ثرثرة فوق النيل‏

ثرثرة فوق النيل‏

ثرثرة فوق النيل

ثرثرة فوق النيل

تأليف

نجيب محفوظ

ثرثرة فوق النيل

1

أبريل، شهر الغبار والأكاذيب. الحجرة الطويلة العالية السقف مخزن كئيب لدخان السجائر. الملفات تنعم براحة الموت فوق الأرفف. ويا لها من تسلية أن تلاحظ الموظف من جدية مظهره وهو يؤدي عملا تافها! التسجيل في السراكي، الحفظ في الملفات، الصادر والوارد. النمل والصراصير والعنكبوت ورائحة الغبار المتسللة من النوافذ المغلقة. وسأله رئيس القلم: هل أتممت البيان المطلوب؟

فأجاب بلسان متراخ: نعم، ورفعته للمدير العام.

فرماه بنظرة نافذة لاحت كإشعاع بلوري من وراء نظارته السميكة. هل ضبطه متلبسا بابتسامة بلهاء غير مبررة؟ ولكن هذه السخافات يجب أن تساغ في أبريل، شهر الغبار والأكاذيب.

ودبت حركة عجيبة في رئيس القلم فشملت أعضاءه الظاهرة فوق المكتب. حركة تموجية بطيئة ولكنها ذات أثر حاسم. راح ينتفخ رويدا فيمتد الانتفاخ من الصدر إلى الرقبة، فإلى الوجه، ثم الرأس. حملق أنيس زكي في رئيسه بعينين جامدتين. وإذا بالانتفاخ البادئ أصلا بالصدر يتضخم فيزدرد الرقبة والرأس، ماحيا جميع القسمات والملامح، مكونا من الرجل في النهاية كرة ضخمة من اللحم. ويبدو أن وزنه خف بطريقة مذهلة؛ فمضت الكرة تصعد ببطء أول الأمر، ثم بسرعة متدرجة حتى طارت كمنطاد والتصقت بالسقف وهي تتأرجح. وسأله رئيس القلم: لماذا تنظر إلى السقف يا أنيس أفندي؟

آه. ها هو يضبطه متلبسا مرة أخرى. ورمقته الأعين بإشفاق واستهزاء. واهتزت الرءوس في رثاء احتفاء بملاحظة الرئيس وتأييدا لها. وإذن فلتشهد النجوم على ذلك. حتى الهاموش والضفادع تعامله معاملة أكرم وألطف. أما الحية الرقطاء فقد أدت خدمة لا تتكرر لملكة مصر القديمة. أنتم وحدكم أيها الزملاء لا خير فيكم. والعزاء عندما نلتمس العزاء في قول ذلك الصديق الذي قال: «فلتقم أنت في العوامة. لن تتكلف مليما واحدا من إيجارها، وعليك أن تعد لنا كل شيء.»

وبتصميم مفاجئ راح يسرك مجموعة من الخطابات. السيد المحترم. إشارة إلى كتابكم رقم 1911 المؤرخ في 2 من فبراير 1964م، وملحقه رقم 2008 المؤرخ في 28 من مارس 1964م، أتشرف بالإفادة. ومع رائحة الغبار المتسللة ترامت من راديو في الطريق أغنية: «يا اما القمر على الباب». فتوقفت يده عن الكتاب وغمغم: «الله!» فقال زميله الأيمن: يا بختك بفراغ البال!

يا أولاد الأقدمية المطلقة! في انتظار حلم لن يتحقق تحترفون البهلوانية. وأنا بينكم معجزة تخترق الفضاء الخارجي بغير صاروخ.

ودخل الساعي فسرت في بدنه رعدة رغبة، فقال له: واحد سادة.

فأجاب الساعي وهو يقف أمام مكتبه: ستجده على مكتبك عندما ترجع من مقابلة سعادة المدير العام.

غادر الحجرة بقامته الطويلة الضخمة بحكم ضخامة عظامه، لا بسبب أي درجة من الامتلاء.

في حجرة المدير وقف أمام مكتبه خاشعا، وظل رأس المدير الأصلع مكبا على أوراق يراجعها عارضا لعينيه ظهر قارب مقلوب. وطارد بالبقية الباقية له من إرادته أي خاطر يمكن أن يعبث به فيوقعه في مأزق وخيم العواقب. ورفع الرجل وجها مدببا مغضونا، ثم رمقه بنظرة شوكية. أي خطأ يمكن أن يتسرب إلى البيان الذي نقله بعناية خارقة؟! - طلبت منك بيانا مفصلا عن حركة الوارد في الشهر الماضي. - نعم يا سعادة البك وقد قدمته لسعادتك. - أهو هذا؟

نظر إلى البيان فقرأ على الغلاف بخط يده: «مذكرة عن حركة الوارد خلال شهر مارس مرفوعة إلى السيد مدير عام المحفوظات». - هو يا أفندم. - انظر واقرأ.

رأى أسطرا مكتوبة بوضوح يليها فراغ أبيض. قلب الأوراق في ذهول، ثم حملق في وجه المدير العام كالأبله.

قال الرجل بحنق: اقرأ. - سيدي المدير .. لقد كتبتها حرفا حرفا. - خبرني كيف اختفت؟ - الحق أنه لغز غير قابل للتفسير. - ولكن أمامك آثار سن القلم! - سن القلم؟ - أعطني قلمك الساحر!

وتناول القلم بحركة حادة، وراح يرسم خطوطا على غلاف البيان، ولكنه لم يرسم خطا واحدا. - ليس به نقطة حبر واحدة!

تجلى الوجوم في صفحة وجهه العريض، فقال المدير بمرارة: بدأت بكتابة هذه الأسطر، ثم فرغ الحبر، ولكنك استمررت في الكتابة.

لم ينبس بكلمة. - لم تنتبه إلى أن القلم لا يكتب.

حرك يده حركة حائرة. - خبرني يا سيد أنيس كيف أمكن أن يحدث ذلك؟

أجل كيف؟ كيف دبت الحياة لأول مرة في طحالب فجوات الصخور بأعماق المحيط؟! - لست أعمى فيما أظن يا سيد أنيس؟

أحنى رأسه مستسلما. - سأجيب أنا عنك. إنك لم تر الصفحة لأنك مسطول! - يا سعادة ... - هذه هي الحقيقة، حقيقة معروفة للجميع، حتى السعاة والفراشين. وأنا لست واعظا، ولا ولي أمرك. افعل بنفسك ما تشاء، ولكن من حقي أن أطالبك بأن تمتنع وقت العمل عن البلبعة. - يا سعادة ... - دعنا من السعادة والتعاسة. حقق لي هذا الرجاء المتواضع وهو ألا تبلبع في أثناء العمل. - يشهد الله أني مريض! - إنك المريض الأبدي. - لا تصدق ما ... - كفاية! انظر في عينيك. - هو المرض ولا شيء سواه. - ما رأيت في عينيك إلا الاحمرار والظلام والثقل. - لا تستمع إلى كلام ... - عيناك تنظران إلى الداخل لا إلى الخارج كبقية خلق الله.

ثم ندت عن يديه المغطاتين بشعيرات بيضاء شعثاء حركة وعيد، وقال بنبرة حادة: للصبر حدود؛ فلا تستسلم للتدهور بلا حدود. وأنت رجل في الأربعين، وهي سن العقل؛ فكف عن العبث.

تراجع خطوتين استعدادا للذهاب، فقال الرجل: سأخصم من مرتبك يومين فقط، ولكن احذر أن تعود.

وسمعه وهو يمضي نحو الباب يقول بازدراء: متى تفرق بين الحكومة والغرزة؟!

وبرجوعه إلى الإدارة ارتفعت الرءوس نحوه مستطلعة. تجاهلهم وجلس ينظر إلى فنجان القهوة. وشعر بزميله وهو يميل نحوه ليسأل سؤالا في الغالب، فتمتم في ضجر: كن في حالك.

وأخرج من الدرج محبرة وراح يملأ القلم. عليه أن يعيد البيان من جديد. حركة الوارد. لا حركة البتة في الحقيقة. حركة دائرية حول محور جامد. حركة دائرية تتسلى بالعبث. حركة دائرية ثمرتها الحتمية الدوار. في غيبوبة الدوار تختفي جميع الأشياء الثمينة. من بين هذه الأشياء الطب والعلم والقانون، والأهل المنسيون في القرية الطيبة. والزوجة والابنة الصغيرة تحت غشاء الأرض. وكلمات مشتعلة بالحماس دفنت تحت ركام من الثلج. ولم يبق في الطريق رجل. وأغلقت الأبواب والنوافذ. وثار الغبار لوقع سنابك الخيل. وصاح المماليك صيحات الفرح في رحلة الرماية، كلما عثروا على آدمي في مرجوش أو الجمالية أقاموا منه هدفا لتدريبهم. وتضيع الضحايا وسط هتاف الفرح المجنون، وتصرخ الثكلى: «الرحمة يا مملوك!» فينقض عليها الصائد في يوم اللهو. بردت القهوة وتغير مذاقها، وما زال المملوك يضحك ملء شدقيه. وحل الصداع مكان الخيال وما زال المملوك يضحك. وهم يطلقون اللحى ويثيرون الغبار، ويفرحون بالأبهة والتعذيب.

ودب نشاط مرح في الحجرة القاتمة مؤذنا بوقت الانصراف.

2

استوت العوامة فوق مياه النيل الرصاصية مألوفة الهيئة كوجه. بين فراغ إلى اليمين احتلته عوامة دهرا قبل أن يجرفها التيار ذات يوم، ومصلى إلى اليسار مقام على لسان عريض من الشاطئ مطوق بسور من الطين الجاف ومفروش بحصيرة بالية. دخل أنيس زكي من باب خشبي أبيض يمتد إلى جانبيه سياج من شجيرات البنفسج والياسمين، فاستقبله عم عبده الخفير قائما، يعلو بقامته العملاقة هامة كوخه الطيني المسقوف بالأخشاب وسعف النخيل. ومضى إلى الصقالة فوق ممشى مبلط تكتنفه من الناحيتين أرض معشوشبة، يتوسط يمناها حوض من الجرجير، وتقوم في أقصى اليسرى خميلة من اللبلاب ترامت كخلفية لشجرة جوافة فارعة. وانهلت أشعة الشمس ملحة حامية من خلال سقيفة من أغصان الكافور منطرحة فوق الحديقة الصغيرة من أشجارها المغروسة في الطريق.

خلع ملابسه وجلس بجلبابه الأبيض فوق عتبة الشرفة المطلة على النيل يستقبل نسمة لطيفة، مستسلما للمساتها الحانية، جاريا ببصره فوق الماء المنبسط كأنه مستقر ساكن لا يتموج ولا يتلألأ، ولكنه موصل جيد لأصوات السكان في عوامات الشاطئ الآخر في صفها الطويل تحت أغصان الجازورينا والأكاسيا. وتنهد بصوت مسموع، فسأله عم عبده وهو يعد المائدة الصغيرة الملتصقة بالجدار الأيمن على مبعدة مترين من الفريجيدير النورج: خيرا؟

فتمتم ملتفتا نحوه: صادف الكيف جوا فاسدا مقرفا. - ولكنك تعود آخر الأمر إلى جوك الطيب.

دائما ينتزع إعجابه كشيء ضخم قديم عريق في القدم. وبحيوية النظرة المنبثقة من دائرة التجاعيد الصلبة. وربما أرهبه عمق الحفائر، أو هالة الشعر الأبيض الكث البارز من جيب جلبابه كأزهار البلح. أما جلبابه الدمور المنسدل كغطاء تمثال فينسدل على اللحم بلا عائق. وما اللحم إلا جلد على عظم. ولكن أي عظم؟! هيكل عملاق يناطح رأسه سقف العوامة، ويشع كونه جاذبية لا تقاوم. رمز حقيقي للمقاومة حيال الموت؛ لذلك يحب كثيرا محادثته رغم أن المعاشرة بينهما لم تجاوز الشهر.

وقام إلى السفرة واتخذ مجلسه، وراح يأكل قطعة من الكوستليتة ممسكا بطرف الريشة وهو ينظر إلى الجدار الخشبي المطلي بغراء سماوي، ويتابع برصا صغيرا زحف مسرعا فوق الجدار ثم انزوى وراء مفتاح الكهرباء، وذكره البرص برئيس القلم، ولكن لماذا؟ وألح عليه سؤال مباغت: ترى هل يوجد للمعز لدين الله الفاطمي ورثة يمكن أن يطالبوا ذات يوم بملكية القاهرة؟ - كم عمرك يا عم عبده؟

كان يقف وراء البارافان الحاجب للباب الخارجي مطلا عليه من عل كأنه شجرة سرو سارحة في السحاب، وابتسم كأنما لم يأخذ السؤال مأخذ الجد: عمري!

فأكد سؤاله بهزة من رأسه وهو يتمطق، فعاد العجوز يقول: من أدراني؟

لست خبيرا في تقدير الأعمار، ولكن الراجح أنه كان يسعى فوق الأرض قبل أن تغرس أول شجرة في شارع النيل. ولم يزل قويا بالقياس إلى سنه لدرجة تفوق الخيال.

يتفقد الفناطيس، ويجذب العوامة بحبالها تبعا للأحوال فتطيعه، ويسقي الزرع، ويؤم المصلين، ويحسن طهي الطعام. - هل تعيش وحدك دائما في الكوخ؟ - إنه بالكاد يسعني وحدي. - من أي بلد جئت يا عم عبده؟ - أووه! - أليس لك من أقارب في القاهرة؟ - لا أحد. - نحن شبيهان في ذلك على الأقل، أما طعامك فلذيذ. - تشكر! - إنك تأكل أكثر مما يجوز لشخص في سنك. - آكل ما أستطيع أن أهضمه.

ونظر إلى العظام المتخلفة من الكوستليتة وقال إن المدير العام لن يبقى منه ذات يوم إلا عظام كهذه العظام، وكم يود أن يشهد محاسبته يوم الحساب! وراح يقشر موزة مواصلا تحقيقه: متى خدمت في العوامة؟ - مذ جيء بها إلى مرساها. - متى كان ذلك؟ - أووه! - وصاحبها الأول أهو صاحبها اليوم؟ - تتابع عليها كثيرون. - وعملك هل يعجبك؟

أجاب بزهو: أنا العوامة؛ لأني أنا الحبال والفناطيس، وإذا سهوت عما يجب لحظة غرقت وجرفها التيار.

فضحك لاعتزازه الساذج الجذاب بنفسه، ورنا إليه مليا، ثم سأل: ما أهم شيء في الدنيا؟ - الصحة والعافية.

شيء غامض ساحر في الإجابة أضحكه طويلا، وعاد يسأل: متى عشقت امرأة آخر مرة؟ - أووه! - وبعد العشق ألم تجد شيئا يسرك؟ - قرة عيني في الصلاة. - جميل صوتك وأنت تؤذن.

ثم بنبرة مرحة: ولست دون ذلك جمالا حين تذهب لتجيء بالكيف، أو تغيب لتعود بفتاة من فتيات الليل.

فقهقه مائلا برأسه المغطى بطاقية بيضاء إلى الوراء ولكنه لم يجب. - أليس كذلك؟

فأجاب وهو يمسح بيده الكبيرة على وجهه: أنا خادم السادة.

كلا. وهو العوامة كما قال. الحبال والفناطيس والزرع والطعام والمرأة والأذان.

وقام متأبطا المنشفة فدخل من باب جانبي في ذات الجدار إلى الحوض ليغسل يديه، وعاد وهو يقول لنفسه إن الإفراط وحده كان السبب في أن أكثر الخلفاء لم يعمروا طويلا.

ورأى عم عبده منهمكا في تنظيف المائدة منحني الظهر كنخلة مقوسة، فسأله مداعبا: ألم تر عفريتا في حياتك؟ - رأيت كل شيء.

فغمز بعينه متسائلا: ألم تسكن أسرة شريفة هذه العوامة أبدا؟ - أووه! - يا خفير اللذات! لو لم تحب هذه الحياة لهجرتها من أول يوم. - لكني بنيت المصلى بيدي!

ونظر إلى الكتب المصفوفة فوق الأرفف التي تشغل الجدار الطويل إلى يسار الداخل.

مكتبة التاريخ منذ العصر الخالي حتى عصر الذرة. مجال خياله وكنز أحلامه. وتناول كيفما اتفق كتاب ك. ك. عن الرهبنة في العصر القبطي ليطالع فيه ساعة أو ساعتين قبل القيلولة كعادته كل يوم. وفرغ عم عبده من عمله فاقترب منه مستطلعا آخر تعليماته قبل أن يذهب، عند ذاك سأله: ماذا يجري في الخارج يا عم عبده؟ - كالعادة يا سيدي. - ألا جديد هناك؟ - لم لا تخرج يا سيدي؟ - كل يوم أذهب إلى الوزارة. - أعني أن تخرج للفرجة.

فضحك قائلا: عيناي تنظران إلى الداخل لا إلى الخارج كبقية عباد الله!

وصرفه وهو يوصيه بأن يوقظه قبيل المغرب إذا غلبه النوم.

3

أعد المجلس كأحسن ما يكون. صفت الشلت على صورة هلال كبير فيما يلي الشرفة . وفي نقطة الوسط من الهلال استوت صينية نحاسية كبيرة، جمعت الجوزة ولوازمها. وهبط المغيب فوق الأشجار والماء، فانتشر في الجو حلم هادئ. وآبت أسراب الحمام البيضاء تطير ذراعا فوق النيل. تربع أنيس وراء الصينية رانيا إلى المغيب بعينين ناعستين، متذوقا بمودة رائحة الماء الدسمة وملامح الدنيا، محافظة على هيئتها بوجه عام، ولكن عندما يسري سحر الفص المذاب في القهوة السادة فسوف تتغير أشياء؛ ستحل الأشكال المجردة والتكعيبية والسريالية والوحشية مكان الجازورينا والكافور والأكاسيا وعرائس العوامات، أما الإنسان فيرتد إلى العصر الطحلبي. ولكن ما هي الأسباب التي حولت طائفة من المصريين إلى رهبان؟

بل ما هي آخر نكتة سمعتها عن راهب وإسكاف؟

وسرت هزة خفيفة في العوامة بفعل قدم تسير فوق الصقالة، فتأهب لاستقبال القادم. أقبلت فتاة معتدلة القامة ذات شعر ذهبي. مضت إلى الشرفة وهي تحييه بمرح فتمتم: أهلا بوزارة الخارجية.

ليلى زيدان صديقة الأعوام العشرة الماضية، عانس في الخامسة والثلاثين كما ينبغي لرائدة في فضاء الحرية مرقت من بؤرة محافظة. وأنت لم تمسها ولكن مسها الكبر. هذه التجاعيد الخفيفة كالزغب حول طرف العين والفم، ومسحة من الجفاف القاسي المقفر لإناء لم يترع بماء. ولم تزل بها ملاحة تشتهى في البشرة الصافية رغم غلظ في أرنبة الأنف ونذير غامض يزحف مهددا بالخراب، وكانت في عصر خوفو ترعى الغنم في شبه جزيرة سيناء، ولكنها لم تترك أثرا إذ لدغها ثعبان أعمى فقضى عليها.

قالت دون أن تلتفت إليه كأنما تخاطب النيل: يوم شاق في الوزارة. ترجمت عشرين صفحة فولسكاب. - وكيف حال السياسة الخارجية؟ - ماذا تتوقع؟ - أنا لا أطلب إلا الستر.

غادرت موقفها إلى أقصى شلتة في الجناح الأيمن للمجلس، ثم جلست وهي تقول: المنظر كما هو كل يوم؛ عم عبده جالس في الحديقة كتمثال، وأنت هنا تعد الجوزة! - ذلك أن على الإنسان أن يعمل.

وأذعن لإحساس مترنح فتمثل له المساء بشرا عابثا قد عمر الملايين من السنين. وراح يعرض بامرأة عابدة للحب، كلما هجرها محب ارتمت بين أحضان آخر . وقال: إن ذاك سلوك يمكن أن تفسر به أوجه القمر المتتابعة من المحاق إلى البدر.

فابتسمت ابتسامة باردة، وقالت بسخرية مقلدة نبرته السابقة: ذلك أن على المرأة أن تحب!

وغمغمت «وغد»، فقرأ في وجهها نذيرا خفيفا بالغضب، ولكنه لم يعثر على أثر للكراهية، فآمن بأنها لا تقاس في لهوها بامرأة مثل فيكتوريا ملكة العصر المحافظ المشحون بالتقاليد.

وسألها دون جدية ما: لم لا تتخذين مني رفيقا؟

ولما ألح عليها بعينيه أجابت: إنك إذا استعملت الحب يوما كمبتدأ في جملة مفيدة فستنسى حتما الخبر إلى الأبد!

وتذكر كم كان متفوقا في اللغة العربية مثل المدير العام الذي يشهد له بذلك قراره بخصم يومين من مرتبه، لا لشيء إلا لأنه كتب صفحة بيضاء. وكما قالت له ذات يوم: «أنت بلا قلب»؛ فقد ذهب الأصدقاء ولم يبق في العوامة منهم إلا خالد عزوز وليلى زيدان. ودون أي تمهيد قبض على ساعدها وقال: «أنت الليلة لي أنا.» لماذا خالد دائما؟ وخالد نفسه ورثك بعد هجر رجب لك. وإذن فالليلة لي أنا. وارتفع صوته غاضبا مع أذان الفجر. إذن عم عبده في الخارج، وصرخت أنت كالمجنون في الداخل. وبسط خالد راحتيه ضارعا وهو يقول: «فضحتنا.»

وضحكت ليلى أول الأمر، ثم بكت أخيرا، وطرحت مسألة غاية في الفلسفة، فقيل إنها تحب خالد، وإنها لذلك لا يمكن أن تذعن لرغبته هو رغم صداقتهما، وإلا كانت بغيا. وصاح ليلتها أن الأذان أيسر على الفهم من تلك الألغاز.

وقالت ليلى ناشدة تصفية الجو: الصداقة أهم وهي التي لها البقاء. - ولك طول البقاء!

وكرس كرسيا يدخنانه معا في فترة الانتظار، فجذبت نفسا بشراهة، ثم سعلت طويلا. وردد ما يقوله عادة من أن الكرسي الأول هو كرسي السعال، ثم يجيء الفرج بعد ذلك. وقال لنفسه إنه لم يكن عجيبا أن يعبد المصريون فرعون، ولكن العجيب أن فرعون آمن بأنه إله.

واهتزت العوامة بقوة، وترامت أصوات مختلفة من الخارج، فنظر نحو المدخل المحجوب بالبارافان فرأى الأصدقاء يتتابعون في حيوية؛ أحمد نصر، ومصطفى راشد، وعلي السيد، وخالد عزوز. مساء الخير، مساء الجمال. وجلس خالد إلى جانب ليلى، أما علي السيد فقد ارتمى إلى يمين أنيس هاتفا: أدركنا.

فراح أنيس يكرس ويرص، ثم دارت الجوزة. وتساءل مصطفى راشد: هل من أخبار عن رجب؟

فأجاب أنيس وهو يخمن: قال بالتليفون إنه في الاستوديو، وإنه سيحضر فور الانتهاء من العمل.

وتألقت الجمرات في المجمرة بفعل النسائم المتدفقة من الشرفة. وبلغ نشاط أنيس أقصى مداه، واكتسى وجهه الطويل العريض بغبطة مستقرة وقال: إن الذي جعل من تاريخ الإنسانية مقبرة فاخرة تزدان بها أرفف المكتبات لا يضن عليها بلحظات مضمخة بالمسرة.

ونظر خالد عزوز إلى علي السيد متسائلا: هل عند الصحافة من أخبار جديدة؟

فأومأ علي بذقنه نحو ليلى زيدان قائلا: عند وزارة الخارجية. - ولكنني سمعت أنباء مذهلة حقا.

فقال أنيس ساخرا: لا توجعوا رءوسنا، ما أكثر ما نسمع! ولكن ها هي الدنيا باقية كما كانت، ولا شيء يحدث على الإطلاق.

فقال مصطفى راشد محركا تفاحة آدم: وفضلا عن ذلك فإن الدنيا لا تهمنا كما أننا لا نهم الدنيا في شيء.

فقال أنيس زكي: ما دامت الجوزة دائرة، فماذا يهمكم؟

فرمقه خالد بإعجاب قائلا: خذوا الحكمة من أفواه المساطيل. - اسمعوا ما حصل لي اليوم مع المدير العام.

وأثارت حكاية قلمه عاصفة من الضحك حتى علق عليها علي السيد قائلا: بمثل ذلك القلم تدون معاهدات السلام.

واصلت الجوزة دورانها المنغوم المشتعل، وانعقدت هالة من الهاموش حول مصباح النيون، أما خارج الشرفة فقد استقرت الظلمة واختفى النيل إلا أشكالا هندسية منتظمة وغير منتظمة تعكسها مصابيح الطريق في الشاطئ الآخر، ونوافذ العوامات المضاءة. وتجلت صلعة المدير العام كظهر قارب مقلوب في قبضة الظلام. ووضح تماما أنه من سلالة الهكسوس، فوجب أن يرتد إلى الصحراء. وأسوأ ما يمكن أن تتوقع هو أن تنتهي السهرة كما انتهى شباب ليلى زيدان الأول، وكالرماد الزاحف على جواهر الجمرات. ومن يا ترى الرجل الذي قال: إن الثورات يدبرها الدهاة، وينفذها الشجعان، ثم يكسبها الجبناء؟

وجاء عم عبده فأخذ الجوزة ليغير ماءها، ثم أعادها وذهب دون أن ينبس. وخلع خالد نظارته المذهبة فمسحها وهو ينوه بإعجابه بالرجل العجوز. وخرج أحمد نصر عن صمته المألوف قائلا: إنه من نسل الديناصور!

فقال مصطفى راشد: لنحمد الله على أنه في أرذل العمر، وإلا ما ترك لنا امرأة لنهنأ بها.

وأعاد أنيس على أسماعهم الحديث الذي دار بينه وبين الرجل ظهر اليوم، فقال علي السيد: إن العالم في حاجة إلى رجل في عملاقيته لتستقر سياسته.

وحل صمت مؤقت فارتفعت قرقرة الجوزة، وترامى من الخارج نقيق ضفدع وصراخ صرار الليل. ومن خلال الدخان المنتشر استكنت يد ليلى في يد خالد. أصدقاء العمر، والعزاء. وأنف أحمد نصر الطويل الأقنى لا يضاهيه في شكله سوى أنف علي السيد، وإن نهض الأخير في وجه أعرض وأميل للبياض. وتكلم الظلام خارج الشرفة فقال: لا تكترث لشيء. انحدر صوته مع شعاع نجم كابي الاحمرار قطع المسافة إلى غرزتنا في مائة مليون سنة ضوئية. وقال أيضا لا تجعل من الحياة عبئا. أجل حتى المدير العام نفسه سيختفي ذات يوم كما اختفى الحبر من قلمك. ولم يعد للقلب من هم يحمله مذ دفن في التراب أعز ما كان يملكه. وإذا أردت حقا ارتكاب حماقة للفت الأنظار إليك؛ فتجرد من ثيابك وتبختر في ميدان الأوبرا، وهناك ستجد إبراهيم باشا فوق جواده وهو يشير إلى فندق الكونتننتال، كأطرف دعاية للسياحة في بلادنا. - هل حقا سنموت يوما ما؟ - انتظر حتى تذاع نشرة الأخبار. - أنيس بك يتفلسف. - والحق أنه جاء بسؤال لم يسأله أحد من قبل!

تساءلت ليلى زيدان: ما آخر نكتة؟

فأجاب مصطفى راشد: لم يعد هناك من نكات مذ أصبحت حياتنا نكتة سمجة.

ورنا إلى الظلمة خارج الشرفة فرأى حوتا هائلا يقترب في هدوء من العوامة. إنه ليس بأغرب ما رأى في النيل عند جثوم الليل، لكنه فغر فاه هذه المرة كأنما يعتزم التهام العوامة. وتواصل الحديث بين المساطيل بلامبالاة، فقرر أن ينتظر ما يحدث بلامبالاة، وإذا بالحوت يتوقف عن التقدم ، وإذا به يغمز بعينه وهو يقول: «أنا الحوت الذي نجى يونس.» ثم تراجع واختفى. وعند ذاك ضحك أنيس. وسألته ليلى زيدان عما يضحكه، فأجاب: خيالات غريبة. - وما لنا نحن لا نرى شيئا؟

فأجاب وهو لا يكف عن العمل: ذلك أن الأمر كما قال الشيخ الكبير: «إن المتلفت لا يصل.»

وانهالت التعليقات بلا ضابط: لا شيخ لنا يا دجال. - ولا يوجد متر مربع من الأرض بمنجاة من الزلزال. - وهو لا يخلو كذلك من الرقص والغناء. - إذا أردت أن تضحك من القلب حقا فانظر إلى الأرض من فوق. - يا بخت الذين مستقرهم فوق! - ولكن بصدور اللائحة المالية الجديدة سيهدأ كل بال. - هل تطبق اللائحة على الحيوان أيضا؟ - روعي فيها أن تطب على الحيوان أولا ... - وها هو القمر ينتظر المهاجرين. - وأخشى ما أخشاه أن يضيق الله بنا. - كما ضاق كل شيء بكل شيء. - وكما يضيق رجب بعشيقاته. - وكما يضيق الضيق بالضيق. - والحل، ألا يوجد حل؟ - بلى، علينا أن نتماسك حتى نغير وجه الأرض. - أو نبقى فيما نحن فيه وهو خير وأبقى.

