Le Livre du Commandement et de l'Interdiction selon le Sens de al-Shafi'i
كتاب الأمر والنهي على معنى الشافعي
Maison d'édition
دار مدارج للنشر
Numéro d'édition
الأولى
Année de publication
١٤٤٠ هـ - ٢٠١٩ م
Lieu d'édition
الرياض
Genres
ملحق بالمقدمات:
كتاب الأمر والنهي على معنى الشافعي ﵀
من مسائل المُزَني ﵁
برواية أبي إسحاق إبراهيم بن إسحاق عنه
المقدمة / 327
رأيت أن أُلحِق بهذه الدراسات كتيِّبًا صغيرًا في حجمه كبيرًا في مضمونه، هو «كتاب الأمر والنهي على معنى الشافعي ﵀ من مسائل المُزَني ﵁ برواية أبي إسحاق إبراهيم بن إسحاق عنه»، وذلك من باب تمام البرِّ وجمعًا لِمَا وصلنا من نصوص المُزَني.
نسخة الكتاب وطبعاته:
وهذا الكتاب وصلنا منه نسخة فريدة من المكتبة الظاهرية برقم: (٢٨٩٥) في اثنتي عشرة صورة، نسخة قديمة يشبه خطها خطوط القرن الثالث، وعليها طبع الكتاب عدة طبعات، أجودها حسب اطلاعي طبعة دار الصديق بتحقيق أنور هشام درويش، لكن قيامي بتحقيق «المختصَر» جعلني أرغب في إلحاق هذا الكتاب بمشروعي فيه، فأعدت قراءة المخطوط وتصحيح الكتاب عليه، ونتج منه بعض اختيارات يسيرة في القراءة خالفت بها طبعة دار الصديق، كما أن المطبوع حذف فيه جزء الأشعار من الكتاب مما ألحقه أبو إسحاق الراوي به، وأنا أوردت ما استطعت قراءته منه، كما زدت على الكتاب فصلًا ألحقت به فيه نصَّين مطوَّلين عن المُزَني في مشروعية النظر وحظر التقليد.
ويجب ملاحظة أن النسخة ليس لها نظام موحد تتبعه في الإملاء، وكثير منه مخالف للمعهود، ومخالف أحيانا للفصيح من الإعراب، وبما أنه لم يكن لدي نسخة أخرى غير هذه أعتمد عليها في التصحيح .. رأيت الحفاظ على ما في المخطوط من طرق الإملاء والإعراب، ولن يعسر على اللبيب معرفة ذلك والرجوع به إلى وجهه بأدنى تأمل إن شاء الله.
المقدمة / 329
راوي الكتاب:
وقد ذكر في طرة الكتاب أنه «من مسائل المُزَني ﵁ برواية أبي إسحاق إبراهيم بن إسحاق»، لم يميز الراوي بأكثر من ذلك، ويمكن أن يكون أبو إسحاق الحربي، ولد سنة ثمانٍ وتسعين ومائة، ومات سنة خمس وثمانين ومائتين، وقد ورد في آخر الكتاب روايته بعض الشعر عن أبي إسحاق الوراق، وهو إسماعيل بن أبان (ت ٢١٦ هـ).
نسبة الكتاب:
تبقى قضية نسبة الكتاب، ويظهر في طرة الكتاب ورود أسماء ثلاثة: الشافعي ﵀، والمُزَني ﵁، وأبو إسحاق إبراهيم بن إسحاق، والسؤال: مَنْ صاحب الكتاب ومؤلِّفه؟
فأقول: نُسِب الكتاب في جميع نشراته إلى المُزَني، بيَّن فيه مذهب الشافعي في معنى الأمر والنهي، لكن بعضهم اعترض على ذلك واعتبره من كتب الشافعي الأصولية صحيح النسبة له يرويه عنه تلميذه المُزَني، قال: «ولكن للأسف الشديد طُبع هذا الكتاب من زمن بعيد، طبعه مستشرق ونَسَبَه للمُزَني، وتابعه مَنْ طبع الكتاب من العرب، ودليلهم ما جاء في المخطوط من نسبته للمُزَني»، قال: «لكن شيخ المذهب وحافظ كتب الإمام الشافعي: الإمام البَيْهَقي في كتابه (مناقب الشافعي) نَسَبَ الكتاب للشافعي نسبةً محقَّقة، وكرَّر هذه النسبة مرات، بل إنه لَمَّا عقد فصلًا في كتب الشافعي الأصولية عدَّده مع كتبه التي لا يختلف عليها أنها للشافعي»، ثم ذكر بعض نصوص البَيْهَقي في نسبة «كتاب صفة الأمر والنهي» للشافعي، وقال: «وهذا التصريح من الإمام البَيْهَقي يقطع كل خلاف ويصحِّح نسبة الكتاب للإمام الشافعي»، قال: «وهو ما لم يقف عليه الطابعون للكتاب».
المقدمة / 330
هذه خلاصة دعواه، وردَّ عليه الباحث الفاضل مشاري الشثري فقال: قد جانبَ الشيخُ الصوابَ فيما ذكره، وكلام البَيْهَقي لا يعني أن ذلك الكتاب المعيَّن هو الكتاب المقصود، فكيف إذا ثبت أنه كتابٌ آخر، فالكتاب الذي يَعنيه البَيْهَقي ليس هو هذا الكتابَ المنسوبَ للمُزَني.
