Notre culture face à l'ère moderne

Zaki Najib Mahmud d. 1414 AH
80

Notre culture face à l'ère moderne

ثقافتنا في مواجهة العصر

Genres

لقد جعلت إسرائيل مبدأها في التصرف إزاء الدول العربية المجاورة لها، أن تشتد حالة التوتر على تلك الحدود، فيتحقق لها بذلك غرضان: الأول هو أن تتوثق الروابط بين المواطنين في إسرائيل؛ لأنهم من فئات متباينة، والخطر الخارجي وحده هو الكفيل بصهرهم في شعب موحد. والثاني هو أن تحصل على تأييد المؤيدين في الخارج، حينما يرونها في خطر لم تنقطع أسبابه.

وبناء على هذا المبدأ؛ رأت القيادة الإسرائيلية أن التفوق العسكري الساحق هو وحده الذي يرغم الدول العربية على الرضوخ. ومما يلاحظ أن الفترة الممتدة من 1948م إلى 1954م، قد تميزت ببناء إسرائيل لقوتها العسكرية التي قدرت لها أن تنزل الهزيمة بأي هجمة عربية محتملة الحدوث؛ ذلك فضلا عن اعتقاد القيادة الإسرائيلية بأن الجيش أداة فعالة في ميدان التأهيل الاجتماعي للمهاجرين اليهود الوافدين من بيئات متباينة. ومن أقوال بن جوريون: «إن العداء المستمر من جانب العرب قبل إنشاء دولة إسرائيل، هو الذي أدى إلى قيام مجتمع يهودي أكثر تماسكا في إسرائيل.» وما دامت هذه عقيدتهم؛ فقد حرصوا أشد الحرص على أن تظل حالة التوتر على الحدود قائمة، مع ضمان قوتهم العسكرية في كل ما عسى أن ينشب بين الجانبين من قتال؛ ولم ينقطع بن جوريون عن تكرار مبدئه في فرض حل للنزاع بالقوة، وهو مبدأ أخذه عنه أتباعه، ومنهم جولدا مائير، وموشي ديان، وغيرهما من الأسماء التي حفظناها عن ظهر قلب؛ فلطالما ردد موشي ديان قوله بأن النصر العسكري الحاسم هو وحده الطريقة التي تحمل العرب في نهاية الأمر على قبول إسرائيل، مستندا في ذلك إلى عقيدة عنده بأن العرب لا يحترمون إلا القوة.

هكذا حاولت إسرائيل أن تحقق «سلاما» بالصورة الأولى، أعني سلاما مفروضا على أعدائها بقوة السلاح، ولما أن باءت بالفشل، لأن مثل هذا السلام المنشود لم يتحقق لها برغم انتصاراتها العسكرية المتوالية، فلا الفلسطينيون استناموا ولا الدول العربية المقهورة اعترفت بالأمر الواقع؛ فطفقت الحروب تتوالى، ولكن لا سلام كما ظنوا لأنفسهم أول الأمر! فكان لا بد من تجربة السلام من الصورة الثانية؛ بالبحث عن حليف قوي في مستطاعه أن يحرك الدنيا على هواه. وأخذ هذا الحليف يتبدل معها بتبدل الظروف؛ فآنا كان الحليف بريطانيا، وآنا كان بريطانيا وفرنسا معا، وأخيرا ألقت السفينة الحائرة رواسيها على الولايات المتحدة الأمريكية، ومع ذلك فلم يجئ يومها خيرا من أمسها.

