) فضل: "نسخة".
4 / 394
الحمد لله ثمن كل نعمة
فإن قيل: فقد روى حبيب بن الشهيد عن الحسن أنّه قَالَ: "الحمد لله ثمن كل نعمة، ولا إله إلاّ الله ثمن الجنة".
ورُوي هذا المعنى مرفوعًا من حديث أنس (١) وأبي ذر وغيرهما، وإن كان في (أسانيدها) (*) ضعف.
ويشهد لذلك قوله ﷿: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: ١١١]. فجعل الجنة ثمنًا للنفوس والأموال.
فالجواب أنَّ الله ﷾ بفضله ورحمته وكرمه، ومنِّه وطَوْله، خاطب عباده بما ندبهم إِلَيْه من طاعته عَلَى حسب ما يتعارفونه بينهم في تصرفاتهم المعهودة المألوفة لهم.
وجعل نفسه مشتريًا منهم ومستقرضًا وجعلهم بائعين له ومقرضين ليكون ذلك أدعى إِلَى (استجابتهم) (**) لدعوته ومبادرتهم إِلَى طاعته، وإلاَّ ففي الحقيقة الكلُّ له (ومِلْكه) (...) ومن فضله وإحسانه ورحمته. فالنفوسُ والأموالُ كلُّها ملكٌ له، كما أمرنا عند المصائب أن نقول: ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ [البقرة: ١٥٦].
ومع هذا فقد مدح من بذل له نفسه وماله وجعله بائعًا له ومقرضًا، كالذي
_________
(١) أورده الديلمي في مسند الفردوس (٢٥٤٨)، ولم أقف عليه عن أبي ذر.
(*) إسنادهما: "نسخة".
(**) استجلابهم: "نسخة".
(...) ملك: "نسخة".
4 / 395
له ملكٌ يبيعه ويقرضه لغيره مِمَّن لا يملكه عليه كذلك الأعمالُ كلُّها من فضله ورحمته، وقد مدح عليها ونسبها إِلَى عاملها وجعلها شكرًا منهم لنعمه ومكافأة لها.
***
4 / 396
بيان معنى النعم وأنّ الحمد منها
وقد روى ابن ماجه (١) من حديث أنس مرفوعًا: "ما أنعم الله عَلَى عبدٍ نعمةً فَقَالَ: الحمد لله إلاَّ كان ما أُعْطِي أفضلَ مما أخذ".
وكذا قَالَ عمر بن عبد العزيز والحسن وغيرهما من السَّلف.
وأُشكل ذلك عَلَى كثير من العُلَمَاء قديمًا وحديثًا، وعلى ما قررناه معناه ظاهرٌ، فإنَّ المراد بالنعم: النعم الدنيوية، والحمد: من النعم الدينية.
والنعم الدينية أفضل من النعم الدنيوية، ولكن لما كان الحمد منسوبًا إِلَى العبد لفعله له، وقيامه به، جعله الله معطيًا لأعظم النعمتين، مكافئًا بها للنعمة الأخرى.
ولهذا جاء في الأثر "الحمد لله حمدًا يوافي نعمه ويدافع نقمه ويكافئ مزيده" (٢).
فبهذا الاعتبار يكون الحمد ثمنًا للجنة.
...
_________
(١) برقم (٣٨٠٥) وقال في الزوائد: إسناده حسن، شبيب بن بشر مختلف فيه.
(٢) أورده المنذري في التركيب (٢٤٢٨ - دار الكتب العلمية) بلفظ: روي، وعزاه للبخاري في "الضعفاء".
4 / 397
الجنة والعمل من فضل الله تعالى
وعند تحقيق النظر فالجنة والعمل كلاهما من فضل الله ورحمته عَلَى عباده المؤمنين؛ ولهذا يقول أهل الجنة عند دخولها: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ﴾ [الأعراف: ٤٣].
