Notre culture face à l'ère moderne
ثقافتنا في مواجهة العصر
Genres
ولنعد بالقارئ إلى نتيجتين أوردناهما فيما سبق، ورجوناه أن يحتفظ بهما في ذاكرته، وهما: أن الفكر وعمليات التغيير وجهان لشيء واحد، وأن التجربة على الواقع المحسوس هي أساس التفكير العلمي، فنرى أن البرجماتية برغم اختلافها عن المادية الجدلية في «اتجاه» النظر؛ فإنهما يشتركان في رفض «التأملات» العقيم، التي لا تلد للناس «عملا» يؤدونه، ولا تنسل لهم «تغييرا» يبدلون به وجه الحياة إذا فسد.
ننتقل الآن إلى جماعة ثالثة من أبناء عصرنا؛ هي جماعة «التحليل الفلسفي» و«التحليل المنطقي» (وبينهما اختلاف في المعنى، نغض عنه النظر)، فلئن كانت المادية الجدلية تنظر إلى «سير التاريخ» وكيف انتهى إلى ما نحن فيه، وكانت البرجماتية تنظر إلى ما يراد عمله وإجراؤه فيما هو آت من زمان؛ فإن أصحاب التحليل يقفون حيث هم ليروا أولا ماذا تحت أقدامهم! لنضرب مثلا موضحا، حتى لا نشطح بالقارئ في سماء التجريد، افرض أن فكرة عرضت لنا، تقول: «حضارة هذا العصر مادية»، فماذا نحن صانعون بقول كهذا؟ أم هل يراد به أن يمضي مع نسمات الهواء حيث تمضي ونحن قاعدون له نستمع؟ كلا، إن الفكرة الجادة يراد بها أن تكون منطلقا لوثبة نثبها في هذا الاتجاه أو ذاك، وها هي ذي فكرة جادة كثيرا ما تعرض لنا على أقلام الكاتبين، فماذا نحن صانعون بها؟ فلو كنت من أصحاب المادية الجدلية في النظر، لثنيت عنقي إلى الوراء أنظر إلى خطوات التاريخ كيف كانت، بحيث أنتجت لنا اليوم هذه «الحضارة المادية»، ولو كنت من أتباع البرجماتية لأرسلت بصري إلى أمام، أبحث عن النتائج الفعلية التي تترتب على هذه الفكرة، فإن وجدتها كانت هي نفسها «معنى» الفكرة، وإن لم أجدها كانت الفكرة يعوزها المعنى. وها نحن أولاء مع جماعة ثالثة، هي جماعة «التحليل»، فهؤلاء يؤثرون القيام بعملية «تشريح» لهذا الجسم اللفظي أولا؛ لنرى ماذا يمكن أن يكون لهذه العبارة من معنى، لا على أساس النتائج الفعلية المترتبة عليها، كما قال البرجماتيون، بل على أساس منطق اللغة نفسه؛ إذ كثيرا جدا ما نرص ألفاظا بعضها إلى جوار بعض، حتى يكتمل لنا بناء تقبله قواعد النحو، لكن منطق العقل يرفضه، ولكي يرفضه منطق العقل أو يقبله، لا بد بادئ ذي بدء من تحليله، حتى نتبين عناصر بنائه، وما بين تلك العناصر من روابط، وعندئذ يتبدى اللغو الفارغ من الكلام ذي المعنى.