واهتزت العوامة بقدم آتية فتوقعوا ظهور رجب، ولكن دخلت امرأة مرحة الحيوية لا يعيب جسمها الممتلئ إلا أن نصفه الأعلى أضخم قليلا من الأسفل. سنية كامل! قلبت بينهم عينين رماديتين، وتبادلت معهم القبلات. وأجلسها علي السيد إلى جانبه وهو يقول: لم نرك من رمضان الماضي!

وقبل يدها مرتين، ثم تساءل: زيارة عابرة؟

فقالت بنبرة حنون تنطق الراء غينا: زيارة دائمة. - هذا يعني أن زوجك قد هجرك!

فقالت وهي تتناول الجوزة: أو أنني هجرته.

ونشت سحابة شرهة وهي تقول إشباعا لحب الاستطلاع الذي اكتنفها: ضبطته يغازل جارة جديدة! - يا خبر أحمر! - ولعلع صوتي حتى سمعه سابع جار! - برافو! - وتركت البنت والأولاد وذهبت إلى أختي في المعادي. - أمر مؤسف ولكنه ضروري لتجديد الحياة الزوجية. - وأول ما خطر لي بعد ذلك أن أزور عوامتي. - عين الصواب، والعين بالعين.

وأومأ مصطفى راشد إلى علي السيد وهو يقول لها: جاء دور الزوج الاحتياطي.

وتساءل أنيس غاضبا: لماذا لا يكون دوري أنا هذه المرة؟

فقال علي السيد ملاطفا: ولكني احتياطي سنية كامل منذ قديم. - وأنا! - أنت سيدنا وتاج رأسنا وولي نعمتنا، ولو كنت تهتم بالحب لكان لك منه ما تشاء وأكثر. - أنت كاذب.

فأشار إلى الجوزة قائلا: بل لا وقت عندك للحب. - أوغاد! سأقص عليكم ما حصل لي مع المدير العام. - لكنك قصصته بتفاصيله، أنسيت يا ولي النعم؟! - أوغاد. هذا يعني أن الحياة ستمضي قبل أن نستوعب ما يمر بنا.

ودارت الجوزة مختصة سنية كامل برعاية أكبر بصفتها لم تنسطل من رمضان الماضي. وقال أنيس لنفسه إنها سمراء وعصبية وتحب الضحك، ولا تنسى أولادها حتى في غيبوبة الحب والسطل، وتعود في النهاية إلى زوجها، لكنها تعاشره وتهجره عاما، وتهجره عاما، وتقسم دائما أن الحق عليه. وجاء بها رجب أول مرة، كما جاء يوما بليلى زيدان؛ ذلك أنه إله الجنس وممون عوامتنا بالنساء. عرفت له جدا قديما كان يسعى في الغابات قبل أن يقام بناء واحد على ظهر الأرض. كان يدفن في أحضان النساء مخاوفه من الحيوان والظلام والمجهول والموت. كان له رادار في عينيه وراديو في أذنيه وقنبلة مجسمة في قبضة يده. وحقق انتصارات عجيبة قبل أن يتهاوى هالكا، وأما حفيده رجب ...

واهتزت العوامة، وترامى صوت رجب القاضي وهو يقول مخاطبا شخصا معه: «على مهلك يا عزيزتي.»

حل في نظراتهم الاهتمام، فتمتم خالد: لعلها ممثلة جاء بها من الاستوديو.

وظهر من وراء البارافان رجب بقوامه الممشوق وسمرته الداكنة وقسماته الرشيقة، تتقدمه فتاة دون العشرين عمرا، سمراء، تنتظم وجهها المستدير قسمات صغيرة دقيقة تنطق بالخفة. ولا شك أنه قرأ في وجوه أصدقائه دهشة لحداثة سنها، فقال باسما بنبرته الموسيقية: آنسة سناء الرشيدي، طالبة بكلية الآداب.

4

تركزت الأعين على القادمة الجديدة، ولكنها لم ترتبك، وأجابت بنظرة باسمة جريئة.

وطوق رجب خاصرتها بذراعه، وسار بها إلى مجلسه فجلس ثم أجلسها إلى جانبه وهو يقول: أدركني يا ولي النعم!

فتساءل أحمد: أمام الآنسة؟

فقال مستنكرا: لا يجوز الكذب أمام معجبة صادقة!

وجذب نفسا طويلا عميقا قويا حتى توهجت دقاق الجمرات فوق الكرسي، نافثة لسانا راقصا من اللهب. أغمض عينيه تلذذا، ثم فتحهما وهو يقول لسناء: دعيني أقدم لك الأصدقاء الذين سيصيرون منذ الليلة أسرتك.

وانتبه إلى وجود سنية كامل لأول مرة فصافحها بحرارة، وخمن أسباب مجيئها فوافقت بضحكة، ثم راح يقدمها قائلا: من بنات المير دي دييه. زوجة وأم. امرأة ممتازة حقا، وفي أوقات الكدر العائلي تعود إلى أصدقائها القدماء. سيدة مجربة عرفت الأنوثة عذراء وزوجا وأما؛ فهي تعد كنزا من الخبرة للفتيات الصغيرات في عوامتنا.

وندت أصوات ضحك، وابتسمت سناء، أما سنية فرمته بنظرة احتجاج لم تبلغ درجة الغضب، وتحول إلى ليلى زيدان قائلا: آنسة ليلى زيدان، خريجة الجامعة الأمريكية، مترجمة بالخارجية، جمال وثقافة إلى مركز باهر في تاريخ المرأة الرائدة في بلادنا، وعلى فكرة فإن شعرها ذهبي حقيقة، لا زيف فيه ولا صباغة.

وتحول إلى أنيس زكي المنهمك في عمله قائلا: أنيس زكي، موظف بوزارة الصحة، ولي أمر عوامتنا، وزير شئون الكيف، رجل مثقف كحضرتك وهذه مكتبته، وقد طاف بكليات الطب والعلوم والحقوق، فمضى بعلومها دون شهاداتها كأي رجل لا تهمه المظاهر، من أسرة ريفية محترمة، ولكنه يعيش منذ دهر وحيدا في القاهرة، كأنه إنسان عالمي، ولا تسيئي الظن بسكوته إذا لم يحادثك كثيرا؛ فهو يهيم في الملكوت!

والتفت إلى أحمد نصر قائلا: أحمد نصر، مدير حسابات الشئون. موظف خطير، ومرجع في عديد من الخبرات كالبيع والشراء وكثير من الشئون العملية المفيدة. وله ابنة في مثل سنك، ولكنه زوج شاذ يستحق الدراسة؛ تصوري أنه زوج منذ عشرين عاما، لم يخن زوجه مرة واحدة، ولم يمل عشرتها، ويزداد تعلقا بحياته الزوجية؛ لذلك أقترح أن يكون موضع دراسة في المؤتمر الطبي القادم.

وأشار إلى مصطفى راشد مستطردا: الأستاذ مصطفى راشد المحامي المعروف. محام ناجح وفيلسوف أيضا. متزوج من مفتشة بوزارة التربية، وهو يتطلع بصدق إلى المطلق، وسوف ينجح في إدراكه ذات ليلة، ولكن خذي حذرك منه فهو يقول إنه ما زال يفتقد حتى اليوم أنموذجه المفضل من النساء.

وربت على ظهر علي السيد قائلا: الأستاذ علي السيد، الناقد الفني المعروف، طبعا قرأت له كثيرا، وأحب أن أخبرك بأنه يحلم كثيرا بمدينة فاضلة خيالية، أما عن واقعه فهو متزوج من اثنتين، وصديق سنية كامل، والبقية تأتي.

وأخيرا أومأ إلى خالد عزوز وهو يقول: الأستاذ خالد عزوز، في الصف الأول من كتاب القصة القصيرة عندنا. يملك عمارة وفيلا وسيارة وأسهما في مذهب الفن للفن، فضلا عن ولد وبنت، وله فلسفة خاصة لا أدري كيف أسميها، ولكن الإباحية من سماتها الظاهرة.

وابتسم إليها كاشفا عن أسنان بيضاء نضيدة، ثم تمتم: لم يبق من عوامتنا إلا عم عبده الذي مررنا بشبحه في الحديقة ونحن في طريقنا إلى هنا، وسوف تعرفينه بطبيعة الحال، وما من أحد في شارع النيل إلا ويعرفه.

ونادى أنيس عم عبده وأمره بتغيير ماء الجوزة، فمضى بها من الباب الجانبي، ثم أعادها بعد قليل وذهب، اتسعت عينا سناء عجبا لضخامته، فقال رجب: من حسن الحظ أنه مثال الطاعة، وإلا فلو شاء لأغرقنا جميعا.

لا خوف من الغرق ما دام الحوت في الماء، ويد الفتاة القاصرة صغيرة كيد نابليون، ولكن أظافرها حمراء مدببة كمقدم قارب سباق، وبوجودها تكتمل مجموعة قانون العقوبات المستحقة على عوامتنا.

وها هو الظلام قد بدأ يتكلم.

تساءل مصطفى راشد محركا تفاحة آدم: وما تخصص الآنسة في الآداب؟

فأجابت بنبرة كغزل البنات: التاريخ.

فتأوه أنيس: الله!

فصاح به رجب: ليس تاريخها بتاريخك الدامي، ولكنها معنية بالأشياء الحلوة. - ليس في التاريخ أشياء حلوة. - كغرام أنطونيو وكليوباترا. - كان غراما داميا. - على أي حال لم يقتصر كله على السيف والحية.

وبدت سناء قلقة، ونظرت نحو البارافان متسائلة: ألا تخافون البوليس؟

فتساءل مصطفى راشد باسما: بوليس الآداب؟

فقالت بعد أن سكت الضحك: والمباحث أيضا؟

فقال علي السيد: لأننا نخاف البوليس والجيش والإنجليز والأمريكان والظاهر والباطن؛ فقد انتهى بنا الأمر إلى ألا نخاف شيئا. - ولكن الباب مفتوح! - في الخارج عم عبده، وهو كفيل برد أي اعتداء .

وقال لها رجب باسما: لا تقلقي يا نور العين؛ فالدولة منهمكة في البناء، ولديها ما يشغلها عن إزعاجنا.

وقدم لها مصطفى راشد الجوزة قائلا: جربي هذا النوع من الشجاعة.

ولكنها اعتذرت برقة، فقال رجب: خطوة خطوة، لقد بدأ الإنسان بأظافره وانتهى بالصاروخ. لفوا لها سيجارة.

وفي دقيقتين قدمت لها سيجارة فتناولتها بشيء من الحذر، ولكنها رشقتها بين شفتيها. ورمقها أحمد نصر بإشفاق، فقال أنيس لنفسه إنه يخاف في الحقيقة على ابنته، ولو عاشت ابنتي لكانت قرينة لسناء.

ولكن ما قيمة أن تبقى أو أن تذهب، أو أن تعمر كسلحفاة؟ ولما كان الزمن التاريخي لا شيئا بالقياس إلى الزمن الكوني؛ فسناء معاصرة في الواقع لحواء، ويوما ستحمل لنا مياه النيل شيئا جديدا يستحسن ألا نسميه، فقال له صوت الظلام: «أحسنت.» ولا أستبعد أن أسمع ذات ليلة نفس الصوت وهو يأمرني بعمل خارق يذهل له من لا يؤمن بالمعجزات. وقد قال العلم في النجوم كلمته، ولكن ما هي في الحقيقة إلا أفراد عالم آثروا الوحدة فتباعدوا عن بعضهم آلاف السنين الضوئية. فيا أي شيء افعل شيئا فقد طحننا اللاشيء!

وسألها أحمد نصر بحنان: وهل تجدين وقتا للمذاكرة؟

فأجاب رجب: طبعا، ولكنها مولعة بالفن أيضا.

فحذرته بسبابتها قائلة: لا تجعل مني موضوعا للسمر. - ويل لمن تحدثه نفسه بشيء من ذلك.

فتساءل أحمد نصر: تريدين أن تكوني ممثلة؟

فابتسمت دون معارضة فاستطرد: ولكن ...

فقاطعه رجب: اسكت يا رجعي. إن أشنع تهمة في عصرنا هي الرجعية.

وأمسك بأصبعيه ذقنها، فأمال وجهها إليه، ثم قال وهو يتفحصها باهتمام: دعيني أدرس وجهك. جميل، تضمر نظرته قوة خفية. بلحة مسكرة ذات نواة صلبة، ونظرة فتاة قاصر، ولكنها عند التقطيب تشع دهاء امرأة، أي دور يصلح لك؟ لعله دور الفتاة في سيناريو لغز البحيرة!

سألته باهتمام: ما دورها على وجه التحديد؟ - فتاة بدوية تحب صيادا ماكرا ممن يتخذون من الحب لهوا، يستهين بها أول الأمر، ولكنها تؤدبه وتمشيه على العجين. - هل أصلح له حقا؟ - إنما أنطق عن غريزة فنية يؤمن بها المنتجون والموزعون معا. لحظة من فضلك، زمي شفتيك، أريني كيف تقبلين. احذري الخجل، الخجل عدو فن التمثيل. أمام الجميع، قبلة حقيقية بكل معنى الكلمة، قبلة يجب أن يتحسن بعدها الموقف الدولي.

وطوقها بذراعيه القويتين الطويلتين، وتلاقت شفتاهما بقوة وحرارة في صمت سكتت فيه الأشياء حتى القرقرة، ثم صاح مصطفى راشد: هذه لمحة من المطلق الذي أرهق نفسي في البحث عنه.

وقال خالد عزوز بحماس متدفق: أيها السادة، أهنئكم. يجب أن نهنئ أنفسنا جميعا. يجب أن نحيي هذه اللحظة الحضارية الرائعة، والساعة يمكن أن نقول إن الفاشستية قد اندحرت تماما، وإن بديهيات إقليدس قد تلاشت، فتقبلي يا سناء - بلا ألقاب من الآن فصاعدا - إعجابي.

فقالت ليلى زيدان باسمة: دع لأحد غيرك الكلام إكراما لي.

قال متأسفا: الغيرة ليست غريزة كما يقول الجاهلون، ولكنها تراث إقطاعي!

لست بغيا. اللعنة! يا رائحة النيل المضمخة بعبير رحلة طينية مرهقة. وثمة شجرة معمرة في البرازيل استوت على سطح الأرض قبل أن يوجد الهرم. هل أنا وحدي بين هؤلاء المساطيل الذي يضاحك هذه الموجة المستهترة؟ هل أنا وحدي الذي أسمعها وهي تهمس لي إن دق الباب أربعين دقة يتحقق لك ما لا يمكن أن يتحقق؟ فمتى ألعب بالمجموعة الشمسية لعب الهواة بالكرة؟ وذات يوم دفعت إلى معركة دامية، وأنا أخلص بين متخاصمين.

ومرق خارج الشرفة خفاش كالرصاصة، وراح يتأمل نقوش الصينية النحاسية المرسومة على هيئة دوائر متداخلة تفصل بينها مساحات محفورة بالترتر قد غشاها الرماد ونفايات المعسل. وغفا غفوة قصيرة حيث يجلس، ولما فتح عينيه وجد مصطفى راشد وأحمد نصر قد ذهبا. وأغلقت الحجرة المطلة على الحديقة على ليلى وخالد، والحجرة الوسطى على سنية وعلي السيد، أما رجب وسناء فقد وقفا في الشرفة يتناجيان. لم تبق خالية إلا حجرته، وأغلب الظن أنها ستغلق بابها في وجهه هذه الليلة. وتناجى العروسان: كلا. - كلا؟! جواب لا يليق بعصرنا! - المفروض أنني أذاكر عند صديقة. - فليكن الدرس عند صديق!

ومد ساقه فصدم الجوزة فألقاها على جانبها، فسال لعابها الأسود وتدفق نحو عتبة الشرفة.

لا أهمية لشيء. حتى الراحة لا معنى لها. ولم يبدع الإنسان ما هو أصدق من المهزلة.

وإذا بقامة عم عبده تحجب ضوء المصباح الغارق في الهاموش: آن الأوان؟ - نعم.

ومضى يجمع الأدوات ويكنس النفايات بهمة عالية، ثم نظر إليه متسائلا: متى تذهب إلى حجرتك؟ - فيها عروس جديدة! - أووه! - ألا يعجبك الحال؟

فضحك قائلا: فتيات شارع النيل ألطف وأرخص.

فقهقه أنيس طويلا حتى جرى صوته مدويا فوق سطح النيل وقال: يا جاهل، وهل هؤلاء كأولئك؟ - عندهن أعضاء أكثر؟ - كلا، ولكنهن سيدات محترمات. - أووه! - لا يبعن أنفسهن، ولكنهن يمنحن ويأخذن كالرجال سواء بسواء. - أووه! - أووه! - وهل لذلك ستنام في الشرفة حتى يغسلك الندى؟ - ما أجمل أن يغسلنا الندى!

فحياه مبتعدا وهو يقول: أنا ذاهب لصلاة الفجر.

ونظر إلى النجوم وراح يحصي منها ما يستطيع عده. وأرهقه العد حتى جاءته نسمة عطرة من حديقة القصر. وهارون الرشيد جالس على أريكة تحت شجرة مشمش، والجواري يلعبن بين يديه، وأنت تصب له الخمر من إبريق من الذهب. ورق أمير المؤمنين حتى صار أصفى من الهواء، وقال لك: هات ما عندك.

ولم يكن عندك شيء فقلت قد هلكت، ولكن الجارية ضربت أوتار العود وغنت:

وأذكر أيام الحمى ثم أنثني

على كبدي من خشية أن تصدعا

وليست عشيات الحمى برواجع

عليك ولكن خل عينيك تدمعا

فطرب الرشيد حتى ضرب بيديه ورجليه، فقلت: ها هي فرصة لتهرب. وانسحبت بخفة، ولكن الحارس العملاق لمحك فاتجه نحوك فجريت فجرى وراءك شاهرا سيفه فصرخت مستغيثا بآل رسول الله، فأقسم ليرمين بك في سجن بينهم.

5

استسلم للغروب بجسد منتعش بعد دش بارد. وانتشر في الجو النعاس والهدوء الشامل، وأسراب الحمام ترسم فوق النيل أفقا أبيض. لو في الإمكان أن يدعو المدير العام إلى العوامة لضمن لنفسه هدوءا كالغروب، ولاستل من قبضته البرنزية أشواكها المؤذية.

وحسا آخر حسوة من الفنجان السادة الممزوج بالسحر، ولعق بلسانه الرواسب.

وجاء الأصدقاء تباعا كما جاء رجب وسناء. طيلة أسبوع وهما متلازمان. وآنست سناء أخيرا إلى الجوزة حتى همس أحمد نصر في أذن رجب: «البنت صغيرة!» ولكنه أجابه همسا أيضا وهو مرتكز بكوعه على ركبة أنيس: «لست أول فنان في حياتها!» وجعلت ليلى زيدان تردد: «الويل لمن تحترم الحب في عصر لا يكن للحب احتراما!» ولم يجد أحمد نصر من يفضي إليه بأفكاره المحافظة إلا أنيس المسالم، فمال على أذنه قائلا: جميل أن تدعى ساقطة الأمس بفيلسوفة اليوم!

فأجابه أنيس: هذا ما آل إليه حال الفلسفة بصفة عامة.

وفرقع علي السيد بأصابعه ملفتا الأنظار إليه، ثم قال بجدية: على فكرة يجب أن أبلغكم رسالة قبل أن تنسطلوا.

فاتجهت إليه بعض الأنظار، فقال بصوت واضح: سمارة بهجت ترغب في زيارة العوامة!

استقرت عليه الأبصار في اهتمام شامل، حتى أنيس نفسه وإن لم يكف عن العمل: الصحفية؟ - زميلتي الجميلة النابهة!

انقضت فترة صمت للاستيعاب والهضم، وتجلت في الأعين نظرات غامضة، حتى تساءل أحمد نصر: لكن لماذا ترغب في زيارتنا؟ - أنا المسئول عن إثارة اهتمامها بكم بأحاديثي العريضة عن العوامة!

فقال رجب القاضي: أنت طويل اللسان، ولكن أتحب صاحبتك العوامات؟! - ليس الأمر كذلك، ولكنها تعرف أو تسمع عن أكثر من شخص في العوامة. أنا مثلا صديق وزميل، خالد عزوز من قصصه، وأنت من أفلامك. - هل عندها فكرة عما يدور هنا؟ - تقريبا، وجونا ليس بالغريب عليها بحكم عملها وخبرتها بالحياة. - إذا حكمنا عليها بما تكتب فهي جادة لدرجة الرعب. - وإنها لكذلك في الواقع، ولكن في كل إنسان جانب ينشد العلاقات الإنسانية العادية.

فتساءل أحمد نصر في شيء من الضيق: هل لها جولات مماثلة؟ - أظن ذلك. هي ودود حقا وتحب الناس.

فقال أحمد نصر أيضا: ولكنها ستصادر حريتنا. - لا ... لا ... لا، لا تحمل هما من هذه الناحية. - هل تشاركنا فيما نحن فيه؟ - إلى حد ما؛ أعني في الأمور البريئة. - البريئة! هذا يعني أننا سنكون موضوع تحقيق صحفي!

فقال بتوكيد: إنها قادمة للتعارف لا لشيء آخر.

لا تهتم بالموضوع أكثر من ذلك وإلا ضاع التدخين هباء. وتذكر كيف استقبل الفرس أول نبأ عن الغزو العربي. وابتسم. ورأى على سطح الصينية عديدا من الهاموش الهالك، فخطر له أن يسأل: إلى أي نوع من الكائنات ينتمي الهاموش؟

اعترض السؤال أفكارهم في تطفل مزعج، ولكن مصطفى راشد أجاب ساخرا: من الحيوانات الثديية.

واستطرد علي السيد قائلا: ما على الرسول إلا البلاغ، فإذا لم يرق لكم دعوتها.

لكن رجب قاطعه قائلا: لم نسمع رأي الجنس الآخر؟

ولم تبد ليلى زيدان اعتراضا، ولا سنية كامل، أما سناء فقالت: لندع الرأي لأنيس وأحمد ومصطفى؛ فهم في حاجة إلى صديقة!

ولكن علي السيد اعترض قائلا: لا ... لا يصح التفكير في ذلك، لا تحرجوني وحياة أمكم.

فتساءلت سناء وهي تزيح بأنملتها خصلة ضالة عن حاجبها: إذن لم تود أن تجيء؟ - قلت ما فيه الكفاية.

فتساءل أنيس: إذا كان الهاموش من الحيوانات الثديية، فما وجه الإصرار على أن صاحبتك ليست من ذلك النوع؟

فقال علي السيد موجها خطابه للجميع دون توقف عند مقاطعة أنيس: حريتكم مكفولة في كل شيء، في القول والفعل، في التدخين والبذاءة، لا تحقيق ولا دراسة، ولا أي نوع من المكر الصحفي، ثقوا بذلك كل الثقة، ولكن لا يليق أن تعامل معاملة امرأة عابثة! أعني أنها آنسة فاضلة، كأي واحدة منكن، لا تقبل أن تعامل كامرأة مستهترة.

فسألته سنية بحدة: ماذا تعني بامرأة عابثة؟! - أعني أنها آنسة فاضلة، كأي واحدة منكن، لا تقبل أن تعامل كامرأة مستهترة ...

فقال أحمد نصر: الحق أني لا أفهم شيئا. - هذا هو المتوقع منك دائما أيها القرن التاسع عشر، ولكن الجميع يفهمونني بلا صعوبة على الإطلاق.

فقال خالد عزوز: لعلها رغم مقالاتها الأسبوعية برجوازية قحة. - ليست من البرجوازية في شيء مما تعنيه.

وقال مصطفى راشد: قدم لنا عنها فذلكة مفيدة. - حسن، هي في الخامسة والعشرين. ليسانس لغة إنجليزية، وقد حصلت عليه وهي دون العشرين بقليل. صحفية ممتازة أكبر بكثير من سنها، وذات آمال أدبية ترجو أن تتحقق ذات يوم، ممن يأخذن الحياة مأخذ الجد، وإن تكن لطيفة المعشر. ومعروف أنها رفضت زواجا برجوازيا فاخرا رغم مرتبها الصغير. - لماذا؟ - الرجل دون الأربعين. مدير مؤسسة. صاحب عمارة كخالد عزوز، فضلا عن أنه قريب لها من ناحية الأب، ولكنها لم تكن تحبه فيما أعتقد.

فقال خالد: إذا صح الحكم عليها من قلمها فهي فتاة متطرفة. - قل إنها تقدمية، ولكنها صادقة مخلصة. - هل اعتقلت مرة؟ - كلا، إنها زميلتي منذ عينت في مجلة كل شيء. - لعلها اعتقلت وهي طالبة؟ - لا أظن، وإلا كنت عرفته في أثناء أحاديثنا الطويلة. على أي حال لا أقطع في ذلك برأي.

فتساءلت سناء: ماذا يضطركم إلى استضافة امرأة خطرة لا يمكن أن تعدنا بأي تسلية؟

فقالت ليلى زيدان: يجب أن تأتي؛ نحن في حاجة إلى دم من نوع جديد.

فقال علي السيد: اتفقوا على رأي، إنها الآن في النادي، فإذا شئتم دعوتها بالتليفون.

فسأله أنيس: هل أخبرتها بأن الذي يجمعنا ها هنا هو الموت؟

لم يجبه، ولكنه اقترح أخذ الأصوات، وضحك أنيس لذكريات محنطة، واقترح أن يدعى عم عبده للإدلاء بصوته، وطوق رجب سناء بذراعيه، على حين نهض علي السيد إلى التليفون.

6

بعد المكالمة التليفونية بنصف ساعة غادر علي السيد مجلسه ليستقبل القادمة عند الباب. وما لبثت العوامة أن اهتزت هزتها الانسيابية لوقع الأقدام الضاربة فوق الصقالة. وتمنى أحمد نصر لو كانوا أخفوا الجوزة وأدواتها حتى تطمئن القلوب إلى الزائرة، ولكن رجب القاضي أشار إلى أنيس قائلا باستهانة: كرس ورص.

ظهرت من وراء البارافان باسمة الوجه، وتقدمت - يتبعها علي السيد - وهي تتلقى النظرات المركزة في هدوء ودي ودون ارتباك. وقف الرجال جميعا، حتى أنيس وقف في جلبابه الأبيض المنحسر عن أسفل ساقيه، وقام علي السيد بالتعريف التقليدي، واقترح أحمد نصر أن يجيء لها بكرسي، ولكنها رغبت في الجلوس على شلتة، فالتصق رجب - بحركة لا إرادية - بسناء، مفسحا لها مكانا إلى جانبه. واستأنف أنيس عمله وهو يسترق إليها النظر. توقع مما سمع أن يرى شيئا غريبا. وهي حقا ذات شخصية، ولكن أنوثتها جذابة بلا عائق. ورغم ثقل جفنيه رأى سمرتها المتبدية بلا رتوش ، وملامحها واضحة كأناقتها البسيطة، ولكن في نظرتها ذكاء يصد عن اكتناه أغوارها. وخيل إليه أنه رآها من قبل، ولكن في أي عصر من العصور الغابرة؟ وهل كانت ملكة أو من الرعية؟ وعندما استرق إليها النظر مرة أخرى طالعته صورة جديدة! حاول أن يستوعبها، ولكن التركيز أرهقه فحول عينيه إلى الليل.

وأعقب ضجة التعارف والمجاملات المعتادة صمت، وغنت القرقرة مع صرار الليل. وبلباقة لم تخص سمارة الجوزة بأية نظرة قد تنم عن شيء. ولما امتدت بها يد أنيس إليها تلقت الغاب بين شفتيها دون أن تدخن على سبيل التحية، ثم أمرتها إلى رجب، وتناولها رجب وهو يقول: كوني على راحتك.

فالتفتت نحوه قائلة: شاهدتك في فيلمك الأخير «شجرة بلا ثمر»، وأشهد أنك أديت دورك بتفوق رائع.

ولم يكن تواضعه ليخجل من الثناء، ولكنه تساءل في حذر: رأي أم مجاملة؟ - بل رأي، وهو رأي الملايين.

ونظر أنيس من خلال الدخان إلى سناء، فرآها تروض خصلة شعرها المتمردة، وابتسم. المدير العام نفسه بما له من سلطة تنص عليها اللائحة العامة للشئون المالية والإدارية لا يتجاوز اختصاصه شئون الوارد والصادر. وثمة آلاف من الشهب تتناثر من الكواكب لتحترق وتتبدد، منهالة على جو الأرض دون أن تمر بالأرشيف أو تسجل في دفتر الوارد، أما الألم فقد خص به القلب وحده.

وإذا بسمارة تقول مخاطبة خالد عزوز: أما أنت فآخر ما قرأت لك أقصوصة الزمار.

ثبت خالد النظارة على عينيه، فاستطردت: الزمار الذي انقلب مزماره إلى حية تسعى.

فقال مصطفى راشد: وقد استحق منذ نشرها أن يدعى بحق خالد الحنش! - قصة غريبة ومثيرة.