فلما اعترفوا لله بنعمته عليهم بالجنة وبأسبابها من الهداية، وحمدوا الله عَلَى ذلك كله جُوزُوا بأَنْ نُودُوا: ﴿أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: ٤٣] فأضيف العمل إليهم وشُكروا عليه.
ونظير هذا ما قاله بعض السَّلف: إنَّ العبد إذا أذنب ثم قَالَ: يا رب أنت قضيت عَلَيَّ، قَالَ له ربه: أنتَ أذنبت وأنت عصيت، فإن قَالَ العبد: يا رب أنا أخطأت وأنا أسأت، وأنا أذنبت.
قَالَ الله: أنا قضيت عليك وقدرت، وأنا أغفر لك.
***
4 / 398
الشقاء والسعادة بعدله ورحمته جلَّ وعلا
ومما يتحقق به معنى قول النبيّ ﷺ: "لَنْ يدخلَ أحدٌ الجنةَ بِعملِهِ"، أو "لَنْ ينجّيَ أحدًا عملُهُ"، أن مضاعفة الحسنات إِنَّمَا هي من فضل الله ﷿ وإحسانه، حيث جازى بالحسنة عشرًا ثم ضاعفها إِلَى سبعمائة ضعف إِلَى أضعاف كثيرة. فهذا كله فضل منه ﷿، ولو جازى بالحسنة مثلها كالسيئات لم تقوَ الحسنات عَلَى إحباط السيئات، فكان يهلك صاحبُ العمل لا محالة.
كما قَالَ ابن مسعود ﵁ في صفة الحسنات: إن كان وليًّا لله فَفَضل له مثقال ذرة ضاعفها الله له حتى يُدخله بها الجنة، وإن كان شقيًّا قَالَ المَلَك: يا رب فَنِيت حسناته وبقي له طالبون كثير؟
قَالَ: خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إِلَى سيئاته ثم صكوا له صكًّا إِلَى النار (١).
فتبيَّن بهذا أن من أراد اللهُ سعادَتَهُ أضعفَ اللهُ له حسناته حتى يستوفي (منها) (*) الغرماء، ويبقي له منها مثقال ذرة فتضاعف له ويدخل بها الجنة، وذلك من فضل الله ورحمته.
ومن أراد الله شقاوته وله غرماء لم تضاعف حسناته كما تضاعف لمن أراد الله سعادته، بل يضاعفها عشرًا فتقسم عَلَى الغرماء فيستوفونها كلها، وتبقى لهم عليه مظالم فيطرح عليه من سيئاتهم فيدخل بها النار، قهذا عدله (وذاك) فضله (**).
ومن هنا قَالَ يحيى بن معاذ: إذا بسط فضله لم يبق لأحد سيئة، وإذا جاء
_________
(١) أخرجه ابن المبارك في الزهد (١٤١٦)، والطبري في تقسيره (٥/ ٨٩ - ٩٠)، (١٩/ ٥٤ - ٥٥)، وعزاه ابن كثير (١/ ٤٩٨) لابن أبى حاتم والطبري وقال: ولبعض هذا الأثر شاهد في الحديث الصحيح.
(*) منه: "نسخة".
(**) وذلك: "نسخة".
4 / 399
عدله لم يبق لأحد حسنة.
وأيضًا، فقد ثبت عن النبيّ ﷺ أنّه قَالَ: "من نُوقش الحساب هلك" (١)، وفي رواية "عُذِّب" (٢)، وفي رواية "خصم" (٣).
وخرَّج أبو نعيم (٤) من حديث علي ﵁ مرفوعًا: "أوحى الله إِلَى نبي من أنبياء بني إسرائيل: قُلْ لأهل طاعتي من أمتك لا يتكلوا عَلَى أعمالهم فإني لا (أقاص) (*) عبدًا الحساب يوم القيامة أشاء أن أعذبه إلاَّ عذبته. وقل لأهل معصيتي من أمتك: لا يلقوا بأيديهم، فإني أغفر الذنب العظيم ولا أبالي.
