Révolution de la poésie moderne : De Baudelaire à l'époque contemporaine (Première partie) - Étude
ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة
Genres
لعل هذه «السوناتة» المعروفة أن تكون مصداقا لما أشار إليه بودلير نفسه من أن الشاعر الأصيل يملك دائما الإحساس «بالتماثل الشامل»،
7
وليس في حاجة لأحد من الفلاسفة أو المتصوفين لكي يرشده إليه، ولا لمن يقول له إن الطبيعة معبد تخرج في بعض الأحيان من أعمدته الحية كلمات مختلطة. ولكن ما معنى هذا التماثل الكلي الشامل وماذا يقصده الشاعر بغابات الرموز التي يسعى فيها الإنسان؟
الواقع أن الفكرة القائلة بأن «المادي» يرمز «للمعنوي» أو «الروحي» أقدم بكثير من الفلسفة الأفلاطونية التي تقول إن عالم الحس يماثل عالم المثل والمعقولات مماثلة الظل للأصل. بل إنها فكرة قديمة قدم الديانات جميعا. ومع ذلك فمن الخطأ أن نقول إن غابات الرموز تدل على عالم المثل الأفلاطونية.
فالمعنى الذي يقصده بودلير هو أن الأشياء في عالم الحس تترجم بطبيعتها عن أفكار ومشاعر بشرية. بل قد نستطيع القول بأن فكرة بودلير بعث للفكرة القديمة التي اشتهرت في أواخر العصور الوسطى عن الماكرو كوزم (العالم الكبير) والميكرو كوزم (العالم الصغير) فالأول مادة بأكمله وأجسامنا جزء منه، و«يقابله» أو يتجاوب معه العالم الصغير، أي الروح أو العقل الواعي وغير الواعي. ولما كان الله الذي خلق العالمين عقلا أو روحا غير متناه، فإن نماذج الأفكار الإنسانية موجودة فيه، وبهذا المعنى تكون الأرض هي مقابل السماء أو تكون الأرض ومشاهدها لمحة من السماء على حد تعبير بودلير نفسه.
وإذن فالجديد عند بودلير هو هذا النظام الكامل من التقابلات أو التماثلات التي يستغلها عن قصد كأداة للكشف والتعبير الشعري. على أن الأمر لا يقف عند هذا الحد؛ فهناك نمط آخر من التقابلات تخصص له القصيدة عشرة أبيات من مجموع أبياتها الأربعة عشر. فالبيت الذي يقول إن العطور والألوان والأصوات تتجاوب مع بعضها البعض إنما يعبر عن فكرة كانت معروفة في عهد بودلير، وهي أن اللون أو الصوت أو الرائحة أو الطعم أو الملمس يمكن أن تثير انفعالا أو انطباعا وجدانيا واحدا. وقد لوحظ أن بعض الأشخاص يتميزون بحساسية خاصة تجعلهم يشعرون بتشابه الانطباعات الصادرة عن الحواس المختلفة، بل إن كلامنا العادي يحفل بأمثلة كثيرة من هذا النوع كان نقول مثلا أحمر صارخ، أو زرقة ناعمة، أو جرس ذهبي. وقد تعرض بودلير نفسه لهذا في مقاله الذي كتبه عن فاجنر حيث يقول: «قد يثير الدهشة حقا ألا يستطيع الصوت الإيحاء باللون، أو لا تستطيع الألوان إعطاء فكرة اللحن، أو يعجز الصوت واللون عن ترجمة الأفكار.»
ويقودنا هذا إلى ظاهرة أخرى يسميها علم النفس الحديث «بالسينيستيزيا» ويقصد بها الارتباط التلقائي - الذي يتفاوت من فرد لآخر - بين إحساسات ذات طبيعة مختلفة تبدو كما لو كانت تثير إحداها الأخرى ، كأن يثير صوت ما إحساسا بلون أو رائحة معينة. أي أنها أشبه بعملية سحرية إذا حدث فيها تنبيه لإحدى الحواس استثار ذلك في أذهاننا كل الخصائص الحسية الأخرى التي تتصف بها تجربة أو شيء ما، وصور للخيال أنه موجود أيضا في الواقع.
والقصيدة التي نقلناها الآن تنطوي على ظاهرة «السينستيزيا»
8
بأوضح معانيها. فالأصداء الممدودة التي تتجاوب بها الألوان والأصوات والروائح تشير إلى وحدة هذه «التجربة العميقة». وهذه الوحدة ليست قائمة فينا فحسب، بل هي كذلك وحدة الكون الشاملة. فمنذ أن خلق الله العالم كوحدة مركبة غير منقسمة، والأشياء تعبر عن نفسها عن طريق التماثل المتبادل. والأبيات الأربعة الأخيرة من القصيدة تبين أن بعض الإحساسات المتصلة بالشم يمكن أن تؤدي إلى ما وصفناه بالسينستيزيا وتسبب حالة من النشوة الحسية والروحية معا.
Page inconnue