فقال علي السيد: صديقنا نجم مدرسة الفن للفن، ولا تتوقعي أن ينبثق من عوامتنا فن آخر!

وقال مصطفى راشد: وعما قريب سينبثق منها أدب العبث المعروف باللامعقول.

فقال رجب: ولكن اللامعقول موجود بيننا بوفرة حتى قبل أن يوجد كفن. زميلك علي السيد معروف بأحلامه اللامعقولة، ومصطفى راشد يجري وراء اللامعقول باسم المطلق، وولي أمر عوامتنا حياته كلها لا معقولة مذ هجر الدنيا من حوالي عشرين عاما.

فضحكت سمارة متجاوزة وقارها وقالت: أنا شيخة حقا منذ حدثني قلبي بأني واجدة عندكم أشياء عجيبة مثيرة!

فتساءل رجب: قلبك الذي حدثك، أم وشايات علي السيد؟ - لم يقل إلا خيرا. - على ذلك فليست عوامتنا بالوحيدة في نوعها؟ - ربما، ولكن ما أكثر الناس وما أقل من يصلح للصداقة بينهم! - تصورت أن الصحفي هو آخر من يقول ذلك! - الناس يلقوننا عادة بالوجه الذي يلقون به الفوتوغرافيا.

فقال خالد عزوز: ها نحن نلقاك بالصدق والفطرة البريئة، فمتى تبادليننا نفس المعاملة؟

وهي تضحك: اعتبرني كذلك، أو فامنحني أقصر مدة ممكنة.

حمل أنيس المجمرة إلى عتبة الشرفة بعد أن زودها بقطع من الفحم. تعرضت هناك لتيار الهواء، وراح ينتظر. واتسعت المراكز المحترقة في شتى القطع، حتى استحال سواد الفحم حمرة متوهجة هشة عميقة ناعمة. واندلعت عشرات من الألسنة الصغيرة الموسومة بالشفق، فانتشرت، ثم تلاقت أجنحتها مكونة موجة راقصة نقية شفافة مكللة الأطراف بزرقة خيالية، ثم أزت فتطاير من جوفها سرب من عناقيد الشرر. وصرخت أصوات نسائية فأعاد المجمرة إلى مكانها. واعترف فيما بينه وبين نفسه بإعجابه غير المحدود بالنار. إنها أجمل من الورد والأعشاب والفجر البنفسجي، فكيف أمكن أن تطوي بين جوانحها أكبر قوة مدمرة؟ يجب إذا أسعفتك الهمة أن تقص عليهم قصة الإنسان الذي اكتشف النار، ذلك الصديق القديم الذي كان له أنف علي السيد، وجاذبية رجب القاضي، وعملقة عم عبده. وأين ذهبت الفكرة الطريفة التي اعتزمت طرحها للمناقشة عندما حملت إلى الشرفة المجمرة؟!

وقال مصطفى راشد: أنا محام، والمحامي بطبعه سيئ الظن، وأكاد أتخيل الآن ما يدور في رأسك عنا. - لا شيء في رأسي مما تظن. - مقالاتك تزخر بالنقد المرير للسلبية، ونحن يمكن أن نعد - في نظر البعض - السلبية نفسها! - لا ... لا، لا يجوز الحكم على الناس في أوقات فراغهم.

فقال رجب ضاحكا: إنها بالأحرى أعمار فراغ! - لا تذكروني بأني غريبة عنكم.

فقال أحمد نصر: قلة ذوق أن نجعل من أنفسنا موضوعا للحديث بينا أن المهم حقا هو أن نعرف عنك ما نجهله. - لست لغزا.

وقال علي السيد: ومقالات الكاتب تتكفل بالكشف عنه.

فسأله مصطفى راشد: هل تفعل ذلك مقالاتك النقدية؟

وضج المكان بالضحك، حتى علي السيد ضحك طويلا، وقال وما زالت أساريره ضاحكة: إني أحدكم أيها المنحلون العصريون، ومن شابه أصدقاءه فما ظلم، ولكن هذه الفتاة صادقة للأسف!

فقال خالد عزوز: كل قلم يكتب عن الاشتراكية على حين تحلم أكثرية الكاتبين بالاقتناء والإثراء وليالي الأنس في المعمورة.

فتساءلت سمارة: هل تناقشون هذه الأمور كثيرا؟ - كلا، ولكننا ندفع إليها إذا عرض أحدهم بحالنا.

ونادى أنيس عم عبده، فجاء العجوز العملاق ومضى بالجوزة من الباب الجانبي، ثم رجع بها بعد أن غير ماءها. انجذبت عينا سمارة إليه طيلة حضوره، ثم تمتمت عقب اختفائه: يا له من عملاق جذاب!

وتذكر علي السيد أنه الشخص الوحيد من أهل العوامة الذي لم يقدمه لها، فقال: هو عملاق حقا، ولكنه لا يكاد يتكلم. يعمل كل شيء ولكنه لا يتكلم إلا فيما ندر، ويخيل إلينا كثيرا أنه غارق أبدا في لحظته الراهنة، ولكن لا يمكن الجزم في ذلك بشيء قاطع. وأعجب شيء أنه قد يصدق عليه أي وصف؛ فهو قوي وهو ضعيف، وهو موجود وغير موجود، وهو إمام المصلى المجاور وهو قواد!

فضحكت سمارة طويلا، ثم قالت: الحق أني أحببته من أول نظرة!

فقال رجب بتلقائية: عقبى لنا!

نظرت سناء إلى الليل كالهاربة، ولكنه طوق خاصرتها بذراعه كالمعتذر. واقتحمت رأس أنيس تساؤلات شتى، هل اجتمع هؤلاء الأصدقاء - كما يجتمعون الليلة - بثياب مختلفة في العصر الروماني؟ وهل شهدوا حريق روما؟ ولماذا انفصل القمر عن الأرض جاذبا وراءه الجبال؟ ومن من رجال الثورة الفرنسية الذي قتل في الحمام بيد امرأة جميلة؟ وما عدد الذين ماتوا من معاصريه بسبب الإمساك المزمن؟ ومتى تشاجر آدم - بعد الهبوط من الجنة - مع حواء لأول مرة؟ وهل فات حواء أن تحمله مسئولية المأساة التي صنعتها بيدها؟

ونظرت ليلى زيدان إلى سمارة متسائلة: وهل تبقين دائما في كامل وعيك؟ - القهوة والسجائر ولا شيء غيرهما .

فقال مصطفى راشد: أما نحن فقد نسمع مرة عن خطة حاسمة للقضاء على المخدرات، فلا ندري ماذا يمكن أن يبقى لنا. - لهذه الدرجة!

وذكر رجب بأن لديهم ويسكي أيضا، فرحبت بكأس، فقام بنفسه وأعدها لها، ثم تساءلت عن سر تعلقهم بالجوزة، فلم يتطوع أحد بجواب، حتى قال علي السيد: إنها محور جلستنا، ولا سعادة حقيقية لنا إلا في هذه الجلسة.

وافقت بهزة من رأسها على أنها جلسة سعيدة حقا، وإذا بسنية كامل تقول لها: لا تهربي، لديك ما تقولينه مما يدخل في صميم الموضوع. - لا أريد أن أردد الأكليشيهات المحفوظة، ولا أحب أن أسقط كالتمثيليات الهادفة!

فقال أحمد نصر: ولكننا نحب أن نعرف آراءك؟

إني أعلنها تباعا كل أسبوع.

ثم تساءلت بعد رشفة من الويسكي: ولكن ما آراؤكم أنتم؟

فقال مصطفى راشد: نحن نعمل للرزق في نصف اليوم الأول، ثم نجتمع بعد ذلك في زورق ليسبح بنا في الملكوت.

فسألت باهتمام حقيقي: ألا يهمكم حقا شيء مما يدور حولكم؟ - قد ينفعنا أحيانا كمادة لضحكنا.

ابتسمت ابتسامة غير مصدقة، فقال مصطفى راشد: لعلك تقولين لنفسك إنهم مصريون، إنهم عرب، إنهم بشر، ثم إنهم مثقفون، فلا يمكن أن يكون هناك حد لهمومهم. الحق أننا لا مصريون ولا عرب ولا بشر، نحن لا ننتمي لشيء إلا هذه العوامة.

ضحكت كما تضحك لنكتة، فعاد مصطفى يقول: ما دامت الفناطيس بحالة جيدة، والحبال والسلاسل متينة، وعم عبده ساهرا، والجوزة عامرة؛ فلا هم لنا. - كلام لا يدخل العقل. - لماذا؟

تفكرت قليلا، ثم تراجعت قائلة: لن أستدرج للهاوية، كلا، لن أسمح لنفسي بأن أكون ثقيلة الدم كتمثيلية هادفة.

فقال علي السيد: لا تصدقي كلام مصطفى حرفيا، لسنا أنانيين بالدرجة التي صورها، ولكننا نرى أن السفينة تسير دون حاجة إلى رأينا أو معاونتنا، وأن التفكير بعد ذلك لن يجدي شيئا، وربما جر وراءه الكدر وضغط الدم.

ضغط الدم، كالصنف المغشوش، وطالب الطب يمرض بالوهم أول عهده بالمدرسة، والمدير العام نفسه ليس أسوأ من المشرحة. أول يوم في المشرحة كأول تجربة للموت في أعز ما ملكت. وهذه الزائرة مثيرة من قبل أن تتكلم؛ جميلة ورائحتها حلوة. والليل أكذوبة بما هو نهار سلبي، وعندما يطلع الفجر تخرس الألسنة، ولكن ما الشيء الذي تود تذكره طيلة الجلسة دون جدوى؟

وقال خالد عزوز مخاطبا سمارة: قلمك ذو استعداد أدبي. - لكنه لم يجرب بعد. - لا شك أن لديك خطة؟ - على أي حال إني مغرمة بالمسرح.

فسأل رجب محتجا: والسينما؟ - إنها بعيدة عن طموحي.

فقال رجب: ما المسرح إلا كلام!

فقال مصطفى راشد باسما: كعوامتنا سواء بسواء.

فقالت باهتمام: العكس هو الصحيح؛ المسرح تركيز، وكل كلمة فيه يجب أن يكون لها معنى. - وهذا هو الفارق الجوهري بينه وبين عوامتنا.

وتلاقت عيناها بعيني أنيس وهو يدير الجوزة، فكأنها اكتشفته وقالت له: لم لا تتكلم؟

إنها تستدرجك لتقول لك عند الجد «لست بغيا». وهي تذكرني بشيء لا أتذكره، ومن الجائز أن تكون كليوباترا أو المرأة التي تبيع المعسل بدرب الجماميز. وهي من مواليد برج العقرب. ألا تعلم بأنني على موعد مع فكرة مجردة ذات طابع جنسي؟!

وقال مصطفى راشد معتذرا عنه: إن من يعمل لا يتكلم. - ولم يعمل وحده؟ - إنها هوايته المفضلة، وهو لا يسمح لأحد بمساعدته.

وقال رجب القاضي: إنه ولي أمر عوامتنا، وندعوه أحيانا بولي النعم. وأي فارس منا بالقياس إليه هاو مبتدئ؛ فهو لا يفيق أبدا. - على الأقل فهو يجد نفسه مفيقا عقب الاستيقاظ صباحا؟ - دقائق معدودات يصرخ فيها طالبا القهوة السادة.

فألحت في توجيه الخطاب إليه قائلة: أجبني بنفسك عما تفعل في تلك الدقائق؟

فقال دون أن يرفع عينيه إليها: أتساءل لماذا أحيا؟ - عال، وبماذا تجيب؟ - أنسطل عادة قبل أجد الفرصة.

وضحكوا أكثر مما يجب، وضحك معهم. وقلب عينيه بين النساء من خلال الدخان المتفجر. لا تعكس عين محبة للزائرة. وثمة أسد واحد يلتهم اللحم ويرمي للآخرين بالعظام. وعظام الزائرة الجديدة مترعة بنخاع مزعج، ولكن ما دام الهاموش حيوانا ثدييا فلا خوف علينا، والحق أنه لولا أن الكواكب تدور حول الشمس لتحقق لنا الخلود.

ونظر رجب في ساعة يده، ثم قال بجدية: آن لنا أن نكف عن الهذيان. الليلة علامة طريق في حياتنا، لأول مرة يشرفنا إنسان جاد عنده شيء ليس عند أحد منا، ومن يدري فلعلنا مع الأيام نعرف الجواب عن أسئلة كثيرة ظلت حتى اليوم بلا جواب.

فرمقته بحذر متسائلة: أتسخر مني يا أستاذ رجب؟ - معاذ الله! ولكنني أبني آمالا على انضمامك إلى مجموعتنا! - وعندي نفس الرغبة، ولن أضيع فرصة كلما سمح الوقت.

وتفشت حركة انهزام مستسلمة، فاستعد الجالسون للذهاب. حلت اللعنة التي تجعل لكل شيء نهاية. أهي هذه الفكرة التي استعصت طويلا على الذاكرة؟ ولم يبق في المجمرة إلا رماد. وذهبوا تباعا حتى انفرد بوحدته. ليلة أخرى تموت. والليل يرامقه خارج الشرفة، وها هو عم عبده يرد المكان إلى صورته الأولى. - أرأيت الزائرة الجديدة؟ - على قد النظر. - يقال إنها من رجال البوليس! - أووه!

ولما هم الرجل بالذهاب قال له: عليك أن تبحث لي عن فتاة مناسبة في الظلام. - الليل تأخر وليس في الطريق شيء. - تحرك أيها البنيان. - وقد توضأت لصلاة الفجر. - أتطمع في خلود أخلد مما أنت فيه؟! تحرك.

التقط من نافضة عقب سيجارة من السجائر التي دخنتها في أثناء الجلسة، بقي منها الفلتر البرتقالي وعقب أبيض مضغوط، فتأملها طويلا، ثم أعادها إلى موضعها وسط مجموعة من الهاموش الهالك. وتضوع من النيل شذا مائي ذو نكهة أنثوية. وخطر له أن يتسلى بعد النجوم، ولكن أعوزته الهمة. إذا لم يكن في النجوم من يعنى برصد كوكبنا ودراسة أحوالنا الغريبة، فنحن ضائعون. وترى كيف يفسر الراصد مجلسنا الضاحك ما بين اجتماع شمله حتى تقوضه؟ سيقول ثمة تجمعات دقيقة تنفث غبارا مما يكثر في الغلاف الجوي للكواكب، وتصدر عنها أصوات مبهمة لا يمكن فهمها ما دمنا لم نصل بعد إلى معرفة أي فكرة عن تكوينها. ويزيد حجم التجمعات بين مرة وأخرى مما يدل على أنها تتكاثر بطريقة ما، ذاتية أو خارجية؛ ولذلك فمن غير المستحيل أن يوجد نوع من الحياة البدائية في ذلك الكوكب البارد، خلافا للرأي القائل باستحالة وجود حياة في غير الأجواء النارية. ومن العجيب أن هذه التجمعات الدقيقة تختفي لتعود من جديد. ويتكرر الحال على ذلك المنوال دون هدف واضح، مما يرجح معه الرأي القائل بعدم وجود حياة بالمعنى الصحيح على الأقل. وحسر الجلباب عن ساقيه المشعرتين، وضحك عاليا ليرى الراصد ويسمع. وقال بل لنا حياة وقد أوغلنا في الفهم حتى أدركنا ألا معنى لها، وسوف نوغل أكثر فأكثر، ولا أحد يستطيع التكهن بما سيكون، ولن نكون أدهش من يوليوس قيصر إذ تدهمه الحسناء الخالدة بارزة من البساط المنطوي، ويسأل القائد الذاهل: من الفتاة؟

فتجيب ممتلئة ثقة بجمالها: كليوباترا ملكة مصر.

7

اعتمد سور الشرفة بساعديه رانيا إلى الغروب الهادئ، والنسيم يلاطفه نافذا من طوق جلبابه، حاملا إليه فيما يحمل من شذا الماء والنبات صوت عم عبده وهو يؤم المصلين غير بعيد من العوامة. ومذاق القهوة السادة ما زال يجري مع ريقه، أما خياله فلم يتخلص بعد من ابن طولون الذي ساح بعض الوقت - قبيل القيلولة - في عصره. في الفترة القصيرة التي تلي احتساء القهوة وتسبق الرحلة، يتوقع عادة أن يقع شيء ما فيعابثه حزن غامض لغير ما سبب، ولكن هزة خفيفة رقصت بالعوامة، فتساءل عن القادم المبكر، وغادر موقفه إلى الصالة عندما ظهرت من وراء البارافان سمارة بهجت. اقتربت منه باسمة وهو ينظر إليها بدهشة حتى تصافحا. اعتذرت عن قدومها المبكر، فرحب بها مسرورا بحق، ومضت إلى الشرفة بحماس كأنما تتصل بالنيل اتصالا مباشرا لأول مرة، وجالت في نعاس الغروب بعين جذلة، وتأملت طويلا أشجار الأكاسيا أندوزا بأزهارها الملونة بعصير من الحمرة والبنفسج. وتحولت إليه فتبادلا النظر بحب استطلاع من ناحيتها، وقليل من الارتباك من ناحيته. ثم دعاها إلى الجلوس، ولكنها ذهبت أولا إلى المكتبة إلى يسار الداخل، فجرت على الأرفف بنظرات مستطلعة، ثم عادت فاتخذت مجلسا إلى جانب مجلسه الذي يتوسط الهلال. وجلس بدوره، ثم رحب مرة أخرى بزيارتها السعيدة المبكرة بعد غيبة أسبوع. وقارن بين ملابسها البسيطة المكونة من قميص أبيض وجونيلا رمادية، وبين جلبابه الأبيض، وقال لنفسه لعله لأسباب تتعلق بمهنتها أو بجديتها أن طوق القميص لا ينحسر عن شيء من مشارف ثدييها كالأخريات. وإذا بها تسأله: أكنت متزوجا وأبا حقا؟

وقبل أن يجيب اعتذرت بنبرة متراجعة عن تطفلها قائلة إنه خيل إليها مرة أن علي السيد ذكر ذلك في معرض حديث عن أصدقائه. وأجاب بإحناءة من رأسه، ولما رأى مزيدا من التطلع في عينيها العسليتين الجميلتين قال: وأنا طالب ريفي وحيد بالقاهرة، وماتت الأم وطفلتها في شهر واحد بمرض واحد.

ثم استطرد في بساطة موضوعية: كان ذلك منذ عشرين عاما.

وتذكر قصة الذبابة والعنكبوت، وتذكر بضيق أنه لم يكد يبدأ الرحلة بعد، وأشفق من أن يتلقى كلمة رثاء، ولكنها أعربت عن مشاعرها بصمت غير قصير، ثم التفتت نحو المكتبة وقالت: وقيل لي: إنك تدمن التاريخ والثقافة، ولكنك فيما أعلم لا تكتب؟

رفع حاجبيه العريضين المتناسبين مع صفحة وجهه الطويلة العريضة الشاحبة، وبدا مستنكرا أو هازئا فابتسمت، وتساءلت: لم إذن انقطعت عن دراستك؟ - لم أوفق للنجاح، ثم انقطعت عني الموارد؛ فتوظفت في وزارة الصحة بوساطة طبيب من أساتذتي السابقين. - لعل العمل لا يناسبك؟ - لست آسفا على شيء.

ونظر في ساعة يده، ثم صب قليلا من الكحول من قارورة على الفحم وأشعله بعود ثقاب، ثم حمل المجمرة إلى عتبة الشرفة، ولكنها عادت تسأل: ألا تشعر بالوحدة، أو بأنه لا يجوز أن ...

فقاطعها ضاحكا: لا وقت عندي لذلك.

فضحكت بدورها قائلة: على أي حال أنا سعيدة لأني وجدتك في وعيك هذه المرة. - لست في وعيي تماما.

وتابع نظرتها إلى الفحم الآخذ في الاشتعال فابتسم، ثم أشار إلى فنجان القهوة الذي لم يبق في قعره إلا ثمالة من راسبه البني. وسلمت بالواقع، ثم راحت تثني على الحياة فوق النيل، فصارحها بأنه حديث عهد نسبيا بهذه الحياة الجميلة. - أقمنا في شقق كثيرة ولم نسلم مرة من تطفل الجيران!

وإذا به يضحك ضحكة جديدة منقطعة بجوها الطائر عما سبقها ، فنظرت إليه متسائلة، فكرر الضحك، ثم أشار إلى رأسه قائلا: بدأت الرحلة، وعيناك جميلتان! - ولكن ما العلاقة بين هذا وذاك؟

فقال بتقرير يقيني: لا علاقة بين شيء وشيء. - ولا حتى بين طلقة رصاصة وموت إنسان؟! - ولا هذا؛ فالرصاصة اختراع معقول، أما الموت؟

فضحكت وقالت: أتدري؟ لقد تعمدت أن أجيء مبكرة لأخلو إليك! - لم؟ - لأنك الوحيد الذي لا يكاد يتكلم.

فأعلن رفضه برفع حاجبيه، ولكنها أصرت على رأيها قائلة: حتى لو كنت تتكلم مع نفسك طول الوقت!

وفصل بينهما الصمت، فراح ينظر إلى المساء المتكاثف، وأدرك أن حضورها المبكر فوت عليه مراقبة المساء وهو يتسلل بخطاه الوئيدة، ولكنه لم يأسف على ذلك، وترامت من الخارج سعلة معروفة لديه، فغمغم: «عم عبده.» فتحدثت عن الرجل باهتمام، وطرحت طائفة من الأسئلة، ولكنه أجابها بأن الرجل لا يمرض، ولا يتأثر بالجو، ولا يعرف عمره، كما يخيل إليه أنه لن يموت، وسألته: هل تلبون دعوتي إذا دعوتكم إلى سميراميس؟

فقال بجزع: لا أظن، وعني أنا فهو مستحيل.

وأكد لها أنه لا يغادر العوامة إلا إلى الأرشيف.

فقالت: يبدو أنني لا أعجبك.

فقال مدافعا: إنك ألطف من قطر الندى!

وفي أثناء ذلك كان الليل قد هبط. ومادت العوامة تحت وقع أقدام كثيرة، وارتفعت ضوضاء فوق الصقالة، وانزعجت سمارة لتأرجح العوامة، فقال لها: نحن نعيش فوق الماء فنهتز لوقع أي قدم.

وتتابع ظهور الأصدقاء من وراء البارافان، ودهشوا لوجود سمارة، ولكنهم رحبوا بها بحرارة، وفسرت سنية كامل ذلك التبكير تفسيرا من نوع خاص، فهنأت أنيس في دعابة! وما لبث أن دب النشاط في يديه فدارت الجوزة. وأعد رجب القاضي لسمارة كأسا من الويسكي. ولحظ أنيس نظرة سناء المتسللة من تحت خصلات شعرها إلى سمارة فابتسم. وابتهج كثيرا لتوهج الجمرات. ومد ذراعه بالجوزة إلى سمارة فتنحت عنها، ولكنه أثار عليها موجة من التحريض الفاشل، وسكت كل شيء إلا القرقرة، ثم اجتاحت المجلس تعليقات شتى؛ الطيارات الأمريكية ضربت فيتنام الشمالية، كأزمة كوبا هل تذكرون؟ وأما عن الإشاعات فهي لا تحصى. وهناك الهاوية التي يرقد على حافتها العالم، واللحوم والجمعيات التعاونية، وهل من جديد عن العمال والفلاحين؟ والرشوة والعملة الصعبة، والاشتراكية، واكتظاظ الطرقات بالسيارات الخاصة، وقال أنيس لنفسه كل ذلك يستقر في جوف الجوزة، ثم يتبخر دخانا، كالملوخية التي طبخها عم عبده. وشعارنا القديم: لو لم أكن لتمنيت أن أكون. وعندما يتوهج في السماء نور كهذه المجمرة يقول المرصد إن نجما قد انفجر وانفجرت بالتالي مجموعته الكوكبية وانتثر الكل غبارا. وذات مرة تساقط الغبار على سطح الأرض فنشأت الحياة. وتقول لي بعد ذلك سأخصم من مرتبك يومين، أو تقول لي لست بغيا. وقد لخص المعري ذلك في بيت لا أذكره، ولا يهمني أن أذكره.

كان أعمى فلم ير سمارة وهي معاصرة له. - زوجي يسعى للصلح. - لا سمح الله.

أعمى فلم ير. انقطع الخيط وتبدد شيء بهيج، المهم أن نحافظ على .. على ماذا؟ وغدا لدينا عمل مرهق لمناسبة الحساب الختامي؛ في معتقل الأرشيف. متحف الحشرات، أما الهاموش فحيوان ثديي.

وقالت سمارة: لكنك شقراء جميلة بكل معنى الكلمة.

فقال خالد وكان واضحا أنه يعني ليلى زيدان: مشكلتها الحقيقية هي مشكلة الوطن كله؛ وهي أنها فتاة عصرية، أما الزوج فبرجوازي.

نظر إلى الليل فرأى مصابيح الشاطئ الآخر تنساب في باطن النهر كأعمدة من نور. ومن عوامة بعيدة عن مجال البصر حمل النسيم أنغام غناء وموسيقى؛ فلعله عرس كما غنى محمد العربي ليلة دخلتك: شوفوا العجب حبيت فلاحة. وقال العم فليحفظك الله، وليعمر بيتك بالذرية الصالحة، ولكن خذ بالك فلم يبق إلا فدانان. ما أجمل القرية عندما تعبق الحديقة بأزهار اللارنج! تسكر كالشذا المنتشر من خلف آذان الهوانم. - يا له من اقتراح!

قالت سمارة بحماس: لكنه جميل، وهو تعارف حقيقي لا زيف فيه. - ولكن ما المقصود باقتراحك؟ - أعني الهم الأول الذي يشغل الشخص. - أهو تحقيق صحفي؟ - إن داخلكم في شك فعلي أن أذهب من فوري.

فقال أحمد نصر بحذر: إذن فلنبدأ بك. حدثينا عن همك الأول في الحياة؟

لم تفاجأ بالسؤال فيما بدا، وقالت ببساطة موحية بالصراحة: أهم ما يشغلني الآن هو أن أجرب نفسي في كتاب المسرحية.

فقال مصطفى راشد بخبث: المسرحية لا تكتب لغير ما سبب!

جذبت نفسا متمهلا من السيجارة وهي تضيق عينيها متفكرة مترددة، فابتسم علي السيد ابتسامة نمت على مشاركة وجدانية، وقال يشجعها: واضح أن جو عوامتنا لا يتقبل من الحديث إلا السخرية والعبث، ولكنك فتاة قوية فيما أعتقد، وعليك أن تتحدي جونا.

فأرخت عينيها كأنما تنظر إلى المجمرة وقالت: ليكن. الحق أني أومن بالجدية!

وانهالت الأسئلة: أي جدية؟ الجدية لحساب أي شيء؟ أليس من الجائز أن نؤمن بالعبث بجدية؟ والجدية تتضمن أن يكون للحياة معنى، فما المعنى؟ وصاح رجب: أمامكم ساحرة ستحول بقلمها المهزلة إلى دراما هادفة. ولكن هل تؤمنين حقا بذلك؟ - أود ذلك. - تكلمي بصراحة، خبريني كيف. لا شك أننا نرحب من قلوبنا بهذه المعجزة.

وتذاكروا الأسس العالية التي استقر عليها المعنى قديما، وسلموا بأنها ذهبت إلى غير رجعة، فعلى أي أساس جديد نقيم المعنى؟ وقالت بإيجاز: إرادة الحياة!

وتبادلوا الأفكار. إرادة الحياة شيء صلب مؤكد، ولكنها قد تفضي إلى العبث. أجل ما المانع؟ وهل تكفي لخلق الباطل؟ ثم إن البطل هو من يضحي بإرادة الحياة نفسها في سبيل شيء آخر هو أسمى في نظره من الحياة، فكيف يتأتى ذلك الشيء العجيب؟ - ما أعنيه هو أن نتجه عند البحث إلى إرادة الحياة نفسها، لا إلى أساس يتعذر الإيمان به، إرادة الحياة هي التي تجعلنا نتشبث بالحياة بالفعل، ولو انتحرنا بعقولنا؛ فهي الأساس المكين المتاح لنا، وقد نسمو به على أنفسنا.

فقال مصطفى راشد: يمكن تلخيص فلسفتك بأنها تستبدل بشعار «من فوق لتحت» شعار «من تحت لفوق»! - لا فلسفة هناك، ولكن هذا هو همي الأول، وقد جاء دوركم.

عليكم اللعنة. ليس أعدى للكيف من التفكير. وعشرون جوزة كادت تضيع هباء. ولا شيء يبدو راسخ الإيمان كشجرة البلح. كما أن إصرار الهاموش يستحق الإعجاب. ولكن إذا فقدت أنات عمر الخيام حرارتها، فقل على الراحة السلام. وجميع هؤلاء الساخرين تكوينات ذرية. وها هو كل فرد منهم ينحل إلى عدد محدود من الذرات، فقدوا الشكل واللون، اختلفوا تماما، ولم يعد منهم شيء يرى بالعين المجردة، وليس ثمة هناك إلا أصوات.

صوت رجب القاضي: همي الأول هو الفن.

صوت مصطفى راشد: الحقيقة أن همه الأول هو الحب، أو بالأحرى النساء!

صوت سمارة في نبرة مرتابة: أهذا هو همك حقا؟ - بلا زيادة ولا نقصان.