وقال عبد العزيز بن أبي روّاد: أوحى الله إِلَى داود ﵇: يا داود بشِّر المذنبين وأنذر المُصَّدقين: فكأنه عَجِبَ، فَقَالَ: يا رب، أبشر المذنبين وأنذر (المُصَّدقين) (**)؟!
قَالَ: نعم، بشِّر المذنبين أنّه لا يتعاظمني ذنب أغفره، وأنذر المصدقين أني لا أضع عدلي وحسابي عَلَى (عبد) (...) إلاَّ هلك (٥).
قَالَ ابن عيينة: المناقشة سوء الاستقصاء حتى لا يترك منه شيء.
_________
(١) أخرجه البخاري (٤٩٣٩)، ومسلم (٢٨٧٦/ ٨٠).
(٢) أخرجه البخاري (٦٥٣٦)، ومسلم (٢٨٧٦/ ٧٩).
(٣) أخرجه الحاكم في المستدرك (٤/ ٦٢٣).
(٤) في "الحلية" (٤/ ١٩٥) وقال: غريب من حديث أبي عبد الرحمن، لم نكتبه إلاَّ من حديث أبي داود الضمري، تفرد به مختار، وأخرجه الطبراني في الأوسط (٤٨٤٤)، وقال: لا يروي هذا الحديث عن أبي عبد الرحمن السلمي، إلاَّ عبد الأعلى، تفرد به عيسى بن مسلم، ولا يروى عن علي إلاَّ بهذا الإسناد.
وقال الهيثمي في المجمع (١٠/ ٣٠٧): وفيه عيسى بن مسلم الطهوي، قَالَ أبو زرعة: لين، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي يكتب حديثه، وبقية رجاله ثقات إن شاء الله.
(*) من "الحلية"، وفي نسخة: "أناضل" وعلى حاشيتها: "أناقش". وفي نسخة: "أناض" وعلى حاشيتها: لعل الصواب "أقاضي".
(**) الصادقين: "نسخة".
(...) أحد: "نسخة".
(٥) أخرجه أبو نعيم في الحلية (٨/ ١٩٥) وبين ابن أبي رواد وداود ﵇ مفاوز تنقطع فيها أعناق المطي.
4 / 400
وقال ابن زيد: الحساب الشديد الَّذِي ليس فيه شيء من العفو، والحساب اليسير الَّذِي تغفر ذنوبه وتقبل حسناته.
فتبين بهذا أنّه لا نجاة للعبد بدون المغفرة والعفو والرحمة والتجاوز، وأنه متى أقيم العدل المحض عَلَى عبد هَلك.
ومما يبين ذلك أيضًا قوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾ [التكاثر: ٨]، فهذا يدلُّ عَلَى أن الناسُ يسألون عن النعيم في الدُّنْيَا، وهل قاموا بشكره أم لا؟ فمن طولب بالشكر عَلَى كل نعمة من عافية وستر وصحةِ جسم وسلامة حواسٍّ وطيب عيش واستُقصي (ذلك عليه) (*)، لم تَفِ أعمالُهُ كلُّها بشكر بعض هذه النعم، وتبقى سائر النعم غير مقابلة بشكر فيستحق صاحبها العذاب بذلك.
وخرَّج الخرائطي في "كتاب الشكر" (١) من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعًا: "يؤتى بعبد يوم القيامة فيوقفُ بين يدي الله ﷿ (فيقول الله للملائكة) (**): انظروا في عمل عبدي (ونعمتي) (...) عليه. فينظرون فيَقُولُونَ: ولا بقدر نعمةٍ واحدةٍ من نعمك عليه.
فيقول: انظروا في عمله سيِّئه وصالحه. فينظرون فيجدونه كفافًا، فيقول: عبدي قد قبلتُ حسناتِكَ وغفرتُ لك سيئاتِكَ، وقد وهبت لك (نعمي) (****) فيما بين ذلك".
