Révolution de la poésie moderne : De Baudelaire à l'époque contemporaine (Première partie) - Étude
ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة
Genres
ولعل الأقرب إلى الصواب أن نقول إن كل محاولات الاكتشاف الجريئة التي يقوم بها الشعراء منذ قرن ونصف قرن لم تزد «أفريقياهم» هذه إلا سوادا وكثافة في الوقت الذي فرغ فيه زملاؤهم الجغرافيون من اكتشاف أفريقيا من زمن طويل، حتى لم يعد أحد يجرؤ اليوم على تسميتها بالقارة السوداء. (2) نشاز وشذوذ
الصورة التي يقدمها لنا الشعر الحديث صورة جذابة بقدر ما هي محيرة؛ إنها تزخر بالألغاز والرموز والمفارقات ، ولكنها تحفل كذلك بشخصيات لا يمكن تجاهلها، ونماذج لا يمكن الشك في روعتها وأصالتها، وإنتاج مثير خصب يدل على أن الشعر الحديث والمعاصر لا يقل شأنا عن الفلسفة أو الرواية أو المسرح أو الفنون التشكيلية في قدرته على التعبير عن روح عصرنا ومشكلاته وأزماته. ولو تأملنا مثلا إنتاج الشعراء الألمان ابتداء من رلكه في مرحلته المتأخرة إلى شاعر التعبيرية تراكل، أو الشعراء الفرنسيين من أبوللينير إلى سان-جون بيرس ورينيه شار، أو الإسبان من جارثيا لوركا إلى جيان، أو الإيطاليين من بالاتسيسكي إلى أنجارتي، أو الإنجليز من ييتس إلى إليوت، لاقتنعنا بأهميته وخطورته، وسحره وغموضه، وتعقيده وطرافته في آن واحد. إن القارئ يدخل معهم في تجربة تضع يده - ربما عن غير قصد منه - على روح هذا الشعر وطابعه المميز؛ فهو يؤخذ بغموضه بقدر ما يحار في فهمه، وهو ينجذب نحوه بقدر ما يصدم فيه، والسحر الذي ينبعث من كلماته الحافلة بالأسرار يأسره ويفرض نفسه عليه، ولكنه يضله في متاهاته ويقطع عليه كل طريق للفهم أو المشاركة أو التذوق بمعناه القديم. وليأذن لنا القارئ منذ البداية أن نسمي هذا المزيج من الغموض والسحر تسمية نستعيرها من لغة الموسيقى فنصفه «بالنشاز» فإن سأل: وما معنى النشاز في هذا المقام! قلنا: لعله نوع من التوتر يميل إلى القلق والاضطراب أكثر مما يميل إلى الراحة والتجانس والاطمئنان، ولعله كذلك أن يكون طابع الفنون الحديثة وهدفها بوجه عام. ومن أوضح ما يدل عليه هذه العبارة التي يقولها الموسيقى الأشهر إيجور سترافتسكي في كتابه عن «فن الموسيقي (1948م)»: «ما من شيء يلزمنا بالتفتيش عن المتعة في الهدوء وحده، فالأمثلة تتراكم منذ أكثر من قرن من الزمان لتقديم أسلوب استقل فيه النشاز بنفسه تمام الاستقلال وأصبح شيئا في ذاته، وهكذا اتفق أنه لا يمهد لشيء ولا يعلن عن شيء؛ فليس النشاز دليلا على الاضطراب ولا التناغم ضمانا للنظام واليقين.»
