على أنه مهما تباينت الأذواق، فإن لذلك التباين حدا إذا تعداه امرؤ عد سقيم الذوق. فإذا تمارى اثنان في تفضيل ابن المعتز على البحتري، كان أحدهما مصيبا والآخر مخطئا، ولكن خطأ المخطئ لا يعزى إلى سقم ذوقه. أما إذا ولج امرؤ في تفضيل ابن الفارض على البحتري فلا نجد له شيئا أحسن من أن نرجو له مغفرة واسعة.
ولقد وضع أناس الأخلاق في دائرة الذوق؛ لأن الناس متفقون على أصول عامة، مثل بغض الشر وحب الخير، ولكنك إذا أردت أن تقسم الأفعال إلى خير وشر وجدت اختلافا كبيرا في تقسيم الأمم لها. ألا ترى أن العرب لم تكن ترى حرجا في الإغارة، وأن الإسباني كان لا يجد حرجا في أن يجعل السيف سلاحه الذي يقتل به عدوه، ولكنه يأبى أن يجعل السم سلاحه خيفة أن تنسب إليه فظاظة في الخلق. أما العادات فهي بنات الأذواق، فإذا كثرت العادات وقيدت المدني نمت كثرتها وتقييدها إياه على سقم في ذوقه، ومن الذي ينعم بالحمل الثقيل.
رداء ولا رداء
إذا كنا نحمد العري من أجل أنه يسلك الناس في صعيد واحد غير رافع للغني شأنا، ولا خافض للفقير جناحا، فخليق بنا أن نحمد الكساء من أجل أنه باعث الحياء في الصدر، والحياء غذاء الضمير، ولا خلاق لقوم لم تصح ضمائرهم. يا عجبا للمرء! إن أجل شيء فيه مستجلب من كسائه، ذلك الكساء الذي كان شعرا على ناقة أو ذنبا لبعير لوث البعر ذنبه. ألا قل لمن لا يرفع للمادة شأنا ولا يقيم لها وزنا: لقد طوح بك الضلال. أما رأيت كيف أنها تحيي الحياء فتحيا بحياته الضمائر والأخلاق، ولو أنك رميتها بنظر صادق لعلمت أنها الوجود وروح الوجود، فإذا زعمت أنها روح الوجود فقل مع «بركلي» أن ليس في الوجود مادة، فإذا ظنوا بك الظنون فقل: كل عقل تظن به الظنون.
يقسم الناس الوجود إلى مادة وقوة، أو إلى جسم وروح، فيخطئون في بعض ما يعنون؛ لأن القوة في المادة والمادة في القوة، وهما شيئان لا يفترقان أبدا، ومن أجل ذلك أنظر إلى ما يدعوه الناس جمادا غير ذي حياة فلا أراه كذلك: تلك الفاكهة العفنة لولا أن فيها من القوة شيئا لما قدرت أن تعفن، وذلك الغصن الذاوي كيف يذوي إذا لم يكن فيه من القوة ما يذويه، فإذا فهمت ذلك عرفت أن كل شيء في الوجود حي، وأن الفناء معنى من معاني البقاء؛ لأنه انتقال من حياة إلى حياة ومن هيئة إلى هيئة. قال بركلي أن ليس في الوجود مادة فصدق. وقال علماء الفسيلوجيا: ليس في الوجود ما يسمى عقلا أو روحا، لم يكذبوا.
هنا يقف الضئيل موقف التعجب والإنكار، ثم يقول ضدان لا يتفقان، وقد وهم في ذلك، فليس بين القولين مغايرة، فالأول ينظر إلى صفات في أجزاء الوجود غير التي ينظر إليها الآخرون. فإذا أردت أن توفق بين القولين فقل: المادة هي القوة والقوة هي المادة، فإذا بلغت هذا المبلغ من العرفان فهمت قول قاسم بك أمين: «العقل والإدراك والنفس ألفاظ لا تدل على أشياء حقيقية، بل وضعت لملكات كان يتوهم وجودها بالذات في زمن كان العلم فيه قاصرا يستمد مادته من الخيال، ثم استعملها علماء هذا العصر بحكم العادة ولسهولة التعبير وتقريب المعاني إلى الفهم، والحقيقة أن البحث العلمي لم يجد في الحياة الفسيولوجية إلا خلايا متنوعة قابلة للنمو بذاتها ومتأثرة باشتراك خلايا أخر.»
كان الإنسان في بدء وحشيته يمشي مكشوف الجسم فاقد الحياء، ولكن حب التزين كان آخذا من لبه مأخذا غريبا، فاتخذ اللباس حلية، وما زال يخلع زيا ويلبس آخر حتى ظهرت فطنته، فاتخذ من اللباس وقاء من الحر والبرد. فكان هذا اللباس موري الحياء في قلبه، فستر جسمه وغطى على ما يتخلق به من خصال السوء، فكأني به وقد تعلم الحياء تعلم الرياء أيضا، فكان أكثر أهل الحياء من أهل الرياء، لأن الحياء المقبوح يزعهم عن ارتياد الريب أمام الناس ولا يزعهم عن مواقعة الرذيلة في السر.
كان أقوى الناس جسما في الزمن الخالي أقدرهم على جمع المال فكان أحسنهم لباسا، والقوة معبود الناس، فكانوا يجلون لباس القوي من أجل قوته، فما زالت بهم الحال حتى أجلوا المرء من أجل لباسه. أليس اللباس الحسن دليلا على الغنى والمال؟ هو العبد المطواع والرسول اللبيب إذا سرحته سعى بينك وبين الناس بأحسن ما تحب، وهو الحجة البيضاء والرأي الرجيح.
وبار تميما بالغنى إن للغنى
لسانا به المرء الهيوبة ينطق
Page inconnue