لكن الأمر في هذا التحليل ليس ألعوبة لاعب يلهو، فما تكاد تهم به حتى تتوالى عليك أعوص المسائل، وأهمها أن ترد العبارة التي بين يديك إلى صورة يمكن أن يكون بينها وبين «الواقع» شبه في التركيب إذا كانت صادقة، وأن يمتنع هذا الشبه إذا كانت كاذبة، فإذا تذكرنا أن حقائق الواقع هي دائما «أفراد» جزئية ليس فيها تعميم ولا تجريد، بمعنى أنك لن تجد على أرض الواقع أو في سمائه، إلا مفردات معينة محدودة، فهنالك هذه الشجرة، وهذا الرجل، وذلك الطائر، وتلك السحابة، وهكذا، أقول إننا إذا تذكرنا ذلك، عرفنا أن تحويل الجملة المراد الحكم عليها بالمعنى أو بالخلو منه، يجب أن يتجه نحو أن نستخرج منها قائمة طويلة من جمل لا تتحدث الواحدة منها إلا عن «فرد» واحد، وعندئذ فقط يمكن المقابلة بين العبارة اللفظية من جهة، ودنيا الواقع التجريبي من جهة أخرى، ولنعد إلى الجملة التي سقناها مثلا موضحا، وهي: «حضارة هذا العصر مادية»، وأبدأ بكلمة «حضارة»، فما هي مجموعة المفردات التي تتكون منها حضارة هذا العصر؟ إذا قلت مثلا: هي نتاج العلم، ونتاج الفن، و... و...، كان علينا أن نعود إلى كل واحد من هؤلاء، فما نتاج العلم بالشيء الواحد الذي تمسكه دفعة واحدة بيديك، وما نتاج الفن بالشيء الواحد الذي تنظر إليه نظرة واحدة في لمحة بعينيك، بل نتاج العلم هو ألوف القضايا، ونتاج الفن كذلك ألوف التماثيل واللوحات والمعزوفات الموسيقية، وبعد هذا التحليل، نعود فنضع كل فرد واحد من تلك الألوف، وألوف الألوف، في جملة واحدة، لنقول عنه إنه «مادي»، وقد نتبين ساعتئذ أن معظم الجمل في هذه الحالة سيكون بغير معنى؛ إذ ما معنى أن نقول عن قانون علمي معين إنه مادي؟ وما معنى أن أقول عن لوحة فنية أو قطعة موسيقية إنها مادية؟ وقد نمضي على هذا النحو من التحليل حتى نستيقن من أن العبارة التي تلوكها الأفواه في استخفاف، وأعني عبارة «حضارة هذا العصر مادية»، إنما هي صف من ألفاظ ينتهي بنا إلى لا شيء، أو قد ينتهي بنا إلى معنى، لكنه معنى ينتج لنا بعد عناء التحليل الذي يبين لنا ما نحن قائلوه.
ومدرسة التحليل هذه لا تجعل «العبارات» التي نقولها مجرد صور نعكس بها «أفكارا» في رءوسنا، بل يجعلونها هي هي الأفكار، وبذلك نقلوا التقابل ، الذي كان الفلاسفة يجرونه بين «الفكر» و«الواقع»، دون تحديد لطبيعة الفكر، نقلوا هذا التقابل فجعلوه بين «العبارة اللغوية» و«الواقع»، وبذلك لم يتركوا مجالا لكائنات شبحية تعرقل سيرنا نحو الوضوح.
وإني لأرجو القارئ هنا أيضا أن يحتفظ بهذه النتيجة، وهي أن الجملة «والجملة = فكرة» لا يكون لها معنى إلا إذا وجدناها - بعد تحليلها إلى عناصرها - على تقابل مع واقعة من وقائع العالم التجريبي، وما لم نجده كذلك من الجمل «أي من الأفكار» كان لغوا بغير معنى، والقارئ إذا احتفظ بهذه النتيجة، ثم ضمها إلى ما كان احتفظ به من «المادية الجدلية» ومن «البرجماتية»، وجد نفسه أمام وجهة نظر مشتركة بين هذه الفلسفات المتباينة، وهي ضرورة أن تكون العلاقة وثيقة بين الفكر والعمل.
أما «الظاهراتية» أو «علم الظواهر العقلية» أو «الفينومينولوجيا» فموقف رابع من الفلسفة المعاصرة، يريد أصحابه تحليل الوعي الإنساني في إدراكه للأشياء؛ لعلنا نقع على حقيقته وحقيقة تلك الأشياء في آن معا، نعم، كانت هذه في مقدمة المحاولات التي بذلها الفلاسفة قبل «هوسرل
Husserl »، لكن هؤلاء الفلاسفة كانوا يفترضون دائما فروضا مسبقة، على ضوئها يفهمون عملية الإدراك من وجهة نظرهم، فإذا كانوا من التجريبيين قالوا إن نقطة البدء في الإدراك هي «المعطيات» الأولية، فارضين من عندهم أن تلك المعطيات الأولية لا تكون إلا بانطباعات تقع من الأشياء على حواسنا، وإن كانوا مثاليين أو عقلانيين، قالوا إن الأساس الأولي هو وجود أطر صورية عقلية في فطرة الإنسان - يسمونها «مقولات» - فتكون هذه الأطر بمثابة الشباك، تتصيد من الدنيا التي حولنا مضمونات من هنا وهناك، حتى إذا ما امتلأ إطار معين بمضمون معين، كان لنا بذلك شيء من المعرفة العقلية بالعالم المحيط بنا، فكان الجديد الذي دعا إليه «هوسرل» هو أن نواجه الأشياء بلا فروض مسبقة، فتكون حقيقة الشيء الذي ندركه هي بالضبط كما ندركه، حتى إذا ما سألنا سائل: أهي حقيقة حسية أو حقيقة عقلية؟ أجبناه بأننا نرفض هذه التفرقة من أساسها؛ فهذه الزهرة التي أراها وأعي صورتها، لونا وشكلا ورائحة ، وكل شيء، هي كما أراها وأعيها، ولا تحليل لها عندي وراء ذلك، فلا أنا بالذي يزعم أنها جاءتني معطيات حسية مبعثرة أول الأمر ثم قام ذهني بجمع المبعثرات في زهرة، ولا أنا بالذي يفترض أن عقلي كانت به أطر صورية مركوزة في فطرته هي التي جذبت إليها مدركات الزهرة وصبتها في قوالبها حتى تكاملت في تصوري زهرة، وإنما الذي أقوله هو أنني أدركت الزهرة كما أدركتها، وإذن فهذه هي حقيقتها.