قال: فإن كتاب «صفة الأمر والنهي» للشافعي موجودٌ محفوظٌ في كتاب «الأم» (^١)، وهذا الكتاب يَبتدِئ بقول الشافعي: «أخبرنا ابن عيينة»، وفي ضمن هذا الكتاب عنوانٌ متفرِّع عنه باسم: «صفة نهي رسول الله ﷺ»، والذي صرف الأنظار عن هذا الكتاب بهذا الاسم الظنُّ بأن هذا الكتاب من جملة كتاب «جماع العلم»، فقد جعله الشيخ رفعت - محقِّق طبعة الوفاء - من جملة كتاب «جماع العلم»، وقبله الشيخ شاكر الذي أفرد «جماع العلم» بالنشر ألحقَ هذا الكتاب به، ثم إنه ذكر (ص: ٨) احتمالًا بأن هذا العنوان: «صفة نهي رسول الله ﷺ» كتابٌ مستقل، وأنه مُراد مَنْ ترجم للشافعي وذكر في ضمن كتبه كتاب «صفة الأمر والنهي»، والاحتمال الذي ذكره الشيخ شاكر صحيح، غير أنه غفل عن أن الكتاب المراد لا يبتدئ بهذا العنوان، بل يبتدئ قبل ذلك، وهذا العنوان إنما هو عنوان لبابٍ منه، والصواب أن كتاب «صفة الأمر والنهي» يشمل ما في (٩: ٤٦ - ٥٥) من ط الوفاء، ويبتدئ بقول الشافعي: «أخبرنا ابن عيينة» وينتهي بقوله: «وإنما قلت يكون فيها عاصيًا إذا قامت الحجة على الرجل بأنه كان علم أن النبي ﷺ».
قال: ثم إني أزيدُ على ذلك أمرًا، وأقول بأن كتاب «جماع العلم» لا ينتهي عند كتاب «صفة الأمر والنهي»، بل ينتهي قبل ذلك، تحديدًا عند
_________
(^١) وهو يقع في (٩: ٤٦ - ٥٥) من ط الوفاء.
المقدمة / 331
قوله: «إذا كان موجودًا في أفعالهم الاختلاف» (٩: ٤٢)، والعنوان الذي بعده «بيان فرض الله ﵎» كتابٌ مستقلٌّ وليس بابًا منه، وقد ذكره من ترجم للشافعي كالبَيْهَقي في «المناقب» (١: ٢٤٦)، ثم يأتي بعده كتاب «صفة الأمر والنهي» بالوصف الذي قدمته، فتحصَّل بذلك أن المطبوع باسم «جماع العلم» هو في حقيقة الأمر ثلاثة كتب:
الأول: «جماع العلم» (^١).
الثاني: «بيان فرائض الله ﵎» (^٢).
الثالث: «صفة الأمر والنهي» (^٣).
وبرهان ذلك أن كلًّا من هذه الكتاب الثلاثة يعالج موضوعًا مستقلًّا، وأقوى منه أن ذلك جاء في مخطوطة حسنة من «الأم»، وهي المحفوظة في مكتبة مراد ملا، فقد جاء كلُّ واحدٍ من هذه الكتب بعنوان مستقل مصدَّرًا بفاتحة مستقلة، ففي (٦: ١٢٧ ب): «جماع العلم. بسم الله الرحمن الرحيم. وهو حسبي». وفي (٦: ١٣٧ ب): «… إذا كان موجودًا في أفعالهم الاختلاف. تم الكتاب. يليه في الجزء الثامن بيان فرض الله ﵎»، ثم في (٦: ١٣٩ أ): «بسم الله الرحمن الرحيم. وهو حسبي. بيان فرض الله ﵎»، وفي (٦: ١٤٠ أ): «بسم الله الرحمن الرحيم. وهو حسبي. صفة الأمر والنهي»، وقد كتب الناسخ هذا العنوان مرةً أخرى في هامش المخطوط للدلالة على أنه بداية كتاب مستقل، وكلٌّ من هذه العناوين مميَّزٌ باللون الأحمر.
_________
(^١) وهو يقع في (٩: ٥ - ٤٢) ط الوفاء.
(^٢) وهو يقع في (٩: ٤٢ - ٤٦) منتهيًا بقول الشافعي: «ثم أدَّى الفرض».
(^٣) وهو يقع في (٩: ٤٦ - ٥٥).
المقدمة / 332
انتهى المقصود من كلام الباحث مشاري الشثري، وهو شافٍ كافٍ في نفي نسبة الكتاب إلى الشافعي، ومن قرأ الكتاب كاملًا لا يستطيع أن يتوهَّم أصلًا أنه للشافعي، كيف وفيه أسولة سُئِل عنها المُزَني فأجاب فيها، فكيف يقال بأنه للشافعي.
لكن يبقى إثبات نسبة الكتاب إلى المُزَني، وقد ذكرت توارد ناشري الكتاب على هذه النسبة، لكن يرد عليه إشكالات:
أحدها - تكرر قوله: «سئل المُزَني عن …» في غالب مسائل الباب، وهذا دليل على أن الكتاب من تعليق الراوي له عن المُزَني، ويدل ذلك على أن الكتاب ليس من الكتب التي كتبها المُزَني بنفسه.
