Révolution de la poésie moderne : De Baudelaire à l'époque contemporaine (Première partie) - Étude
ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة
Genres
4
ولبنان. أكواخ (شاليهات) من البللور والخشب، تتحرك على بكر وقضبان غير منظورة. فوهات البراكين القديمة التي تطوقها الأعمدة الضخمة وأشجار النخيل النحاسية، تزأر زئيرا شجيا في النيران. أعياد الحب تدق أنغامها فوق القنوات المعلقة خلف الأكواخ. مطاردة الأجراس تضج في الأغوار. زمر من المغنين العمالقة يهرعون في أثواب فخمة وبأيديهم أعلام تشع ضوءا أشبه بضوء القمم. على الأسطح، وسط الأغوار، يترنم أبطال (ملحمة) رولاند بشجاعتهم. فوق جسور الهاوية وأسطح الفنادق يزين وهج السماء السواري بالرايات. انهيار (الأبطال) المتألهين يبلغ الأعالي، حيث تتواثب القنطورات الساروفية
5
بين الحمم فوق مستوى الحواف العليا بحر جائش بميلاد فينوس الأبدي، محمل بأساطيل أتباع أورفيوس وهدير اللآلئ والأصداف النفيسة، البحر يظلم أحيانا من الدوي المميت. على المنحدرات تزأر قطوف الورد، التي تشبه دروعنا وكئوسنا في ضخامتها، أسراب من الجنيات في ثياب حمراء متلألئة تخرج من الهوى والأغوار. وفي مرتفع عال ترضع الغزلان من ثديي ديانا، وأقدامها في مساقط المياه وفي الأشواك. عابدات باخوس في الضواحي ينشجن، والقمر يحترق وينوح. فينوس تدخل كهوف الحدادين والنساك، فرق من نواقيس العواصف تتغنى بآمال الشعوب. من القلاع المشيدة من العظام تنبعث الموسيقى المجهولة. الأساطير كلها تتقدم مسرعة والحماس يندفع إلى الأسواق. جنة الإعصار تنهار. المتوحشون يرقصون بغير انقطاع في عيد الليل. نزلت ساعة كاملة في أحد أسواق بغداد التي تضج بالحركة والحياة، حيث كانت المجموعات تغني بالفرحة والعمل الجديد، بينما يهب عليها نسيم كثيف. رحت أدور هنا وهناك، دون أن أستطيع الإفلات من الأشباح الخرافية في الجبال، وهي التي كان يخلق بي أن أجد نفسي فيها.
أي ذراعين جميلتين، وأي ساعة حلوة ترد على هذه المدن التي يزورني منها نوم ليالي وأوهى حركاتي؟
من العسير حقا أن يحاول الإنسان فهم هذه الصور المختلطة أو البحث عن المعنى الذي تنطوي عليه؛ ذلك لأن معناها كامن في اضطراب صورها لقد خلقها خيال منفعل جياش، وغلفها بضباب شامل من المشاهد الغريبة المتشابكة التي يصعب تفسيرها، وإن كان من الممكن إدراكها بشكل محسوس وتلمس أوجه الشبه بينها وبين بعض العناصر المادية والنفسية التي تتكون منها الحياة الحديثة في المدن الكبرى. ولا شك أنها صور مخيفة مفزعة، ولكن لها تأثير السحر على نفوسنا، وربما يكون السبب في هذا أنها تقترب في كثير من الأحيان من صور الحياة اليومية التي نعيشها في المدن الكبرى، مدن الرعب والأسفلت! (6) ثورة على التراث المسيحي
ثورة رامبو على المسيحية جزء من ثورته على التراث بأكمله. إنها ثورة لا تهدأ، بل تبدأ بالعذاب وتنتهي بالعذاب. إنه يتمرد على كل شيء لا يستطيع أن يتخلص منه. والدين، ككل موروث، يفرض سلطانه على من يثور عليه، بل إن عبئه يزيد على رافضيه أكثر من المؤمنين به، وهذا العذاب، عذاب من لا يقدر الإفلات من عبء التراث، أوضح ما يكون في شعر رامبو. فنصوصه تبين كيف يبدأ متعذبا بالثورة عليه، وكيف ينتهي متعذبا بالعجز عن الإفلات منه، وعذابه هذا جزء من عذابه في البحث عن «المجهول»، عن ذلك «المتعالي الأجوف» الذي لا يستطيع أن يكشف عنه إلا بتحطيم الواقع وتفتيته.
عرف رامبو كل هذا، وسجل هذه المعرفة في شعره، فهو في المرحلة الأولى يوجه هجومه العنيف على المسيح والمسيحية، ويحلل النفس المسيحية تحليلا سيكولوجيا يكشف عن محنتها وشقائها. ففي قصيدة «قداس العشاء الرباني الأول» (يوليو 1871م)، نراه يكتب عن فتاة صغيرة تدخل الكنيسة لتحضر المناولة الأولى وتسمع ثرثرة القسيس، وتنسج أحلام المراهقة المتعبة التي تستسلم لثورة رغباتها الدفينة، وتلقي ذنب الكبت الذي تعانيه على العذراء والمسيح.
ولكن الشاعر يذهب إلى أبعد من هذا. فهو يكتب في حوالي سنة 1872م أو سنة 1873م قطعة نثرية تبدأ بهذه الكلمات: «بيت صيدا، المغطس ذو الأبهاء الخمسة» وتعتمد على ما ذكر في إنجيل يوحنا عن شفاء السيد المسيح لأحد المرضى عند بركة بيت صيدا. ولكنه يغير في قصة هذه المعجزة تغييرا شاملا فالمرضى والعجزة ينزلون في الماء الأسود العكر ، ولكن لا يهبط ملاك، ولا يشفيهم أحد، ويقف المسيح مستندا إلى أحد الأعمدة، وينظر صامتا إلى المرضى الذين يستحمون، ويرى وجه الشيطان الساخر يطل من وجوههم، وينهض أحد هؤلاء المشلولين فيخرج من الماء ويتجه نحو المدينة في خطى واثقة، من الذي شفاه؟ أهو السيد المسيح؟ ولكنه لم يقل كلمة واحدة! ولم ينظر إلى المرضى نظرة واحدة! أهو الشيطان؟ ولكن النص يصمت ويكتفي بأن يضع المسيح على مقربة من المريض. على أن القارئ قد يخرج بفكرة آخرة؛ قد لا يكون المسيح هو الذي شفى المريض، وقد لا يكون الشيطان. ربما تكون قوة علوية لا يعرف أحد عنها شيئا. ربما تكون تلك الحقيقة الجوفاء من كل معنى، ذلك المتعالي الأجوف.
بيد أن رامبو يقول كلمته الأخيرة عن المسيحية في مجموعته النثرية المشهورة «موسم في الجحيم» (أبريل - أغسطس 1873م): ويتألف النص من سبع قطع نثرية طويلة، تمضي لغتها في خطوات متعددة وحركات مفاجئة. إنها أشبه بدفعات قوية، تبدأ عبارة دون أن تختمها، وتبني أكواما من الكلمات المحمومة التي تركض هنا وهناك بغير اتجاه، وتلقي أسئلة بلا جواب، وتنثر في النص ذلك الجنون الساحر المريع الذي يصنعه تغير الفصول.
Page inconnue