Notre culture face à l'ère moderne
ثقافتنا في مواجهة العصر
Genres
وها هنا يكون الفرق البعيد بين من يركن إلى عقله، ومن يركن إلى وجدانه، فأولهما يعلم أن أحكامه معرضة للخطأ؛ ولذلك تراه لا يكف عن مراجعتها، ثم هو لا يغضبه أن يظهر له في الناس من ينبهه إلى مواضع الخطأ في تلك الأحكام، وأما ثانيهما فلأنه واهم في ظنه بأن إدراكه الوجداني منزه عن الخطأ، تراه يقدم إقدام الواثق، ويصم أذنيه عن نقد الناقدين، وعندئذ قد تدهمه الداهية من حيث لا يحسب حسابها.
إننا نعطي الصدارة لعواطفنا، في أحكامنا وسلوكنا، ونفاخر الناس بأننا كذلك، وإن عواطفنا تلك لتخطئ، وكم أضلتنا عن سواء السبيل! فلو كنا نتعلم من أخطائنا كما تتعلم من أخطائها فئران التجارب العملية، لجاز أن يكون لنا اليوم موقف آخر، لكننا نصر على الركون إلى العاطفة إصرار الفراشة على النار الحارقة، ونترك عقولنا في أزمتها تنتظر لنا البعث الجديد.
الواقع وما وراء الواقع
الناس رجلان في طريقة النظر إلى الأشياء من حولهم، وكثيرا ما تتجاور الطريقتان في ثالث.
أما الأولى فهي أن يحصر الإنسان إدراكه في حدود الشيء الذي يدركه؛ فليس له من هذا الشيء إلا ما يقع عليه البصر أو ما تمسه الأيدي، أو غير ذلك من جوانب مما له صلة بهذه الحاسة أو تلك، فكأنما هو حيال ذلك الشيء أداة تصوير أو تسجيل، تلتقط ما هنالك من ظواهر الضوء والصوت والحجم والوزن، وما إلى هذه الحقائق التي يمكن إدراكها بالحواس، أو بمختلف الأجهزة التي تعين الحواس بكثير أو قليل من ضبط ودقة.
وأما الطريقة الثانية من النظر إلى الأشياء، فهي التي لا يكتفي أصحابها بالشيء كما تراه العين أو تسمعه الأذن أو تمسه الأصابع؛ لأن هذه «الظواهر» عندهم هي أشد جوانب الشيء تفاهة وقلة شأن، وإنما وراء هذه الظواهر «بواطن» هي التي تؤلف حقيقة الشيء ولبه وصميمه، وإذن فما تلك الجوانب الظاهرة للحواس إلا رموز تشير إلى حقيقة تخفت وتسترت، بحيث لا يكون إدراكها بالبصر والسمع واللمس، بل يكون إدراكها بقوة أخرى، يتفاوت الناس في أنصبتهم منها، وإن شئت فسمها «بصيرة»، تدرك ما لا يدركه البصر، فلئن كانت الأشياء كما نصادفها في دنيا الواقع المحس هي الحقيقة نفسها التي لا حقيقة وراءها من وجهة نظر الطائفة الأولى؛ فهي لا تعدو عند الطائفة الثانية أن تكون رموزا ترمز إلى مجهول وراءها، وإما أن يكون لديك من قوة البصيرة ما يمكنك من رؤية هذا الوراء المجهول، وإما ألا تكون هذه القوة الإدراكية من نصيبك، فعندئذ سوف تحدق بالعينين ما تحدق، دون أن ترى شيئا، فتنكر أن يكون لهذا الوراء الخافي وجود.
والطائفة الأولى هي زمرة العلماء، وأعني علماء الكيمياء والفيزياء وما شابههم من سائر العلماء الذين يتقصون بالنظر «ظواهر» الطبيعة ليستخرجوا قوانينها، وأما الطائفة الثانية فرجالها كثيرون، يتشكلون أنواعا وصنوفا، ولعل ذروتهم أن تكون في جماعة «المتصوفة» الذين ينشدون رؤية «الحق» عن غير طريق الحواس، بل عن غير طريق العقل، وإنما عن طريق ما يسمى «بالحدس» أو البصيرة أو العيان الروحاني المباشر.