وثانيها - ورود زيادات في آخر الكتاب من الشعر والحكمة، وهي من راوي الكتاب أبي إسحاق إبراهيم بن إسحاق يرويها عن أبي إسحاق إسماعيل بن أبان الوراق (ت ٢١٦ هـ)، لكن يقال: بأنه ألحق هذه الزيادات بعد تمام الكتاب.
وثالثها - عبارة: «من مسائل المُزَني ﵁» الواردة في طرة الكتاب، وهي العمدة في نسبة الكتاب إلى المُزَني، لكنها مع دلالتها على أصل النسبة تدل كذلك على أن الكتاب جزء من كتاب آخر للمُزَني، ويؤيِّده عدم ورود ذكر لكتاب باسم «الأمر والنهي على معنى الشافعي» ضمن ثبت مؤلفات المُزَني.
وخلاصة القول: الكتاب من تقييد راويه أبي إسحاق إبراهيم بن إسحاق عن بعض كتب المُزَني، ويحتمل أن يكون من كتاب «المسائل المعتبرة» أو «المنثور»، ولا ينكر نسبة المادة المعروضة في الكتاب إلى المُزَني، فهي إن شاء الله له، ونفس المُزَني ظاهر فيه، فقد اختصر مباحث كثيرة من كتاب «الرسالة» للشافعي، وفيه أساليب عُرف بها المُزَني واستفادها
المقدمة / 333
من الشافعي، منها - نبذ التقليد، فقد ذكر معاني العموم والخصوص والأمر والنهي ثم قال: «وهذا نحوُ مذهب الشافعي، فتفهَّمه ولا تقلِّد مَنْ وضعَه»، ومنها - التردُّد في المسألة وعدم الجزم حيث لا جزم في الدلالة، حيث ذكر بعض مسائل النفقات ثم قال: «فهذا الذي حضرني، وما أقنعني ذلك كما أشتهي»، ومنها - الاستخارة من الله حيث الشك في المسألة، حيث ذكر بعض مسائل الطلاق فقال: «وأنا أستخير الله في ذلك، والقياس عندي على ما وصفت».
المقدمة / 334
كتاب الأمر والنهي على معنى الشافعي ﵀
من مسائل المزني ﵁
برواية أبي إسحاق إبراهيم بن إسحاق عنه
بسم الله الرحمن الرحيم
(١) سئل المزني ﵀ عن مخرج جملة الأمر والنهي على مذهب الشافعي، فقال:
مذهب الشافعي عندي وبالله التوفيق: أن الأمرَ والنهيَ من الله ﷿ ومن رسوله صلى الله عليه على العمومِ والظاهرِ والحتمِ، إلا أن يأتيَ في سياق الخبر أو في غيره ما يدل على أنه أريد به الخصوصُ أو باطنٌ أو إرشادٌ أو إباحةٌ أو دلالةٌ، فيَلزَم قَبولُ الدليلُ، فإذا أمر الله ﷿ أو رسوله صلى الله عليه بأمر وسَمّاه .. فما لزمه اسمُه لزمه حكمُه على العمومِ والحتْمِ؛ لأن الله ﵎ أو رسوله صلى الله عليه لو لم يُرِد العمومَ وأراد غيرَه لأبانه، فلما لم يُبِنْه علِمْنا أنه لم يُرِد ما لم يُبَيِّن؛ كما لم يَأمُر إلا بما بَيَّن؛ لأنه لا يُكَلِّف عِلمَ الغيوب، قال الله ﷿: (قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) [النمل: ٦٥]، وقال: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) [إبراهيم: ٤]، وقال: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ) [التوبة: ١١٥]، وقال: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) [الإسراء: ٣٦]، فمَن ادَّعَى فيما أطلَقه القرآنُ أو السنةُ - بَيِّنٌ معناه في اللغةِ - أنَّه أرِيد معنًى دون معنًى .. قيل له: قولك
المقدمة / 335
«إنه أريد به» غيْبٌ، والغيبُ لا يوصَل إليه إلّا بخبرٍ، والمدعي لذلك بغير حق منفرد، ولا يقبل مِنْ مدعٍى إلا ببينة، ولا تُزال حجة بغير حجة.
(٢) هذا جواب مسألة يَستدِل بها من نظر، ويحتاج إلى شرحها من لم ينظر، وقد وصفت لك من كل وجه يسيرًا يدلُّ على كثير إن شاء الله.
(٣) فمِن عموم الأمر من القرآن: قول الله ﵎: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) [النساء: ٥٨]، قال: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً) [النساء: ٤]، وقال: (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُم) الآية [النساء: ٦].
(٤) ومِن عموم النهي من القرآن: قال الله ﷿: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) [الإسراء: ٣٣]، وقال: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا) (^١) [الإسراء: ٣٢]، وقال: (لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً) (^٢) [آل عمران: ١٣٠].
