فضحك القديس وقال: أظن أن حبيبك هذا كان الأب الجليل سلفاستروس بعينه، وقد ترهب لما علم أنك تزوجت ذلك النبيل، فحذوت حذوه. - هو كذلك يا سيدي. - كيف عرفت أنه ترهب لهذا السبب؟ - لما كان يرشدنا في الرياضة الروحية باح لي بذلك حين كنت لديه في كرسي الاعتراف، وأخبرني أنه لأجلي ترهب لكيلا يدنس قلبه بحب امرأة أخرى، وبقي يحبني حتى بعد الرهبنة.
فقال القديس مستغربا: حتى بعد الرهبنة؟! - نعم، قال لي حينئذ بصراحة: «لا أزال أحبك.» فقلت له: «حرام يا أبانا؟» فقال: «ليس حراما؛ أما قال يسوع: «أحبوا بعضكم بعضا.» إني أحبك حبا طاهرا كما قال يسوع.» ثم قبلني، فاقشعر بدني وقلت: «حرام يا أبتي.» فقال: هي قبلة مقدسة يا ابنتي؛ أما قال بولس الرسول: «قبلوا بعضكم بعضا قبلات مقدسة؟» ثم مضيت عن كرسي الاعتراف، وأنا أفكر بالقبلات المقدسة، وبقيت القبلات المقدسة تلوح في مخيلتي إلى أن سمعت بانتحار أبينا الراهب سلفاستروس، فحزنت عليه حزنا عميقا، وبقي لي رجاء أن أجتمع به في السماء ولكن خاب أملي. - كفى، كفى يا بنيتي، إذا كان الديان قد رحمه، فهو في المطهر الآن يكفر عن قبلته المقدسة. - إذن، هل تسمح أن تستدعي بولس الرسول الموعز بالقبلات المقدسة، عسى أن يرشدني إلى منزلي في السماء. - أتأسف أن أقول لك يا بنيتي إنه لم يعد لك منزل هنا. - عجبا! لماذا؟ لقد أتممت واجباتي الدينية، حتى إني ساعة احتضاري سمعت الأخوات والأب الذي مشحني يقولون: «إنها ذاهبة إلى السماء قديسة.» وقد أبلغني بعض الأبرار الذين صادفتهم في الطريق أني تعينت قديسة منذ فراقي الدنيا، وظهرت عجائب باسمي، ولي في الدير مقام قديسة يزوره الناس بنذور حيث يتوقعون عجائبي فيهم.
فقال القديس مدهوشا: عجائبك! مرحى مرحى، إذن تشاركين الباري في قدرته. - كذا أخبرني الأبرار الذين صادفتهم في الطريق لاحقين بي بعدي. - عجبا أن يكون لك عجائب، ولا تدرين بها إلا بالخبر عن ألسنة الأبرار الذين تبعوك بعدك. فماذا كان من عجائبك؟ - قيل لي: إن امرأة كانت مريضة، وقد يئس من شفائها نطس الأطباء، فلما نذرت لي شفيت. - مسكينات المريضات الأخريات اللواتي يئس من شفائهن نطس الأطباء، ولم ينذرن لك. لا ريب أنهن قضين نحبهن مأسوفا على شبابهن. ثم ماذا؟ - نذرت لي امرأة أخرى حلية ذهبية إذا كان زوجها يتوفق إلى وظيفة يرتزق منها، فتوفق بعد عطلة عام.
فقال القديس باسما: لقد أحسنت زوجته في نذرها، وإلا لبقي زوجها بلا وظيفة كل عمره. ترى لأية القديسات الأخريات نذرت زوجات الأزواج الآخرين الذين توفقوا إلى وظائفهم؟ ثم ماذا؟ - ونذر آخر أنه يقدم لمقامي عشرة جنيهات إذا تزوج من يحبها وتحبه، فتزوجها.