هل تصدق عبارة سترافتسكي كذلك على الشعر الحديث؟ هذا ما سوف تحاول الصفحات القادمة الإجابة عليه. فغموض الشعر الحديث غموض متعمد مع سبق الإصرار. ولقد قال إمام هذا الشاعر ورائده بودلير: «إن في تعذر الفهم نوعا من المجد.» وشاعر آخر من أبرز ممثلي هذا الشعر مثل «جوتفريد بن» يقول: «إن الشعر هو الارتفاع بالأمور الحاسمة إلى لغة المستحيل على الفهم، والفناء الكلي في أشياء تستحق ألا يقتنع بها أحد.» ويخاطب سان-جون بيرس الشاعر فيقول بلغته الصوفية الفياضة بالوجد والحماس: «يا صاحب اللغة المزدوجة بين أشياء متطرفة في الازدواج، يا من تمثل الصراع بين كل ما يعيش في الصراع، وتتكلم بعديد المعاني كإنسان ضل في الكفاح بين الأجنحة والأشواك!» ويعود الشاعر الإيطالي مونتاله فيقول: «لو كانت مشكلة الشعر هي أن يكون صاحبه مفهوما لما كتب أحد بيتا واحدا من الشعر!»
لا مناص إذن من أن يعود القارئ عينيه على الظلام الذي يحيط بهذا الشعر. لا مفر من أن يدرك منذ البداية أنه شعر يبتعد بقدر ما يستطيع عن نقل المعنى الواضح والتعبير عن المضمون الذي لا خلاف حوله. إن القصيدة الجديدة تريد أن تكون شيئا مكتفيا بذاته، كيانا يشع دلالات عديدة، نسيجا من عناصر متوترة، ميدانا تتصارع فيه قوى مطلقة تؤثر بالإيحاء على طبقات من النفس لا صلة لها بالعقل - سابقة عليه أو متجاوزة له - وتمد أثرها على مناطق الأسرار المحيطة بالأفكار والكلمات فتشيع فيها الرعشة والرفيف.
ولا يقتصر هذا التوتر أو هذا النشاز في القصيدة الحديثة على هذا. إنه يتجلى كذلك من ناحية أخرى. فالقصيدة تجمع في الغالب بين عالمين متعارضين، وتبدو كالوجه الواحد الذي يضم ملامح متباينة، فهناك ملامح تنحدر من أصول صوفية أو طقوسية أو مرتبطة بعبادات الأسرار، تقابلها في الجانب الآخر ملامح النزعة العقلانية الحادة، والعبارة البالغة البساطة ذات المضمون المركب المعقد البالغ التعقيد، والدقة والتحديد مع العبثية والاستحالة، والبواعث والأغراض التافهة الضئيلة الشأن في أسلوب فوار بالحركة والعنف. وقد تكون هذه جميعا أنواعا من التوتر الشكلي، لا يقصد بها إلى أبعد من الشكل، ولكنها تترك أثرها على المعنى والمضمون وتظهر فيهما بصورة أو بأخرى .
والقصيدة الحديثة حين تلمس الواقع أو جوانب منه في البشر أو في الأشياء، لا تتناوله تناولا وصفيا ولا تقف منه موقفها من شيء مألوف في الرؤية أو الشعور، بل تنقله إلى صعيد المذهل غير المألوف، كما تشوهه وتغر به، إذا صحت هذه الكلمة التي شاعت في السنوات الأخيرة، ولذلك يستحيل أن تقاس بما نصفه عادة بأنه الواقع، بل هي لا تريد ذلك مهما وجدنا فيها من أجزاء الواقع أو بقاياه، لأنها لا تلجأ إليها إلا كوسيلة للانطلاق إلى آفاقها الحرة. إن الواقع في هذه القصيدة قد تخلص من نظامه المكاني والزمني والموضوعي والنفسي، كما تحرر من تلك التفرقة التي لا نستغني عنها في توجيه نظرتنا العادية إلى الأمور، وأعني بها التفرقة بين الجميل والقبيح، والقريب والبعيد، والنور والظل، والألم والفرح، والأرض والسماء.