(٥) ومِن عموم الأمر من السنة: قال رسول الله صلى الله عليه: «مَنْ نام عن صلاة أو نسيها فليصليها [كذا] إذا ذكرها؛ فإن الله ﷿ يقول: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) [طه: ١٤]»، وأمَر صلى الله عليه المستحاضة بالغسل لانقضاء الحيض، وبالصلاة في أيام الاستحاضة، وأمَر النبيُّ الذي خُيِّل إليه الشيْءُ في الصلاةِ ألا ينصَرِف حتى يسمع صوتًا أو يجدَ ريحًا.
_________
(^١) في الأصل: (إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا)، كأن الكلمة دخلت على المزني من قوله تعالى في سورة النساء (٢٢): (وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا).
(^٢) في الأصل: «ولا تأكلوا»، والواو ليست من الآية.
المقدمة / 336
(٦) ومِن عموم النهي من السنة: نَهْيُ النبيّ ﵇ عن الذهب بالذهب، والورق بالورق، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، إلا مِثلًا بمثل، سواءً بسواء، عينًا بعينٍ، ونَهَى ﵇ عن بيع الطعام حتى يُستوفَى، ونَهَى عن الدَّيْن بالدَّيْن.
(٧) ومِن العموم الذي دل القرآن على أنه أريد به الخصوص: قال الله ﷿ في المشركين: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) [الأنفال: ٣٩]، فلو لم يقل غير هذا كان على العموم، فلما أمر بقتال المشركين من أهل الكتاب حتى يُعطُوا الجزية .. دل ذلك على الخصوص، وعلى أن أهلَ الشرك صنفان: أهل كتاب، وأهل أوثان، فجمَعهما الكفرُ والأمْرُ بقتالهم بمعنًى واحدٍ، وفُرِّق بينهما في إعطاء الجزية، فقُبِلَت مِنْ الكتابيِّ وحَرُم قتالُه، ولم تُقبَل من الوثني فحرم تركُه.
(٨) وقال: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) [النور: ٢]، ولو لم يقل غير هذا جُلِد مائةً كلُّ حُرٍّ وعبدٍ، فلما قال في الإماء: (فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ) [النساء: ٢٥] دلّ ذلك على الخصوص، فجَمَع العبدَ والحرَّ الزنا بمعنًى واحدٍ، وفُرِّق بينهما في أن جُعِل المائةُ على الحرِّ البكر، والنصفُ على العبدِ.
(٩) وقال ﷿: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ) [النساء: ٣]، فلو لم يقل غير هذا حلَّتْ كلُّ مؤمِنةٍ ومشرِكةٍ، فلما قال: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) [البقرة: ٢٢١] دلّ ذلك على الخصوص، ثُمّ لو لم يقل غير هذا ما حلَّتْ مشرِكةٌ كتابيَّةٌ ولا وثنِيَّةٌ، فلما قال: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [المائدة: ٥] دلّ على أن التحريم على غير أهل الكتاب.
المقدمة / 337
(١٠) ومن العموم من السنة التي دلت على أنه أريد به خاص: قال رسول الله صلى الله عليه: «فيما سقت السماء العشر، وفيما سقي بالغرب نصف العشر»، فلو لم يقل غير هذا كانت الزكاة في المد وأقل، فلما قال: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» دل على أنه أراد به الخاص، وهو ما بلغ خمسةَ أوسق فصاعدًا.
(١١) وقال ﵇: «الجار أحق بسَقَبِ جاره»، فلو لم يقل إلا هذا كان لكل جار شفعة، فلما قال: «فإذا وقعت الحدود فلا شفعة» دلّ على أنه أراد الخاص، وهو الجار المُخالِط المُشايِع، دون المُقاسِم.
(١٢) ونَهَى عن بيع التمر بالرطب، ولو لم يقل غير هذا لم يجز بيع تمر برطب أبدًا، فلما أرخص في بيع العرايا - وهو تمر برطب - دلّ على أنه أراد بالتحريم: ما سوى العرايا.
(١٣) ومن العموم من القرآن التي دلت السنة على أنه أريد به الخاص: قال الله ﵎: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) إلى قوله: (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) [المائدة: ٦]، فلو لم يقل غيرَ هذا، كان على العباد كلما قام رجل إلى الصلاة أن يتوضأ، على وضوءٍ كان أو على غير وضوء، فلما صلى رسول الله صلواتٍ بوضوء واحدٍ، دلّ ذلك على أنه أراد مِنْ القائمين إلى الصلاة مَنْ ليس على وضوء، ولمَّا مَسح على الخُفَّين دلّ على أنه أراد مِنْ القائمين إلى الصلاةِ مَنْ لا خفَّين عليه.
(١٤) وقال ﷿: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا) [المائدة: ٣٨]، فلو لم يقل غير هذا قُطِع مَنْ لزمه اسم سرقةٍ، فلمّا قال النبي ﵇: «القطع في ربع دينار فصاعدًا» دلّ على أن الله ﷿ أراد بعض السُّرّاق دون بعض.
المقدمة / 338
(١٥) وقال: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) [البقرة: ٢٣٠]، فلو لم يقل غير هذا ثُمّ نَكَحت غيره ثُمّ طلقها قبل أن يصيبها حلَّتْ للأوّل، فلمّا قال رسول الله صلى الله عليه لامرأة رفاعة وطلقها ثلاثًا وتزوجت: «أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عُسَيْلتَه ويذوق عُسَيْلتَكِ» دلّ على أنه أراد: الزوجَ المصِيبَ، دون الزوجِ الذي لم يُصِب.