وخرَّج الطبراني (٢) من حديث ابن عمر ﵄ مرفوعًا: "إنَّ الرجلَ يأتي يوم القيامة بالعمل لو وُضِعَ عَلَى جبلٍ لأثقله، فَتَقْدُم النعمة من نعم الله
_________
(*) عَلَى ذلك: "نسخة".
(١) وأورده ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (ص ٢٤٤) بقوله: وروى الخرائطي بإسناد فيه نظر.
(**) فيقول لملائكته: "نسخة".
(...) ونعمي: "نسخة".
(****) نعمتي: "نسخة".
(٢) في "المعجم الكبير" (١٢/ ١٣٥٩٥)، وقال الهيثمي (١٠/ ٤٢٠): فيه أيوب ابن عتبة، وهو ضعيف.
4 / 401
فتكاد أن تستنفد ذلك، إلاَّ أن يتطاول الله برحمته".
وخرَّج ابن أبي الدُّنْيَا (١) من حديث أنس ﵁ مرفوعًا: "يؤتى (بالنعم) (*) يوم القيامة ويؤتى بالحسنات والسيئات فيقول الله لنعمة من نعمه: خذي حقَّك من حسناته، فما تترك له حسنة إلاَّ ذهبت بها".
وبإسناده عن وهب بن مُنَبِّه قَالَ: عَبَدَ عابدٌ خمسين (عامًا) (**)، فأوحى الله إِلَيْهِ: إني قد غفرت لك. قَالَ: يا رب (ولم لا) (...) تغفر لي ولم أذنب؟ فأذن الله لِعرق في عنقه فضرب عليه فلم ينم ولم يصلِّ، ثم سكن (ونام) (****) فأتاه ملك فشكى إِلَيْه ما لقي من ضربان العرق، فَقَالَ المَلك: إن ربك ﷿ يقول: عبادتك خمسين سنة تعدل سكون (ذا) (*****) العرق.
وفي صحيح (٢) الحاكم عن جابر ﵁ مرفوعًا عن جبريل ﵇: "إنَّ عابدًا عَبَدَ الله ﷿ عَلَى رأس جبلٍ في البحر خمسمائة سنة، ثم سأل ربه أن يَقْبِضَه ساجدًا.
قَالَ جبريل: فنحن نمر عليه إذا هبطنا وإذا عرجنا، ونجد في العِلْم أنّه (يُبعث) (******) يوم القيامة فيوقف بين يدي الله ﷿ فيقول الرب ﷿: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي.
_________
(١) في "كتاب الشكر" (٢٤)، وأورده ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (ص ٢٤٣) بقوله: بإسناد فيه ضعف.
(*) بالنعيم: "نسخة".
(**) سنة: "نسخة".
(...) وما: "نسخة".
(****) وقام: "نسخة".
(*****) ذلك: "نسخة".
(٢) أخرجه الحاكم في المستدرك (٤/ ٢٥٠ - ٢٥١) وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، فإن سليمان بن هرم العابد من زهاد أهل الشام، والليث بن سعد لا يروي عن المجهولين. وتعقبه الذهبي نقال: لا والله، وسليمان غير معتمد.
(******) إذا بعث: "نسخة".
4 / 402
فيقول العبد: بعملي يا رب، يفعل ذلك ثلاث مراتٍ.
ثم يقول الله تعالى للملائكة: قايسوا عبدي بنعمي عليه وبعمله، فيجدون نعمة البصر قد أحاطت (بعبادته) (*) خمسمائة سنة، وبقيت نعم الجسد له.
فيقول: أدخلوا عبدي النار.
فيُجر إِلَى النار فينادي (برحمتك يا رب أدخلني الجنة) (**)، فيدخله الجنة.
قَالَ جبريل: إِنَّمَا الأشياء برحمة الله يا محمد".
...
_________
(*) بعبادة: "نسخة".