فقهقه وقال: لقد انفرجت أزمة الزواج إذن. ما على العشاق إلا يسخوا بالنذور لك يا موحدة قلب الأحباب. ثم ماذا؟ - ونذرت امرأة حلية من حلاها المسروقة إذا ردت إليها، فعثر البوليس على السارق، واسترد لها حلاها. - مرحى مرحى، ما على البوليس إلا أن يعلق أيقونتك في دائرة الشرطة فتسهل عليه مهمته، ولكن إذا سرق لص بعض تلك النذور النفيسة من مقامك، فلمن ينذر أهل ذلك المقام بغية العثور على السارق يا ترى؟!
فترددت الأخت جوكوندا، ولم تحر جوابا، فسأل: وماذا كان من أعجب عجائبك أيتها القديسة؟ - حدث قيظ وتأخر المطر طويلا في فصل الشتاء، فنذر الفلاحون عدل الغلال لمقامي إذا نزل المطر، فأمطرت السماء. - لله درها من أعجوبة، لولاها لانقضى الشتاء بلا مطر. ثم ماذا؟ - روى لي الراوون كثيرا من عجائبي، لم أعد أتذكرها كلها. - إن أعجب عجائبك يا بنيتي أنك تفعلين العجائب، ولا تدرين بها إلا من الرواة الذين يأتون بعدك، وماذا كان مصير تلك النذور؟ - قيل لي إن سارقا سرقها. - سرقها سارق؛ عجبا! أما خاف غضب أيقونتك؟! - إذا كان لا يخاف غضب يسوع، فهل يخاف غضب أيقونتي؟! - لا يسوع ولا سائر الرسل والأنبياء فعلوا من العجائب ما فعلت يا بنيتي. - ويلك يا سيدي، لا تجدف، لقد فعل الرسل والأنبياء ويسوع عجائب لا يفعلها الخطاة مثلي. - لا، لا لم يفعلوا مثل هذه العجائب البتة. أعظم أعجوبة فعلها يسوع هي قوله:
أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى من أساء إليكم.
وأعظم أعجوبة فعلها محمد هي: نداء للعالم بوحدانية الله، وأعظم أعجوبة فعلها موسى أنه استطاع أن يقضي 40 سنة يقود بني إسرائيل لعبور برية سيناء إلى أرض الميعاد، على حين أن القافلة لا تطيق عبورها في أكثر من ستة أيام، والطيارة في سويعات والراديو في لحظة، فأين هذه العجائب من تلك التي رواها لك الرواة؟!
فبقيت جوكوندا مفكرة برهة، ثم قالت: إذن لم يعد لي منزل في السماء؟ هل القديسات اللواتي أعددتم لهن منازل فعلن عجائب أعظم من عجائبي؟ - كلا، لم يفعلن عجائب قط، ولا تعين قديسات على الأرض كما تعينت حتى، ولا عرف أحد أنهن قديسات. - إذن لماذا أحرم منزلا في السماء. - لا تحرمين منزلا، وإنما على الذين عينوك قديسة أن يعدوا لك منزلا في ملكوتهم. - ويحي! إذن لست قديسة من قديسات السماء، هل خدعني الذين قالوا إني قديسة؟ - بل أنت قديسة ساذجة القلب. - إذن لماذا لا تقبلونني في السماء؟ - لأنك تعتقدين أنك ملكة، والسماء لا تسع ملكين، بل يكفيها ملك واحد. - إذن لماذا جاء بي الملاكان إلى هنا؟ - لكي تسمعي حكم الديان عليك. - ماذا حكمه يا سيدي؟ - حكمه أن تذهبي إلى المطهر؛ حيث تخلعين عنك تاجك، وحيث تنتهين من عجائبك، ثم تعودين إلى هنا. - ويحي! لقد كنت مغرورة مخدوعة. أتوب عن تاج ملكي وعن عجائبي يا سيدي. - ليس هنا مكان التوبة يا بنيتي. - إذن أعود إلى الأرض. - لقد انتهى أجلك على الأرض، فتعودين إلى المطهر الذي أعده الديانون الأرضيون لأمثالك؛ فاذهبي إلى حيث حكم عليك ديانوك.
وفي الحال تقدم لها ملاكان وحملاها، وهبطا بها إلى المطهر، وألقياها عند بابه.
Page inconnue