انعقدت أواصر الحلف بينها وبين أمريكا لأنهما شبيهتان في عدة وجوه جوهرية؛ فكلتاهما أرادت أن تنزع شعبا من أرضه لتأخذ مكانه؛ وفي ذلك أفلحت أمريكا بالفعل، وفي ذلك أيضا أرادت إسرائيل أن تفلح، وعاونتها الفالحة الكبرى على أن تظفر بمثل ما ظفرت به هي من قبل، وكأنما عميت أبصارهم عن الفرق الشاسع بين الموقفين! وكلتاهما عنصري حتى الصميم، فقصة التفرقة العنصرية في أمريكا أمرها معروف، وأرادت الأخت الوليدة أن تحاكي أختها الكبرى في عنصريتها، وها هنا أيضا قد عميت أبصارهم عن اختلاف الوضع بين الموقفين؛ إن بين الأشباه في النزعة العنصرية تحالفا خفيا أو ظاهرا، وهو تحالف ظاهر بين أمريكا وإسرائيل، وكلتاهما يدين باصطناع القوة في كتم الأنفاس؛ ليتاح لهما بعد ذلك أن يصفوا حالة الصمت بأنها حالة سلام، وكلتاهما ينطوي على شعار يوجه خطى سيره، وهو أن تزدهر له تجارته متوسلا بذريعة الدين! هل تذكر ما قاله الرحالة فاسكو دي جاما عندما وصل إلى الهند، حين قال لمن لقيه من أهل البلاد : لقد أتينا إلى هنا بحثا عن المسيحيين والتوابل؟ إن هذا القول يمكن ترجمته فإذا هو مطابق لما فعلته أمريكا طوال أعوام مديدة حين كانت شديدة الحرص على إرسال بعثاتها التبشيرية، كأنما هي المسيح الثاني على الأرض؛ فلسان حالها عندئذ كان يصرخ بعبارة فاسكو دي جاما أو ما يشبهها. وأما إسرائيل فلو نطقت بما جاءت هنا من أجله، لقالت - على غرار ما قاله دي جاما - لقد جئنا بحثا عن الصهيونية والبترول.

فهو تشابه شديد في الأهداف والوسائل، بين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، كان من شأنه حتما أن يقفا معا في معسكر واحد.

قال الرئيس سوكارنو في خطبته التي افتتح بها مؤتمر باندونج سنة 1955م: «إننا - نحن الإندونيسيين وإخواننا من مختلف الشعوب الآسيوية والأفريقية - نعلم جيدا بأن الاستعمار قد استحدث لنفسه أساليب جديدة ينفذ بها إلى بلداننا، وذلك عن طريق السيطرة الاقتصادية والعقلية والجسمية، بواسطة مجموعة صغيرة ولكنها دخيلة ...» وهو قول ينطبق انطباقا كاملا على موقف الاستعمار الأمريكي الجديد، الذي جاء يطرق أبواب الشرق العربي، ليحل محل الاستعمار بصورته الكلاسيكية، الذي كانت أقامته من قبل بريطانيا وفرنسا في هذا الوطن العربي. ولقد كانت «المجموعة الصغيرة الدخيلة» التي اختارها الاستعمار الجديد هي إسرائيل! وجاءت الأداة متلائمة مع الذراع الممسكة بها؛ للتشابه الذي ذكرناه بينهما.

ولقد فات الذراع وأداتها معا (أمريكا وإسرائيل) أن تدركا أهم عناصر الموقف، وتصرفتا كما لو كان ذلك العنصر الجوهري المهم ليس له وجود، ألا وهو الشعب وقوته، وأعني بالقوة هنا - أول ما أعني - قوة العقيدة التي قوامها - بالإضافة إلى الإيمان بالدين والوطن - أفكار ملأت الرءوس عما ينبغي أن يكون من حقها في العصر الجديد. نعم، فقد توهمت الذراع وأداتها أن القوة لا تكون إلا مركبا من قوة الجيش والطيران والأسطول، وقوة السلاح الذري وغير الذري من نتاج العلم التكنولوجي الجديد، وقوة الأحلاف العسكرية، وقوة المواد الخام والصناعة ووسائل المواصلات والمواقع الاستراتيجية وما إلى ذلك؛ وفي ذلك يقول «تشستر بولز» في كتابه «الأبعاد الجديدة للسلام» (وله ترجمة عربية بعنوان: الآفاق الجديدة للسياسة العالمية)؛ يقول إنه سأل يوما أحد عشر رجلا من صانعي السياسة في أمريكا، ماذا يفهمون من كلمة «القوة»، وكان السؤال واردا في سياق الحديث عن عوامل الصراع بين القوتين الكبريين في العالم، فلفت نظره أن أحدا من الأحد عشر رجلا لم يطرأ بباله أن يذكر لا قوة «الشعوب» ولا قوة «الأفكار»، فلم يذكروا إلا عوامل من قبيل ما أسلفناه، فإذا غضوا أنظارهم - فيما يختص بالشرق العربي - عن قوة الشعب العربي في عقيدته، وفي إيمانه بوطنه وبتاريخه، وفي الأفكار الثورية الجديدة التي تسللت إلى حياته الثقافية، فلم يكن مستبعدا بعد ذلك أن تظن الذراع الأمريكية وأداتها الإسرائيلية بأن السيطرة على هذه البلاد بقوة السلاح والعلم والصناعة أمر سهل ووشيك الوقوع.