على أن الذي يهمنا نحن من هذه «الظاهراتية» (وهي التي عنها تفرعت بعض فروع الفلسفة الوجودية الحاضرة)، هو أن الوعي الذي نعي به الأشياء ليس بمنزلة كيان مستقل قائم بذاته مثل الذراع أو اللسان، وإنما الوعي عبارة عن «انتباه» أو «التفات»، ومن ذا الذي يتصور «الانتباه» كيانا له استقلاله وحدوده؟ إنه «اتجاه» أو إشارة، إنه كشعاع الضوء، يسقط هنا أو هناك، فيظهر بسقوطه شيء ما، وأهم ما يميز الوعي هو ما أسماه هوسرل ب «القصدية»؛ أي إنه دائما يقصد باتجاهه المعين إلى مسقط ما يسقط عليه فندركه، وعلى هذا الأساس (وأرجو من القارئ حصر انتباهه هنا؛ لأهميته في موضوعنا) يكون من التناقض أن ندعي بأننا نعي فكرة ما، دون أن يكون لهذه الفكرة ما تشير إليه في دنيا الواقع، إن عملية الإدراك لا تتم إلا بهاتين الشعبتين معا: لفتة من الوعي، وشيء معين تقصد إليه تلك اللفتة، أما أن يقال عن اللفتة أنها لا تلتفت إلى شيء، فذلك ينفي عنها طبيعتها، أو أن يقال إننا أدركنا ما أدركناه بلا التفات إليه، فهو تناقض ممتنع الحدوث، لقد كان مما أخذه هوسرل على ديكارت قول ديكارت: «أنا أفكر ...» كأنه جزيرة وحده معزولة عن العالم وعن الآخرين، على حين أنه محال أن تحدث عملية تفكير إلا إذا تعلقت بقصد معين يكون هو الشعبة الثانية التي يتم بها الموقف الإدراكي، فالأمر هنا كالمقص، لا يكون مقصا بإحدى شعبتيه دون زميلتها.
وبهذا الجانب من «الظاهراتية» نلتقي مع المذاهب الفلسفية الثلاثة التي أسلفناها، في أنها جميعا تربط الفكر بالأشياء ، وألا تنتفي عن الفكر طبيعته.
لقد قيل عن الفلسفة المعاصرة إنها تتميز - عموما - بأنها جعلت مدارها الرئيسي هو البحث عن «المعنى»، وبعض ما يقصد إليه بهذا الوصف، هو أنها أصبحت تشترط لكل فكرة تطوف بذهن، ولكل عبارة ينطق بها لسان، مشارا إليه، تشير إليه الفكرة أو العبارة، فيكون هذا المشار إليه هو مدلول الفكرة، أو معنى العبارة، فإذا لم نجد للفكرة المعينة، أو للعبارة المعينة، مشارا إليه في دنيا الواقع - سواء كان ذلك وجودا بالفعل أو وجودا بالإمكان - لم نتردد في أن نقول عن الفكرة المزعومة إنها تشبه الأفكار وليست منها، وعن العبارة إنها لغو بغير معنى، ذلك هو موقف الفلسفة المعاصرة بأجمعها، كائنا ما كان مذهبها، مادية جدلية، أو برجماتية، أو تحليلية، أو ظاهراتية ووجودية، فماذا يكون موقف الفكر العربي من ذلك كله؟
Page inconnue