Notre culture face à l'ère moderne
ثقافتنا في مواجهة العصر
Genres
وإني لأتصور «المشكلات» التي قد تقع للناس في حياتهم على نوعين رئيسيين، ثم يعود أحد هذين النوعين فينشعب شعبتين: فأولا قد تكون مشكلات الناس «خاصة»، وقد تكون «عامة»، ولا أحسب الشباب الكاتب الغاضب الذين يحثوننا على تناول «مشكلات الحياة» دون سواها، لا أحسبهم يريدون منا أن نعالج بمقالاتنا مشكلات الناس الخاصة لنعرضها على الملأ - رضي أصحابها أو كرهوا - فنعرض للزوج وقد اختلف مع زوجته على شأن من شئون الحياة، أو نعرض للجار وقد اعترك مع جاره، فتلك - على أبعد الفروض - صور مما قد تسرع إليه صحافة الخبر حين تكون الصحافة لاهية في أمة عابثة. وهي نفسها المشكلات التي إذا مستها أصابع الفن بسحرها حولتها إلى أدب من مسرحية وقصة، وفي كلتا الحالتين لا يكون لرجل الفكر - من حيث هو كذلك - شأن بها في حد ذاتها؛ وأما المشكلات العامة التي تمس أبناء الإنسانية كلها، أو أبناء الوطن الواحد جميعا، أو مجموعات ضخمة من هؤلاء وأولئك، فهي التي تنشعب شعبتين: إحداهما مشكلات هي من شأن البحوث العلمية المتخصصة وحدها؛ لأنه لا حيلة «للفكر» بمعناه الأعم حيالها، فماذا يصنع رجل الفكر في مواجهة الأمراض المتوطنة؟ ماذا يصنع في توسيع الرقعة الزراعية؟ ماذا يصنع في تحسين الطرق وإقامة الجسور؟ لا شيء، وإذن فأحسب أن الشباب الكاتب الغاضب لا يريدون منا أن نعالج أمثال هذه المشكلات؛ وإذن فقد بقي نوع واحد هو الذي يجوز، بل يجب، أن يتناوله رجل الفكر بكل ما أوتيه من قدرة على التحليل والتعليل والحل، وهو المشكلات التي تكون عامة من جهة، وتنصب على علاقات الناس بعضهم ببعض من جهة أخرى، فماذا تكون العلاقة الصحيحة بين المواطن ومواطنه؟ بين المحكوم وحاكمه؟ بين المتعلم ومعلمه؟ ماذا تكون العلاقة بين الفرد الواحد وبقية الأفراد؟ بين الأمة الواحدة وبقية الأمم؟ وهكذا وهكذا.
إن هذه العلاقات الإنسانية كلها تتمثل في مواقف الواقع المحسوس؛ إما على صورة حسنة أو على صورة رديئة، لكن رجل الفكر إذ يتناولها يكاد لا يقف إلا لحظة قصيرة عند ما قد وقع منها بالفعل؛ ليجاوزه إلى ما وراءه من مبادئ ليقبل بعضها ويرفض بعضها، غير أنه إذ هو بإزاء مناقشة المبادئ المجردة تراه وقد بعد عن أرض الواقع بعدا يوهم المشاهد المتعجل أنه - أي رجل الفكر - قد شطح مع الخيال إلى أبراج عالية لا يكاد يسمع منها أنات المعذبين الذين يعانون في حياتهم مشكلاتها، ويكابدون أزماتها، انتظارا للفرج يأتيهم من حيث لا يعلمون.
تعالوا نطف بأبصارنا في تاريخ الفكر، لنرى كيف كانت وقفات المفكرين بإزاء مشكلات حياتهم؟ لعلنا نهتدي إلى الوقفة الصحيحة، حتى لا يلوم أحد منا أحدا على أنه يبلبل خواطر الناس دون أن يعالج لهم مشكلات الحياة التي يريدون لها حلولا على أيدينا.