واستدرج صوتها صوت علي السيد للإجابة، فقال: همي الأول هو النقد الفني!

صوت مصطفى راشد متهكما: كلام فارغ، همه الحقيقي هو الحلم، الحلم في ذاته بصرف النظر عن محتواه، أما النقد فهو لا ينقد إلا مجاملة لصديق، أو هجوما على عدو، أو لابتزاز قدر من المال! - ولكن كيف يريد للحلم أن يتحقق؟ - لا يهمه ذلك البتة، ولكن إذا جادت الجوزة بالنعيم، دعك أنفه الهائل وقال: تأملوا يا أولاد المسافة التي قطعها الإنسان من الكهف إلى الفضاء! يا أولاد الزنا سوف تلهون بين النجوم كالآلهة.

واتجه التحقيق نحو أحمد نصر، فتردد صوته قائلا: همي الأول هو الستر!

صوت مصطفى راشد متطفلا: هذا الرجل له شأن آخر، هو مثلا مسلم، يصلي ويصوم، وزوج مثالي يقف من نساء العوامة موقف المصريين من الأحداث، ولعل همه الأول هو أن تتزوج كريمته!

صوت خالد عزوز: هو الوحيد فينا الذي سيعيش بعد الموت.

وضاق أنيس بوحدته الصاخبة، فنادى عم عبده ليغير ماء الجوزة. وتمثل العملاق في لحظات حضوره كالموجود الوحيد في خلاء صوتي. وصوت قال إن همه الأول هو التذكر، وآخر قال بل إن همه هو النسيان. وساءل أنيس نفسه: لماذا وقف التتار عند الحدود؟!

وهتف صوت ليلى زيدان: لا هم لي!

صوت خالد عزوز: أو إنني همها الأول!

وصوت سنية كامل قال: همي أن يطلقني زوجي وأن يطلق علي السيد زوجتيه.

وحاول صوت سمارة أن يستدرج صوت سناء، ولكنه لم ينبس، فقال صوت رجب: اعتبريني همها الأول!

وقال صوت سناء: لا.

ولكن صوت قبلة همس متهافتا مدغوما. أما صوت خالد عزوز فقال: همي الأول هو الفوضوية !

وندت ضحكات. وساد صمت كفاصل راحة، فسيطر الخلاء كاملا. وأقبل عم عبده وهو يقول: رمت امرأة بنفسها من الدور الثامن في عمارة الصويا!

لحظه أنيس بوجوم وسأله: كيف عرفت؟ - ذهبت أثر صراخ فرأيت منظرا فظيعا!

صوت علي السيد: من حسن الحظ أننا بعيدون عن الخارج فلا نسمع شيئا. - انتحرت المرأة أم قتلت؟

فقال الرجل: الله أعلم.

ثم مضى متعجلا إلى الخارج. واقترح علي السيد أن يذهب للاستطلاع، ولكن اقتراحه رفض بالإجماع. وأرجعت صدمة الخبر الذرات إلى تكويناتها الأصلية، فعاد المجلس إلى هيئته. وسر أنيس لانفلاته من وحدته المرهقة. وقال إن معاشرة المجانين خير على أي حال من الوحدة. وجاء دور مصطفى راشد ليتكلم، ولكن علي السيد أراد أن يثأر لنفسه فقال: إنه محام قد خسر الدوائر التي صفيت، فهو يعيش اليوم على الخطاة من أبناء الشعب، وهمه الأول بعد قبض مقدم الأتعاب هو المطلق، وهو مطلب عسير، بل أشد عسرا من مؤخر الأتعاب!

فتساءلت سمارة: إذن فأنت من المتدينين؟ - معاذ الله! - فما هو المطلق؟

أجاب علي السيد: أحيانا ينظر إلى السماء، وأحيانا يركز في ذاته، وثالثة يؤكد أنه قريب ولكن اللغة خرساء، وقد نصحه خالد بأن يعرض نفسه على طبيب غدد! - على أي حال فهو من حزب الجدية؟ - كلا، إن مطلقه عبثي! - أيمكن أن نعده فيلسوفا؟ - بمعنى عصري للفلسفة إن شئت، الفلسفة التي تجمع بين السرقة والسجن والشذوذ الجنسي على طريقة جينيه.

وتذكر آخر لقاء مع نيرون. كلا لم يكن وحشا كما قيل. قال إنه لما وجد نفسه إمبراطورا قتل أمه، فلما صار إلها أحرق روما، وقبل ذلك كان مجرد إنسان عادي فعشق الفن. وقال إنه لذلك كله ينعم في جنة الخلد. وضحك عاليا فما يدري إلا والأنظار تتجه إليه وسمارة تسأله: جاء دورك يا ولي الأمر، فما همك الأول؟

ودون تردد أجاب: أن أرافقك!

وضج المكان بالضحك، وقال رجب باندفاع: ولكن.

ثم استرد انتباهه بسرعة، فسكت فعاد الضحك أشد من الأول، ورغم الحرج ألحت سمارة على استجوابه ، فأجاب عنه أحمد نصر قائلا: أن يقتل المدير العام.

فضحكت قائلة: أخيرا وجدت شخصا جادا! - ولكنه لا يفكر في ذلك إلا في لحظات الإفاقة! - ولو!

ورجع عم عبده فوقف عند البارافان وهو يقول: انتحرت المرأة لخلاف مع عشيقها!

وحل الصمت مليا حتى قال عزوز: خير ما فعلت. غير الجوزة يا عم عبده.

وتمتمت سمارة: لم يزل في الدنيا حب!

فعاد خالد يقول: انتحرت المرأة وهي على الأرجح جادة، أما نحن فلا ننتحر.

وقال أحمد نصر: إن كل حي هو جاد، ويمارس حياته على أساس من الجدية. وإن العبث يقتصر عادة على الأدمغة. وقد تجد قاتلا بلا سبب في رواية مثل رواية الغريب، أما في الحياة الحقيقية فإن «بيكت» نفسه أول من يسارع بإقامة الدعوى على ناشره إذا أخل بشرط من شروط العقد الخاص بأي كتاب من كتبه العبثية. ولم تقبل سمارة الرأي على علاته، قالت: إن ما يستقر في الرأس لا بد وأن يؤثر بطريقة أو بأخرى في السلوك، أو على الأقل في المشاعر. وضربت الأمثال بالسلبية واللاأخلاقية والانتحار المعنوي. ولكي يبقى الإنسان إنسانا فعليه أن يثور ولو كل سنة مرة! ولكن رجب اقترح عليها أن تبقى حتى يشاهدوا مطلع الفجر من وراء أشجار الأكاسيا اندوزا، فاعتذرت، ثم صممت على الذهاب عند منتصف الليل، ورفضت شاكرة فكرة أن يوصلها أحدهم بسيارته. وفي أثر ذهابها ساد الجو صمت كالراحة بعد التعب. وأوشك أن يدركهم فتور ما. وهم أنيس بأن يحدثهم عن تجربته الذرية، ولكنه سرعان ما عدل عن فكرته كسلا. وتساءل أحمد نصر: ماذا وراء المرأة الغريبة الفاتنة؟

فقال علي السيد وقد احمرت عيناه الكبيرتان وبدا أنفه الكبير متهدلا لزجا: إنها تحب أن تعرف كل شيء، وأن تصادق كل جدير بالصداقة.

فتساءل مصطفى راشد: هل يمكن أن يدور بخلدها أن تدعونا يوما إلى الجدية؟

فقال خالد عزوز: في تلك الحال علينا أن ندعوها بدورنا إلى حجرة من الحجرات الثلاث. - هذه مهمة رجب القاضي!

امتقع وجه سناء، ولكن السطل لم يجعل لملاحظة قيمة.

وقال خالد: علينا من الآن أن نتفق على وريث لسناء!

ورمقت سناء رجب بنظرة قاسية، فقال ملاطفا: ليس على المسطول حرج.

وعاد خالد يسأل: أمن السهل على عابث أن يعشق امرأة جادة؟

ودارت الجوزة وامتلأت الأعين بالنعاس. ونقلت المجمرة إلى الشرفة فنفضت عنها الرماد وتوهجت، ثم طقطقت مطلقة الشرر. واقترب أنيس من الشرفة مستزيدا من نسيم الليل الرطيب. ورنا إلى النار بإعجاب مستسلما لسحرها العجيب. وقال إن أحدا لا يعرف سر القوة كالدلتا. الأبراص والفئران والهاموش وماء النهر، كل أولئك عشيرتي. ولكن لا يعرف سر القوة إلا الدلتا. الشمال كله دنيا سحرية مغطاة بالغابات لا تعرف النهار إلا دفعات من الضوء المتسلل من شباك الأوراق والغصون. وذات يوم تراكضت السحب هاربة، وحل ضيف ثقيل مشقق الجلد كالح الوجه اسمه الجفاف. ماذا نصنع وهاكم الموت يزحف علينا؟ ذوت الخضرة وهاجرت الطيور وهلك الحيوان. قلت هاكم الموت يزحف ويمد قبضته إلينا. أما أبناء عمي فقد مضوا إلى الجنوب التماسا للعيش اليسير والقطوف الدانية ولو في أقصى الأرض. وأما أسرتي فقد اتجهت نحو المستنقعات المتخلفة من مياه النيل ولا سلاح لها إلا عزيمتها، ولا شاهد على مغامراتها الجنونية إلا الدلتا. وفي انتظارها تكتل نبات الشوك والزواحف والوحوش والذباب والبعوض، ثمة مأدبة وحشية للفناء، ولا شاهد إلا الدلتا. قالوا ليس أمامنا إلا أن نقاتل شبرا فشبرا، وأن نجالد بالعرق والدم. السواعد الدامية، والأعين المحملقة، والآذان المرهفة، ولا شيء يسمع إلا دبيب الموت. وانتشرت الأشباح، ودومت النسور تنتظر الضحايا. لا وقت إلا للعمل، لا هدنة لدفن الموتى، ليس ثمة من يسأل أين يذهبون. وولدت أعاجيب، وبذرت بذور المعجزات، ولا شاهد إلا الدلتا.

8

عندما تبدأ سهرة جديدة يتكاثف الإحساس بالحضور، ويطمئن الوجود، وتتوارى فكرة النهاية، فتتهيأ فرصة نادرة لممارسة الشعور بالخلود، ولأن الليلة قمراء فقد أطفئ مصباح النيون اكتفاء بمصباح أزرق خافت الضوء مثبت فوق الباب الخارجي. وبدا الصحاب شاحبي الوجوه. ومن خارج الشرفة أضفى القمر المرتفع عن مجال البصر على هلال المجلس بساطا فضيا متوازي الأضلاع . - قرأتم بلا شك مقال سمارة عن الفلم الجديد؟ - قل عن رجب القاضي فهو الأصح!

كلا. إنه لا يقرأ الجرائد ولا المجلات. ومثل لويس السادس عشر لا يدري شيئا عما يدور في الخارج.

وقالت ليلى زيدان مراعاة لشعور سناء: الجدية! أجل! ولكني لم أكترث لذلك. كنت أعلم من أول الأمر أنها جاءت لهدف محدد من نوع آخر.

وقالت سناء لرجب: قم لنرقص.

فأجابها بهدوء بغيض: لا توجد موسيقى. - طالما رقصنا بغير موسيقى. - صبرك يا عزيزتي وإلا فلن تدور الجوزة.

يظن نفسه مركز الكون وأن الجوزة تدور من أجله، والحق أن الجوزة تدور لأن كل شيء يدور، ولو كانت الأفلاك تسير في خط مستقيم لتغير نظام الغرزة. وليلة أمس اقتنعت تماما بالخلود، ولكني نسيت الأسباب وأنا ذاهب للأرشيف.

وقال خالد عزوز ساخرا: والمقال يعتبر من الأدب الهادف فيما أعتقد، ما رأيك يا رجب؟

أجاب رجب وكأن سناء غير موجودة: اعتبرته خطوة وتحية من جانبها! - ومما يؤكد أنها منقطعة عنا منذ أيام!

التربيع الأول المختفي يضفي على الظلمة ضياء مسطولا كعين البنفسج الناعسة. أتذكر كيف كان البدر مرهقا في ليالي الغارات؟ ها هو البارع يتوثب لغزوة جديدة، وكجميع الغزاة يتحلى بقسوة حادة كالدرع.

وقال رجب مستزيدا من النسيان القاسي لصاحبته: شكرت بالتليفون، قلت إنني أود أن أزورها لولا إشفاقي من إحراجها. فقالت باستغراب: أي إحراج هناك؟! - دعوة صريحة! - وفي دقائق معدودة أو معدودات كما يقول علماء النحو كنت أستأذن لدخول حجرتها، ولكني وجدت في الخرابة عفريتا، وكان العفريت هو صديقنا علي السيد.

وانهال السباب على الصديق علي السيد. - شكرت، وشربت القهوة، وقلت إن مقالها جدير بأن يخلقني خلقا جديدا! - منافق ابن منافق ومن سلالة أمة عريقة في النفاق. - وشغلت بطارية السكس أبيل من خلال نظراتي إليها، فصدرت عن أوتارها الصوتية في أثناء الحديث أنغام رقيقة من النوع الذي لا تسمح به الرقابة إلا في أعقاب سعي طويل هادف.

فقال علي السيد: خيال مغرور! كان الحديث عاديا والصوت عاديا. - بل كنت أنت منهمكا في حديث هامس مع منتج سينمائي وفي غاية من المساومة.

فضحك علي السيد ضحكة عالية وقال: الحكاية صندوق ويسكي بلا زيادة، وسيستهلك في عوامتكم اللعينة.

وسأله مصطفى راشد: وهل اقتصر الأمر على الأنغام الرقيقة؟ - ماذا تتوقعون أكثر من ذلك في مقالة شبه رسمية؟ ومع ذلك فقد توارت الأستاذة الهادفة وراء غلالة أنثوية شفافة من النوع الذي تستعمله الفراشة وهي تنتقل بين الأزهار مؤدية وظيفة عم عبده في شارع النيل.

فقالت سناء بنبرة كرنين الوتر الرفيع من القانون إذا مسته يد العازف خطأ: يا لك من ساحر!

فابتسم إليها ابتسامة فاترة بدت في الضوء الأزرق الشاحب كامتعاضة وقال: يا عزيزتي الصغيرة ...

ولكنها قاطعته بحدة: لست صغيرة من فضلك! - صغيرة السن ولكن كبيرة المقام! - دعنا من الأكليشيهات التي ماتت بموت العصر المملوكي!

فتأوه علي السيد قائلا: أين منا عصر المماليك بشرط أن نكون من المماليك؟!

فقالت سناء باستياء واضح: ما أسرع أن ينقلب أهل العوامة وحوشا بلا قلوب!

الوحوش ذوات قلوب، وهي ليست وحوشا إلا حيال أعدائها، ولن أنسى الحوت الذي تراجع عن العوامة وهو يقول لي: «أنا الحوت الذي نجى يونس.» وكم من ملايين الأعين قد رنت إلى الليل المستكن في ضوء القمر. وليس أدل على صدق سمارة من هجرة الطيور الموسمية. أما سناء المسكينة فقد نسيت سكنى الكهوف على عهد صباها الأول. وصاح: المعسل زفت، كأنه ورق شائط!

وراح يصره في منديل ليعصره، وفي أثناء ذلك اشترك في سباق الجري ورفع الأثقال في الدورة الأوليمبية باليابان فسجل أرقاما قياسية. ودق جرس التليفون فنهض رجب إليه كأنما كان ينتظره، ولم يسمع من حديثه سوى كلمات مفردة مثل مفهوم، طبعا، حالا. وأعاد السماعة، ثم التفت إلى المجلس وهو يقول: عن إذنكم.

ونظر إلى سناء قائلا: ربما رجعت في آخر السهرة.

ومضى إلى الخارج. اهتزت العوامة تحت أقدامه القوية، وندت عن سناء حركة عصبية فخيل إليهم أنها موشكة على البكاء. ولم ينبس بكلمة أحد. وارتسمت في الأعين تساؤلات، ولكن علي السيد هز رأسه مستنكرا . وأخيرا خاطب مصطفى راشد سناء برقة قائلا: لا، لا. لقد ولى العصر الرومانسي، وحتى العصر الواقعي يحتضر!

وقالت ليلى زيدان وهي تداري ابتسامة شامتة: من المسلم به في عوامتنا أنه لا شيء يستحق الأسف!

فهتفت سناء بحدة: لا رومانسية ولا أسف.

فقال علي السيد: أوكد لك أنه ذاهب لمقابلة منتج! ولكن لا تنسي عموما أنك صادقت رجلا حرفته النساء!

وقام أحمد نصر وهو يقول بحنو: سآتيك بكأس ويسكي ولكن عودي إلى حالتك الطبيعية من فضلك.

وقالت سنية كامل ببساطة مذهلة: وإذا وقع المحذور فعندك مصطفى وأحمد.

فصاح أنيس بوحشية: لماذا تغفلني إحصاءات الأوغاد؟

ثم بغلظة وهو يضغط على مخارج الكلمات: أوغاد منحلون مدمنون!

أغرقوا في الضحك، وتساءل مصطفى راشد: ترى أذهب حقا إلى سمارة؟

فقال علي السيد: كلا. - ليس بالغريب أن يوقع بامرأة!

وقالت ليلى زيدان: بالله خبرني لماذا جاءت إلى هنا إن لم يكن من أجله؟

فقال علي السيد: لا شيء محال، ولكنها ليست بالغرة، ولا أظنها ترضى بأن تكون معجبة عابرة!

فتساءل مصطفى راشد: ما الذي يجعل لبعض الرجال مثل تلك السطوة؟

فقال علي السيد: أي نجم في مركزه فلا بد أن يكون له شأن. - ليس الأمر بمجرد لمعان نجم، ولا حتى الرشاقة والجمال، ولكنه سر أسرار الجنس!

فقال أحمد نصر: فليحدثنا النساء عن ذلك.

فقال علي السيد: النساء يحببن ولكنهن لا يقلن لماذا.

فقال خالد عزوز: لتسأل عن ذلك الغدة النخامية.

ومضت سناء بشلتة إلى الشرفة وجلست وحيدة. وسأل علي السيد مصطفى راشد وهو يومئ خفية إلى سناء: أهي تمثل الأنموذج النسائي الذي تبحث عنه؟

فأجاب باقتضاب أن لا. وقال خالد عزوز: الإباحية، الإباحية، هي العلاج لذلك كله.

وإذا بأنيس يقول: يا أوغاد! أنتم المسئولون عن تدهور الحضارة الرومانية!

وضحكوا في صخب، وقال له أحمد: أنت الليلة عصبي على غير عادتك. - المعسل زفت! - لكنه كثيرا ما يكون كذلك. - والقمر! تذكرني دورته بالمهزلة. - المهزلة؟ - مهزلة المهازل!

ودارت الجوزة بلا توقف. ولزموا الصمت ليستحضروا الأرواح الشاردة. ووشى المجلس بعدم التهم التاريخ والمستقبل. وقال لنفسه إنه الصفر. لا ناقص ولا زائد ولكنه الصفر. معجزة المعجزات. وانكشف المجهول تحت ضوء القمر. وترامى صوت عم عبده من الخارج وهو يرطن بكلام لم يميزه أحد. وضحك البعض، وقال آخر إن الوقت ينقضي بسرعة مذهلة. وتجلت وشوشة الموج وهو يرتطم بأسفل العوامة. أجل دورة القمر. والثور المغمى. ويوما قال لي شيخ: «إنك تحب الاعتداء، والله لا يحب المعتدين.» وكان الدم يسيل من أنفي، ولعل الشيخ قال ذلك للآخر، ولعل الدم سال من الآخر. كيف يمكن الثقة بشيء بعد ذلك؟ وعاد الصوت يقول: «انقضى الوقت بسرعة مذهلة.» وتنهد أحمد نصر قائلا: «آن الأوان.» هكذا نعى إلينا الجلسة. وتمطت حركة متكاسلة، ثم ذهب أحمد ومصطفى معا، وتبعهما خالد وليلى، أما علي وسنية فتسللا إلى الحجرة المطلة على الحديقة. وجاء عم عبده ليعيد المكان إلى أصله. شكا إليه رداءة المعسل، فقال الرجل إن كل ما في السوق رديء. وجاءت من الشرفة عطسة فذكر من توه سناء. زحف على أربع نحو الشرفة، ثم أسند ظهره إلى ضلفتها، ومد ساقيه إلى الداخل وهو يتمتم: «مساء الجمال.» انحسر عنهما ضوء القمر الذي أوغل فيما وراء العوامة ناحية الطريق، ساحبا وراءه فوق سطح الماء لآلئه. - أتظن أنه يعود؟ - من؟ - رجب. - ما أتعس المسئول إذا عجز عن الجواب! - قال إنه ربما جاء آخر السهرة. - ربما. - هل أضايقك؟ - معاذ الله. - أترى أنه يجب أن أنتظر؟

فضحك ضحكة خفيفة وقال: ينتظر قوم إمامهم منذ ألف سنة! - أتسخر مني مثلهم؟ - لم يسخر منك أحد، ولكن تلك طريقتهم في الكلام. - على أي حال فأنت ألطفهم جميعا. - أنا! - لا يخرج من فمك سوء. - ذلك أنني أخرس. - ويجمع بيننا شيء واحد. - ما هو؟ - الوحدة. - المسطول لا يعرف الوحدة. - لماذا لا تغازلني؟ - المسطول الحق يتمتع باكتفاء ذاتي! - ما رأيك في نزهة في قارب شراعي؟ - قدماي لا تكادان تحملانني.

وهي تتنهد: لم يبق إلا أن أذهب، ولا يوجد أحد ليوصلني إلى الميدان! - عم عبده يوصل من لا يجد أحدا ليوصله .

تردد في تيار النسيم بعض من أنفاس الليل الرطيبة، ومن وراء باب الحجرة المغلقة همهمت ضحكة. والسماء صافية تماما تزدهر بآلاف النجوم، ومن مكان يتوسطها تراءى وجه مطموس المعالم وهو يبتسم. وداخله شعور لم يجد مثله إلا وهو يسجل رقما قياسيا في الدورة الأوليمبية. ولما كان الوقت ينقضي بسرعة مذهلة فقد تجلت لعينيه المأساة على حقيقتها في ميدان المعركة؛ إذ يجلس قمبيز على المنصة ومن خلفه جيشه المنتصر، إلى يمينه قواده المظفرون، وإلى يساره فرعون يجلس جلسة المنكسر، والأسرى من جنود مصر يمرون أمام الغازي. وإذا بفرعون يجهش في البكاء، فيلتفت قمبيز نحوه سائلا عما يبكيه، فيشير إلى رجل يسير برأس منكس بين الأسرى ويقول: هذا الرجل! طالما شهدته وهو في أوج أبهته، فعز علي أن أراه وهو يرسف في الأغلال!

9

قد أعدت الجلسة بكل ما يلزمها، وها هو عم عبده يؤذن لصلاة المغرب، ولكن ثمة محنة حقيقية في الانتظار، انتظار سحر الفنجان المسحور. والانتظار شعور مؤرق ولا شفاء منه إلا ببلسم الخلود. وقبل ذلك فلا النيل يؤنسك، ولا أسراب الحمام الأبيض. وترى بعين قلقة تقوض المجلس كما ترى جميع النهايات. والقمر البازغ فوق أغصان الأكاسيا يؤكد هذه الوساوس ولا يلطفها. وما دام ذلك كذلك؛ فحتى فعل الخير يعقبه الندم. ويضيق الصدر بأي حكمة إلا حكمة تنعى جميع الحكم. فليذهب العذاب المتراجع أمام السحر إلى غير رجعة. وعندما نهاجر إلى القمر فسنكون أول مهاجرين يهاجرون هربا من لا شيء إلى لا شيء، فوا حسرتا على نسيج العنكبوت الذي غنى ذات مساء في قريتنا مع نقيق الضفادع! وقبيل القيلولة سمعت إلى نابليون وهو يتهم الإنجليز بقتله بالسم البطيء. ولكن ليس الإنجليز وحدهم الذين يقتلون بالسم البطيء. وراح يتمشى ما بين الشرفة والبارافان، وأضاء المصباح الأزرق، وفي أثناء ذلك شعر بأنامل الرحمة وهي تلاطف باطنه.

واهتزت العوامة وارتفعت الأصوات مؤذنة بالعمران.

اكتمل المجلس ودارت الجوزة على مرأى من القمر الماضي في العلو. وتخلفت سناء لأول مرة منذ مجيئها، فلاحظ ذلك أحمد نصر ، وتضاربت التعليقات. وقالت سنية كامل: المسألة أنكم رجال في حال انعدام الوزن!

وبدا رجب لا مباليا وهو يثني على «الصنف»، فقال له أحمد نصر: كنت قاسيا معها أكثر مما يجوز، ولم تراع حداثة سنها. - لا يمكن أن أكون عاشقا ومربيا في وقت واحد. - لكنها صغيرة! - لست أول فنان في حياتها!

ورجح أحمد أنها أحبته بصدق فقال: إذا عاش حب شهرا كاملا في زماننا الصاروخي؛ فهو حب معمر!

وتذكر كيف أغرته بمغازلتها، وكيف أبى كيوسف! وكيف يصنع الحب الحكايات من قديم الزمان. وضوء القمر يسطع على وجوههم، وعما قليل سيختفي عن الأنظار. وعندما يدقق النظر في وجوههم تتكشف له عن ملامح جديدة كأنها وجوه غريبة، إنه يراهم عادة بأذنه، ومن وراء سحابات الدخان، ومن خلال الأفكار والمعاملات، ولكنه إذا ركز عليهم تركيزا تلقائيا نافذا وجد نفسه غريبا وسط غرباء، ورأى الخراب في التجاعيد الخفيفة حول عيني ليلى زيدان. ولمح قسوة ثلجية في ابتسامة رجب التهكمية. وتلوح الدنيا غريبة أيضا لا يدري موقعها من الزمان، ولعلها لا توجد أصلا. وانتبه على اسم سمارة وهو يتردد بينهم، وسرعان ما سمع صوتها وهي تضاحك عم عبده في الخارج. وسرى من هزة العوامة إلى جسده ما يشبه القشعريرة، وهلت سمارة في تايير أبيض. حيتهم بيديها واتجهت إلى الشلتة الخالية، شلتة سناء، وأشعلت سيجارة في ارتياح، ولكن لم يلاحظ أحد عليها تغييرا يمكن أن يفسر به سلوك رجب الغامض أمس. وتساءلت الفتاة ببراءة: أين سناء؟

فأجاب مصطفى راشد: في كوخ عم عبده!

احتفظت ببراءتها فقال: إنها تبحث هناك عن المطلق. فقالت: إنها كان يجب أن تبحث عنه عنده هو لا في كوخ عم عبده. فقال مواصلا تهكمه: الحق أنها وجدت حب رجب عرضا زائلا فمضت وراء شيء حقيقي لا يتغير.

فقالت آسفة: في كوخ عم عبده شيء لا يتغير حقا هو الخلاء!

أجل لا يملك الرجل سوى جلبابه وينام على أريكة قديمة بلا غطاء. هكذا وجده عند انتقاله إلى العوامة، ولكن لا بد أن يزوده بغطاء عند مقدم الشتاء. وألح مصطفى على سمارة في أن تجرب الجوزة، وانضم إليه رجب: لماذا تصرين على رفضها؟

فضحكت متسائلة: لماذا تحبونها؟ هذا هو السؤال المهم! - الامتناع عنها هو ما يحتاج إلى تفسير!

ووضح للجميع شغفها للوقوف على سرها الآسر. أجل، لماذا يعشق أناس غيبوبتها؟ لماذا يهيمون بالنعاس الذاهل؟

وقال لها خالد عزوز: ارجعي إلى كلمة إدمان في دائرة المعارف البريطانية!

ولكن مصطفى راشد سارع يقول: حذار من الأكليشيهات يا أستاذة.

وجعلت تبتسم مترددة، فعاد يقول: حذار من ترديد ألفاظ سخيفة مثل الهروب ... إلخ.

فقالت ببساطة: أريد أن أعرف؟

فتساءل رجب: تحقيق جديد؟ - لا أقبل أن أكون موضع اتهام.

فقال مصطفى راشد متحديا: لا قيمة للأكليشيهات. جميعنا أناس عاملون؛ مدير حسابات، ناقد فني، ممثل، أديب، محام، موظف. كلنا نعطي المجتمع ما يطلبه منا وأكثر، من أي شيء نهرب؟

قالت بصدق: إنك تفترض آراء معارض ثم تناقشها. إني أسأل فقط عما تصنعه لكم الجوزة.

فقال علي السيد: إنها تقول شيئا قريبا من قول الشاعر:

سهرت أعين ونامت عيون

لأمور تكون أو لا تكون

فادرأ الهم ما استطعت عن النف

س فحملانك الهموم جنون

فقالت فيما يشبه الظفر: إذن هي الهموم.

قال مصطفى راشد بإصرار: إننا نواجه هموم حياتنا اليومية بكل همة، لسنا تنابلة، نحن أرباب أسر ورجال أعمال.