(**) برحمتك أدخلني الجنة، برحمتك أدخلني الجنة: "نسخة".
4 / 403
ما يجب عَلَى العبد معرفته
فمن حقق معرفة هذه الأمور، عَرَفَ أنَّ العمل وإنْ عظم فإنَّه لا يستقل بنجاة العبد، ولا يستحق به عَلَى الله دخول الجنة، ولا النجاة من النار.
وحينئذٍ فيفلس العبد من عمله وييأس من الاتكال عليه ومن النظر إِلَيْه وإن كثر العمل وحسن.
فكيف بمن ليس له (كثير عملٍ) (*)، وليس له عملٌ حسنٌ؟
فإن هذا ينبغي أن يشغله الفكر في التقصير في عمله، ويشتغل بالتوبة من تقصيره والاستغفار منه.
...
_________
(*) عمل كثير: "نسخة".
4 / 404
الاشتغال بالشكر أعظم النعم
فأما من حَسُن عمله وكثر، فإنه ينبغي له أن يشتغل بالشكر عليه فإن ذلك من أعظم نعم الله عَلَى عبده.
فيجب مقابلته بالشكر عليه وبرؤية التقصير في القيام بشكره.
كما كان وهيب بن الورد إذا سُئل عن أجْر عمل من الأعمال يَقُول: لا تسألوا عن أجرِهِ ولكن سلوا عما يجب عَلَى من هدي له من الشكر عليه.
وكان أبو سليمان يقول: كيف يعجب عاقل بعمله؟
وإنَّما يُعد العمل نعمةً من نعم الله ﷿، وإنما ينبغي له أن يشكر ويتواضع، إِنَّمَا يعجب بعمله القدرية.
يعني: الذين لا يرون أن أعمال العباد مخلوقةٌ لله ﷿.
***
4 / 405
العمل لا يوجب النجاة
وما أحسن ما قَالَ أبو بكر النهشلي يوم مات داود الطائي وقام ابن -السمَّاك بعد دفنه يثني عليه بصالح عمله ويبكي، والناس يبكونه ويصدقونه عَلَى مقالته ويشهدون بما يثني به عليه، فقام أبو بكر النهشلي فَقَالَ: الفهم اغفر له وارحمه ولا تكله إِلَى عمله.
وفي "سنن أبي داود" (١) عن زيد بن ثابت ﵁ مرفوعًا: "لو عَذَّب الله أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالمٍ لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرًا لهم من أعمالهم".
وفي "صحيح الحاكم" (٢) عن جابرٍ ﵁: أن رجلًا جاء إِلَى النبيّ ﷺ فَقَالَ: واذُنوباه واذُنوباه. قالها مرتين أو ثلاثًا.
فَقَالَ رسول الله ﷺ: "قل: اللَّهم مغفرتُك أوسعُ لى من ذنوبي، ورحمتُكَ أرجى عندي من عملي".
فقالها، ثم قَالَ: "عد" فعاد، ثم قَالَ: "عد" فعاد فَقَالَ له: "قم فقد غُفِرَ لك".
ذنوبي إن فكَّرتُ فيها كثيرةٌ ... ورحمةُ ربي مِنْ ذنوبي أوسعُ
وما طمعي في صالحٍ قد عملتُهُ ... ولكنني في رحمةِ اللهِ أطمعُ
...
_________
(١) برقم (٤٦٩٩).
(٢) أخرجه الحاكم في "المستدرك" (١/ ٥٤٣ - ٥٤٤). وقال: حديث رواته عن آخرهم مدنيون ممن لا يعرف واحد منهم بجرح، ولم يخرجاه.
4 / 406
الاعتراف بفضل الله ﷿
فَإِذَا تقرر (هذا) (*) الأصل الشريف العظيم، وعُلم أنَّ العمل بنفسه لا يوجب النجاة من النار ولا دخول الجنة، فضلًا عن أن يوجب بنفسه الوصولَ إِلَى أعلى ما في الجنة من منازل المقربين، والنظرَ إِلَى وجه ربِّ العالمين، وإنما ذلك كله برحمة الله وفضله ومغفرته.
