Révolution de l'Islam et le Héros des Prophètes : Abou al-Qasim Muhammad ibn Abdallah
ثورة الإسلام وبطل الأنبياء: أبو القاسم محمد بن عبد الله
Genres
الكتاب الأول
وصف طبيعة الجزيرة العربية
الصحراء والنفود والربع الخالي
في تاريخ العالم وقصص الحضارة الإنسانية، وفي أخبار العمران وأنباء المدنيات القديمة والحديثة؛ صفحات غامضة وألغاز معقدة، يقف الباحث والقارئ حيالها مدهوشا حائرا، وقفة أوديب بين يدي الأسد المجنح ذي الأسرار، الذي ألقى عليه من الأحاجي والمعميات ما ألقى ليختبر ذكاءه، ويسطر حظه بلسانه في جانب الشقاء والسعد بعد المجد الذي ناله وهو يرفع له الستار عن حقيقة أمره، ولكنه لم يفطن ولم ير؛ لأن الأقدار أرادت له ما أرادت. وإن هذا الوحش المجنح لم ينقرض، ولم يغب سواده عن هذه الحياة الدنيا يوما أو بعض يوم، ولم يخفت صوته ليلة، ولم تنقطع مسائله للبشر طرفة عين. وكذلك الفتى أوديب راح وحلت محله مئات وألوف من الفتيان والكهول والشيوخ بدءوا حياتهم عميانا وختموها غير مبصرين يسألون ويجيبون، ثم يسيرون في طريقهم المقسومة ويتبعون خطة القضاء المرسومة لهم إلى النعيم أو إلى الشقاء؛ وهكذا الأمم كالأفراد تتبع حظوظها معصوبة الأعين مكتوفة الأيدي إلى أن تتاح لها اليقظة التي تدب من صميم نفوسها، ويمنحها الله الفكاك من قيود أسرها فتنطلق هي الأخرى لمستقر لها في آفاق المجد والعظمة، أو في درك الخمول والخمود ...
ومن هذه الألغاز المعقدة اختيار العناية الإلهية جزيرة العرب لتكون مشرقا لأنوار النبوة، ومصدرا للرسالة الإنسانية، ومهدا للحضارة العربية. فإن هذه الجزيرة كانت ولا تزال مضرب المثال في الجفاف والجدب؛
1
تهامتها وحجازها، ونجدها وعروضها، ما عدا اليمن التي لم تحرمها العناية من ريها فاحتفظت بخصبها؛ ولذلك سميت من قديم الزمان ب «العرب السعيدة».
جزيرة العرب قحلاء في معظم أجزائها، وقد وصف حجازها الواقع بين الجبال والبحر بأنه واد غير زرع، وهي في شمالها وغربها ومعظم الجنوب صورة موحشة من صور الأرض الجبلية المرتفعة، والسهول ذات الرمال الناعمة، والصحاري التي لا تعرف الخضرة ولا الماء ولا الظلال.
وقد لا يرى قسوة الطبيعة الجرداء المقفرة والأرض الغبراء المحرقة بجبالها ووديانها - على حقيقتها - غير الطيار الذي يتاح له أن يلقي بنظرة من مرصد طائرته على الأرض التي يحلق فوقها؛ فتأخذ عينه بقمم الجبال العارية البارزة كرءوس المردة على أعناق طويلة ملساء كأعناق العقبان، فإذا ما تجاوزها بمنظاره إلى الوديان، ارتد إليه بصره بعد أن ترتسم على شبكيته صور الكهوف والمغاور والمفاوز التي يتيه فيها الخيال قبل ارتداد الطرف إلى صاحبه، وقبل أن يتمكن من تحويل عينيه المحدقتين عن تلك الهضاب والنجود النادرة الإنبات، تهب عليها رياح شديدة الحرارة كأنها تأوهات خارجة من أتون عظيم، وقوده تلك الرمال الملتهبة، ودخانه ذلك الهبوب الذي يسيل دماغ الضب ويصهر الصخر الصلد ويذيب الحديد الصلب في جوف الأرض، وكل ذلك في أرض بعيدة الغور مترامية الأطراف متحركة الرمال غامضة الدروب مبهمة التقسيم، كأنها امرأة مسحورة تلد الأجيال وتبتلع نسلها، ثم هي تبدو للناظر كأنها بكر لم تزف إلى عرس ولم تعرف بعد أحدا من الرجال؛ فهذه الطرق والدروب التي اخترقها ملايين الرجال على ظهور الإبل شرقا وغربا وشمالا وجنوبا من عهد عاد وثمود وجرهم وجديس ... لا تلبث أن يطأها المسافرون خفافا سراعا أو ثقالا مبطئين ، حتى تنطبق على آثارهم وتنصفق على خطاهم فتمحو الأولى وتخفي الثانية، وكأنها لوح الطفل القارئ يمحو فيه ويثبت وهو مجد في المحو كما هو مجد في الإثبات، كثير النسيان؛ وهكذا يمتد النظر في عالم الذهن أو على متن الطائرة من ساحل البحر الأحمر إلى ساحل الخليج الفارسي، ومن خليج السويس إلى بوغاز باب المندب، ومن جبال الحجاز إلى الدهناء، وكأن الهلال الذي اتخذه المسلمون رمزا لرايتهم قد رسمته الطبيعة في جبل الطويق الذي يعترض نجدا، كما شكلت العناية الإلهية أجزاء من الجزيرة بأشكال تشبه سائر المخلوقات، ولها من أسمائها الغريبة نصيب؛ فهذا النفود الكبير ذو الرمال الكثيفة المتراكمة الصعبة المرور تسفيها الرياح فتؤلف كثبانا متسلسلة؛ فهو أشبه بالبحار العميقة التي تكاد تكون لعمقها بلا قرار، بل هي أشبه شيء بوادي الهلاك، فيكون داخلها معرضا للنفاد والضياع.
رمال صحراوية لا ماء بها، يسير فيها الركب أربع ليال، وفيها برك إذا سالت الأودية امتلأت، ولكن تلك الكثبان مكسوة بشجر الغضا والعذر والأثل؛ وهي أشجار مخيفة موحشة تكون في الأغلب ملتوية ومتعرجة كأنها مرسومة بريشة مصور مخبول على ستار مأساة فاجعة، فتظن وأنت تراها وتسمع موسيقاها المحزنة المثيرة للخوف والحيرة، أن أغصانها أعشاش للبوم والعنقاء، وجذوعها ملجأ لصغار الجن وكبارها، ومن حين إلى آخر ترى بئرا تخالها - لإقفار ما حولها - محفورة بأيد مجهولة من عهد صالح وثمود، وتتوهم للوهلة الأولى أنها خلقت مع الأرض ولم يحفرها إنس ولا جان، ولم يدل فيها بدلوه قبلك بشر، حتى إذا خليت وراءك الآبار وهرولت في «ظل» تلك الأشجار وجست خلال الأودية والشعاب والطعوز والقعور خيل إليك أن الطبيعة لم تكن من الدنيا إلا جزيرة العرب، وما جزيرة العرب إلا هذه الرمال التي لا يعلم عدد ذراتها إلا علام الغيوب؛ فتدرك حينئذ جمال الخلق وجلال الخالق المتجلي في هذه المظاهر نفسها.
Page inconnue