كان المفهوم الذي حددته الرومانتيكية للشعر (وإن كان من الخطأ تعميم هذا المفهوم) هو أنه لغة الوجدان، والتعبير عن الذات الفردية. وكلمة الوجدان هنا تعني الرجوع إلى المألوف، والسكون إلى وطن النفس الذي يشترك فيه أكثر الناس انفرادا مع كل من يشعر ويحس، ولكن القصيدة الجديدة تحس بالغربة أعمق إحساس، وتنفر من اللجوء إلى هذا الوطن الساكن المطمئن. إنها تبتعد عن «الإنسانية» أو «البشرية» بمعناهما المصطلح عليه، وتصرف النظر عن التجربة والعاطفة، بل تذهب في كثير من الأحيان إلى البعد عن ذات الشاعر نفسه. لم يعد هذا الشاعر يشارك في قصيدته مشاركة الذات الفردية أو الشخصية، بل مشاركة عقل مبدع، وصانع لغة، وفنان يجرب خياله المتسلط أو نظرته غير الواقعية على مادة فقيرة من المعنى، عرضت له كيفما اتفق. ولا يعنى هذا بالضرورة أن قصيدة من هذا النوع لا توقظ سحر النفس المكنون أو لا تنبع منه، بل معناه أنها أصبحت شيئا آخر يختلف عما نسميه بالقصيدة الوجدانية، وأنها تستخدم لغة أخرى غير اللغة التي اصطلحنا على وصفها بلغة الوجدان. لقد أصبحت لحنا متعدد الأصوات والأنغام وصورة مطلقة من الذاتية المحضة الخالصة التي لا يمكن تجزئتها إلى قيم شعورية مفردة. يقول جوتفريد بن، وهو أحد السحرة الكبار في معبد الشعر الحديث: «الوجدان؟ إنني لا أملك شيئا منه.» وهو كغيره لا يكاد يجد أثرا لنعومة الوجدان أو رخاوة العاطفة حتى يقطعه بسكين العقل، ويمزقه بالكلمات القاسية الناشزة.
باستطاعتنا إذن أن نتحدث عن نزعة درامية عدوانية في الشعر الحديث. إنها تكمن في العلاقة بين الموضوعات أو البواعث (الموتيفات) التي تتقابل تقابل الأضداد بدلا من أن تتصل وتتلاقى بنظام واطراد. وهي تكمن كذلك في العلاقة القائمة بين هذه الموضوعات والبواعث وبين الأسلوب القلق الذي يفرق ما وسعته التفرقة بين الدلالات والمدلولات. ولكن هذه النزعة الدرامية العدوانية تحدد كذلك العلاقة بين القصيدة والقارئ. فكثيرا ما تصدم القصيدة قارئها فيشعر أنه يتلقى منها الإنذار بالخطر بدلا من أن ينعم بالأمان! صحيح أن لغة الشعر كانت وستظل على الدوام مختلفة عن لغة التفاهم العادية وأنها لم تكن ولن تكون مجرد وسيلة للنقل والتوصيل. لقد كان الفارق بين اللغتين - باستثناء حالات قليلة نجدها في شعر دانتي الإيطالي أو جونجورا الإسباني - يتسم بالتدرج والاعتدال بوجه عام. وفجأة اختل الميزان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر فتأكد الفارق الحاسم بين لغة الشعر ولغة الكلام، واتضح التوتر الهائل بينهما، وجاءت المعاني والمضمونات الغامضة المظلمة فزادت الهوة اتساعا، وأثارت دوامة الحيرة والبلبلة التي ما زالت تتسع حتى اليوم.
أصبحت الكلمات المألوفة ترد بمعان غير مألوفة، والاصطلاحات العلمية الموغلة في التخصص تمتلئ بشحنة شاعرية، وتركيب العبارة يفقد ترتيبه العضوي أو ينكمش أحيانا إلى جمل أو كلمات اسمية توضع إلى جانب بعضها البعض.
والتشبيه والاستعارة، وهما من أقدم الوسائل التي لجأ إليها الشعر في كل البلاد والعصور، تتغير وظيفتهما فيستخدمهما الشاعر بطريقة جديدة تتحاشى عنصر التشبيه الطبيعي أو تفرض على الأشياء وحدة غير واقعية لا تتفق مع المنطق والطبيعة.
Page inconnue