فذلك يوجب عَلَى المؤمن أن يقطع نظره عن عمله بالكلية، وأن لا ينظر إلاَّ إِلَى فضل الله ومنّته عليه.
كما سُئل بعض العارفين: أي الأعمال أفضل؟
قَالَ: رؤية فضل الله ﷿، وأنشد:
إنَّ المقادير إذا ساعدتْ ... ألحَقَت العاجزَ بالحازمِ
...
_________
(*) ذلك: "نسخة".
4 / 407
ما عَلَى العبد للفوز والنجاة
فيتعين حينئذٍ عَلَى العبد المؤمن الطالب للنجاة من النار ولدخول الجنة، وللقرب من مولاه والنظر إِلَيْه في دار كرامته، وإن يطلب ذلك بالأسباب الموصلة إِلَى رحمة الله وعفوه ومغفرته ورضاه ومحبته.
فبها ينال ما عند الله من الكرامة.
إذ الله ﷾ قد جعل للوصول إِلَى ذلك أسبابًا من الأعمال التي جعلها موصلة إليها، وليس ذلك موجودًا إلاَّ فيما شرعه الله لعباده عَلَى لسان رسوله، وأخبر عنه رسوله أنّه يقرِّب إِلَى الله ويوجب رضوانه ومغفرته، وأنه مما يحبُّه الله، أو أنّه من أحبَّ الأعمال إِلَى الله ﷿، فقد قَالَ تعالى: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الأعراف: ٥٦].
وقال تعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ [الأعراف: ١٥٦].
فالواجب عَلَى العبد البحثُ عن خصالِ التقوى وخصال الإِحسان التي شرعها الله في كتابه، أو عَلَى لسان رسوله ﷺ، والتقرب بذلك إِلَى الله ﷿ فإنه لا طريق للعبد يوصله إِلَى رضى مولاه وقربه ورحمته وعفوه ومغفرته سوى ذلك.
***
4 / 408
بيان أَحَبِّ الأعمال إِلَى الله
وقد أشار النبيّ ﷺ في هذه الأحاديث المُشار إليها في أول الجزء من رواية عائشة وأبي هريرة ﵄ إِلَى أنَّ أحبَّ الأعمال إِلَى الله ﷿، شيئان:
أحدهم: ما داوم عليه صاحبه وإن كان قليلًا.
وهكذا كان عمل النبيّ ﷺ وعمل آله وأزواجه من بعده، وكان ينهى عن قطع العمل.
وقال لعبد الله بن عمرو بن العاص ﵄: "لا تكُنْ مثلَ فلانٍ كان يقومُ الليلَ فترك قيام الليل" (١).
وقال: "يُستجاب لأحدكم ما لم يَعْجَلْ فيقول: قد دعوت فلم يُسْتجب لي فيستحسر عنيد ذلك ويَدَع الدعاء" (٢).
قَالَ الحسن: إذا نظر إليك الشيطان فرآك مداومًا عَلَى طاعة الله ﷿ فبغاك وبغاك، فرآك مداومًا مَلَّكَ ورفضك، وإذا رآك مرةً هكذا ومرةً هكذا طمع فيك.
والثاني: أنَّ أحبَّ الأعمال إِلَى الله ما كان عَلَى وجه السداد والاقتصاد والتيسير دون ما كان عَلَى وجه التكلف والاجتهاد والتعسير.
كما قَالَ تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: ١٨٥].
وقال تعالى: ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ﴾ [المائدة: ٦].
وقال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: ٧٨].
_________
(١) أخرجه البخاري (١١٥٢)، ومسلم (١١٥٩/ ١٨٥).
(٢) أخرجه البخاري (٦٣٤٠)، ومسلم (٢٧٣٥/ ٩٢).
4 / 409