تلوح الدنيا غريبة، وتزداد غرابة عند تداول الأفكار. الهموم والتنابلة والأكليشيهات. والمساطيل يتناقشون بأعين محمرة. واختفى القمر تماما، ولكن سطح الماء يضيء بلألائه كأنه بشاشة سعادة مجهولة. ماذا تريد المرأة؟ وماذا يريد المساطيل؟ يقولون وقت فراغ، وتقول إدمان، وعجيب ألا تهتز العوامة بهذا النقاش وهي تميد تحت وقع قدم فوق الصقالة.

وجاء عم عبده فأخذ الجوزة ليغير ماءها ثم أعادها وذهب. ونظر أنيس إلى لآلئ الماء وابتسم. انتبه إلى صوت سمارة هي تناديه، فنظر إليها ويداه لا تكفان عن العمل. قالت: أود أن أسمع رأيك أنت؟

فقال ببساطة: تزوجي يا آنسة!

فضحكوا. إنها تفضل دور الواعظة، قال رجب. ولكنها أصرت على ألا ترتبك ، وجعلت تستحث أنيس على الإجابة بعينيها. وانصرف عنها إلى ما بين يديه. لماذا واحد وواحد يساويان اثنين؟

امرأة مزعجة تقتحم علينا بديهيات الحياة. ماذا تريد؟ وكيف يمكن أن ننسطل في مطاردة مستمرة حامية؟ ولما يئست منه تحولت إلى مصطفى قائلة: حق أنكم تواجهون هموم حياتكم اليومية بكل همة، ولكن ماذا عن الحياة العامة؟ - تعنين السياسة الداخلية؟ - والخارجية!

فقال خالد عزوز متهكما: وسياسة العالم، لم لا؟

فقالت باسمة: وتلك أيضا.

فتساءل مصطفى راشد: والسياسة الكونية لا يجوز أن تهمل أيضا.

فتساءلت ضاحكة: أرأيت أن الهموم أكثر مما نتصور! - الآن تفاهمنا. إنك تأسفين على وقتنا الضائع في السهرات، وتعتقدين أنه هروب من أعبائنا الحقيقية، وأنه لولا ذلك لقدمنا الحلول الناجحة لمشاكل الوطن العربي والعالم والكون.

وضحكوا مرة أخرى. وقالوا لأنيس إنه السبب الحقيقي وراء ما يعانيه العالم من آلام، والكون من غموض. واقترح مصطفى أن يرموا بالجوزة إلى النيل، ثم يقسموا العمل فيما بينهم، فيختص خالد عزوز بالسياسة الداخلية، وعلي السيد بالسياسة العالمية، ومصطفى بحل رموز الكون. وراحوا يتساءلون عن كيف يبدءون، وكيف ينظمون أنفسهم، وكيف يحققون الاشتراكية على أسس شعبية ديمقراطية لا زيف فيها ولا قهر، وكيف بعد ذلك يعالجون مشكلات العالم كالحرب والتفرقة العنصرية. وهل يبدأ مصطفى من الآن في حل معميات الكون؟ هل يدرس العلم والفلسفة، أو يقنع بالتركيز الذاتي في انتظار الشعاع المضيء؟

وتدارسوا العراقيل المتحدية، والأخطار التي قد تحيق بهم كمصادرة الأرزاق والاعتقال والقتل، وثمة صوت تشكى من السرعة المذهلة التي ينقضي بها الوقت. والقمر اختفى تماما ولم يبق من بساط اللآلئ إلا ذيل قصير، ولم تتوقف الجوزة عن الدوران ولا سمارة عن الضحك.

وتلاطمت في رأسه خواطر عن الغزوات الإسلامية والحروب الصليبية ومحاكم التفتيش ومصارع العشاق والفلاسفة، والصراع الدامي بين الكاثوليكية والبروتستنتية وعصر الشهداء، والهجرة إلى أمريكا، وموت عديلة وهنية، ومساوماته مع بنات شارع النيل، والحوت الذي نجى يونس، وعمل عم عبده الموزع بين الإمامة والقوادة، وصمت الهزيع الأخير من الليل الذي يعجز عن وصفه، والأفكار الفسفورية الخاطفة التي تتوهج لحظة، ثم تختفي إلى الأبد.

وصحا على صوت سمارة وهي تسأل الجماعة: كيف كنتم في مطلع الحياة؟

وضحكوا. لماذا يضحكون؟ كأنما لم يكن لحياتهم مطلع. الذكريات البعيدة التي لحقت بالعصر الحجري. القرية ثم الغرفة الوحيدة والإصرار. الإصرار في القرية والحجرة الوحيدة. والقمر كان يبزغ ويغرب ولا يوحي بنهاية شيء. قال خالد: في صباي لم يكن ثمة سؤال بلا جواب، والأرض لم تكن تدور، والأمل يمتد في المستقبل بسرعة مائة مليون سنة ضوئية.

وقال علي السيد: وتساءلت ذات يوم لماذا يعرقل الخوف من الموت سعادتنا الأبدية؟

وقال مصطفى راشد: ويوما كدت أهلك أنا وأنيس في مظاهرة ثورية!

ولم تدهش الفتاة لشيء من ذلك، وراحت تتحدث عن إمكان استعادة الحماس في أزياء جديدة، ولكنهم تكلموا عن خيانة المرأة التي تنزع الثقة من النساء جميعا، وقالت لمصطفى وهو أشدهم جدلا: إنك تهرب بالمطلق من المسئولية.

فأجابها بسخرية: المسئولية سبيل الكثيرين للهروب من المطلق.

البيضة والدجاجة. أما أنا فأكرس وأرص وأشعل النار وأدير الجوزة، ثم أنصب من نفسي مستودعا لخردة المهاترات، والنساء تضحك وتحلم بالح. والوقت ينقضي بسرعة مذهلة، وكلما أرادت الأستاذة الذهاب استبقاها الساحر بإصرار. وعما قليل سيحل الخراب بالمجلس، والخيام الذي كان مدرسة أمسى فندقا للملذات. وقد قال لي في آخر لقاء إنه لو كان امتد به العمر إلى أيامنا لاشترك في أحد النوادي الرياضية. - آن الأوان!

وذهب الرجال والنساء إلا رجب وسمارة!

من المحقق أنهما لا يعرفان أن النيل هو الذي قضى علينا بما نحن فيه، وأنه لم يبق من عبادتنا القديمة إلا عبادة أبيس، وأن الداء الحقيقي هو الخوف من الحياة لا الموت. والآن فلتسمع الحوار المعاد كما هي العادة: أليس الأفضل يا عزيزتي أن نستمتع بالحب؟ - فكرة طيبة! - وإذن. - قلت لك يا عزيزتي إني جادة. - أخلاق برجوازية؟ - جادة، جيم ألف دال تاء مربوطة. - بالله كيف تسلمين نفسك؟

ولما لم تجب استطرد: بالزواج مثلا؟ - قل بالحب باعتباره الأصل. - إذن تعالي. - أأنت جاد؟ - أنا لا أهزل أبدا . - وسناء؟ - أنت لا تدرين شيئا عن سيكولوجية المراهقات المجنونات! - عندي بعض معلومات لا بأس بها. - أتسلمين لي نفسك إذا عاهدتك على الإيمان بالجدية؟ - أنت ظريف حقا!

وها هو يقرب وجهه من وجهها. سيتكرر المنظر القديم. وها هو يطبق بشفتيه على شفتيها، وهي لم تقاوم، ولكنها لم تستجب. وتحدجه بنظرة ساخرة باردة. باخ الفارس وتراجع. هكذا دالت دولة الفرس. وقال وهو يبتسم: إذن فلنتمش في الحديقة الصغيرة. - لكن الليل تأخر. - ليس في العوامة زمان.

وخلت الصالة، كلا لم تخل الصالة فما يزال بها أنقاض المجلس والمكتبة والبارافان والفريجيدير والتليفون والمصباح النيون والمصباح الأزرق ومقعدان فوتيل وسجادة سماوية ذات نقوش وردية وهيكل إنسان من العصر الذري. أما هما ففي الحديقة يتمشيان، وسترطب حرارتهما الأعشاب الندية، وسوف تستقر همساتهما في أوراق البنفسج والياسمين، ولا يبعد أن يرقصا على أنغام صرار الليل.

وجاء عم عبده ليباشر مهمته الختامية. راقبه مليا، ثم قال له: إذا وجدت فتاة ... - أووه! - قبل الوضوء أو بعده وإلا فالويل لك! - مات رجل طيب ممن كانوا يحافظون على صلاة الفجر. - والعمر الطويل لك. يغلب على ظني أنك ستدفننا جميعا!

وضحك العجوز ضحكة بريئة وهو يمضي بالصينية.

وعثرت عيناه على حقيبة بيضاء كبيرة فوق الشلتة التي كانت تجلس عليها سمارة. وخيل إليه أن للحقيبة شخصية، وأنها تؤثر فيه بمكر وسحر. واجتاحته رغبة عنيفة في ارتكاب فعل شاذ. مد يده إلى الحقيبة ففتحها، رأى أشياء متوقعة، ولكنها بدت صارخة الغرابة. وفغمته رائحة زكية. منديل وقارورة صغيرة كحلية اللون ومشط ذو مقبض فضي وكيس نقود ومذكرة في حجم الكف. وفتح الكيس فوجد بضع أوراق مالية، فخطر له أن يأخذ نصف جنيه ليعطيه للفتاة التي سيجيء بها عم عبده. وسر لذلك جدا، وآمن بأنه يبتكر فكرة فريدة ذات طاقة غير عادية على بعث المسرات. تناول المذكرة ودسها في جيبه. أغلق الحقيبة وهي يغرق في الضحك. سوف يستأنف تجربة التشريح التي فشل فيها قديما، ويشق قلبا مغلقا، ويجدد شبابه ليستعيد أيام العبث. سوف تقول الفتاة كل شيء مما يخطر على البال ومما لا يخطر، وسوف تتساءل هل قصد بالمادة الطحلبية ذات الخلية الواحدة أن تتضمن جميع هذه الأعاجيب؟ وسوف تسألني: متى كنت بركانا قبل أن تتخلف راسبا من الرواسب الميتة؟ وأنا لا أعرف الجواب، ولكن لعلك تعرفه أنت يا من يشيد التاريخ بذكراك. جلس أمامي كتمثال فقلت: أنت تحتمس الثالث حقا؟

أجاب بصوت ذكرني بصوت مصطفى راشد: نعم. - ماذا تفعل؟ - أتقاسم العرش مع أختي حتشبسوت.

قلت باهتمام: يسأل كثيرون عن سر خمولك في ظلها؟ - إنها الملكة. - ولكنك الملك أيضا. - إنها قوية وتحب أن تستأثر بكل شيء. - ولكنك أكبر قواد مصر وأعظم حكامها. - لم أخض حربا، ولم أمارس الحكم بعد. - إني أحدثك عما ستصير إليه، ألا تفهم؟ - وكيف عرفت ذلك؟ - من التاريخ، كل الناس يعرفونه.

وضحك وهو ينظر إلي كمن ينظر إلى معتوه، فقلت بإصرار: إنه التاريخ، صدقني. - لكنك تتكلم عن مستقبل مجهول.

فقلت كمن يتكلم في كابوس من شدة الحيرة: إنه التاريخ، صدقني.

10 (1) مشروع مسرحية

فكرتها تدور عن الجدية في مواجهة العبث. والعبث هو فقدان المعنى؛ معنى أي شيء. انهيار الإيمان، الإيمان بأي شيء. والسير في الحياة بدافع من الضرورة وحدها، ودون اقتناع، وبلا أمل حقيقي. وينعكس ذلك على الشخصية في صورة انحلال وسلبية، وتمسي البطولة خرافة وسخرية، ويستوي الخير والشر، ويقدم أحدهما - إذا قدم - بدافع من الأنانية أو الجبن أو الانتهازية. وتموت القيم جميعا وتنتهي الحضارة. ومما يجب دراسته في هذه المرحلة مشكلة المتدينين العابثين؛ فإنهم لا ينقصهم الإيمان، ولكنهم يسلكون في الحياة العملية مسلك العبث، فكيف تفسر ذلك؟ أهو سوء فهم للدين؟ أم إنه إيمان غير حقيقي، روتيني، بلا جذور، تمارس تحت ستاره أخسأ أنواع الانتهازية والاستغلال؟ يجب دراسة هذه النقطة، وهل يمكن الانتفاع بها في المسرحية، أو تؤجل لموضوع مستقل؟

أما الجدية فتعني الإيمان، ولكن الإيمان بماذا؟ ولا يكفي أن نعرف ما يجب أن نؤمن به، ولكن من الضروري أن يكون لإيماننا صدق الإيمان الديني الحق، وقدرته المذهلة على خلق البطولات ، وإلا كان نوعا جادا من العبث. وحتم أن يعبر عن ذلك كله من خلال الموقف والحدث، سواء أكان الإيمان بالإنسان أم بالعلم أم بالاثنين معا. ولكي أبسط المسألة أقول إن الإنسان واجه قديما العبث وخرج منه بالدين، وهو يواجهه اليوم فكيف يخرج منه؟ ولا فائدة ترجى من مخاطبة إنسان بغير اللغة التي يتعامل بها، وقد اكتسبنا لغة جديدة هي العلم، ولا سبيل إلى توكيد الحقائق الصغرى والكبرى معا إلا بها، وهي حقائق بلورها الدين بلغة الإنسان القديمة، والمطلوب أن تؤكد بنفس القوة ولكن بلغته الجديدة.

وليكن لنا في العلماء أسوة ومنهج. يبدو أنهم لا يقعون في العبث أبدا، لماذا؟ ربما لأنهم لا وقت لديهم لذلك، وربما لأنهم على صلة دائمة بالحقيقة، معتمدين على منهج موفق قد أثبت جدارته، فلا يتأتى لهم الشك فيها أو اليأس منها. وقد ينفق أحدهم عشرين عاما لحل معادلة، وستجد المعادلة عناية متجددة، وتلتهم أعمارا جديدة، ثم تفضي إلى خطوات راسخة في سبيل الحقيقة؛ فهم يعيشون في مناخ يعبق بالتقدم والنصر، ولا يعن لهم مثل هذا السؤال: «من أين، وإلى أين، وما معنى حياتنا؟» أي مغزى؟ ولا يوحي بأي عبث. والعلم الحقيقي يفرض أخلاقيات في عصر تدهور الأخلاق، فهو مثال في حب الحقيقة والنزاهة في الحكم، والرهبانية في العمل، والتعاون في البحث والاستعداد التلقائي للنظرة الإنسانية الشاملة. وعلى المستوى المحلي هل يمكن أن يحل التفوق العلمي محل الانتهازية في قلوب الجيل الجديد؟

على أي حال يستحسن ألا أشغل رأسي بفكرة المسرحية أكثر من ذلك الآن، وسأعود إلى ذلك بعد جمع مزيد من العناصر الضرورية للعمل.

ويخيل إلي أن الحركة ستجري على الوجه الآتي:

فتاة تغزو مجموعة من الرجال لتغيرهم. يجب أن تنجح في ذلك بطريقة فنية، وإلا ما كان للمسرحية معنى. امرأة جادة ورجال عابثون. وتلزمني قصة حب. ومن الممتع حقا أن يقع الجميع في حبها، وعليها هي أن تختار واحدا، أو أنها ستقع وهي لا تدري في حب أحدهم. وينفسح المجال لصراع حاد بين الجدية والعبث والحب ، بل يجب أن يتأزم الموقف بين الحب والجدية كي لا تفتر المسرحية، ولكن هل تمضي كقصة غرامية في إطار من صراع فكري؟ هل تقتصر على المناقشات الفكرية والمناجاة الغرامية؟ وكيف ومتى يتم التطور في الحدث بإقناع فني؟ هل يتم بناء على مناقشات؟ هل يتم بناء على العاطفة؟ ينقصني شيء هام جوهري فما هو؟ كيف يمكن تحويل أناس عابثين إلى عقيدة؟ وما مدى اتساع هذه العقيدة؟ هل يكفي أن تغطي الموقف الاجتماعي؟ أعني هل يكفي ذلك لبعث البطولات؟

على أي حال فإنني على بينة الآن من الأفكار التي علي أن أبلورها وأوضحها لأجعل منها محور المسرحية، ويحسن بي أن أدون أفكاري ومعلوماتي الأساسية عن شخصيات الرواية - بأسمائهم الحقيقية مؤقتا - لعل في ذلك خلاصا من حيرتي؛ إذ إنه من المحتمل أن تتدفق الحركة في مجرى تلقائي إذا وضحت الشخصيات واستقرت معالمها الأساسية. (2) أشخاص المسرحية

أحمد نصر

موظف كفء فيما يقال، ذو خبرة مذهلة بالحياة اليومية والعملية. موفق في حياته الزوجية، وله ابنة في سن المراهقة، متدين روتيني فيما أعتقد. وهو في الجملة شخص عادي، ولا أدري كيف يخدم أغراض المسرحية. وثمة سؤال هام: لماذا يدمن الجوزة؟ ولندع جانبا ما يقال عن البواعث الجنسية، فهل عنده ما يهرب منه؟ على أي حال يجب خلقه من جديد باعتباره غير قانع في أعماقه باستغراق الوظيفة والأسرة لحيويته. إنه يشعر في زاوية من نفسه بأنه مسئول، أو يجب أن يكون مسئولا عما يجري حوله. ولأنه مؤمن فهو أعظمهم توازنا، ولكنه رغم ذلك، وربما بسبب ذلك أيضا، يحزنه أنه شيء لا يقدم ولا يؤخر في الحياة. على ذاك يمكن أن نعد اهتمامه المشهور بالمشكلات الصغيرة - كإدمانه - نوعا من الهروب من إحساس التفاهة الذي يطارده، وسيمارس تعاسته الخفية دون وعي، وسيظل في الظاهر الرجل المتوازن المؤمن المطمئن المفيد، حتى تكشفه البطلة أمام نفسه، وربما في سياق غرامه بها.

مصطفى راشد

محام. لا بأس أن أبقي له على مهنته تبريرا لقوته في الجدل. ساخرا جدا وخفيف الروح . متزوج من امرأة لا يحبها، ولعله تزوج منها طمعا في مرتبها قبل كل شيء، ويزعم أنه يبحث عن أنموذجه الأنثوي الذي لم يصادفه بعد. والحق أن الذي لا يمارس العشق في هذه العوامة فهو رجل غريب ينطوي ولا شك على سر دفين؛ لعله الإدمان، وهو يعي خواءه النفسي تماما. ويجد ملاذه في الجوزة والمطلق، ولكنه لا يعي - فيما يبدو - الخدعة التي يخدع بها نفسه، وهو يتطلع إلى المستحيل بلا منهج ولا جهد حقيقي، معتمدا على التأمل المسطول، كأن المطلق ما هو إلا مبرر للإدمان، ولكنه يهبه إحساسا بالعلو فوق تفاهته الحقيقية، وهو - ككثيرين ممن أقابلهم في الحفلات العامة - ذو مظهر براق بالثقافة، وباطن أجوف متداع تفوح منه التعاسة والنتانة.

علي السيد

أزهري النشأة. أتم دراسته بعد ذلك في كلية الآداب، وأتقن الإنجليزية في مدارس برلتز؛ فهو مناضل وعلى بينة من هدفه القريب العملي. وله زوجتان؛ القديمة من القرية، والجديدة من القاهرة ولكنها ست بيت، امرأة تقليدية لترضي نوازعه المحافظة للسيادة، وهو ينوه بقلبه الكبير الذي أبقى على الزوجة الأولى، ولكنه خنزير كما تشهد بذلك علاقته الغريبة بسنية كامل. وكناقد فني فهو وغد كبير، يقيم أسسه الجمالية على المنفعة المادية، فلا يضطر إلى قول الحق إلا إذا خانه الحظ، وعند ذاك ينقلب هجاء ساخرا بلا رحمة، ويطارده الإحساس بالتفاهة والخيانة والعبث، فيمضي في سبيل الجوزة والأحلام الغريبة عن إنسانية جديدة تتخايل أمام عينيه الذاهلتين من خلال الضباب المهلك. وهو مثال لطائفة من المعاصرين الذين يهيمون على وجوههم بلا عقيدة ولا خلق، ولا يتورع عن ارتكاب جريمة إذا أمن من العقاب.

خالد عزوز

ورث عمارة فضمنت له حياة رغيدة رغم عجزه الواضح. وجد مهربه في الجوزة والجنس والفن الهلامي الذي يفضح ما تنطوي عليه جوانحه من انحلال وإباحية. من الصعب الفصل فيما إذا كان فقده للعقيدة - أي عقيدة - هو الذي تأدى به إلى الانحلال، أم إن انحلاله هو الذي ساقه إلى رفض العقائد؛ لذلك لا أستبعد أن يرجع يوما إلى الإيمان التقليدي إذا نضب معينه. وهو دون أصحابه عاطل، يأخذ من المجتمع دون أن يعطيه شيئا، إلا قصصا مثل قصة الزمار الذي انقلب مزماره حية تسعى! ولا أستبعد كذلك أن يطل علينا ذات مساء من شرفة اللامعقول.

رجب القاضي

هو أمل المسرحية. إذا لم يذعن للتطور فقل عليها السلام. أبوه حلاق كما أخبرني علي السيد، وما زال يمارس مهنته في كوم حمادة رغم لمعان ابنه، عن كبرياء من ناحيته أو نذالة من ناحية ابنه. رجب رجل جنس، إله من الآلهة التي تموت في الحلقة السادسة، وكآلهة العشق لا يخلو من قسوة لن يلطفها إلا الحب. وهو كالآخرين بلا عقيدة ولا مبادئ، ولكنه دونهم عصبية وتأزما. جميل جذاب، مشهور بسمرته الغامقة، وسيطرته غير المحدودة، ومهربه الحقيقي في الجنس، أما الجوزة فيبدو أنها لا تؤثر فيه إلا قليلا. وإمكانياته للمسرحية غنية عن التنويه.

أنيس زكي

موظف خائب. زوج سابق. أب سابق. صامت ذاهل ليلا ونهارا. مثقف فيما يقال ولا يملك، ولا يملك من الدنيا إلا مكتبة دسمة، يخيل إلي أحيانا أنه نصف مجنون، أو نصف ميت، نجح في أن ينسى تماما ما يهرب منه؛ نسي نفسه. توحي ضخامة هيكله بقوة كان يمكن أن توجد. يمكن أن تصفه بأي شيء، أو ألا تجد له صفة على الإطلاق. سره في رأسه. يمكن أن تطمئن إليه كما تطمئن إلى مقعد خال. قابل للاستغلال الكوميدي، ولكنه لن يكون له دور إيجابي في المسرحية. •••

يستحسن أن أختزل الشخصيات النسائية إلى اثنتين؛ البطلة لأهمية دورها، وسناء لتشحذ من حدة العاطفة في الدراما، فضلا عن أن شخصية مراهقة عصرية خليقة بأن تضفي على المسرحية روحا جذابا لا يخلو من فائدة دراسية، ثم إن انتصار البطلة عليها في المعركة الغرامية يعد رمزا لانتصار الجدية على العبث في النطاق النسائي؛ إذ لا جدوى من الجدية إذا لم تتغلغل جذورها في المرأة التي هي أم المستقبل.

ولا ضرورة بعد ذلك لسنية كامل التي تمارس تعدد الأزواج على طريقتها الخاصة، ولا إلى المترجمة الشقراء العانس التي تتوهم أنها رائدة شهيدة، على حين أنها رائدة متهافتة مدمنة منحلة. •••

انتهت الكتابة في المذكرة، وثمة عنوان هو «ملاحظات هامة»، ولكنه يقوم وحيدا في وسط السطر، ويليه بياض. وفر الصفحات الباقية حتى الغلاف فلم يعثر على كلمة واحدة. دس المذكرة في جيبه وهو يتمتم: «يا بنت الذين!» واستخرج المذكرة، ثم أعاد قراءة ما كتب عنه، ثم أعادها إلى جيبه، وضحك. ونظر إلى الفنجان الفارغ وهو يقول: «لا فائدة.» سيطول انتظاره، وربما صاحبته الإفاقة حتى ينعقد المجلس. وترامى من المصلى صوت عم عبده وهو يؤذن لصلاة المغرب، فعاد يتمتم: «يا بنت الذين!»

واهتزت العوامة مؤذنة بأقدام آتية، فنظر نحو الباب وهو يتساءل عمن يكون القادم المبكر؟

ومن وراء البارافان ظهرت سمارة بهجت!

11

اقتربت وهي تحييه بابتسامة متكلفة، وضح له انشغالها فقال: لست كعادتك!

راحت تدور في المكان وهي تتفحصه: ما لك؟ - فقدت أشياء مهمة. - هنا؟ - كانت معي في جلسة الأمس. - وما هي؟ - مذكرة خاصة بعملي، ومبلغ تافه من النقود. - أأنت متأكدة من أنك فقدتها هنا؟ - لست متأكدة من شيء. - عم عبده يكنس المكان، والزبال يأخذ الزبالة في الصباح.

جلست على فوتيل وهي تقول: لو أنها سرقت فلماذا لم يأخذ السارق الحقيبة كلها؟ لماذا يأخذ المذكرة ويترك كيس النقود؟ - لعلها سقطت منك؟ - كل شيء ممكن. - أهي خسارة لا تعوض؟

وقبل أن تجيبه اهتزت العوامة وارتفعت الأصوات. رجته بسرعة أن ينسى الموضوع وألا يعيد ذكره، قالت ذلك وهي تنتقل إلى الشلتة. وتتابع دخول الصحاب حتى تم للمجلس تمامه، وتفرغ للجوزة بهمة ونهم، وكان على درجة من الإفاقة غير مألوفة، فنشطت في أعماقه شياطين متحفزة للعبث. واسترق إلى سمارة نظرة ماكرة، وقال مصطفى راشد مخاطبا سمارة: ثبت الآن أنك تجيئين مبكرة لتنفردي بأنيس!

فقالت بتسليم: ألا ترى أنه فارس أحلامي؟

فقال أحمد نصر: نحن فتيان، ولكنه في الأربعين.

وبدون دعوة ظهر عم عبده عند البارافان وهو يقول: غرقت عوامة في إمبابة.

التفتت الرءوس بشيء من الاهتمام، وسأله أحمد نصر: هل غرق أحد؟ - كلا ، ولكن غرقت المحتويات.

فقال خالد عزوز: نحن نعاني نقصا في المحتويات لا في الأفراد. - وجاء بوليس النجدة! - كان يجب أن يجيء أيضا بوليس الآداب.

وتساءلت ليلى: لماذا تغرق العوامة؟

فأجاب العجوز: لغفلة الخفير.

فقال خالد عزوز: بل لغضب الرحمن على من فيها.

فأمنوا على قوله ورجعوا إلى الجوزة. ولما ذهب عم عبده قال علي السيد: حلمت ذات ليلة أنني صرت في طول عم عبده وعرضه.

فخرج أنيس من صمته المألوف قائلا: ذلك أنك تهرب من الأحلام والإدمان!

رحبوا بتعليقه ضاحكين، وسأله علي: ولكن مم أهرب يا ولي النعم؟ - من الخواء!

ولما سكت الضحك استطرد: جميعكم أوغاد عصريون تهربون في الإدمان والأوهام الكاذبة.

وتجنب النظر نحو سمارة. وقهقهت شياطينه العابثة، وتوالت تعليقات: أخيرا نطق! - هذا مولد فيلسوف!

وبات مركز الأنظار، وسأله مصطفى: وماذا عني أنا؟ - هارب من الإدمان والمطلق، يطاردك الإحساس بالتفاهة.

وميز ضحكة سمارة وسط هدير الضحك، ولكنه تجنب النظر إليها. تخيل اضطرابها الخفي، وتخيل وجهها، وتخيل مصارينها، ثم واصل كلامه قائلا: كلنا أوغاد لا أخلاق لنا. يطاردنا عفريت مخيف اسمه المسئولية.

قال رجب: يجب أن تؤرخ حياة العوامة بهذه الليلة.

وقال مصطفى راشد: أراهن على أن «غبارة» الليلة مهربة من موسكو!

وسأله خالد: أنيس، أيها الفيلسوف، وماذا عني؟ وماذا عن ليلى؟ - إنك إباحي منحل؛ لأنك بلا عقيدة، وربما إنك بلا عقيدة لأنك منحل. أما ليلى فما هي إلا رائدة زائفة منحلة مدمنة، لا شهيدة كما تتوهم!

فصاحت به ليلى: قطع لسانك!

وأشار إلى سنية كامل قائلا: وأنت تمارسين تعدد الأزواج يا مدمنة!

فصرخت: يا مجنون! - كلا، أنا نصف مجنون فقط، ولكني أيضا نصف ميت. - كيف تتجرأ على هذه الوقاحة؟!

فقال علي السيد ملاطفا: أغضبت حقا يا سنية؟ إنه ولي أمرنا. - لا أقبل أن أهان أمام غرباء.

أوشك الوجوم أن يلتهم المرح، ولكن رجب قال بتوكيد: لا غرباء بيننا؛ سمارة منا وعلينا.

فقالت ليلى: إنها منا حقا، ولكنها عليك أنت وحدك!

فقال أنيس: لا، إنها لا تبالي برجل يهرب من خوائه في الإدمان والجنس.

صاح رجب في انبساط: ليلتنا فل يا جدعان! - من يصدق أنك أنيس الصامت؟! - لعله يجتر كتابا عن تدهور الحضارة.