(١٦) ومن الأمر الذي أطلقه القرآن يدل تبيينه أنه مباح: ولمّا كان الانتشار والابتغاء من فضل الله مباحَينِ يمنع منهما بقوله: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) [الجمعة: ٩]، وقال: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا) [الجمعة: ١١]، فأعلَمَ منعَهم مِنْ المباح ما ألزمهم مِنْ إتيان الجمعة، ولأن لا يتركوا رسول الله قائمًا فيما عليهم مِنْ فرض الصلاةِ، ولما قال: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) [الجمعة: ١٠] كان معناه إباحتهما كما كانا، لا أن فرضًا عليهم ذلك.
(١٧) ومن ذلك أن الصيد لمّا كان مباحًا بقول الله ﷿: (وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) [المائدة: ٤]، وقال: (تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ) [المائدة: ٩٤]، فلمّا قال ﷿: (لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) [المائدة: ٩٥]، ثُمّ قال: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا) [المائدة: ٢] كان معناه أن ردهم إلى المباح كما كان أولًا، لا أنّ ذلك فرضًا [كذا] عليهم.
(١٨) ومن ذلك أن مباحًا للرجل أن يأكل من ماله ويترك، فلما أصدقه امرأتَه قال الله ﷿: (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا) (^١) [البقرة: ٢٢٩]، وقال: (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ) [النساء: ٢١]،
_________
(^١) في الأصل: «ولا تأخذوا …»، سقط منه قوله: «ولا يحل لكم أن».
المقدمة / 339
فأعلَمَ أنْ [مَنَعَه (^١) منه مِلْكُها عليه إلا أن تَطِيبَ به نفْسًا، فلمّا قال: (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا) [النساء: ٤] فإذا طابت به نفسًا ارتفع التحريم بارتفاع المنع وصار إلى المباح كما كان أولً، لا أن فرضًا ذلك عليهم؛ كما ارتفع تحريم الانتشار والابتغاء من فضل الله بانقضاء الصلاة، وكما ارتفع تحريم الصيد بارتفاع الإحرام، ورجع المعنى في ذلك كله إلى المباح كما كان أولً، لا أن فرضًا أن ينتشروا، ولا أن يبتغوا من فضل الله، ولا أن يصيدوا، ولا أن يأكلوا، ونظيره: (فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا) [النساء: ٤]، و(كُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) [المائدة: ٤]، لا فرضٌ أن يأكله، فتفَهَّمْه ولا تقلِّد من وضعَه.
النهي المحرِّمُ مِنْ السنن
(١٩) سئل المزني عن بعض سنن رسول الله صلى الله عليه المحرِّمة، فقال: من ذلك نهيه عن بيع الغَرَر، وعن بيع السنين، وعن الدَّيْن بالدَّيْن، وعن المحاقَلة والمزابَنة والمنابَذة، وعن حَبَل الحَبَلة، وعن بيعتين في بيعة، وعن ربح ما لم يضمن، وعن بيع الثمار حتى يبدوَ صلاحها، وعن نكاح المتعة، وعن الشغار، وما كان في معنى هذا.
النهي على معنى الاختيار
(٢٠) سئل المزني عن ذلك، فقال: نهيه عن القران بين التمرتين، والتمرُ مِلْكٌ للآكل، فمخرج ذلك عندنا على أدب الأكل، ونهيه صلى الله عليه عن كشف التمرة عما في جوفها، فيشبه عندي أن يكون ذلك لئلا يجد في جوفها ما يستقذرها به، ويظن ذلك بغيرها ولا تطب [كذا] نفسه بأكلها،
_________
(^١) الكلمة بين المعقوفتين غير واضحة في الأصل، وقرأتها على التوهم.
المقدمة / 340
أو لا يقنع بما أنعم الله عليه منها فيأكلها حين يبلغ ذلك منها، ونهيه عن التعريس على قارعة الطريق، فمعناه عندي على حسن النظر للبائت، وفي قوله: «فإنها مأوى الحيات» دليل على أن ذلك خوف عليهم مِنْ إذائهم [كذا]؛ لشفقته ورأفته عليهم ﵇، لا تحريمًا للتعريس على الطريق، ومن ذلك: نهيه عن أن يأكل من فوق رأس الثريد، وقوله: «فإن البركة تنزل من فوق» دليل على أنه أراد استدامة البركة للأكل، لا تحريمًا لأكله من فوق، وقوله صلى الله عليه: «سَمِّ الله وكلْ ممّا يليك» على حسن الأدب وجميل المؤاكلة.