هذا هو شيخ الفلاسفة سقراط، يواجه مشكلة من أعوص «مشكلات الحياة»، وأعني بها طريقة التوفيق بين واجب المواطن الصالح في إطاعة قانون دولته، وواجبه - في الوقت نفسه - في نقد تلك القوانين ومحاولة تغييرها إذا وجد فيها مواضع نقص وضرورة تغيير؛ فهل يلجأ المواطن في ذلك إلى التماس المؤامرات أو اصطناع وسائل العنف؟ أو هل يظل المواطن مطيعا للقانون حتى يتمكن من إقناع مواطنيه بالحجة العقلية ليغيروا من أوضاعه ما يراه معيبا فاسدا؟
تناول سقراط هذه المشكلة الحية التي مست حياته هو مسا مباشرا؛ ذلك أنه وهو في سجنه ينتظر الموعد المحدد لموته بجرعات مسمومة - كما حكم عليه رجال القضاء - جاءه تلميذه الغني أقريطون يعرض عليه الفرار من الدولة وقوانينها الجائرة، بعد أن أعد له الطريق برشوة الحراس، لكن سقراط - رجل الفكر - سرعان ما أسقط من الموقف تفصيلاته التي هو جزء منها، وارتفع بالمشكلة إلى مستواها المجرد المطلق، الذي يصلح للإنسان كائنا من كان، مهما يكن مكانه وزمانه، فانتهى به التفكير إلى أنه لا مناص للمواطن من إطاعة قانون دولته إلى أن يتاح له تغييره - إذا استطاع - بالحجة والإقناع، وفي محاورة أقريطون الجميلة الرائعة، التي تصلح إلى يوم الناس هذا أداة فكرية رادعة لمن يدبرون وسائل العنف للحصول على ما يريدونه لأنفسهم من أوضاع أمتهم، في هذه المحاورة الجميلة الرائعة، يتخيل سقراط قوانين الدولة وقد تجسدت أمامه تسائله وتحاسبه إذا هو فر من وجهها، كيف يجوز له أن يتمتع بحماية القوانين ثم يخونها ويخرج عليها غدرا؟ وهل تظل للدولة قوائمها ودعائمها إذا لم تعد لقوانينها قوة، وإذا قابلها الأفراد بالعصيان كلما حكمت عليهم بما لا يحبون؟
ها هنا كانت «مشكلة الحياة» خاصة برجل واحد في موقف واحد، لكنها تحولت عند رجل الفكر إلى مشكلة عقلية نظرية صرف، حتى لينسى قارئ المحاورة أن البحث قد بدأ خاصا بشخص معين في موقف معين؛ لأن هذا القارئ سيرى الماثل أمام عقله قضية عامة عن موقف المواطن، كائنا ما كان موطنه، تجاه قوانين دولته التي قد لا يكون راضيا عنها.
ونسوق مثلا آخر من الفكر العربي القديم، فقد اعترضت رجال الفكر عندئذ المشكلة نفسها التي تعترضنا اليوم - وهي كذلك من صميم «مشكلات الحياة» - وهي: هل نأخذ عن ثقافة اليونان أو لا نأخذ اكتفاء بثقافتنا المنبثقة من ظروفنا الخاصة؟ كان السؤال عندئذ - كما هو اليوم - حادا يتطلب الجواب الحاسم؛ لأنهم كانوا يجتازون عصرا - كعصرنا - تتدفق فيه التيارات الثقافية من كل صوب، وبخاصة في ميدان التفكير الفلسفي، فعلي أية صورة تشكلت المشكلة عند المفكرين؟
إنها ما لبثت أن اتخذت صورا مرسومة بالطابع النظري العقلي الذي ربما أنساك كيف بدأت؛ لأنك ستحصر النظر في موضوع البحث النظري وكأنه هو الموضوع، فها هما ذان رجلان يجتمعان في حضرة الوزير ابن الفرات (في منتصف القرن العاشر الميلادي) وهما أبو سعيد السيرافي، الذي لم يكن يؤمن بضرورة النقل عن ثقافة اليونان، وأبو بشر متى، الذي كان يرى ألا مندوحة عن ذلك، فبدأت بينهما مناقشة عن المنطق الأرسطي، الذي كان أبو بشر متى من علمائه: هل ينفع المتكلم باللغة العربية في شيء؟ ولم يكد أبو بشر يقول عن ضرورة هذا المنطق اليوناني للإنسان بغض النظر عن لسانه؛ لأنه «آلة من آلات الكلام يعرف بها صحيح الكلام من سقيمه، وفاسد المعنى من صالحه، كالميزان، فإني أعرف به الرجحان من النقصان»، حتى طفق السيرافي يتدفق حججا يقيمها على أن للغة العربية خصائصها المميزة، وصحة الكلام مرهونة بالإعراب من حيث اللغة، وبالعقل من حيث المعنى، ودراسة المنطق الصوري لا تغني أحدا عن التجربة الواقعية الفعلية بحقائق الأشياء المرتبط بعضها ببعض بتلك الصور التي يدرسها المنطق. وتشبيه المنطق بالميزان ناقص؛ لأن من الأشياء ما لا يوزن بميزان، فإذا كان المنطق الأرسطي ملزما لأحد فهو ملزم للمتكلم باللغة اليونانية التي على أساس تراكيبها قام ذلك المنطق، واختلاف اللغات بعضها عن بعض يقتضي حتما أن تكون هناك صور مختلفة في تركيب اللفظ الذي يعبر عن معنى معين، والمعاني لا تكون يونانية ولا عربية، إنما هي إنسانية عامة.
هكذا تمضي المناقشة بين الرجلين، على نحو لو كان قد سمعه واحد من شبابنا الكاتب لغضب متسائلا: ما هذا النقاش النظري، الذي لا يطفئ ظمأ الظمآن، ولا يشبع جوع الجوعان؟ لماذا لا تصبان اهتمامكما على «مشكلات الحياة»؟!
إلى أن ينبهه صديق هادئ بأن الجذور التي انبثق منها مثل هذا النقاش النظري، هي من صميم مشكلات الحياة؛ لأنها تمس المصادر التي يجوز أو لا يجوز للناس أن يغترفوا منها الفكر والثقافة. •••
Page inconnue