ما تزال في جوفي قنبلة أدخرها للمدير العام. ليهدأ الضحك المتفجر في باطني حتى أرى الأشياء. هل تحطمت السلاسل التي تشد عوامتنا إلى الشاطئ؟ والبدر يتوثب لاقتحام باب شرفتنا الهش. أما الهاموش فقد أدرك آخر الأمر سر افتتانه المدمر بضوء المصباح.

وقال رجب لسمارة: لست في أحسن أحوالك!

فقالت دون أن تنظر إلى سنية، ولكنها نظرت إليها في الواقع بفتور نبرتها: ذاك حال الغريب! - لا، سنية امرأة الحنان، وهي أم رءوم حتى في عشقها.

فقالت سنية في سماحة: أشكرك، أنت خير من يعتذر عني للأخت سمارة.

فقال خالد عزوز: لا تبالغوا في توطيد السلام وإلا حل بنا الملل.

وساد صوت القرقرة وحده، وانداحت موجاته في شعاع القمر. قال له دمه المتدفق: إن النوم عسير في هذه الليلة الهائجة. وإنه سيسهد سهاد العاشقين بلا عشق. وراح يتذكر ما تيسر من أشعار المجانين. واختفى الحاضرون فلبث وحده مع الليل المضيء. ورأى فارسا يركض جواده في الهواء قريبا من سطح الماء، فسأله عن هويته فقال: إنه الخيام، وإنه نجح أخيرا الهروب من الموت. واستيقظ على منظر ساقه المطروحة لصق الصينية؛ طويلة بارزة العظام، باهتة اللون في الضوء الأزرق، كثيفة الشعر، كبيرة الأصابع، مقوسة الأظافر من طول إهمالها بلا قص؛ فكان ينكرها. وعجب لعضو من جسده كيف يبدو كالغريب، ثم انتبه إلى مصطفى راشد وهو يتساءل: أنحن حقا كما وصفنا ولي الأمر؟

فقال خالد عزوز: لا هروب ولا خلافة، ولكننا نفهم حقيقتنا كما ينبغي لنا.

وقال علي السيد: عوامتنا هي الملاذ الأخير للحكمة البشرية. - هل الاستغراق في الأحلام هروب؟ - أحلام اليوم هي حقائق الغد. - هل التطلع إلى المطلق هروب؟ - أف! وهل علينا من عمل سواه؟! - وهل الجنس هروب؟ - اخص! إنه الخلق نفسه. - وهل الجوزة هروب؟ - هروب من البوليس إذا شئت! - أهي هروب من الحياة؟ - إنها الحياة نفسها! - فلماذا هاجمنا ولي الأمر ؟ - إنه لم يهرج من عشرة أعوام، فأراد أن يخزي عين الحسود.

وهتف رجب القاضي: ليلتنا فل يا جدعان!

ووصاهم أحمد نصر بشيء من الصمت كي لا تتبدد ثمرة السهرة. ودارت الجوزة دوراتها الختامية المركزة.

وارتفع القمر عن مجال الأبصار، وهو وحده الذي قرأ في نظرة سمارة هزيمة حزينة. وتبددت وجوههم شاحبة ناعسة، وجادة أيضا على رغمهم. ورمق مصطفى سمارة باهتمام، وسأل عن رأيها فيما سمعت، فقال رجب: لم يخلق آخر الليل للمناقشة.

فلماذا خلق؟ ذهبوا جميعا عدا علي السيد وسنية كامل. وما لبثت الصالة أن خلت له. وجاء عم عبده كالعادة فأنجز مهمته دون أن يتبادلا كلمة، ثم ذهب. وزحف نحو الشرفة فرأى القمر من جديد متألقا في مركز القبة المرصعة. ناجاه مغمغما أن ليس كعوامتنا شيء؛ الحب لعبة قديمة بالية، ولكنه رياضة في عوامتنا، الفسق رذيلة في المجالس والمعاهد، ولكنه حرية في عوامتنا، والنساء تقاليد ووثائق في البيوت، ولكنهن مراهقة وفتنة في عوامتنا، والقمر كوكب سيار خامد، ولكنه شعر في عوامتنا، والجنون مرض في أي مكان، ولكنه فلسفة في عوامتنا، والشيء شيء حيثما كان، ولكنه لا شيء في عوامتنا. أيها الحكيم القديم «إيبو-ور»، أقدم بعصرك الذي اضمحل فيه كل شيء إلا الشعر وأسمعنا الغناء، حدثني ماذا قلت لفرعون، أقبل الحكيم «إيبو-ور» وهو ينشد:

إن ندماءك قد كذبوا عليك،

هذه سنوات حرب وبلاء.

قلت: أسمعني مزيدا أيها الحكيم! فأنشد:

ما هذا الذي حدث في مصر؟

إن النيل لا يزال يأتي بفيضانه.

إن من كان لا يمتلك، أضحى الآن من الأثرياء.

يا ليتني رفعت صوتي في ذلك الوقت!

قلت: ماذا قلت أيضا أيها الحكيم «إيبو-ور»؟ فقال:

لديك الحكمة والبصيرة والعدالة،

ولكنك تترك الفساد ينهش البلاد.

انظر كيف تمتهن أوامرك،

وهل لك أن تأمر حتى يأتيك من يحدثك بالحقيقة؟

12

استيقظ على صوت يهمس باسمه، فتح عينيه وهو مستلق على ظهره في الشرفة فرأى هالة ناصعة في السماء تشي بالقمر المختفي عن ناظريه. أين المكان والزمان؟ - أستاذ أنيس!

التفت فرأى سمارة واقفة فوق عتبة الشرفة. جلس معتمدا على ذراعيه رافعا إليها عينين لم تفيقا بعد من سكرة الحلم. - آسفة لعودتي في وقت غير مناسب. - أما نزال في نفس الليلة؟ - مضى على ذهابنا ساعة. أكرر الأسف.

تزحزح حتى أسند ظهره إلى جدار الشرفة وحاول أن يتذكر. - عدت من ميدان التحرير بعد أن أوصلني رجب إليه. - شرفت. إليك حجرتي إذا تنازلت ...

قالت بجزع: لم أعد لأنام، وأنت تعلم ذلك جيدا.

ثم بهدوء وهي تخفض عينيها: أريد مذكرتي.

تساءل مقطبا: مذكرتك! - إذا سمحت.

تمطت شياطين العبث في نفسه، فقال محتجا: تتهمينني بالسرقة! - كلا، ولكنك عثرت عليها بطريقة ما. - هذا يعني أني سرقتها. - بالله ردها إلي فلا وقت للكلام. - إنك مخطئة. - لست مخطئة. - إني أرفض أن أسمع التهمة مرة أخرى. - لا أتهمك بشيء. رد إلي مذكرتي التي فقدت مني هنا. - لا أعرف مكانها. - سمعتك وأنت تردد ما دون فيها! - لا أفهم. - بل تفهم كل شيء، ولا داعي لتعذيبي. - التعذيب ليس هوايتي. - الليل ينتهي بسرعة.

فسألها مداعبا: أتحاسبك ماما على التأخير؟ - أستاذ، كن جادا ولو دقيقة واحدة. - نحن لا نعرف الجد.

تساءلت في قلق: هل تنوي إفشاء سرها؟ - من أين لي ذلك وأنا لا أدري عنها شيئا؟ - كن لطيفا كالعهد بك. - لست لطيفا، أنا نصف مجنون ونصف ميت. - المدون في المذكرة لا يمثل رأيي فيكم، ولكنه جملة الآراء التي أعدها للمسرحية. - عدنا إلى الألغاز والاتهام. - ما زلت طامعة في كرم أخلاقك. - ما الذي حملك على هذا الظن؟ - أنك رددت كلماتي بالحرف. - ألا تؤمنين بتوارد الخواطر؟ - إني مؤمنة بأنك سترد إلي مذكرتي. - إذن فأنت تتصورين أنك قادرة على أن تفهمي في أيام ما أعجز عنه في أعوام!

وضحك ضحكة خرقت صمت الخلاء فوق النيل، وقال بلهجة جديدة: أفكارك فارغة، صدقيني.

هتفت بارتياح: ها أنت تسلم. - سأردها إليك، ولكنها لا تصلح لشيء. - ما هي إلا ملاحظات مبدئية لم تدرس بعد. - لكنك فتاة رديئة! - الله يسامحك. - جئت لا لصداقة، ولكن للتجسس.

قالت محتجة: لا تسئ بي الظن، إني أحبكم حقا وأرغب في صداقتكم، وفضلا عن هذا وذاك فإنني أومن بأنه يوجد بطل كامن في كل فرد، ولم يكن يهمني معرفة حقيقتكم بقدر أن أخلق منها ما ينفع المسرحية. - لا تجهدي نفسك انتحال الأعذار؛ فإن الأمر في الواقع لا يهمني.

ومد لها يده بالمذكرة وهو يقول: أما الخمسون قرشا فيسرني أن أظل مدينا بها إليك. فتساءلت في انزعاج: ولكن كيف؟ ... أعني ... - كيف سرقتها؟ المسألة غاية في البساطة؛ فنحن نعتبر جميع ما تقع عليه اليد في العوامة من القطاع العام! - بالله أعطني تفسيرا يريح القلب.

فقال ضاحكا: كانت نزوة لا تقاوم. - أكنت في حاجة إليها؟ - أعطيتها بنتا من بنات الليل جاءني بها عم عبده. - إذن كنت في حاجة إليها؟ - كلا، لم يبلغ بي الفقر هذا الحد. - إذن لماذا أخذتها؟ - وجدت في استغلالها على ذلك الوجه نوعا من القربى إليك! - الحق أني لا أفهم. - ولا أنا. - ولكني بدأت أشك في منهجي كله. - من الأفضل ألا يكون لك منهج على الإطلاق.

ضحكت، فقال: إلا ما يوصلك إلى الرجل المنشود!

ضحكت مرة أخرى فعاد يقول: إني أفهمك كما يفهمك الجميع.

كانت همت بالذهاب، فثبتت في مكانها مستطلعة، فقال: إنك شرفتنا من أجل رجب.

فضحكت باستهانة، فقال وهو يشير إلى الحجرة المغلقة: حذار أن توقظي العاشقين! - لست كما تظنون، إني فتاة ...

فقاطعها: إن كنت فتاة حقا فتعالي إلى حجرتي لتثبتي ذلك! - كم أنك ظريف، ولكنني لن أعجبك. - لماذا؟ - لأنه فظيع أن تكون الفتاة جادة. - ولكنني لا أدعو من الفتيات إلا الجادات. - حقا؟ - جميع بنات الليل جادات. - الله يسامحك. - لا يعرفن العبث، يعملن حتى الهزيع الأخير من الليل، لا للهو أو لذة، ولكن لهدف تقدمي وهو أن يعشن حياة أفضل! - عيب هذه العوامة أنه لا يعرف بها الجد من الهزل. - الجد والهزل اسمان لشيء واحد.

تنهدت مؤذنة بإنهاء الحديث، غير أنها ترددت لحظة، ثم سألته: هل تنوي أن تفشي سر المذكرة؟ - لو كان ذلك في نيتي لفعلت. - أستحلفك بكل عزيز أن تصارحني بما في نفسك . - فعلت. - أن أختفي خير من أطرد. - لا أريد هذا ولا ذاك.

صافحته مودعة وهي تقول بنبرة حميمة: شكرا.

ذهبت مسرعة وصوت عم عبده يؤذن لصلاة الفجر.

13

اهتزت العوامة مؤذنة بقادم جديد رغم تمام المجلس. وتساءلوا عمن يكون، ثم التفتوا نحو الباب باهتمام لا يخلو من قلق، وقام أحمد نصر ليعترض سبيل القادم عند المدخل، ولكن ضحكة معروفة ترامت إليهم، ثم وضح صوت سناء وهي تهتف: «هاللو!» دخلت ساحبة وراءها شابا أنيقا، فنهض رجب لاستقباله وهو يقول: أهلا رءوف!

وقدمه للصحاب قائلا: «نجم الشاشة المعروف.» وجلسا وسط ترحاب رسمي فاتر. وقالت سناء بصوت أجرأ من عادتها: أتعبني حتى أذعن للمجيء، قال كيف نقتحم على ناس خلوتهم، ولكنه خطيبي والعوامة أسرتي!

وتلقت التهاني من جميع الشلة، فعادت تقول وقد وشت أنفاسها بالشراب: وهو مثلكم من أهل ذلك.

وأشارت إلى الجوزة ضاحكة، ولم يبال أنيس بالحرج، وأدار الجوزة بكل نشاط. وقالت سناء: هذه فرصة سعيدة يا رءوف؛ إليك الناقد الكبير علي السيد، والكاتبة المعروفة سمارة بهجت، ومن تجمعهم الجوزة لا يفرق بينهم رأي أو ذوق.

فقال رجب: ولكن سمارة للأسف لا تتعامل مع الجوزة.

فتساءلت بسخرية: إذن فلماذا تدمن على زيارة العوامة؟

وهمس رءوف في أذنها بكلمات لم يتبينها أحد، ولكنها ضحكت في استهتار. وجاء عم عبده ليغير ماء الجوزة، فلما ذهب قالت سناء لرءوف: أتصدق أن كل هذا البناء رجل واحد؟!

وضحكت ولكن وحدها. وساد صمت متوتر مقدار ربع ساعة، ثم أقنعها رءوف بوجوب الذهاب، فقام آخذا بذراعها وهو يقول: معذرة، لا بد من الذهاب لموعد عاجل. فرصة سعيدة.

أوصلهما رجب حتى الباب، ثم عاد إلى مكانه. وتجهم المجلس رغم دوران الجوزة، وجعل رجب يبتسم إلى سمارة ملاطفا، ولكنها قالت وهي تومئ إلى الجوزة: مهما قلت فلن يصدقني أحد.

فقالت ليلى زيدان: على أي حال فليست هي بالتهمة الشائنة. - إلا عند الأعداء.

فقال رجب ببساطة: لا أعداء لك إلا الرواسب البرجوازية.

ولكنها تكلمت عن الإشاعات في الوسط الصحفي، وذكرت مسكنها القديم في المنيل وكيف كانت عودتها المتأخرة إلى البيت تثير القيل والقال بين الجيران. - ولما قالت ماما لهن إن عملها في الصحافة يضطرها إلى ذلك، قلن وما الذي اضطرها للعمل في الصحافة؟!

فقال رجب: لكنك تقيمين الآن في شارع قصر العيني.

وأراد مصطفى راشد أن ينكش أنيس لعله يجدد ثورة الأمس فيبدد وجوم المجلس، ولكنه لم يخرج من عالمه. كان يفكر في الحلقات المفرغة التي تحاصره كل يوم؛ كشروق الشمس وغروبها، وبزوغ القمر وأفوله، والحضور والانصراف في الوزارة، والإقبال والإدبار في الجلسة، والصحو والنوم، تلك الحلقات المذكرة بالنهاية، والتي تجعل من أي شيء لا شيء، وقد دار معها الآباء والأجداد، وتنتظر الأرض انتظارا لا يعرف الجزع؛ لتستمد من آمالنا ومسراتنا أسمدة لتربتها. فلا بأس أن تحتدم الأشواق في سحابات الدخان المضمخ بشذا السحر المحرم الغامض.

أما ليلى فتعذب نفسها بالحب العقيم، وتوغل في الفضاء كسفينة كونية أفلتت من مدارها. وإله الجنس يمد ساقه حتى استقر حذاؤه الأبيض لصق المجمرة، وهو يرامق الفتاة المزعجة اللذيذة بنظرات متسللة من عينيه السوداوين الجذابتين. وكلام كثير قيل عن سناء وخطيبها، ولكن رجب لم يشترك فيه. ولما انتبه الصحاب إلى انهماكه الكلي في سمارة، قال مصطفى راشد: نحن سعداء إذ نعاصر قصة حب كبير.

فقال خالد عزوز: فلنسمه باسمه الحقيقي.

فقال أحمد نصر: بالله لا تفسد علينا الحلم.

فقالت ليلى زيدان: الجديد فيه أن أحد طرفيه إنسان جاد.

وتساءل خالد عزوز: ترى ما موقف محبة جادة من محب عابث؟

فأجاب رجب: تطهره من عبثه. - وإذا كان العبث جوهره الذي لا يتغير؟ - لا مفر من انتصار الحب في النهاية.

وضحكت سمارة هازئة، فقال خالد: يهمني أن أرى فتاة جادة وهي تحب؛ إذ إن انزلاق قدم وزير أضحك بكثير من انزلاق قدم بهلوان.

فقال علي السيد: لا فرق في الحب بين جادة وعابثة؛ الجدية دعوة إلى الاهتمام العملي بالشئون العامة أسوة بالشئون الخاصة.

فغمز خالد بعينيه ناحية سمارة وتساءل: بأي الناحيتين تراها مهتمة الآن؟

وارتفع الضحك، ثم عاد خالد يتساءل: هل ثمة أمل في تطويرها نحو الاهتمامات العامة؟ - إن آمالها متعلقة بالجيل الجديد.

فنظر خالد نحو رجب قائلا: الظاهر أن جيل الأربعين لم يعد يصلح إلا للحب. - هذا إذا كان يصلح له حقا.

فقال أحمد نصر: الجيل الجديد خير منا.

فتساءل مصطفى راشد: أليس ثمة أمل في أن نتغير نحن؟

فأجاب خالد: نحن نتغير عادة في المسرحيات والأفلام، وهذا هو سر ضعفها.

فقال علي السيد: هذا هو سر نجاح الهزليات التي تصورنا على حقيقتنا. - لماذا لا تعترف بذلك في مقالاتك؟ - لأنني منافق، وقد عنيت بقولي السابق الهزليات الغربية، أما هزلياتنا المحلية فتنتهي عادة بتغير مفاجئ للمثل الهزلي في شكل موعظة سخيفة؛ ولذلك فالفصل الثالث يكون عادة أضعف فصول المسرحية وهو يكتب في الواقع للرقابة. والتفت خالد نحو سمارة وقال: إذا فكرت يوما أن تكتبي مسرحية عن أناس مثلنا، فأنصحك كزميل في الفن أن تختاري الشكل الهزلي؛ أعني المهزلة أو اللامعقول، وكلاهما شيء واحد.

فقالت متجاهلة نظرات رجب: فكرة تستحق الدراسة! - تجنبي الأبطال الهادفين الذين لا يبتسمون ولا ينطقون إلا عن المثل الأعلى، ويدعون إلى كيت وكيت، ويحبون بصدق، يضحون، ويرددون الشعارات، ثم يقتلون في النهاية النظارة بثقل دمهم. - سأعمل بنصيحتك وأكتب عن الآخرين الذين يقتلون النظارة بخفة دمهم! - ولكن لهؤلاء أيضا مشكلتهم الفنية؛ إنهم يعيشون بلا عقيدة، يقضون أوقاتهم في العبث لينسوا أنهم سيتحولون بعد قليل إلى رماد وعظام وبرادة حديد وأزوت ونيتروجين وماء، ويرهقهم في ذات الوقت أن الحياة اليومية تفرض عليهم ألوفا من الجدية الحادة التي لا معنى لها، وأن مجانين من حولهم يهددونهم بالنسف في أي لحظة، أمثال هؤلاء لا يعلمون ولا يتطورون، فكيف تصنعين بهم في مسرحية ترجين لها النجاح؟ - هذه هي المسألة! - وثمة مشكلة أخرى؛ أن أحدهم لا يختلف عن الآخر إلا في القشور؛ ذلك أن أحدهم لا يكون شخصية، ولكنه يتكون من عناصر متحللة كبناء متهدم، ونحن قد نفرق بين بيت وبيت، ولكن كيف نفرق بين كومين من الأحجار والأخشاب والزجاج والخرسانة والملاط والتراب والطلاء ؟ إنهم كلوحات الفن الحديث، الواحد كالآخرين، فكيف تبررين تعدد الشخصيات فوق المسرح؟ - إنك توشك أن تنصحني بالعدول عن الأدب! - كلا، ولكني أقول لك إنه كما أن الطيبات للطيبين والخبيثات للخبيثين، فإن مسرح العبث للعبثيين، لن يحاسبك الأخ علي السيد على انعدام الحدث أو الشخصية أو الحوار، ولن يحرجك أحد بالسؤال عن معنى هذا أو ذاك. ولما كان لا يوجد أساس للتقييم، فلن يهزك من يخفضك، وستجدين من يرفعك ومن يقول يحق إنك عبرت بمسرح فوضوي عن عالم ماهيته الفوضى. - ولكننا لا نعيش في عالم ماهيته الفوضى!

فقال وهو يتنهد: هذا فراق بيني وبينك، ويمكنك الآن أن تعودي إلى نظرات الأخ رجب.

لا شيء هنا يدور بيقين وهو يعرف هدفه إلا الجوزة. وعما قليل سيهبط النعاس في موطنه السحري بين النجوم فيعقل الألسنة. والراجح أن العشق الجديد سيثمر قبلة في الهزيع الأخير من الليل تحت شجرة الجوافة. ومن قبل دارت الأرض ملايين ملايين السنين حتى أثمرت هذا المجلس فوق سطح النيل. واختفى القمر عن ناظريه ولكنه رأى البرص فوق باب الشرفة، يجري ثم يتوقف ثم يجري، كأنما يبحث عن شيء. وتساءل: لماذا توجد حركة؟

فالتفتوا نحوه متوقعين مفاجأة ما، وسأله مصطفى: أي حركة تعني يا ولي الأمر؟

فتمتم وهو يواصل عمله: أي حركة.

14

ولما كان اليوم عطلة رسمية لمناسبة الهجرة، فإن أنيس قضى النهار بين الشرفة والصالة غائبا في انسجام شامل. وقبيل المغيب جاء عم عبده ليعد المجلس فهنأ أنيس بالعيد لثالث أو لرابع مرة وهو يظن أنه يهنئه لأول مرة. وسأله أنيس عما يعلم عن العيد، فأجاب الرجل بأنه اليوم الذي هاجر فيه النبي من الكفار، ولعن الكفار، فقال أنيس: سوف يملئون هذا المجلس الذي تعده بعد قليل!

فضحك العجوز غير مصدق، فمضى أنيس في عبثه قائلا: إنك يا عم عبده هارب في الإيمان. - هارب؟! جئت إلى هنا ذات يوم فوق عربة قطار. - من أي بلد؟ - أووه! - من أي جريمة هربت؟ - أووه!

إنه مصر على النسيان؛ فلعله جاء هربا من جريمة، أو حملته موجة الثورة سنة 1919م. إنه لم يعد يدري ولن يدري أحد. وسأله موغلا في العبث: أأنت جاد يا عم عبده؟ - أووه! - ألم تعلم بأن سمارة نبية جديدة؟ - أستغفر الله العظيم. - وقد جندت منا جيشا سنحارب به العدم، ثم نسير إلى الأمام.

فسأله الرجل بسذاجة: إلى أين؟ - إلى السجن أو مستشفى المجاذيب.

فقال وهو يمضي إلى صلاة المغرب: إني أبحث عن قط لكثرة الفئران فوق الجسر.

وما لبث أن جاء الصحاب مبكرين عن موعدهم احتفالا بالعطلة الرسمية. وشرع أنيس في نشاطه. وتحدثوا بعض الوقت عن شئونهم العائلية. وأعلن رجب عن عزمه على رفع أجره في الفلم إلى خمسة آلاف جنيه، فهنأه خالد عزوز، وقال له إنه بذلك يثبت ولاءه للاشتراكية العربية. وضحك رجب ولكنه لم يعلق على قول صاحبه، وراح يتحدث عن سناء وكيف تظهر مع رءوف في المجتمعات والاستوديوهات بصفتها خطيبته، مؤكدا أن الخطبة لن تتوج بالزواج، وهنا تساءلت ليلى زيدان: حتى متى تظل شلتة الجدية شاغرة؟

فأجاب علي السيد: عادت البعثة الصحافية من زيارة المصانع أمس، وستجيء سمارة الليلة غالبا.

وقال خالد عزوز لرجب: حدثنا بصراحة عن علاقتك بها.

فابتسم دون أن يجيب، فقال خالد: هل ثمة جرسنيرة أجرت من وراء ظهورنا؟ - كلا. يجب أن تصدقوني فليس بين أهل العوامة سر! - إذن فيجب أن تعترف بأول هزيمة تحل بك في حياتك. - كلا، ولكني لم أركز الهجوم كي أستعيد ذكريات الهوى العذري! - إذن فيوجد حب؟ - طبعا. - من ناحيتك أيضا؟

جذب نفسا طويلا، ثم زفره متأنيا وقال: لا أخلو من حب.

تساءلت سنية كامل: حب رجبي؟ - ولكنه موديل جديد! - هذا يعني أنه لا شيء من حيث الجوهر. - فلننتظر حتى نرى.

فقال أحمد نصر: إنها جميلة حقا.

فقال علي السيد: ولكنها ذات شخصية قوية.

فقالت سنية كامل: إنها صفة منفرة لدرجة ما في المرأة.

فحدجتها ليلى بنظرة استياء، فاستدركت في مرح: إلا فيما ندر.

وقال رجب: إن عظمة الغزاة تقاس بمناعة الحصون التي يفتحونها.

فقالت ليلى زيدان : ولكن الذرة لم تجعل للحصون قيمة، ولا للغزاة فضلا!

فقال أحمد نصر: إنها رفضت زواجا فاخرا، وهذا تصرف يستحق الإعجاب في ذاته.

فقالت سنية كامل: لا تحكم من قبل أن تعرف (ثم متوجهة إلى رجب)، ألم تلمح لك بطريقة ما إلى الزواج؟ - الزواج يجيء أحيانا بلا تلميح كالموت. - صارحني أيمكن أن تفكر أنت جديا في الزواج؟

تردد قليلا قبل أن يقول لا. أثر تردده في النفوس تأثيرا عميقا. لماذا لا أدفع بالمجمرة إلى الشرفة لأستمتع بمهرجان اللهب. إن توهجه خالد لا كتوهج النجوم الزائفة. ولكن المرأة كالغبار لا تعرف برائحتها الدسمة، ولكن عندما تستقر أنفاسها المحترقة في الأعماق. وكليوباترا على كثرة غرامياتها لم يعرف سر قلبها. وحب المرأة كالفن الهادف لا شك في سمو هدفه، ولكن تحوط بنزاهته الريب. ولا ينتفع مخلوق بهذه العوامة كالفئران والصراصير والأبراص. وليس كالحزن شيء يقتحم عليك المأوى بلا دعوة. وأمس قال لي الفجر عند طلوعه إنه في الحقيقة لا اسم له.

وانتبه إليهم وهم يتناقشون في اللحوم البلدية والسمك الروسي والعملة الصعبة والمعادلة العسيرة، ثم يضجون بالضحك. واهتزت العوامة مؤذنة بقادم فساد الصمت، ثم تمتمت سنية كامل: العروس!

جاءت سمارة مرحة نشيطة فصافحتهم بحرارة وهنأتهم بالعيد، وسرعان ما سئلت عن الرحلة فأجابت بأنها كانت رائعة، وأن عليهم أن يقوموا بمثلها لكي يخلقوا خلقا جديدا. ونقل خالد عينيه بين الحاضرين، ثم تساءل: ترى أيمكن أن نخلق خلقا جديدا؟

تبادلوا النظرات، ثم أغرقوا في الضحك. وقال لها مصطفى راشد: الحق عليك. إنك لم تكشفي لنا عن سر جديتك وحماسك! - لن أقع في الشرك! - واضح أنك في الإيمان القديم مثلنا، ومثلنا أيضا في الطبقة التي تنحدر نحو الهاوية، فكيف عثرت بعد ذلك على معنى؟ وخبرينا على الأقل ما هو؟

ترددت مليا، ثم قالت: إنها الحياة لا المعنى. - نحن نشعر بدفعها في غرائزنا، وفي تلك الحدود نمارسها على خير وجه. - كلا. - سبق أن قلنا لك ...

قاطعته: بعض غرائزها تعبد الموت كما تعلمون. - والمخرج؟ - الخروج من القوقعة.

كلام طلي ، ولكنه لا يقدم ولا يؤخر. - الحياة فوق المنطق.

عند ذاك قال لها رجب: عودي إلى حذرك فقد وقعت في الشرك.

وجاء عم عبده ليغير ماء الجوزة، فأثنى له علي السيد على جودة الصنف، فقال الرجل: أمس نصحني المعلم بأن نشتري تموين شهر لأن المخبرين يراقبونه. - مؤامرة لابتزاز أموالنا فلا تصدقه.

وسألته سمارة: وأنت يا عم عبده ألا تخاف المخبرين؟

فأجاب عنه مصطفى راشد: لقد طعن في السن لدرجة تجعله فوق القانون!

ولمع نجم في الأفق كبسمة صافية. سأله عن المخبرين وهل يراقبون حقا، فأجاب بأنهم يراقبون المفيقين لا المساطيل، وأن النجوم تلمع كلما اقتربت من الأرض، وتخبو كلما أوغلت في الفضاء، وأن بعض الأضواء التي تزين القبة صدرت في الأصل عن نجوم قد كفنها العدم، وأن القوة التي تسخرك للا شيء أقوى من القوة التي تسخرك لأشياء. وتهاوى شهاب فجأة حتى خال أنه استقر وراء العوامة فوق البنفسج. وقال: جميع موظفي الإدارة أخذوا مكافآت تشجيعية سواي.