على أنه كثيرا ما يحدث أن يكون للرجل الواحد هاتان النظرتان معا، يستخدم كلا منهما في مجال، فهو يتشبث بالواقع المحسوس إذا كان في مجال بيع أو شراء أو طعام وشراب، إنه لا يرضى وهو في هذا المجال العملي أن يدفع ماله ثمنا لدار يشتريها أو لثوب قماش، ثم يرضى بعد ذلك أن يعود خالي اليدين مما اشترى، على زعم له من البائع أن الدار التي اشتراها أو ثوب القماش، ما هو إلا رمز لما وراءه، فليترك هذا الرمز لينصرف إلى البحث عما يرمز إليه في دنيا الطي والخفاء، لا، إنه في مجال الحياة العملية يقبض على الواقع بكلتا يديه؛ لأنه آنئذ هو كل ما يعنيه، لكنه في ساعات الفراغ المتأمل، بعد أن يكون قد طعم وشرب واكتسى، لا بأس عنده في أن «يتفلسف» على النحو الذي يوهم بأن كل هذه الأشياء التي نشط لكسبها بياض نهاره، ليست إلا «ظواهر» طافية كرغوة الماء على سطح الوجود، وعلى الحكيم أن يمحو غشاوتها من أمام عينيه، ليرى بواطنها الخافية، التي هي الحق الثابت الدائم الذي لا يتبدل ولا يتحول ولا يزول، ومن هذا الطراز من الرجال، أعني الطراز الذي يتمسك «بالواقع» في حياته العملية - أو العلمية - ثم لا يلبث أن يتنكر له في حياته المسترخية المستريحة من قيود ذلك الواقع، أقول إن من هذا الطراز من الرجال تتألف الكثرة الغالبة من البشر، وأما الذين يحدون أنفسهم بحدود الواقع في كل الظروف، فقلة قليلة، وكذلك هم قلة قليلة أولئك الذين يصرون على مجاوزة الواقع إلى ما قد خفي وراءه في كل الظروف كذلك.
الفرق واضح - فيما أرى - بين أن يكون الشيء الواقع حقيقة مقصودة لذاتها، وبين أن يتخذ دليلا على سواه؛ فالضوء الأحمر في علامات المرور هو ضوء كأي ضوء آخر مما يقع على العين المبصرة، ولكنه قد يتخذ دليلا على أمر أصدره الشرطي بأن تقف السيارات العابرة حتى يأذن لها باستئناف الحركة، وعلم الدولة هو قطعة من قماش، كأي قطعة أخرى من قماش، لكنه قد يتخذ رمزا يدل على دولة قائمة واجبة الاحترام، وعقارب الساعة وهي تشير إلى أرقام رقمت على وجهها، هي قطع من معدن تتحرك كما يتحرك سواها من أجزاء المادة المتحركة، لكنها في كل وضع من أوضاعها تدل على «زمن»، ونستطيع أن نمضي في ذكر الأمثلة مئات وألوفا لأشياء نراها على وجه ونتخذ منها دليلا رامزا على وجه آخر، وأول هذين الوجهين هو الواقع كما تدركه حواسنا، والوجه الثاني هو ما وراء هذا الواقع، فإذا أنت توسعت في هذه التفرقة ووعيتها، وجدت الإنسان الحي: واقعه المحسوس بدن بكل ما فيه من أجهزة للهضم والتنفس وغيرهما، وما وراء هذا الواقع روح نستدلها ولا نراها، ووجدت الطبيعة كلها بما فيها من أكوان فلكية، واقعها هو هذا الذي تراه وتلمسه، ووراء هذا الواقع قوة عظمى تستدلها ولا تراها.
على أن الناس - كما أسلفنا القول - يختلفون درجات في محور التركيز: نفر قليل ينحصر في الواقع المرئي المحسوس غاضا نظره عن مهمة الرمز التي قد ينسبها آخرون إلى هذا الواقع، ونفر قليل آخر يجاوزون الواقع المرئي، لا يقفون عنده لحظة، إلا ريثما يطعمون بأقل الزاد، ويكتسون بأقل الثياب؛ لكي يسارعوا إلى ما وراءه، ثم كثرة كاثرة تحاول الجمع بين النظرتين، فتجعل من يومهم ساعات للواقع يقفون عنده من حيث هو، وساعات أخرى لما يفرضون وجوده وراء ذلك الواقع.
Page inconnue