(٢١) ومن نهيه على [كذا] الأفعال في الملك على التحريم: من ذلك أنه صلى الله عليه قال: «الذي يشرب في آنية الفضة، إنما يجرجر في جوفه نار جهنم»، فقد تكون الفضة ملكً للشارب فيها، وقد فرض الله في الفضة الزكاة، ولبس النبي ﵇ خاتم فضة، وتحلَّى منها نساء المؤمنين، والفضة حِلٌّ، والفعل فيها كما نهى النبي ﵇ حرام، ونهى عن لبس الحرير، وهو ملك للمؤمنين وحلال لنسائهم، فتحريمه وتحريم الذهب على الرجال من جهة الزّين حرام؛ كما يحرم الشرب في آنية الفضة من جهة السَّرَف، والخيلاء حرام، ونهيه عن اشتمال الصَّمّاء، وأن يَحْتَبِيَ الرجل في الثوب الواحد ليس على فرجه منه شيء، والثوب قد يكون ملك المشتمِل والمحتبِي، فملكُه حلال، وفعلُه به حرامٌ لِعلّة كشف العورة، كالفعلِ الحرامِ في شراب آنية الفضة ولبس الحرير كما وصفت، وهذا نحوُ مذهب الشافعي، فتَفَهَّمْه ولا تقلِّد مَنْ وضعَه، وبالله التوفيق.
المقدمة / 341
[مسائل في الحديث (^١)]
(٢٢) وسئل المزني عن قول النبي صلى الله عليه: «من قطع سِدْرةً صوَّبَ الله رأسه في النار»، فقال: إن ثبت أن النبي قاله فيُشْبِه أن يكون سُئل مَنْ هجَم على قطع سدرةٍ للرجل أو ليتيم أو لمن حرّم الله عليه أن يقطعها عليه، فتحامل عليها وقطعها بعد نهي الله ﷿ أو نهي رسوله صلى الله عليه أو بدلالة، فيستحق ما قال بهجومه على خلاف الله أو رسوله، فتكون المسألة سبقت السامع للجواب، فسمع الجواب ولم يسمع المسألة، فأدى ما سمع دون ما لم يسمع، نظير ما روى أسامة أن رسول الله قال: «إنما الربا في النسيئة»، فيحتمل مخرج ذلك أن يكون رسول الله سئل: هل في الذهب بالذهب مِثلًا بمثل ربا؟ فقال: «إنما الربا في النسيئة»، فسمع الجواب ولم يسمع المسألة، والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مِثلًا بمثل، يدًا بيد».
والدليل على قطع السِّدرة عندي وبالله التوفيق: أن المرء أحق بماله، وأنه جائز له أن يجعل جِنانَه دارً يسكنها، فيقطع ما فيها من الشجر، السدر وغيره، ولمّا لم أرى أحدًا يمتنع مِنْ ورق السدرة - والورق من الشجر بعضها كالغصن فيها - وقد سوى رسول الله فيما حرم قطعه بينه وبين عَضْده بقوله في شجر مكة: «لا يُعْضَد شجرُها» فكأن العَضْد في معناه القطع في النهي، وقد أجاز النبي أن يغسل بالسدر دليل على أنه لو كان قَطْعُه من شجره حرامً [كذا] ما أجاز الانتفاع بما يحرم قطعه، وفي ذلك دليل على إباحته، ولو جاز ألا أفارق لفظ الحديث بلا دلالة من حديث غيره ولا إجماع ولا ما نقلته خاصة العلماء، فالقبول ألزم من طرح الاستدلال.
_________
(^١) العنوان من زيادتي على الأصل.
المقدمة / 342
(٢٣) وقد قال رسول الله: «أنت ومالُكَ لأبيك»، فلو لم يستدل بتأويل كان له بيع ابنه كما يبيع عبده ومال عبده، ولا يحل لابنه وطء جوار (^١) نفسه لأن الفرج لغيره، ومتى مات ورث الجد بقدر مورثه من مال الابن الحي، ولبطل بيع الابن وشراه إلا بإذن أبيه، وإذا مات الابن لم يرثه ابنه ولا زوجته ولا ولده؛ لأنه لا مال له وإنما هو لأبيه، ونحو هذا كثير، فتأويل «أنت ومالك لأبيك» عندي وبالله التوفيق: أن ألزَمَه ﵇ من بِرِّه بأبيه أن لا يمتنع مما أراد أبوه من نفسه وماله، إلا أن يسأل شططًا أو مُحَرَّمًا، فلا يكون ذلك من البِرِّ الذي يلزمه، لا (^٢) أنَّ مخرَجَه أنه وماله ملك لأبيه.
(٢٤) ونظير ذلك أيضًا: ما نهى عنه صلى الله عليه عن بيع الماء؛ لأنه لا خلاف عندنا أن بيع ما حوته آنية الرجل حلالًا [كذا]، فكان مخرجه عندنا نهيً خاصًّ، وهو غير بيع الماء في مكانه الذي خُلِق فيه؛ كقوله: «لا يمنع أحدكم فضل الماء ليَمنع به»، فأباح ذلك لمن يَرْعى في الكلأ، ونهى أن يمنع فضل الماء؛ لأن في منْعِه منعَ إقامة الماشية على الكلأ؛ لأنه لا قوام لها إلا بالماء، فأما مَنْ اسْتَقَى بدلوه، أو أخذها بقُلَّتِه، فقد صار هذا بعينه مِلْكًا له، يبيعه ويورَثُ عنه.