ولعن أحمد نصر المدير العام، فقال أنيس: وقفت في الحجرة غاضبا لأعلن احتجاجي ولكن غلبني الضحك.

وضحكوا ولكنه هز كتفيه. وتذكر علي السيد كيف كانوا يحتفلون بالهجرة في القناطر، فقال رجب القاضي: خير احتفال بالهجرة أن نهاجر.

وتألق وجهه بخاطر جديد فيما بدا، فقال: ما رأيكم في أن نجوب الخلوات في سيارتي؟ - ولكننا لم ننسطل بعد. - ننطلق بعد منتصف الليل.

رحبت سمارة بالاقتراح، وقال أحمد نصر إن في الحركة بركة، ولم يعترض أحد إلا أنيس الذي تمتم: لا.

ولكن هل تمضي القافلة في سيارتين؟ بل في سيارة واحدة وإلا فلا معنى لها. كيف والسيارة لا تتسع إلا لسبعة ونحن تسعة؟ فلتجلس ليلى على حجر خالد، وسنية على حجر علي. وتضاعف الحماس للرحلة التي جاءت بغير تدبير سابق. وقال أنيس بفتور: لا.

ولكنهم أصروا على اصطحابه، وهل تتم مغامرة كهذه بغير ولي الأمر؟ ورفض أن يتحرك أو أن يغير ملابسه، فأصروا على أخذه ولو بالجلباب. وعند منتصف الليل قاموا للذهاب. وأذعن أنيس لهم على كره . ومضوا نحو السيارة مبكرين عن موعدهم، فوقف عم عبده أمام كوخه كالنخلة وهو يتساءل: هل أنظف المكان؟

فقال أنيس: اترك كل شيء على حاله حتى نرجع.

15

تحركت السيارة تحمل في المقعد الأمامي رجب وسمارة وأحمد نصر، على حين تكدس الباقون في المقعد الخلفي كجسد مفلطح ذي خمسة رءوس. اتجهت نحو شارع الهرم في شبه خلاء من المارة والسيارات. واقترح رجب طريق سقارة مجال الرحلة، فلاقى اقتراحه استحسانا ممن عرف الطريق ومن لم يعرفه. أما أنيس فقبع في جلبابه صامتا وقد ضغط في جانب السيارة الأيمن. قطعوا طريق الهرم في دقائق، ثم انعطفوا نحو طريق سقارة، وهناك انسابت السيارة في سرعة غير عادية في طريق مظلم مقفر. ووضحت معالم الطريق بعض الشيء على ضوء السيارة، فإذا به يمتد في الظلام بلا نهاية، محفوفا من الجانبين بأشجار الجازورينا الضخمة تتلاقى أغصانها في الأعالي، ويكتنفه من الناحيتين فضاء ريفي المنظر والنسمة والوحشة، يجلله الصمت، ويشق جناحه الأيسر بطول الطريق ترعة قاتمة الوجه تتضح بعض سطوحها بلون رصاصي غامق، مميز عما حولها تحت ضوء النجوم الخافت. وازدادت السيارة سرعة وتدفق الهواء من النافذة جافا منعشا مشبعا بأخلاط النباتات. وقالت سنية كامل لرجب: هدئ السرعة.

وقال خالد عزوز: لا تجاوز السرعة اللائقة بمساطيل.

وسألته سمارة: أأنت من هواة السرعة؟

فضحك وخفض السرعة شيئا ما، وقال: نحن نزور الآن قرافة فرعونية قديمة، فلنقرأ الفاتحة.

وسرعان ما استردت السيارة سرعتها الأولى، فاقترح خالد أن يتوقفوا قليلا ليتجولوا في الظلام. رحبوا جميعا بالاقتراح، فمضت السيارة تهدئ من سرعتها، ثم مال بها رجب إلى رقعة متربة بين شجرتين ووقف. فتحت أبواب وغادرها أحمد وخالد وسنية وليلى ومصطفى وعلي. تزحزح أنيس عن الباب المغلق وجلس جلسة مريحة لأول مرة وهو ينفض جلبابه ليطلق سراحه، ويفتش بقدمه عن فردة شبشبه التي انسلتت في الزنقة. ولما دعوه إلى اللحاق بهم قال بإيجاز: كلا.

فقبض رجب على يد سمارة التي همت بالخروج وهو يقول: لا يجوز أن نترك ولي الأمر وحده!

ابتعدت القافلة نحو شاطئ الترعة وهم يتكلمون ويضحكون. انقلبوا أشباحا تحت أشعة النجوم. وسرعان ما اختفوا تماما في توغلهم فلم يعد يجيء من ناحيتهم إلا أصوات مجردة. وتساءل أنيس بنبرة خاملة: ما معنى هذه الرحلة؟

فأجاب رجب معابثا: المهم الرحلة لا المعنى!

همهمت سمارة احتجاجا على التعريض بها، ولكن أنيس تشكى قائلا: الظلام يبعث على النوم.

فقال له بحماس: أنعم بالنوم يا ولي الأمر.

والتفت نحو سمارة وقال: يجب أن نتكلم عن شئوننا بصراحة توافق الصدق الفطري المحيط بنا.

يعز النوم على من يشاهد كوميديا غرامية، والصدق يحلو بعد منتصف الليل في طريق سقارة، وها هي ذراعه تزحف فوق مسند المقعد، كل شيء يحتمل أن يحدث في طريق سقارة. - أجل لنتكلم عن حبنا. - نا؟ - نا .. نا .. حبنا هذا ما عنيته تماما. - يتعذر علي أن أتعامل مع إله. - يتعذر علي أن شفتينا لم تتعارفا بعد!

حولت رأسها نحو الحقول كأنما لتصغي إلى صرار الليل والضفادع. وتمتمت ما أجمل النجوم فوق الحقول! ترى أي أفكار جديدة دونت في المذكرة؟ وهل يقدر لنا أن نرى أنفسنا فوق خشبة المسرح ذات ليلة وأن نقهقه مع النظارة؟ - أعرف ما تودين قوله. - هه؟ - إنك لست كالأخريات؟ - أنت تقول ذلك. - ولكن الحب .. - ولكن الحب؟ - إنك لا تصدقينني! - أين الصدق في هذا الظلام؟ وما تعني أصواتنا للحشرات؟ وأنت في الأربعين وعليك أن تغير دورك في الأفلام المقبلة. ألا تدري كيف انطوى كازانوفا الهائل في مكتبة الدوق؟ - لا تقل رواسب برجوازية من فضلك. - فكيف أفسر خوفك؟ - أنا لا أخاف. - إذن فهي عقدة الثقة؟ - سمعتك تردد ذلك في فيلم. - لعلي لم أومن بعد بالجدية، ولكني آمنت بك. - إنها عقدة دون جوان!

أشباح تتراءى في الحقول أو في الرأس، كالقرية في الأيام الخالية. الزوجية والأبوة والطموح والموت. والنجوم قد عاشت بلايين السنين ولكنها لم تسمع بعد عن نجوم الأرض. لا أشباح هناك، ولكنها أشجار وحشية أهملت وسط الحقول. - ممكن أن ألتزم بالبراءة حتى نتزوج؟ - نتزوج! - ولكن بي شيطانا يثور على الروتين. - الروتين؟ - بالإشارة تفهمين كل شيء ، ولكنني لا أفهمك.

أين الشرفة وصوت تلاطم الأمواج أين؟ والجوزة ورائحة الماء وعم عبده أين؟ والخواطر التي تومض كالبرق ترتطم بأشباح الجازورينا ثم تختفي ولكن أين؟ - لماذا رفضت الزواج من الرجل المرموق؟ - لم أقتنع به. - يعني لم تحبيه؟ - إذا شئت. - إنه مثلي في الأربعين؟ - ليس ذلك. - الاقتناع مهم في الاختيار الحر لا في الحب. - لا أدري. - والجنس؟ - سؤال جدير بالإهمال.

وصاح أنيس بصوت بدد دأب الليل: تقعيد وتبويب للسن والحب والجنس يا ذرية علماء النحو!

التفتا نحوه في انزعاج، ثم ضحكا، وقال رجب: ظننتك نائما. - حتى متى نبقى في هذا السجن؟ - مكثنا ساعة. - ولماذا لم ننتحر؟ - كنا نحاول الحب!

وترامت من جوف الليل أصوات القافلة، ثم لاحت أشباحهم مبعثرة وهي تقترب. أقبلوا نحو السيارة ثم أحاطوا بمقدمها. أجل يا عزيزي كان من السهل قتلنا في الخلاء. وا أسفاه على أيام الفرسان والصعاليك! وقال خالد إنه أوشك أن يرتكب الخطيئة الأولى لولا الرائدة الزائفة. وقال مصطفى راشد: وفي الظلام قررنا أن نختبر عصريتنا فاستبقنا إلى الاعتراف بأخطائنا.

أثنى رجب على براعة الفكرة فاستطرد مصطفى: واعترف كل منا بآثامه. - آثامه؟! - أعني ما يعتبر كذلك لدى الرأي العام. - وكيف كانت النتيجة؟ - رائعة. - كم منها ما يعد جريمة؟ - عشرات. - وما يعد جنحة؟ - مئات. - ألم يرتكب أحدكم فضيلة ما؟ - المدعو أحمد نصر! - لعلك تعني إخلاصه لزوجه؟ - وللتعليمات المالية ولائحة المخازن والمشتريات! - وكيف كان رأيكم في أنفسكم؟ - أجمعنا على أننا طبيعيون لا يشيننا شيء، وأن الأخلاق التي تديننا أخلاق ميتة مستوحاة من عصر ميت، وأننا رواد أخلاق جديدة صادقة لم ينتظمها التشريع بعد. - برافو، برافو.

استسلم لمنظر الأشجار وهي تطوق الطريق على طوله بإحكام جمالي خارق، لو تبادلت مواضعها على جانبي الطريق لانهارت العلوم والمعارف. وها هي حية تسعى حول غصن تريد أن تقول شيئا. أجل قولي شيئا يستحق أن يسمع، ولكن ما ألعن الضوضاء! - دعوني أسمع!

فضحكوا لزعقته، وتساءل مصطفى: ماذا تريد أن تسمع؟

وتكدسوا في السيارة فانضغط في الباب كأول مرة واختفت الحية تماما . وقال رجب: سيقودكم سائق عصري!

تحركت السيارة وهي تزمجر كالعاصفة، ثم انطلقت في قوة، ومضت تستزيد من سرعتها حتى بلغت ذروة جنونية.

ندت ضحكات هستيرية، وأصوات متهدجة، ثم ارتفعت احتجاجات واستغاثات. انهالت الأشجار متطايرة إلى الوراء، واجتاح الأجساد إحساس أهوج بالتردي في هاوية، وتوقع مفزع بالارتطام في قرارها. - جنون! هذا جنون! - سيقضي علينا بلا رحمة. - قف! يجب أن نسترد أنفاسنا. - لا! لا! حتى الجنون يجب أن يقف عند حد.

لكنه رفع رأسه في نشوة مخيفة ودفع السيارة إلى أقصى سرعة وهو يصرخ كالهنود الحمر، فاضطرت سمارة إلى مس ذراعه هامسة: من فضلك!

وقال خالد بعصبية: ليلى تبكي فارجع إلى صوابك!

آه مات الخيال، ولم يبق في الرأس إلا ضغط الدم. القلب يهبط كأسوأ نكسات البلبعة. أطبق جفنيك حتى لا ترى الموت بعينيك.

وفجأة دوت صرخة مروعة. فتح عينيه مرتعدا فرأى شبحا أسود يطير في الهواء. ارتجت السيارة بعنف وكادت تفقد توازنها، وهصرتهم فرملة شديدة فارتطموا في المساند والأبواب، وانعصروا في تأوه وحشي. - شخص ما تحطم. - قتل عشر مرات. - نهاية متوقعة. - وليلة سوداء.

صاح رجب بصوت أجش: تمالكوا أنفسكم!

وقام نصف قومة لينظر إلى الوراء، ثم جلس مرة أخرى ودفع السيارة فانطلقت. مال أحمد نصر نحوه كالمستطلع فقال بتصميم: يجب أن نهرب!

وركبهم صمت مريض فاستدرك: هو الحل الوحيد.

لم ينبس أحد بكلمة حتى همست سمارة: لعله في حاجة إلى مساعدة؟ - لقد انتهى.

فقالت بصوت أعلى درجة: لا يمكن القطع برأي. - لسنا أطباء على أي حال.

فوجهت سؤالها إلى الجميع: ما رأيكم؟

ولما لم يتحرك لسان تمتمت: أظن ...

وإذا به يفرمل غاضبا حتى وقف بالسيارة في وسط الطريق، ثم التفت إليهم قائلا: لن يقال غدا إنني قررت الهرب برأيي وحده، إني رهن إشارتكم فما رأيكم؟

ثم صاح محتجا على الصمت: أجيبوني! أعدكم بأن أصدع بما تأمرون.

قال خالد: يجب أن نهرب، هو الحل الوحيد.

فقال أحمد نصر: ابتعد بنا عن الطريق لتتهيأ لنا فرصة للتفكير في مكان آمن . - لا وقت للمداولة ، أريد رأيا صريحا!

فقال علي السيد: امض، يجب أن نهرب، ومن عنده رأي آخر فليتكلم.

وقال مصطفى في جزع: تحرك وإلا ضاع الأمل.

وبكت ليلى فسرت عدواها إلى سنية، عند ذاك التفت رجب إلى سمارة قائلا: إنه إجماع كما ترين.

ولما لم تنبس حرك السيارة وهو يقول: نحن فوق الأرض لا على خشبة مسرح.

انطلقت السيارة في سرعة رزينة وهو يقودها واجما مخشبا وقد غشاهم صمت جنائزي. وأغمض أنيس عينيه ولكنه رأى الشبح الأسود وهو يطير في الهواء. ترى أما زال يتألم؟ ألم يعرف لماذا وكيف قتل؟ أو لماذا وجد؟ أم انتهى إلى الأبد؟ وهل تمضي الحياة كأن شيئا لم يكن؟

استمرت السيارة في انطلاقها حتى وقفت أمام العوامة. غادروها صامتين، وتخلف رجب ليفحص مقدمها. واستقبلهم عم عبده واقفا ولكن لم يلتفت إليه أحد. وتبدت في ضوء المصباح وجوههم الشاحبة المنهزمة. وما لبث أن لحق بهم رجب بوجه متصلب لم ير من قبل.

ولم يعد الصمت يحتمل، فقال علي السيد: ليس بمستحيل أن يكون حيوانا!

فقال أحمد نصر: الصرخة كانت صرخة إنسان. - ترى هل يؤدي التحقيق إلى التعرف علينا؟ - لن نجني من الفكر إلا الأرق.

وتمتم رجب: وإرادتنا بريئة!

فقالت سمارة: ولكن الهرب جريمة.

فقال بحدة: لم يكن منها بد وقد أيدها الجميع.

وراح يتمشى بين الشرفة والبارافان، ثم قال: إني حزين جدا، ولكن يحسن بنا أن ننسى الموضوع كله. - يا ليتنا ننسى! - يجب أن ننسى، أي تصرف آخر كان يعني القضاء على سمعة ثلاث سيدات، وبهدلة الآخرين، وسوقي أنا إلى المحكمة.

وجاء عم عبده فنظروا إليه في تبرم، ولكنه قال دون أن يلحظ شيئا: أي خدمة؟

فأشار له رجب أن يذهب فمضى قائلا: أنا ذاهب إلى المصلى.

تساءل رجب بعد ذهابه: ترى هل فهم العجوز شيئا؟

فأجاب أنيس: إنه لا يفهم شيئا.

فقال رجب بعصبية: يحسن بنا أن ننصرف.

فصدق خالد على قوله قائلا: الفجر وشيك الطلوع.

وذهب خالد وليلى وعلي وسنية ومصطفى وأحمد. وقال رجب لسمارة: إني آسف على تكدير صفوك ولكن تعالي لأوصلك.

هزت رأسها بتقزز قائلة: ليس في تلك السيارة. - هل تؤمنين بالعفاريت؟ - كلا ولكنها صدمتني أنا. - لا تبالغي في الخيال. - الحق إني محطمة. - على أي حال فلن أتركك، سنسير معا حتى تجدي وسيلة للمواصلات.

ووقف قبالتها ينتظر حتى قامت.

16

وتناهى إليه صوت عم عبده وهو يؤذن، فقال إنني وحيد، وإنه يحسن به أن يدعوا أحدا أو أن ينضم إلى أحد. ولوح بذراعه لليل وقال إن السر قد تبخر من رأسه فهو مفيق. وضحك من غرابة الفكرة، لكنه مفيق، وها هو ليل الفجر بلا صوت يتحدث، وليس للحوت من أثر. أين بقية الغبارة، هل داستها سيارة؟ والحاكم بأمر الله كان يقتل بلا حساب، ولما آمن بأنه إله حرم على الناس الملوخية. لماذا أذعنت للخروج معهم؟ هكذا توجت قاتلا، القتل والسرعة الجنونية والهرب، والمناقشة المدببة، وأخذ الأصوات في ديمقراطية دامية، وبعثت الزوجة والبنت، ثم ماتتا من جديد، ولن ينام الليلة إلا الميتون. والصرخة التي هزئت من كمال الأفلاك. مجهول من مجهول إلى مجهول. متى يرحم العقل نفسه ويستسلم للنوم. وصعد الحاكم بأمر الله إلى قمة الجبل ليمارس أسراره العلوية، ولم يعد، حتى اليوم لم يعد، ولم يعثر له على أثر، وحتى الساعة لم يتوقف البحث عنه؛ لذلك أقول إنه حي، وقد رآه رجل أعمى ولكن لم يصدقه أحد، وغير بعيد أن يتجلى للمساطيل في ليلة القدر. أما الإنسان المجهول فقد قتل كما قتل النوم. وتريث بصره الحائر عند الفريجيدير فوق أعلى بابها، فاكتشف لأول مرة وجه الشبه بين منحنى الباب وجبين علي السيد، وأيضا فهو له عينان تغرورقان في أثر الضحك. وقالوا إن الحاكم بأمر الله قد قتل، كلا فمن كان مثله لا يقتل، ولكنه إن شاء ينتحر، وقد ألقى نظرة من فوق الجبل على القاهرة، ثم أمر الجبل أن يدكها، ولما لم يصدع الجبل بأمره أدرك أن جهاده عبث فانتحر؛ لذلك أقول إنه حي، وغير بعيد أن يتجلى للمساطيل في ليلة القدر.

وترامى إليه من الحديقة صوت عم عبده لدى رجوعه وهو يبسمل، فناداه، فجاء الرجل من توه وهو يقول: لم تنم بعد؟

فسأله بلهفة: هل أخذت بقية الغبارة؟ - كلا. - فتشت عنها في كل مكان ولا أدري أين ذهبت. - لماذا لم تنم؟ - فرغ رأسي في الرحلة المشئومة. - يجب أن تنام فالصباح يقترب.

وعندما تحرك العجوز للذهاب سأله: يا عم عبده ألم تقتل أحدا في حياتك؟ - أووه!

فتأوه قائلا في حنق: اذهب.

ومضى يذهب ويجيء حتى تعب، وانتقل إلى الشرفة فاستلقى فوق شلتة، ولكن حدة اليقظة أيأسته من النوم، وخلو العوامة من الكيف ضاعف من قلقه ووساوسه. وقال إنه يجب أن يتحلى بصبر النجوم. وانطفأت مصابيح الطريق فاستقلت الطبيعة بألوانها. وتسلل ضياء الغسق فصبغ الأفق بلون بنفسجي ضارب للقرنفل، ثم انحسر الغبش عن مولد أشجار الأكاسيا واللبخ. ونهض يائسا ومتحديا. أسلم رأسه للصنوبر طويلا، ثم تناول زجاجة حليب من الفريجيدير فشربها بلا رغبة. وصنع بيديه قهوة فاحتساها. وضاق بالمكان فارتدى بدلته وغادر العوامة مبكرا ليتسكع في الطرقات حتى يأزف موعد الدواوين.

استقبل الطريق مفيقا لأول مرة. بباطن بعيد كل البعد عن السلطنة والخيال والضحك. وامتد الشارع أمامه طويلا تكتنفه الأشجار السامقة من الجانبين، تتدانى أعاليها على مرمى البصر كجبين مقطب. ولأول مرة يرى العوامات والذهبيات الراسية على امتداد الشاطئ المرصع بحدائقها المتشابهة والمتباينة.

العجب أن لكل عوامة شخصيتها ولونها وشبابها أو كهولتها، ووجوها آدمية تتراءى في نوافذها. وأعجب ما رأى نخلة محملة بالبلح الأصفر، وما كان يصدق أنه توجد على الشاطئ نخلة واحدة، وثمة عديد من الأشجار مختلفة الأحجام والأشكال والأزهار لا يدري عن أسمائها أو خواصها شيئا.

ومرت به قافلة من الجمال يقودها رجل، فتساءل من أين أتت وإلى أين تذهب، وداخله شعور كاليقين بأنها تزحف في ضيق مفعم بالتوتر والألم. وقرأ على باب عوامة لافتة تعلن عن «دور مفروش للإيجار». ها هي شقة خالية، وها هي امرأة لا بأس بشكلها وعمرها، تنظر نحوه من الدور الأعلى، ولن يستطيع الخيال أن يحصي الاحتمالات الممكن أن يصادفها ساكن جديد أعزب، ولكن كيف يمكن أن ينطوي نهار المفيق؟ واعترضه جذع شجرة فاستوقفه لضخامته وغلظه، فرفع عينيه إلى الغصون المنتشرة في الهواء كقبة هائلة مغروسة الهامة في سحابات الصباح الشفافة الدانية، ثم رجع إلى الجذع المعمر هابطا إلى جذور كالحة متفرعة عن أصله، وضاربة في أرض الطور كأنما تنشب فيه أظافرها في اندفاعة متوترة غاصة بالتحدي والألم. وهاك رقعة من اللحاء الخارجي قد تآكلت كاشفة عن طبقة من اللحاء الداخلي، ذات لون أصفر باهت، على هيئة بوابة قوطية استوت أمامه بطول قامته، داعية إياه للدخول. وقال إن طول عمر الشجرة - وحده - يكفي لإقناع من لا يريد أن يقتنع بأن النبات كائن لا عقل له. ومضى وهو يمعن النظر فيما حوله، ومتسائلا في غرابة: ترى ألون الوجود أحمر أو أنه أصفر؟ وهل لحاء الشجر كجلد ميت؟ ولكن متى رأيت جلدا ميتا؟! وثبت له أن شيئا ما في الطريق يعترضه متحديا معاندا مثيرا للألم. وتذكر بغتة أنه لم يحلق ذقنه، وأنه لم ينس ذلك قط وهو مسطول، وأن ذلك سيزيد من تعقيد الأمور. وسأله صوت عن الساعة فلم يعن بإجابته ولم يلتفت نحوه، وسار متثاقلا حتى لوح له بائع الجرائد بصحف الصباح فمضى عنه في غير مبالاة.

إنه لم يقرأ جريدة منذ دهر طويل، ولا يعرف من الأحداث إلا ما تلوكه ألسنة المساطيل في هذيانها الأبدي. من الوزراء وما السياسة وكيف تسير الأمور؟ انظر يا سيدي، ما دمت تسير في طريق شبه خال دون أن يهاجمك قاطع طريق، ما دام عم عبده يجيئك بالغبارة كل مساء، ما دام الحليب متوفرا في الفريجيدير، فالأمور تسير حتما سيرا حسنا. أما آلام الإفاقة، وحوادث السيارات، وأحاديث الليل المغلقة، فلم يعرف بعد على من تقع مسئولية حلها.

وذهب إلى الإدارة مبكرا، وما كاد يستقر على كرسيه الخشبي حتى اجتاحته رغبة لا تقاوم في النوم، فطرح رأسه على المكتب وغاب في سبات عميق. ودعاه زملاؤه إلى مناقشة عن لائحة العقوبات، فقال لهم إن خير ما تصلح به الحكومة هو لائحة الوصايا العشر وبخاصة بند السرقة وبند الزنا. وغادر الحجرة إلى القرية فأحاط به غلمان الصبا ورموه بالتراب، فانقض عليهم رافعا يده بحجر ولكن عديلة قبضت عليها، وقالت له أنا زوجتك فلا تضربني، فسألها عن البنت فقالت إنها سبقت إلى جنة الخلد، وإنها تدور على الخالدين بالماء العذب. وفرح جدا وقال لها إن عمرا طويلا انقضى وهو يحاول عبثا أن يتذكر ذلك، وإن طريق الجنة محفوف بأشجار الجازورينا ويتعذر السير فيه ليلا، ولكن السيارة تقطعه في ثوان مرهقة بالرعب. ويصرخ الإنسان، ولكن صوته ينحبس في حنجرته ولا يسمعه أحد، فطارت في الهواء، ثم سقطت فوق غصن شجرة، فقال بعجب: إذن هو أنت. فقالت: كيف لم تعرف. فقال: إنه الليل يقطر سوادا، ولا يرى فيه شيء، ويتكلم كثيرا بلا جدوى. فقالت: خبرني عما تريد. فقال: أريد ما فتشت عنه في كل مكان، ولكن ها هو قادم على هيئة سحابة داجنة، وعما قليل ستمطر السماء مطرة واحدة، ولكنها تكفي لبل ريق المنصهر المعذب. ثم مد نحوها ذراعه، ولكنه لمح عم عبده قادما من أقصى الطريق راكضا وهو يملأ الفضاء، فركبه خوف بلا سبب، فودعها بسرعة وانطلق يعدو بكل قوته لا يتوقف ولا يلتفت، غير أنه شعر طيلة الوقت بالعجوز وهو يوشك أن يطبق عليه. وبلغ العوامة فاندفع فوق الصقالة، ثم أغلق الباب وراءه، ووجد لدهشته المجلس مكتملا، والإخوان يتضاحكون كعادتهم فعانقهم وهو لا يصدق، وقال لهم لقد حلمت حلما مزعجا، فسأله رجب عما رأى، فقال رأيت مجلسنا في سيارتك وأنت تدفعنا بجنون فصدمنا رجلا فطار في الهواء فضحكوا طويلا، وقال له مصطفى أحكم اللحاف حولك عند النوم، فتأوه قائلا اسطلوني، فقدمت له سمارة الجوزة وهي تقوم على خدمتها، فجذب منها نفسا طويلا عميقا حتى دار رأسه، وجعل يضحك منها، ويقول ألم نقل لك، فنحت الجوزة جانبا وقامت فتمنطقت بالإشارب وراحت ترقص رقصة بلدية، فدعاهم إلى التصفيق، ولكنه لم يجد منهم أحدا، أجل لم يكن في العوامة من أحد سواهما ، فراح يصفق لها وحده، ثم ضمها بين ذراعيه وهو يقول لقد فتشت عنك في كل مكان، وسألت عنك عم عبده ... وعند ذاك تهاوت الضربات فوق الباب، وارتفع صوت عم عبده وهو يصيح افتح، فجرها من يدها إلى الفريجيدير واندسا فيها، ثم أغلق الباب. واشتدت الضربات حتى زلزل المكان، واستمر الزلزال حتى فتح عينيه فرأى زميله وهو يهزه قائلا: صح النوم!

دعك عينيه فقال الآخر: اذهب إلى المدير العام فإنه يريدك.

ونظر في الساعة فإذا بها تدور في العاشرة. قام مترنحا ثقيل القلب، فمضى إلى المرفق فغسل وجهه، ثم ذهب إلى مكتب المدير العام ومثل بين يديه. حدجه الرجل بنظرة باردة وقال: أحلام سعيدة!

فلم ينبس من الألم والقرف، فقال الرجل: رأيتك بعيني في سابع نومة وأنا مار أمام الإدارة. - أنا مريض. - كان يجب أن تطلب إجازة. - لم أشعر بالمرض إلا عند حضوري. - الحقيقة أنك مريض قديم ولا شفاء لك.

وجرفه غضب مفاجئ فهتف بخشونة! - لا! - أنت تخاطبني بهذه اللهجة! - قلت إني مريض فلا تهزأ مني. - لقد جننت ما في ذلك شك.

فصرخ بصوت كالرعد: لا! - يا مجنون، ها هي عاقبة الإدمان! - احفظ لسانك أحسن لك!

انتتر الرجل واقفا ممتقع الوجه وصاح به: يا وقح يا مجرم يا مدمن!

انقض بلا وعي على النشافة ورماه بها فأصابت صدره فوق رباط الرقبة. ضغط الرجل على زر الجرس وهو يرتعد، فصاح أنيس: إن نطقت بكلمة أخرى قتلتك!

أحاط به صمت ثقيل في مكتبه ولكنه لم ير أحدا. جلس ساهما منفصلا تماما عما حوله، حتى الألم لم يعد يشعر به، وقبيل الانصراف اقترب منه زميله وهمس في إشفاق: يؤسفني أن أخبرك بأن أمرا قد صدر بوقفك عن العمل وإحالتك إلى النيابة الإدارية.