كان لا بد للشعب العربي العريق المتحضر أن يثور، ولم تكن ثورته وليدة الأمس القريب، بل هي ثورة تستطيع أن ترتد بها إلى ما يقرب من أوائل القرن الماضي، ولكنها خلال تلك الفترة الطويلة - التي هي فترة ولادة جديدة للأمة العربية المعاصرة - ترددت في ثورتها بين درجات متفاوتة من العنف والهدوء، وفي لحظات هدوئها كانت تتخذ صورة عملية تطويرية بطيئة لكنها بعيدة الأثر، إلى أن ظهرت الحركة الصهيونية على مسرح الأحداث، وظهرت معها بعد الحرب العالمية الثانية راعيتها الكبرى أمريكا؛ فمنذ ذلك الحين، لم تهدأ الثورة العربية يوما واحدا، تظهر في جو العلانية مرة، وتتأجج نيرانها خفية في الصدور مرة، وتشتد حتى تبلغ درجة الحرب مرة ثالثة.

ولئن كانت عدة إسرائيل هي قوة السلاح وقوة العلم والصناعة؛ فقوة الأمة العربية مكمنها إيمان بعقيدة، وإيمان بمجد قديم، ثم إيمان بفكر اشتراكي جديد، وجدت فيه وسيلة تؤدي بها إلى مرحلة جديدة من تاريخها الطويل. نعم، إنه لا بد من قوة السلاح وقوة العلم والصناعة، لكننا إذا كنا لنوازن بين طرفين من حيث القدرة على البقاء الطويل: أحدهما هو قوة الوسائل المادية، والآخر هو قوة العقائد والأفكار، كان السداد في اختيار الطرف الثاني (وهذه موازنة نظرية صرف، نسوقها لتوضيح الموقف) فقد كانت لبريطانيا جيوش في مصر والعراق والسودان والهند وغيرها، وكانت لهذه البلاد عقائد وأفكار، فذهبت الجيوش وبقيت الأفكار. وكانت لفرنسا جيوش في لبنان وسوريا وتونس والجزائر والهند الصينية وغيرها، وكانت لهذه البلاد عقائد وأفكار، فذهبت الجيوش وبقيت العقائد والأفكار. ووقفت أمريكا بجيوشها مع كاي شيك ضد ماوتسي تونج المؤيد بالفكر والعقيدة، فذهب الأول وبقي الثاني ... هذه هي حركة التاريخ، لن يشذ فيها صراع الأمة العربية مع إسرائيل؛ فمع إسرائيل القوة التكنولوجية الأمريكية مضافة إلى أساطير، ومعنا التراث التاريخي الحي والفكر الثوري، أضفنا إليهما القوة التكنولوجية، فلأي الكفتين يكون الرجحان في المدى الطويل، إذا لم يكن في المدى القريب؟

ويسألني السائل (وقد أتي السؤال من الأستاذ الفاضل رئيس تحرير مجلة المعرفة)، يسألني الرأي في هذه القسمة بين شطرين: العرب والقوى التقدمية من جهة، وإسرائيل والاستعمار من جهة أخرى، وإني لأحسبها قسمة كان محالا أن يحدث نقيضها؛ لأن الجوهر الأساسي في موقف الأمة العربية هو قوة الشعب وقوة الفكر عند هذا الشعب، وهو جوهر يتجانس مع الموقف التقدمي في أهم دعائمه؛ أي أن يكون الاعتماد الأساسي على الشعب وفكرته، وكذلك من الناحية الأخرى يتجانس الجوهر الأساسي في موقف إسرائيل ومثيله في موقف أمريكا، فكلاهما يرتكز أساسا على إهمال الشعب وفكرته، مكتفيا بالسلاح وسطوته، والمال وغوايته.

Page inconnue