(٢٥) ومنها: ما روي أن رسول الله صلى الله عليه نهى في الصلاة عن ثلاث: عن نقرة الغراب، وافتراش السبع، وأن يُوطِّنَ الرجلُ المقام كإيطانِ البعير.
قال المزني: مخرج هذا النهي عندي وبالله التوفيق على وجهين: أحدهما - أن لا يحتظر الموضع بالإيطان، فيمتنع غيره منه، فيصير كالمالك، وأما المسجد وكل موضع منه لمن سبق إليه، فلا يختص به في
_________
(^١) هكذا أثبته على التوهم، وهو غير واضح في الأصل، وظاهر رسم ما في الأصل: «وطرجوا».
(^٢) ظاهر ما في الأصل: «الا».
المقدمة / 343
منع غيره، والوجه الآخر - أن يرى إيطانه أعظمَ لأجره، فنال الثواب بالإيطان. والحجة في ذلك: أن كل موضع في المسجد نظير مِثْلِه، وأن الناس فيه شَرَعٌ، ولولا ذلك كما وصفت إن شاء الله لما جاز للرجل أن يصلي مرارًا متوالية في مكان واحد في المسجد ليس فيه غيره، ولا من يؤذيه بالصلاة فيه، ولَمَا جاز أن يجعل الرجل في منزله قبلة يوطن الصلاة فيها، وفي ذلك دليل على ما قلنا، وبالله التوفيق.
(٢٦) ومنها: أن مَخْلَد بن خُفَاف قال: إن عبدًا كان بين شركاء فباعوه ورجلٌ من الشركاء غائبٌ، فلما قدم أبَى أن يجيز، فاختصموا في ذلك إلى هشام بن إسماعيل، فقضى أن يرد العبد ويتبعه القوم فيؤخذ منه الخراج، فوجد الخراج فيما مضى من السنين ألف درهم، قال: فبيع غلامان لي، قال: فجئت عروة بن الزبير، فذكرت ذلك له، فقال: حدثتني عائشة أن رسول الله قال: «الخراج بالضمان»، قال: فدخل عروة على هشام فحدثه ذلك، فرَدّ بيع الغلامين ورَدّ الخراج.
قال المزني: وروى الشافعي أن مخلد بن خفاف ذكر لعروة في عبد ابتاعه فأصاب به عيبًا فقُضِي عليه برَدِّه ورَدِّ غلته، فقال عروة: قضى رسول الله في مثل هذا أن الخراج بالضمان، وهو الذي روى الحديث عن عائشة، وفيه زيادة قوله: «في مثل هذا»، وهو البيع الحلال الذي مَلَكَه المشترِي فحدثت الغَلَّة في مِلْك المشتري عما اشترى، لم يكن ذلك في ملك البائع قط، فلما أصاب به عيبًا رده لأنه المشتَرَى، ولم يرد غلتَه لأنها لم تُشْتَرَا [كذا]، وملكه كان حِلًّا، فما اكتسب ملكُه الحلَّ كان مثله حلًّا، ومن ذلك يشتري غصبًا أو غصب رجل عبدًا أو اشترى شراءً فاسدً، فلم يَمْلِك شيئًا من ذلك، فيَمْلِكَ غلته، فعليه رَدُّه ورَدُّ غلَّتِه؛ لأنه في ملك غيره.
المقدمة / 344
وكذلك ما اكتسب فرع لملك غيره، فنظير ما ملكْتُ مِنْ حلٍّ أو اكتسَبْتُه أحِلَّ، ولا يطيب ما كان مِلْكُه لغيري حِلٌّ وعليَّ حرامٌ [كذا]، ومن زاد في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه معناه فهو مثْبِتٌ، ومَن لم يأتِ به فليس بحجة على مَنْ أتى به؛ كما روى بلال عن رسول الله في البيت وكان معه أسامة وعثمان بن طلحة، وقال غيره: «لم يفعل»، وكما روى ابن عمر وغيره أن النبي كان يرفع إذا كبر للافتتاح وإذا رفع رأسه من الركوع، وروى ابن مسعود أنه كان يرفع في أول مرة ثم لا يعود، فكان مَنْ يُثْبِت شاهدً، ومَن لم يُثْبِت غيرَ شاهدٍ، كان مغفَّلً، ألا ترى لو أن رجلين شهدا على رجل أنه قال: «امرأتي طالق ثلاثًا»، وشهد آخران معهما بما شهدا به عليه، وزادا في شهادتهما بأنه وصل: «إن دخلت الدار» .. أنه لا طلاق عليه؛ لزيادة الشاهدين ما زاد من الخبر في شهادتهما، ولا معنى للذَيْن قطعا بالطلاق، ولسقوط علم ما أثبته غيرهما، فكذلك قلنا في الخبر: من زاد معنى عن رسول الله صلى الله عليه كان شاهدً، ومن لم يُثْبِتْه لم يكن له في ذلك معنى.