17

استسلم للمقادير، وقال إن شر البلية ما يضحك. وهو يتناول غداءه أخبره عم عبده بأنه لم يجد شيئا عند التاجر وبأنهم أخطئوا في إغفال نصيحته. والعمل؟ سيجرب حظه عند تاجر آخر، ولكنه غير متأكد من نتيجة مسعاه. ها هي المصائب تتجمع كسحب الشتاء. واستلقى على فراشه وراح يطالع فصولا من عصر الشهداء. قرأ طويلا ولكن النوم لم يأت. سقط شهيد في إثر شهيد ولكن النوم لم يأت. وكره الرقاد فقام يتسلى بإعداد المجلس. عندما تتكاثر المصائب يمحو بعضها بعضا، وتحل بك سعادة جنونية غريبة المذاق، وتستطيع أن تضحك من قلب لم يعد يعرف الخوف، ولنا فوق ذلك نزهة لطيفة في النيابة الإدارية. ما اسمك بالكامل: أنيس زكي ابن آدم وحواء. سنك: ولدت بعد مولد الأرض بألف مليون سنة. وظيفتك: برومثيوس مسطولا. مرتبك: ما قيمته خمس وعشرون كيلو من اللحم البلدي. والتاجر على أي حال يجب أن يوجد. ودخل الشرفة فجذب سمعه صوت عم عبده وهو يؤم المصلين لصلاة العصر. تقدمهم كالطود واصطفوا خلفه كالأقزام ما بين خفير عوامة وقروي وخادم. ومخرت النيل قافلة من المراكب الشراعية محملة بالأحجار. وتتابعت الأمواج سمراء ضاربة للاخضرار في هدوء رتيب كأن الطمأنينة تحكم الكون. واستوت على الشاطئ أشجار الأكاسيا كالبركات مستقلة بكون آخر.

وجاء عم عبده عقب الصلاة ولكنه وجد المجلس جاهزا. ورجع أنيس إلى الصالة وهو يقول له مداعبا: تطاردني يا عجوز! - هه؟ - رأيتك في المنام تطاردني. - خيرا إن شاء الله. - ماذا تصنع لو طردتك من العوامة؟

وهو يضحك: جميع الناس يحبون عم عبده. - أتحب الدنيا يا عجوز؟ - أحب كل ما خلق الرحمن. - ولكنها كريهة أحيانا، أليس كذلك؟ - الدنيا حلوة ربنا يطول عمرك. - إياك وأن ترجع خالي اليدين. - ربنا موجود.

وتلقت العوامة الهزة المألوفة، فنظر أنيس نحو الباب ليرى القادم المبكر. وما كاد عم عبده يختفي حتى ظهرت سمارة، متجهمة شاحبة الوجه، تعكس عيناها توجسا وقلقا وقد ركد ماء الشباب في وجهها. صافحته في آلية، ثم جلسا متباعدين. وانتبهت إلى المجلس المعد بغرابة وتمتمت: أيمكن أن تمضي الحياة كما كانت؟ - لا شيء يكون كما كان.

قالت وهي تغمض عينيها: لم أنم أمس دقيقة واحدة. - ولا أنا.

فتأوهت قائلة: مات في جانب لا يعوض. - الحق أن الموت يطاردنا بشدة منذ أمس.

مدت له يدها بالجريدة المسائية وهي تقول: جثة رجل في الخمسين، شبه عار، كسر في الفقار والساقين وعظام الرأس، دهمته سيارة وهرب الجناة، لم تعرف هويته كما لم يعرف له أهل.

قرأ الخبر، ثم رمى بالجريدة قائلا: عدنا إلى الجحيم. - لم نخرج من الجحيم. - نحن لم نخرج من الجحيم. - نحن في الواقع قتلة. - نحن في الواقع قتلة.

ثم وهو ينظر إلى النيل: وفضلا عن ذلك فإني دفعت إلى باب التشرد.

وقص عليها قصة المدير العام. وتبادلا نظرات ميتة وهي تعرب عن أسفها، ثم سألته: ألك مورد غير الوظيفة؟

فضحك ضحكة أغنت عن الجواب، وقال: إنهم يدفعون أجرة العوامة وكافة تكاليف السهرة. - الرفت عقوبة نادرة الحدوث. - سيقول لكل كائن إنني مدمن منحل! - يا للبلاء لقد تراكمت المصائب!

وانطوى كل في قوقعته.

وإذا بالعوامة تخفق في هزات متتابعة، ثم جاء الصحاب جميعا بوجوه غريبة. وقال أنيس لنفسه إنهم يتوقعون متاعب من ناحية سمارة. وسأله رجب - وهو يشير إلى الجوزة - لماذا لا يعمل، فأجابه بأنه لا يوجد شيء، وقال لنفسه إنه يتظاهر بالاستهانة ولكن دون جدوى. وتبين أنهم اطلعوا على الخبر في الجريدة. أجل، وما لبثوا أن علموا بمأساته مع المدير العام. وتأوه علي السيد قائلا: «يا للمصائب!» وقال أحمد نصر باهتمام: يجب أن نتخلص من الجوزة وأدواتها في الحال.

وحدجوه باستنكار فاستطرد: لا أستبعد أن يعمل المدير على الإيقاع بالعوامة!

وفي تصميم قام من فوره وراح يرمي بالجوزة والكراسي والمعسل وسائر الأدوات المساعدة إلى النيل، ثم ارتمى على الشلتة وهو يقول: اعتبروا العوامة منطقة خطر حتى ينجلي الموقف.

وتبادلوا نظرات كئيبة عارية من التصنع حتى تمتم أنيس: الجنة ولت!

ولما لم ينبس أحد رجع يقول: كانت خرجة مشئومة، لماذا فكرتم في الخروج؟

فقال رجب بصوت حاد: علينا أن ننسى الماضي.

أجل لننس ولكن وجوهكم لا تريد أن تنسى. ونفخت سمارة قائلة: كيف ننسى ووراءنا قتيل!

فقال بصوت أجش: لذلك يجب أن ننسى. - ولكنه فوق المستطاع.

رماها بنظرة طويلة. لا يدري أحد بما يدور في رأسه، ولا يدري أحد عن محنة الحب شيئا. ترى أتسوء الأمور أكثر مما ساءت؟ وقلب رجب عينيه في الوجوه، ثم قال: خمنت ما سيحدث هنا من قبل أن أحضر، ونحن الآن على بعد من الحادث يتيح لنا التفكير في هدوء فعلينا أن نتكاشف.

فقال علي السيد في ضجر: ألم نعتبر كل شيء منتهيا؟ - يبدو أن لسمارة رأيا آخر!

فقالت سنية بقلق: لا تعودوا إلى ذلك الحديث، إني منهارة تماما.

وقالت ليلى: قضيت ليلة جهنمية وأمامنا عذاب طويل، حسبنا ذلك! - ولكن يبدو - كما قلت - أن لسمارة رأيا آخر.

التفت علي السيد نحو سمارة وقال بنبرة رزينة حزينة: سمارة، خبريني عما ترين، جميعنا محزونون معذبون، لم يذق أحدنا النوم، ليس بيننا من يحب القتل، أو حتى يتصوره، ونحن نشاركك عواطفك، وقد حز في نفوسنا الخبر، رجل مسكين لعله من مهاجري الريف، مجهول بلا أهل، ولا سبيل أمامنا لإصلاح الخطأ، هل من سبيل؟ إذا ظهر له أهل فسنجد وسيلة لتعويضهم، ولكن ما العمل الآن؟

لم تنبس ولم ترفع إليه عينا، فواصل حديثه: لعلك تقولين لنفسك إن الواجب واضح. من الناحية النظرية هذا حق، كان يجب أن نتوقف لا أن نهرب، وعندما نتأكد من موته نمضي من فورنا إلى النقطة وندلي باعترافنا، ثم نقدم للمحاكمة لينال كل جزاءه، أليس كذلك؟

فقال رجب: جزائي السجن بلا ريب! - والفضيحة المزرية للجميع بما فيهم أنت!

فقال مصطفى: ولن يبعث الرجل بعد ذلك حيا، ولن يفيد من تضحياتنا.

وعاد علي السيد يقول: إني أعرفك خيرا من الآخرين؛ فتاة مثالية بكل معنى الكلمة، ولكن لا بد من شيء من المرونة لكي نواجه أعباء الحياة. ليس الحادث المؤسف بقضية وطن ولا مبدأ، المسألة بكل بساطة: مجهول قتل خطأ، وهناك مسئولية لا أنكر، حماقة مألوفة ويا للأسف، ولكن هل نهون عليك جميعا؟ هل تريدين حقا التضحية بسعادتنا وكرامتنا، بل دعيني أقول بسعادتك وكرامتك أنت أيضا، في سبيل لا شيء؟

تمتمت وهي تتنهد: لن أصلح بعد ذلك لشيء! - وهم لا أساس له ، آلاف يقتلون كل يوم بلا سبب، والدنيا بعد ذلك بخير، وستجدين دائما فرصة للعمل؛ فلن يقعد بك تسامحك الواجب نحونا عن نشاطك الصحفي الذكي، ولا عن همتك المعروفة في الوحدة الأساسية، ولا ولا ولا، بل لعله سيدفعك إلى مضاعفة الجهد. - كما يدفع أحيانا الشعور بالإثم؟ - إنه ليس بإثمك على أي حال، وهو خليق بأن يحملنا على إعادة التفكير في كل شيء، أما رجب فقد تطور بالفعل، بفضلك، على الأقل فيما يتعلق بنظرته نحو المرأة، فكري بذلك كله بقلب سمح.

فقالت في قهر شديد: إني صائرة إلى موت محقق!

فقال خالد عزوز: كلنا صائرون إلى الموت. - إنما أعني موتا أفظع. - ليس ثمة ما هو أفظع من الموت. - ثمة موت يدركك وأنت حي. - لا لا، لا يجوز أن يضحي بنا بدافع من تركيب لفظي!

وإذا برجب يصيح بانفعال غاضب شديد: ألا يهمك أن تنشر الصحف أنك كنت بصحبة رجال سيئي السمعة في النصف الأخير من الليل وهم يعبثون ويقتلون؟!

وهاجتها حدته فهتفت بحدة: لا يهمني!

فتمادى في الغضب صائحا: إنك تمثلين دور الشجاعة مطمئنة إلى معارضتنا الإجماعية. - كذب! - إذن هلمي إلى النقطة ...

فصاح مصطفى راشد حانقا: إن ما نبنيه في دهر تهدمه أنت بحماقتك في ثانية واحدة!

وقامت إليه سنية فلمست يده ملاطفة، وقبلت جبينه حتى عدل عن المناقشة، ثم وقفت أمام سمارة وسألتها برقة: أتعنين حقا أن تضحي بنفسك وبنا؟

فأجابت بإصرار وهي لم تزل تحت وطأة الغضب: نعم! - ليكن، افعلي بنا ما تشائين.

وقبل أن تنطق سمارة بكلمة دخل عم عبده فخرست الألسنة، أعطى أنيس لفافة صغيرة وهو ويقول: وجدتها بطلوع الروح.

فقال أحمد نصر لأنيس: تخلص منها في الحال. - لا. - لقد قلت ما فيه الكفاية. - ليس أسهل من رميها في الماء عند الضرورة.

وتساءل عم عبده: ماذا جرى؟

فأعادها أنيس إليه ليعد فنجان قهوة، فمضى بها الرجل، وقد غير مجيئه الجو بعض الشيء، وساد الصمت حتى قال مصطفى راشد متأسفا: عين أصابتنا.

فقال خالد عزوز: فلنلف سجائر لعل وعسى .

وتهلل وجه علي السيد بتفاؤل مباغت فقال برجاء: أراهن على أن رجب سينجب أطفالا!

وإذا بأنيس يضحك، ضحك رغم توتر أعصابه وقال: عملتم من الحبة قبة.

ولما لم يعره أحد انتباها قال: سمارة فتاة ذات مبادئ، ولكنها أيضا امرأة ذات قلب.

فنظروا إليه محذرين في استياء واضح، ولكنه مضى يقول: نحن مدينون للحب.

وأكثر من صوت رجاه أن يسكت، ولكنه أكمل قائلا: فهو الذي أنقذنا من حكم المبادئ.

تأففت سمارة في عصبية، ثم أجهشت في بكاء عنيف كأنه إعصار اجتاح أعصابها، واقترب علي السيد منها متأثرا محاولا تهدئتها، أما رجب فقد انقض على أنيس صارخا: أنت! أنت!

وأهوى بقوة على وجهه بكفه!

18

قبض أحمد نصر على ذراعه فجذبه إلى الوراء بشدة وهو يقول بصوت متهدج: أنت مجنون! أي مصيبة وأي جنون؟

وكفت سمارة عن البكاء فاغرة فاها. وحل صمت كالموت. وتلقى أنيس الصفعة دون أن يتحرك، ونظر إلى رجب طويلا دون أن ينبس، وأراد مصطفى أن يقترب ليواسيه ولكنه مد ذراعه إلى الأمام ليصده وهو يقول: عن إذنك. - خطأ مفجع بلا أدنى شك، ولكن المذنب صديق أبيض القلب أعماه الغضب.

فصرخ بصوت كالرعد: لا.

وجاء عم عبده كأنما يلبي نداءه وهو يقول: القهوة فوق النار.

فلوح بيده أن يذهب فذهب. وقام واقفا وراح يتمشى بعرض الصالة ذهابا وإيابا، وجعل يكلم نفسه بصوت لا يسمعه أحد. وفجأة وثب على رجب وأطبق بيديه على عنقه، وبسرعة ضربه رجب على ذراعيه ليخلص رقبته، فنطحه أنيس في أنفه، ثم انهالا على بعضهما ضربا ولكما وركلا. واندفع الآخرون للحيلولة بينهما، ولكن أنيس ترنح وتهاوى ساقطا على الأرض. وظهر عم عبده عند الباب فوقف ينظر ذاهلا، ثم تمتم: لا، لا.

فأمره أحمد نصر بالذهاب، ولكنه مضى يردد: لا، لا.

ثم تراجع تحت ضغط النظرات وهو يهز رأسه أسفا، وتعاون مصطفى راشد وعلي السيد على مساعدة أنيس للجلوس على الفوتيل، وأحاط الآخرون برجب الذي راح يمسح الدم النازف من أنفه، وبسط أنيس يديه على ذراعي الكرسي، ومال برأسه إلى مسنده ، ثم أغمض عينيه نصف إغماضة. وقامت ليلى وسنية بإسعاف أولي فجاءتا بماء وقطن ومسحتا الدم عن شفته السفلى وحاجبيه، ثم بللتا وجهه وعنقه. أما سمارة فقد تقلص وجهها ألما، وغمغمت بكلمات لم يسمعها أحد. وضرب أحمد نصر كفا على كف وهو يقول: لم أكن أتصور ..

فتمتم علي السيد: يا للخراب! - لقد ركبنا الشيطان فلم يعد لنا من وجود.

واغرورقت عينا سنية بالدموع وقالت: من يصدق أن يحدث ذلك في عوامتنا؟!

فعادت سمارة إلى البكاء ولكن دون أن يند عنها صوت، وفتح أنيس عينيه، لم ينظر إلى أحد، ومال علي السيد عليه وهو يسأل: كيف حالك؟

لكنه لم يجب، فقال صاحبه: سأدعو طبيبا بعد إذنك.

عند ذاك قال أنيس: لا داعي لذلك. - الحزن قتلنا صدقني، حتى رجب نفسه، وهو يود مصالحتك.

فقال بهدوء غريب: كل شيء يهون إلا ..

وازدرد ريقه، ثم استطرد: إلا جريمة القتل.

لم يبد على أحد أنه فهم شيئا، واعتدل هو في جلسته. وقال علي السيد: أنت الآن أحسن؟

فقال بالهدوء نفسه: كل شيء يهون إلا جريمة القتل. - ماذا تعني؟ - أعني أن العدالة يجب أن تتحقق. - رجب على استعداد.

فقاطعه: إنما أعني قتل الرجل المجهول.

تبادلوا نظرات غريبة، ثم هز علي السيد منكبيه قائلا: الأهم أن تعود إلى حالتك الطبيعية. - عدت إليها تماما فشكرا، إني أتكلم عما يجب عمله بعد ذلك. - ولكنني لا أفهم ما تعنيه يا عزيزي؟! - ليس كلامي غامضا بحال، إني أعني القتيل المجهول، وأقول إن العدالة يجب أن تتحقق!

ابتسم علي السيد ابتسامة حائرة بلهاء، ثم قال: ها أنت ترانا في غاية من التعاسة ولم يبق إلا أن ننفجر هالكين. - يجب أن تأخذ العدالة مجراها. - الكلام يتعبك ولا شك. - يجب الإبلاغ عن الجريمة فورا. - إنك لا تعني ما تقول. - بل أعنيه بكل دقة ووعي. - شيء لا يصدق. - صدقه فهو حقيقي مؤكد. - ولكن القضية لم تهمك قط! - لا يهمني الآن سواها.

وجاء أحمد بكأس ويسكي ولكنه رفضه شاكرا، فأراد أن يلف له سيجارة إلى أنت تنضج القهوة، ولكنه قال بأنه سيفعل ذلك بنفسه في الوقت المناسب، وقالت له ليلى برجاء: بالله لا تزدنا تعاسة! - إنه قضاء لا راد له. - لقد انتهينا من ذلك وسمارة نفسها قد رحمتنا. - قلت ما فيه الكفاية.

وقال خالد بعصبية: يا جماعة علينا أن نذهب! لقد مسنا الجنون ولن يزيده اجتماعنا إلا استفحالا. - ولكني سأذهب إلى النقطة بنفسي فليكن ذلك في علمكم.

تركزت عليه الأنظار بذهول. وحول رجب وجهه إلى النيل لينفخ غضبه في الهواء. وقال أحمد نصر: لست في كامل وعيك. - بل في كامل وعيي. - أتدري ما هي العواقب؟ - أن ينال كل جزاءه.

فصاح رجب بأعلى صوته: إنه بائس مرفوت ولا يهمه في شيء أن يندك المعبد على من فيه!

فصاح به علي السيد: اسكت أنت! إنك المسئول الأول عن كل شيء فلا تنطق بكلمة!

ثم التفت إلى أنيس قائلا بحرارة: أتصورت حقا أن نتخلى عنك في محنتك؟ ليس من المحتوم أن ترفت، وإذا رفت فنحن وراءك ومعك حتى تجد عملا آخر. - شكرا ولكن لا علاقة بين هذا وذاك. - بالله كان معقولا! لا سبب في الدنيا كلها يبرر موقفك، حتى سمارة اقتنعت برأينا، إني لا أفهمك!

فصاح رجب: ألا تفهم حقا؟ - اسكت أنت. - ألم تفهم أنه مصمم على الانتقام مني؟ - اسكت أنت. - لقد جن ولا فائدة من مناقشة مجنون. - قلنا لك اسكت. - فلتدك السموات على الأرض قبل أن أسمح لمدمن مجنون بأن يدمر مستقبلي.

وأرادت سمارة أن تقول شيئا ما، ولكن رجب لوح نحوها بقبضته غاضبا وصاح: ماذا تريدين يا رأس البلوى؟

فانكمشت في ذعر، أما رجب فانقلب وحشا مجنونا ووثب الافتراس من سحنته، ثم صرخ: إذا لم يكن من تهمة القتل بد فلتكن جريمة قتل حقيقية.

تكتل الرجال حوله في تصميم، وجعل أحمد يقول يائسا: كارثة! ستقع كارثة فتقتلعنا جميعا.

وظهر عم عبده مرة أخرى وهو يقول: وحدوا الله!

فصاح به أحمد نصر: غر! اذهب بعيدا وإياك أن تعود!

ولما ذهب العجوز قال لأنيس: أنيس، ها أنت ترى، باسم صداقتنا أعلن أنك لا تعني ما تقول.

فقال أنيس بإصرار: لن أتراجع أبدا. - دينك ودين أهلك!

والتفت نحو سمارة داعيا إياها بنظرة جزعة وجلة إلى التدخل، وتركزت الأنظار عليها واضحة في حثها على الكلام وفي تحميلها مسئولية ما وقع معا. وركبها القهر والحرج. ونظرت نحو أنيس، وازدردت ريقها، ثم همت بالكلام ولكنه سبقها قائلا: لا تراجع، أقسم لكم على ذلك!

وهجم رجب محاولا فك الحصار المضروب حوله ليثب عليه، ولكنهم شددوا في حصاره وقبضوا على ذراعيه ووسطه، وبذل كل قوته للتخلص من أيديهم دون جدوى، وعند ذاك قام أنيس ثم سار نحو باب المرافق فاختفى دقيقة، ثم رجع قابضا على سكين المطبخ ووقف بين الباب والفريجيدير متوثبا للدفاع عن نفسه حتى الموت، وصرخت النساء، وهددت سنية باستدعاء البوليس عند أول بادرة شر، وضاعفت السكين من ثورة رجب فانهال على أنيس سبا وقذفا، وكرر المحاولة للوثوب عليه حتى صاح خالد عزوز: يجب أن نذهب في الحال.

فصرخ رجب: سأقضي عليه قبل أن يقضي علي!

ولكنهم دفعوه نحو الباب الخارجي رغم مقاومته، وعنفت حركاته للتخلص منهم، فعنف كذلك إصرارهم حتى انقلب ما بينهم إلى ما يشبه المعركة، وهددهم إذا لم يتركوه بالضرب، فهددوه بدورهم بالضرب.

وتابع أنيس المنظر بغرابة. إنهم يتصارعون، الوحش يريد أن يقتل، استماتوا في الدفاع فلم يغلبهم.

وكف فجأة عن الهجوم. ها هو يقف جامدا وهو يلهث، ثم ينتفض غضبا. وبرقت في عينيه نظرة جنونية وصرخ: إنكم تتوهمون أنني وحدي المسئول! - لندع الكلام حتى نغادر العوامة. - لقد هربتم معي! - فلنتكلم في الخارج بهدوء. - كلا يا أوغاد، إني ذاهب، سأذهب إلى النقطة بنفسي. إني أتحدى الخراب والموت والشياطين!

واندفع إلى الخارج وهم في أعقابه، وتبعتهم في الحال سنية وليلى، وارتجت العوامة ومادت تحت وقع الأقدام الثقيلة الغاضبة.

وضع السكين فوق الخوان ومضى إلى أقرب شلتة، ثم جلس غير بعيد من سمارة. نظر كلاهما إلى الليل خارج الشرفة مستسلما للصمت والوحدة. لم يتبادلا نظرة ولا كلمة، ولكنه قال لنفسه إن الدنيا قد زلزلت، وإنها على وشك الانفجار. وشعر بأقدام تقترب، مألوفة اللغة، فلم يلتفت حتى وقف العجوز وراء ظهره وقال: ذهبوا.

فلم يجبه، فعاد الآخر يقول: لعب الشيطان بكم حتى شبع.

فلم يخرج من صمته، فقال العجوز: جئتك بالقهوة.

فتحسس فكيه وقال: اتركها أمامي. - خذها في الحال من يد مباركة لتسكن الألم.

وقرب الفنجان من فيه بإصرار حتى احتساه، فقال العجوز: لتكن هذه المرة للشفاء.

ثم تحول عن موقفه ماضيا نحو الباب، ولكنه توقف عند البارافان وقال: اعتزمت أن أفك سلاسل العوامة لو كان عاد إلى ضربك!

فقال أنيس بدهشة: لكنني كنت سأغرق مع الآخرين؟

فقال وهو يمضي: على أي حال ربنا ستر!

وضحك أنيس ضحكة خافتة، وسألها: أسمعت ما قال العجوز؟

فسألته بدورها: ألا ترى أنه يجب استدعاء طبيب؟ - كلا، لا حاجة إلى ذلك.

وأشعرته إثارة الموضوع بالألم من جديد، ولكنه كان طفيفا، وكانت القهوة قد استقرت في معدته.

وسألته مرة أخرى: أيذهب حقا إلى النقطة؟ - لا أدري شيئا عما يقع في الخارج.

فترددت قليلا، ثم سألته: ما الذي جعلك ...

وقطعت عبارتها، فأدرك معناها ولكنه لم يجب، فسألته: الغضب؟ - ربما. - ربما؟

ثم وهو يبتسم: وأردت أيضا أن أجرب قول ما يجب قوله!

تفكرت قليلا، ثم سألته: لماذا؟ - لا أدري بالضبط، ربما لأمتحن كيف يكون أثره. - وكيف وجدته؟ - كما رأيت. - ألا تنوي أن تبلغ بنفسك إذا لم يفعل؟ - إنك لا تريدين ذلك!

فتنهدت قائلة: كان الموقف فوق طاقتي فانهزمت. - ولكن التجربة أثبتت أنه ممكن؟ - ولكن يبدو أنك لن تسير فيها إلى النهاية. - لا سبب لذلك عندي مثلك. - ها أنت تعود إلى قتلي!

فصمت مليا، ثم قال: إنك تحبينه، أليس كذلك؟

فلاذت بالصمت متجاهلة ترقبه، فقال: أوجدته مختلفا عن الرجل الممتاز الذي رفضته من قبل؟

فقالت بنبرة متشكية: روح القتال لم تفارقك بعد. - ليس ثمة ما يخجل في ذلك؛ فهو رجل ممتاز أيضا. - ولكنه بلا أخلاق! - لم يعد للأخلاق وجود، حتى أحمد نصر! - أود أن أقول إنك متشائم ولكن لا حق لي في ذلك. - على أي حال ستحميهم لا أخلاقياتهم من ارتكاب حماقة أخلاقية، وسوف يعود إليك الحب! - عذبني كيف شئت فإني أستحقه وأكثر.

فضحك ضحكة أشعرته بآلام فكيه وقال: وها أنا أعترف لك بأن الغيرة كانت باعثا من بواعث سلوكي الغريب!

فحدجته بنظرة داهشة فابتسم قائلا: لا يصح أن أخدعك؛ فقد تتوهمين أن إحدى شخصيات مسرحيتك قد تطورت إلى النقيض بتأثير كلامك أو بدافع من حدة التجربة، فأوقعك في نهاية مفتعلة!

لبثت ترامقه بدهشة فقال: وثمة نهاية أخرى لا تقل عن السابقة سخفا؛ وهي أن تبادليني الحب!

فغضت من عينيها وهي تسأله: فكيف ترى النهاية؟ - هذه هي مشكلتنا لا مشكلة المسرحية وحدها. - لكنك تكلمت عن قول ما يجب قوله؟ - ذلك حق، لم يكن الغضب ولا الغيرة وحدهما، ولكن خطر لي بعد ذلك أن أقول ما يجب قوله، وأن أقف موقفا جادا لأمتحن أثره؛ فوقع زلزال لا ندري شيئا عن عواقبه، وحتى أنت انهزمت! - إنك تمثل بجثتي. - بل إني أحبك.

تجلت في عينيها نظرة حزن عميق وقالت: أعترف لك بأنني مصرة على أن أكون جادة أكثر مني جادة بالفعل. - هات ما عندك بسرعة فإن القهوة على وشك! - في أويقات الراحة من العمل يعترضني العبث كأنه وجع الأسنان. - ذاك بعض أعراضه. - ولكنني أحاربه بعقلي وإرادتي.

فقال ساخرا: لا يبعد أن تجدي التطور الضروري في المسرحية في تطور البطلة إلى الوراء!

فاحتدت قائلة: كلا، كلا، إني مصممة.

سكت إشفاقا فقالت: ومع ذلك فإنني مقتنعة بأن المسألة ليست مسألة العقل والإرادة وحدهما. - إذن ماذا؟ - أتعرف لعبة الساقية في لونابارك؟ - كلا. - إنها تدور بركابها من أسفل إلى أعلى ومن أعلى إلى أسفل. - وبعد؟ - عندما تكون صاعدا فإنك تتلقى إحساسا صاعدا بطريقة تلقائية، وعندما تكون هابطا فإنك تتلقى إحساسا هابطا بطريقة تلقائية كذلك، وبلا تدخل - في الحالتين - من العقل أو الإرادة!

زديني شرحا وتذكري القهوة. - نحن من الركاب الهابطين. - والعمل؟ - ليس لنا إلا العقل والإرادة! - والهزيمة؟

فقالت بحدة: كلا. - هل تعدين نفسك مثالا للانتصار؟ - من الركاب الهابطين من جاوز نفسه وحتى من أهلكها.

وراحت تتكلم عن الأمل فنظر إلى الليل. ورفرف الليل بجناحيه فتناثرت الأسرار كالنجوم. واستحال كلامها وشوشة منبعثة من تهويمات حلم. وشيء حدثه بأنه عما قليل سينشق سطح الماء القاتم عن رأس الحوت. •••

وقالت له: إنك لم تعد معي.

فقال محدثا نفسه: أصل المتاعب مهارة قرد! - ما كان ينبغي أن تشرب القهوة. - تعلم كيف يسير على قدمين فحرر يديه. - هذا يعني أنه يجب أن أذهب. - وهبط من جنة القرود فوق الأشجار إلى أرض الغابة. - سؤال أخير قبل أن أذهب: ألديك خطة للمستقبل إذا تأزمت الأمور؟ - وقالوا له: عد إلى الأشجار، وإلا أطبقت عليك الوحوش. - أتستحق معاشا مناسبا إذا لا سمح الله رفت؟ - فقبض على غصن شجرة بيد، وعلى حجر بيد، وتقدم في حذر وهو يمد بصره إلى طريق لا نهاية له.

Page inconnue