(٢٧) ومنها: ما روي عن عامر الشعبي، قال: عن جابر بن عبدالله أنه كان يسير على جمل له قد أعيا، قال: فلحقني رسول الله فضربه، وقال: «سِرْ»، فسار سيرًا لم يكن يسير مثله، ثم قال: «بعنيه بأوقية»، فبعته منه بأوقية واستثنيت حُملانه إلى أهلي، فلما بلغت أهلي أتيته بالجمل، فنَقَد ثمنه، فرجعت، فأرسلَ على إثْرِي، فقال: «أترى إنما ماكَسْتُك لآخذَ جملك، خذ جملك ودراهمك فهما لك»، والمُطَّلِب بن حَنْطَبٍ عن جابر بن عبدالله، قال: اشترى رسول الله مني بعيرًا وأَفْقَرني ظهره إلى المدينة.
المقدمة / 345
قال المزني: يحتمل هذا وجوهًا: منها - أن يكون هذا كان جائزًا قبل أن يقول ﵇ في اشتراط سادة بريرة على عائشة بأن الولاء لهم: «ما بال أناس يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله؟! من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل»، ومعنى من أعتق .. أن له الولاءَ، ومعنى من ملك بعيرًا .. أن له الظهرَ، فيكون ما قال جابر منسوخًا، ويكون ما أبان رسول الله من فساد الشرط ناسخًا، ومنها - أن يكون وعد جابرً على غير عقدٍ، فإن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل، ومنها - أن لا يكون وعد، وكان الشِّرى مطلقًا، ولا وعد قبل ذلك، فلما اشترى رسول الله تفضل بظهره على جابر، ولا أعلم خلافًا بين المسلمين أن مَنْ ملَكَ بعيرًا أن له ركوبَه وبيعَه وإكراءَه، وأنه لا يجوز أن يشترط مَنْعَه مما له في عُقْدة الشِّرى، وفي ذلك دليل على أحد الوجوه التي وصفنا، وبالله التوفيق.
(٢٨) ومنها: ما روي عن جابر، قال: كان لنا فضول أرض، فقال لنا رسول الله: «من كان له أرض فليزرعها، أو ليمنحها أخاه، أو ليدع».
قال المزني: يحتمل ما احتمل حديث أسامة عن النبي صلى الله عليه: «إنما الربا في النسيئة»، سُبق بالمسألة وسَمِع الجواب، فقد يحتمل أن يكون النبي سُئل عن المخابرة التي كانوا يفعلونها، فقال النبي: «من كان له أرض فليزرعها، أو ليمنحها أخاه، أو ليدع»، يقول النبي: تَرْكُها خير من أن يخابرها؛ لأن المخابرة إكْرَى الأرض عندنا ببعض ما يخرج منها، فيكون كراءً فاسدً وغررًا مجهولًا، فنهى النبي عن ذلك، والدليل على ذلك: أن رافعًا روى أن النبي صلى الله عليه نهى عن إكراء الأرض، قيل له: أبالذهب والورق؟ فقال: لا، وهذا جواب عن رسول الله صلى الله عليه، وقد أجاز العلماء كِرَى الدور، والأرضين [كذا] مثلها في القياس.
المقدمة / 346
(٢٩) ومنها: ما روي عن عبدالله بن الديلمي، عن أبيه، قال: أتيت النبي صلى الله عليه برأس الأسود العَنْسي الكذاب، فقلنا: يرسول الله، قد علمت مَنْ نحن؟ ومِن أين نحن؟ فإلى مَنْ نحن؟ قال: «إلى الله وإلى رسوله»، فقلنا: يرسول الله، إن لنا أعنابًا فما نصنع بها؟ قال: «زبِّبُوها»، قلنا: فما نصنع بالزبيب؟ قال: «انبذوه على غدائكم، واشربوا على عشائكم، وانبذوه على عشائكم واشربوه على غدائكم، وانبذوا في الشِّنان، ولا تنبذوا في القِلال؛ فإنه إذا تأخر عن عصره صار خلًّا».
قال المزني: ليس في قوله: «انبذوا على غدائكم واشربوه على عشائكم، وانبذوه على عشائكم واشربوه على غدائكم» إيجاب تحريم شربه بعد ذلك وهو حلو لأنه يسكر، ولو كان إنما هو على صفة ما وصف في اللفظة، ويحرم ما خرج من اللفظة، لحرم أن نشربه على غداء ولا عشاء، ولا يحل أبدًا إلا على غداء أو عشاء، فلما كان حلًّا على غير غداء وعشاء دلّ على أنه لم يحرم ما خرج من الصفة، ولمّا كان تحريم النبي صلى الله عليه النبيذ إذا أسكر كثيره كانت علة تحريمه إسكار. وقد يجوز أن يكون قرب ما وصف من نبيذ شربه على الغداء والعشاء يجوز من أن يمهل ذلك إلى الشدة، فيدخل في حد التحريم، فاحتاط بما لا إشكال فيه أنه لا يتغير عن حله لقرب الوقت من صنعه، وبالله التوفيق.
(٣٠) ومنها: ما روي عن رافع بن خَديج، قال: قال رسول الله صلى الله عليه: «أفطر الحاجم والمحتجم»، وسمعت رسول الله ﷺ يقول: «كسب الحجام خبيث، ومهر البغي خبيث، وثمن الكلب خبيث».
قال المزني: يحتمل وجوهًا: منها - أن يكون الحاجم والمحجوم منافقين فأفطرا، فأعلَمَ رسولُ الله أصحابَه بهما بوحي الله جل وعز بإعلامه
المقدمة / 347